بيان
فصل من الآيات به تختم السورة يذكر فيه خلاصة ما تنتجه الحجج المذكورة فيها قبل ذلك ثم يؤمر (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين أن ما اقترحوا به عليه أن يعبد آلهتهم ليس إلا جهلا بمقامه تعالى و يذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما أوحي إليه و إلى الذين من قبله: لئن أشرك ليحبطن عمله.
ثم يذكر سبحانه أن المشركين ما عرفوه واجب معرفته و إلا لم يرتابوا في ربوبيته لهم و لا عبدوا غيره ثم يذكر تعالى نظام الرجوع إليه و هو تدبير جانب المعاد من الخلقة ببيان جامع كاف لا مزيد عليه و يختم السورة بالحمد.
قوله تعالى: «الله خالق كل شيء» هذا هو الذي ذكر اعتراف المشركين به من قبل في قوله: «و لئن سألتهم من خلق السموات و الأرض ليقولن الله» الآية: - 38 من السورة و بنى عليه استناد الأشياء في تدبيرها إليه.
و الجملة في المقام تمهيد لما يذكر بعدها من كون التدبير مستندا إليه لما تقدم مرارا أن الخلق لا ينفك عن التدبير فانتقل في المقام من استناد الخلق إليه إلى اختصاص الملك به و هو قوله: «له مقاليد السموات و الأرض» و من اختصاص الملك به إلى كونه هو الوكيل على كل شيء القائم مقامه في تدبير أمره.
و قد تقدم في ذيل قوله: «ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء:» الأنعام: - 102 في الجزء السابع من الكتاب كلام في معنى عموم الخلقة لكل شيء.
قوله تعالى: «و هو على كل شيء وكيل» و ذلك لأن انتهاء خلق كل شيء وجوده إليه يقتضي أن يكون تعالى هو المالك لكل شيء فلا يملك شيء من الأشياء لا نفسه و لا شيئا مما يترشح من نفسه إلا بتمليك الله تعالى، فهو لفقره مطلقا لا يملك تدبيرا و الله المالك لتدبيره.
و أما تمليكه تعالى له نفسه و عمله فهو أيضا نوع من تدبيره تعالى مؤكد لملكه غير ناف و لا مناف من شئون وكالته تعالى عليهم لا تفويض للأمر و إبطال للوكالة فافهم ذلك.
و بالجملة إذ كان كل شيء من الأشياء لا يملك لنفسه شيئا كان سبحانه هو الوكيل عليه القائم مقامه المدبر لأمره و الأسباب و المسببات في ذلك سواء فالله سبحانه هو ربها وحده.
فقد تبين أن الجملة مسوقة للإشارة إلى توحده في الربوبية و هو المقصود بيانه فقول بعضهم إن ذكر ذلك بعد قوله: «الله خالق كل شيء» للدلالة على أنه هو الغني المطلق و أن المنافع و المضار راجعة إلى العباد، أو أن المراد أنه تعالى حفيظ على كل شيء فيكون إشارة إلى أن الأشياء محتاجة إليه في بقائها كما أنها محتاجة إليه في حدوثها، أجنبي عن معنى الآية بالمرة.
قوله تعالى: «له مقاليد السموات و الأرض» إلخ المقاليد - كما قيل - بمعنى المفاتيح و لا مفرد له من لفظه.
و مفاتيح السماوات و الأرض مفاتيح خزائنها قال تعالى: «و لله خزائن السموات و الأرض:» المنافقون: - 7 و خزائنها غيبها الذي يظهر منه الأشياء و النظام الجاري فيها فتخرج إلى الشهادة قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر: - 21.
و ملك مقاليد السماوات و الأرض كناية عن ملك خزائنها التي منها وجودات الأشياء و أرزاقها و أعمارها و آجالها و سائر ما يواجهها في مسيرها من حين تبتدىء منه تعالى إلى حين ترجع إليه.
و هو أعني قوله: «له مقاليد» إلخ في مقام التعليل لقوله: «و هو على كل شيء وكيل» و لذا جيء به مفصولا من غير عطف.
و قوله: «و الذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون» قد تقدم أن قوله: «الله خالق كل شيء - إلى قوله - و الأرض» ذكر خلاصة ما تفيده الحجج المذكورة في خلال الآيات السابقة، و عليه فقوله: «و الذين كفروا بآيات الله» إلخ معطوف على قوله: «الله خالق كل شيء» و المعنى الذي تدل عليه الآيات و الحجج المتقدمة أن الله سبحانه خالق فمالك فوكيل على كل شيء أي متوحد في الربوبية و الألوهية و الذين كفروا بآيات ربهم فلم يوحدوه و لم يعبدوه أولئك هم الخاسرون.
و قد اختلفوا فيما عطف عليه قوله: «و الذين كفروا» إلخ فذكروا فيه وجوها مختلفة كثيرة لا جدوى فيها من أرادها فليرجع إلى المطولات.
قوله تعالى: «قل أ فغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون» لما أورد سبحانه خلاصة ما تنطق به الحجج المذكورة في السورة من توحده تعالى بالخلق و الملك و التدبير و لازم ذلك توحده تعالى في الربوبية و الألوهية أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخاطب المشركين المقترحين عليه أن يعبد آلهتهم أنه لا يبقى مع هذه الحجج الباهرة الظاهرة محل لعبادته غير الله و إجابة اقتراحهم و هل هي إلا الجهل.
فقوله: «أ فغير الله تأمروني أعبد» الفاء لتفريع مضمون الجملة على قوله: «الله خالق كل شيء» إلى آخر الآيتين، و الاستفهام إنكاري، و «غير الله» مفعول «أعبد» قدم عليه لتعلق العناية به، و «تأمروني» معترض بين الفعل و مفعوله و أصله تأمرونني أدغمت فيه إحدى النونين في الأخرى.
و قوله: «أيها الجاهلون» خطابهم بصفة الجهل للإشارة إلى أن أمرهم إياه بعبادة غير الله و اقتراحهم بذلك مع ظهور آيات وحدته في الربوبية و الألوهية ليس إلا جهلا منهم.
قوله تعالى: «و لقد أوحي إليك و إلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك» إلخ فيه تأييد لمدلول الحجج العقلية المذكورة بالوحي كأنه قيل: لا تعبد غير الله فإنه جهل و كيف يسوغ لك أن تعبده و قد دل الوحي على النهي عنه كما دل العقل على ذلك.
فقوله: «و لقد أوحي إليك» اللام للقسم، و قوله: «لئن أشركت ليحبطن عملك» بيان لما أوحي إليه، و تقدير الكلام و أقسم لقد أوحي إليك لئن أشركت «إلخ» و إلى الذين من قبلك من الأنبياء و الرسل لئن أشركتم ليحبطن عملكم و لتكونن من الخاسرين.
و خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر الأنبياء (عليهم السلام) بالنهي عن الشرك و إنذارهم بحبط العمل و الدخول في زمرة الخاسرين خطاب و إنذار على حقيقة معناهما كيف؟ و غرض السورة - كما تقدمت الإشارة إليه - بيان أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور بالإيمان بما يدعو المشركين إلى الإيمان به مكلف بما يكلفهم و لا يسعه أن يجيبهم إلى ما يقترحون به عليه من عبادة آلهتهم.
و أما كون الأنبياء معصومين بعصمة إلهية يمتنع معها صدور المعصية عنهم فلا يوجب ذلك سقوط التكليف عنهم و عدم صحة توجهه إليهم و لو كان كذلك لم تتصور في حقهم معصية كسائر من لا تكليف عليه فلم يكن معنى لعصمتهم.
على أن العصمة - و هي قوة يمتنع معها صدور المعصية - من شئون مقام العلم - كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير قوله تعالى: «و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء:» النساء: - 113 - لا تنافي ثبوت الاختيار الذي هو من شئون مقام العمل و صحة صدور الفعل و الترك عن الجوارح.
فمنع العلم القطعي بمفسدة شيء منعا قطعيا عن صدوره عن العالم به كمنع العلم بأثر السم عن شربه لا ينافي كون العالم بذلك مختارا في الفعل لصحة صدوره و لا صدوره عن جوارحه فالعصمة لا تنافي بوجه التكليف.
و مما تقدم يظهر ضعف ما يستفاد من بعضهم أن نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الشرك و نحوه نهي صوري و المراد به نهي أمته فهو من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة».
و وجه الضعف ظاهر مما تقدم، و أما قولنا كما ورد في بعض الروايات أن هذه الخطابات القرآنية من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة» فمعناه أن التكليف لما كان من ظاهر أمره أن يتعلق بمن يجوز عليه الطاعة و المعصية فلو تعلق بمن ليس منه إلا الطاعة مع مشاركة غيره له كان ذلك تكليفا على وجه أبلغ كالكناية التي هي أبلغ من التصريح.
و قوله: «و لتكونن من الخاسرين» ظهر معناه مما تقدم و يمكن أن يكون اللام في الخاسرين مفيدا للعهد، و المعنى و لتكونن من الخاسرين الذين كفروا بآيات الله و أعرضوا عن الحجج الدالة على وحدانيته.
قوله تعالى: «بل الله فاعبد و كن من الشاكرين» إضراب عن النهي المفهوم من سابق الكلام كأنه قيل فلا تعبد غير الله بل الله فاعبد، و تقديم اسم الجلالة للدلالة على الحصر.
و الفاء في «فاعبد» زائدة للتأكيد على ما قيل، و قيل: هي فاء الجزاء و قد حذف شرطه و التقدير بل إن كنت عابدا أو عاقلا فاعبد الله.
و قوله: «و كن من الشاكرين» أي و كن بعبادتك له من الذين يشكرونه على نعمه الدالة على توحده في الربوبية و الألوهية، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «و سيجزي الله الشاكرين:» آل عمران: - 144 و قوله: «و لا تجد أكثرهم شاكرين:» الأعراف: - 17 أن مصداق الشاكرين بحقيقة معنى الكلمة هم المخلصون بفتح اللام فراجع.
قوله تعالى: «و ما قدروا الله حق قدره» إلى آخر الآية قدر الشيء هو مقداره و كميته من حجم أو عدد أو وزن و ما أشبه ذلك ثم استعير للمعنويات من المكانة و المنزلة.
فقوله: «و ما قدروا الله حق قدره» تمثيل أريد به عدم معرفتهم به تعالى واجب المعرفة إذ لم يعرفوه من حيث المعاد و رجوع الأشياء إليه كما يدل عليه تعقيب الجملة بقوله: «و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة» إلى آخر السورة حيث ذكر فيه انقطاع كل سبب دونه يوم القيامة، و قبضه الأرض و طيه السماوات و نفخ الصور لإماتة الكل ثم لإحيائهم و إشراق الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و المجيء بالنبيين و الشهداء و القضاء و توفية كل نفس ما عملت و سوق المجرمين إلى النار و المتقين إلى الجنة فمن كان شأنه في الملك و التصرف هذا الشأن و عرف بذلك أوجبت هذه المعرفة الإقبال إليه بعبادته وحده و الإعراض عن غيره بالكلية.
لكن المشركين لما لم يؤمنوا بالمعاد و لم يقدروه حق قدره و لم يعرفوه واجب معرفته أعرضوا عن عبادته إلى عبادة من سواه.
و قوله: «و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة» أي الأرض بما فيها من الأجزاء و الأسباب الفعالة بعضها في بعض، و القبضة مصدر بمعنى المقبوضة، و القبض على الشيء و كونه في القبضة كناية عن التسلط التام عليه أو انحصار التسلط عليه في القابض و المراد هاهنا المعنى الثاني كما يدل عليه قوله تعالى: «و الأمر يومئذ لله:» الانفطار: - 19 و غيره من الآيات.
و قد مر مرارا أن معنى انحصار الملك و الأمر و الحكم و السلطان و غير ذلك يوم القيامة فيه تعالى ظهور ذلك لأهل الجمع يومئذ و إلا فهي له تعالى دائما فمعنى كون الأرض جميعا قبضته يوم القيامة ظهور ذلك يومئذ للناس لا أصله.
و قوله: «و السموات مطويات بيمينه» يمين الشيء يده اليمنى و جانبه القوي و يكنى بها عن القدرة، و يستفاد من السياق أن محصل الجملتين أعني قوله: «و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة و السموات مطويات بيمينه» تقطع الأسباب الأرضية و السماوية و سقوطها و ظهور أن لا مؤثر في الوجود إلا الله سبحانه.
و قوله: «سبحانه و تعالى عما يشركون» تنزيه له تعالى عما أشركوا غيره في ربوبيته و ألوهيته فنسبوا تدبير العالم إلى آلهتهم و عبدوها.
قوله تعالى: «و نفخ في الصور فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله» إلخ ظاهر ما ورد في كلامه تعالى في معنى نفخ الصور أن النفخ نفختان نفخة للإماتة و نفخة للإحياء، و هو الذي تدل عليه روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و بعض ما ورد من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان بعض آخر من رواياتهم لا يخلو عن إبهام و لذا اختار بعضهم أنها ثلاث نفخات نفخة للإماتة و نفخة للإحياء و البعث و نفخة للفزع و الصعق و قال بعضهم: إنها أربع نفخات و لكن دون إثبات ذلك من ظواهر الآيات خرط القتاد.
و لعل انحصار النفخ في نفختي الإماتة و الإحياء هو الموجب لتفسيرهم الصعق في النفخة الأولى بالموت مع أن المعروف من معنى الصعق الغشية، قال في الصحاح،: يقال: صعق الرجل صعقا و تصاعقا أي غشي عليه و أصعقه غيره، ثم قال: و قوله تعالى: «فصعق من في السموات و من في الأرض» أي مات.
انتهى.
و قوله: «إلا من شاء الله» استثناء من أهل السماوات و الأرض و اختلف في من هم؟ فقيل: هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل سادة الملائكة فإنهم إنما يموتون بعد ذلك، و قيل: هم هؤلاء الأربعة و حملة العرش، و قيل: هم رضوان و الحور و مالك و الزبانية، و قيل: و هو أسخف الأقوال: إن المراد بمن شاء الله هو الله سبحانه.
و أنت خبير بأن شيئا من هذه الأقاويل لا يستند إلى دليل من لفظة الآيات يصح الاستناد إليه.
نعم لو تصور لله سبحانه خلق وراء السماوات و الأرض جاز استثناؤهم من أهلهما استثناء منقطعا أو قيل: إن الموت إنما يلحق الأجساد بانقطاع تعلق الأرواح بها و أما الأرواح فإنها لا تموت فالأرواح هم المستثنون استثناء متصلا و يؤيد هذا الوجه بعض 1 الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و قوله: «ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون» ضمير «فيه» للصور، و «أخرى» صفة محذوف موصوفها أي نفخة أخرى، و قيام جمع قائم و «ينظرون» أي ينتظرون أو من النظر بمعناه المعروف.
و المعنى: و نفخ في الصور نفخة أخرى فإذا هم قائمون من قبورهم ينتظرون ما يؤمرون أو ينتظرون ما ذا يفعل بهم أو فإذا هم قائمون ينظرون نظر المبهوت المتحير.
و لا ينافي ما في هذه الآية من كونهم بعد النفخ قياما ينظرون ما في قوله: «و نفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون:» يس: - 51 أي يسرعون، و قوله: «يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا:» النبأ: - 18، و قوله: «و يوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات و من في الأرض:» النمل: - 87 فإن فزعهم بالنفخ و إسراعهم في المشي إلى عرصة المحشر و إتيانهم إليها أفواجا كقيامهم ينظرون حوادث متقارنة لا يدفع بعضها بعضا.
قوله تعالى: «و أشرقت الأرض بنور ربها» إلى آخر الآية إشراق الأرض إضاءتها، و النور معروف المعنى و قد استعمل النور في كلامه تعالى في النور الحسي كثيرا و أطلق أيضا على الإيمان و على القرآن بعناية أن كلا منهما يظهر للمتلبس به ما خفي عليه لولاه قال تعالى: «الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور:» البقرة: - 257، و قال: «فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا:» التغابن: - 8.
و قد اختلفوا في معنى إشراق الأرض بنور ربها فقيل: إنها تضيء بنور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة كالشمس و القمر و إضافته إليه تعالى من قبيل روحي و «ناقة الله».
و فيه أنه لا يستند إلى دليل يعتمد عليه.
و قيل: المراد به تجلي الرب تعالى لفصل القضاء كما ورد في بعض الأخبار من طرق أهل السنة.
و فيه أنه على تقدير صحة الرواية لا يدل على المدعى.
و قيل: المراد به إضاءة الأرض بعدل ربها يوم القيامة لأن نور الأرض بالعدل كما أن نور العلم بالعمل.
و فيه أن صحة استعارة النور للعدل في نفسه لا تستلزم كون المراد بالنور في الآية هو العدل إلا بدليل يدل عليه و لم يأت به.
و في الكشاف، قد استعار الله عز و جل النور للحق و البرهان في مواضع من التنزيل و هذا من ذاك، و المعنى و أشرقت الأرض بما يقيمه فيها من الحق و العدل و يبسطه من القسط في الحساب و وزن الحسنات و السيئات.
و ينادي عليه بأنه مستعار إضافته إلى اسمه لأنه هو الحق العدل، و إضافة اسمه إلى الأرض لأنه يزينها حيث ينشر فيها عدله و ينصب فيها موازين قسطه و يحكم بالحق بين أهلها، و لا ترى أزين للبقاع من العدل و لا أعمر لها منه، و في هذه الإضافة أن ربها و خالقها هو الذي يعدل فيها و إنما يجور فيها غير ربها، ثم ما عطف على إشراق الأرض من وضع الكتاب و المجيء بالنبيين و الشهداء و القضاء بالحق و هو النور المذكور، و ترى الناس يقولون للملك العادل: أشرقت الآفاق بعدلك و أضاءت الدنيا بقسطك كما تقول أظلمت البلاد بجور فلان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الظلم ظلمات يوم القيامة و كما فتح الآية بإثبات العدل ختمها بنفي الظلم.
انتهى.
و فيه أولا: أن قوله إن النور مستعار في مواضع كثيرة من القرآن للحق و القرآن و البرهان فاستعارته للحق و البرهان غير ظاهر في شيء من الآيات.
و ثانيا: أن الحق و العدل مفهومان متغايران و إن كانا ربما يتصادقان و كون النور في الآية مستعارا للحق لا يستلزم كون العدل مرادا به، و لذا لما أراد بيان إرادة العدل من النور ذكر الحق مع العدل ثم استنتج للعدل دون الحق.
و لا يبعد أن يراد - و الله أعلم - من إشراق الأرض بنور ربها ما هو خاصة يوم القيامة من انكشاف الغطاء و ظهور الأشياء بحقائقها و بدو الأعمال من خير أو شر أو طاعة أو معصية أو حق أو باطل للناظرين، و إشراق الشيء هو ظهوره بالنور و لا ريب أن مظهرها يومئذ هو الله سبحانه إذ الأسباب ساقطة دونه فالأشياء مشرقة بنور مكتسب منه تعالى.
و هذا الإشراق و إن كان عاما لكل شيء يسعه النور لكن لما كان الغرض بيان ما للأرض و أهله يومئذ من الشأن خصها بالبيان فقال: «و أشرقت الأرض بنور ربها» و ذكره تعالى بعنوان ربوبية الأرض تعريضا للمشركين المنكرين لربوبيته تعالى للأرض و ما فيها.
و المراد بالأرض مع ذلك الأرض و ما فيها و ما يتعلق بها كما تقدم أن المراد بالأرض في قوله: «و الأرض جميعا قبضته» ذلك.
و يستفاد ما قدمناه من مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد:» ق: - 22 و قوله: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء:» آل عمران: - 30، و قوله: «يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره:» الزلزال: - 8 و آيات أخرى كثيرة تدل على ظهور الأعمال و تجسمها و شهادة الأعضاء و غير ذلك.
و قوله: «و وضع الكتاب» قيل: المراد به الحساب و هو كما ترى و قيل: المراد به صحائف الأعمال التي يحاسب عليها و يقضى بها، و قيل: المراد به اللوح المحفوظ و يؤيده قوله تعالى: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون:» الجاثية: - 29.
و قوله: «و جيء بالنبيين و الشهداء» أما النبيون فليسألوا عن أداء رسالتهم كما يشعر به السياق قال تعالى: «فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين:» الأعراف: - 6، و أما الشهداء و هم شهداء الأعمال فليؤدوا ما تحملوه من الشهادة قال تعالى: «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد و جئنا بك على هؤلاء شهيدا:» النساء: - 41.
و قوله: «و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون» ضميرا الجمع للناس المعلوم من السياق، و القضاء بينهم هو القضاء فيما اختلفوا فيه الوارد كرارا في كلامه تعالى قال: «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون:» يونس: - 93.
قوله تعالى: «و وفيت كل نفس ما عملت و هو أعلم بما يفعلون» التوفية الإعطاء بالتمام و قد علقت بنفس ما عملت دون جزائه و يقطع ذلك الريب في كونه قسطا و عدلا من أصله و الآية بمنزلة البيان لقوله: «و هم لا يظلمون».
و قوله: «و هو أعلم بما يفعلون» أي ليس حكمه بهذا النمط من وضع الكتاب و المجيء بالنبيين و الشهداء عن جهل منه و حاجة بل لأن يجري حكمه على القسط و العدل فهو أعلم بما يفعلون.
و الآية السابقة تتضمن القضاء و الحكم و هذه الآية إجراؤه و الآيات اللاحقة تفصيل إجرائه.
قوله تعالى: «و سيق الذين كفروا إلى جهنم» إلى آخر الآية السوق بالفتح فالسكون - على ما في المجمع، - الحث على السير، و الزمر جمع زمرة و هي - كما في الصحاح، - الجماعة من الناس.
و المعنى «و سيق» و حث على السير «الذين كفروا إلى جهنم زمرا» جماعة بعد جماعة «حتى إذا جاءوها» بلغوها «فتحت أبوابها» لأجل دخولهم و هي سبعة قال تعالى: «لها سبعة أبواب:» الحجر: - 44 «و قال لهم خزنتها» و هم الملائكة الموكلون عليها يقولون لهم تهجينا و إنكارا عليهم «أ لم يأتكم رسل منكم» من نوعكم من البشر «يتلون» و يقرءون «عليكم آيات ربكم» من الحجج الدالة على وحدانيته و وجوب عبادته «قالوا» بلى قد جاءوا و تلوا «و لكن» كفرنا و كذبنا و «حقت كلمة العذاب على الكافرين» و كلمة العذاب هي قوله تعالى حين أمر آدم بالهبوط: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:» البقرة: - 39.
قوله تعالى: «قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين» القائل - على ما يفيده السياق - خزنة جهنم، و في قوله: «فبئس مثوى المتكبرين» دلالة على أن هؤلاء الذين كفروا هم المكذبون بآيات الله المعاندون للحق.
قوله تعالى: «و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها و فتحت أبوابها» لم يذكر في الآية جواب إذا إشارة إلى أنه أمر فوق ما يوصف و وراء ما يقدر بقدر، و قوله: «و فتحت أبوابها» حال أي جاءوها و قد فتحت أبوابها، و قوله: «خزنتها» هم الملائكة الموكلون عليها.
و المعنى «و سيق» و حث على السير «الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا» جماعة بعد جماعة «حتى إذا جاءوها و» قد «فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها» الموكلون عليها مستقبلين لهم «سلام عليكم» أنتم في سلام مطلق لا يلقاكم إلا ما ترضون «طبتم» و لعله تعليل لإطلاق السلام «فادخلوها خالدين» فيها.
و هو أثر طيبهم.
قوله تعالى: «و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض» إلى آخر الآية.
القائلون هم المتقون و المراد بالوعد ما تكرر في كلامه تعالى و فيما أوحي إلى سائر الأنبياء من وعد المتقين بالجنة قال: «للذين اتقوا عند ربهم جنات:» آل عمران: - 15 و قال: «إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم:» القلم: - 34، كذا قيل، و قيل: المراد بالوعد الوعد بالبعث و الثواب.
و لا يبعد أن يراد بالوعد الوعد بإيراث الجنة كما في قوله: «أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون:» المؤمنون: - 11 و يكون قوله: «و أورثنا الأرض» عطف تفسير لقوله «صدقنا وعده».
و قوله: «و أورثنا الأرض» المراد بالأرض - على ما قالوا - أرض الجنة و هي التي عليها الاستقرار فيها و قد تقدم في أول سورة المؤمنون أن المراد بوراثتهم الجنة بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم.
و قوله: «نتبوأ من الجنة حيث نشاء» بيان لإيراثهم الأرض، و تبديل ضمير الأرض بالجنة للإشارة إلى أنها المراد بالأرض.
و قيل: المراد بالأرض هي أرض الدنيا و هو سخيف إلا أن يوجه بأن الجنة هي عقبى هذه الدار قال تعالى: «أولئك لهم عقبى الدار:» الرعد: - 22.
و المعنى و قال المتقون بعد دخول الجنة: الحمد لله الذي صدقنا وعده أن سيدخلنا أو أن سيورثنا الجنة نسكن منها حيث نشاء و نختار - فلهم ما يشاءون فيها -.
و قوله: «فنعم أجر العاملين» أي فنعم الأجر أجر العاملين لله تعالى، و هو على ما يعطيه السياق قول أهل الجنة، و احتمل أن يكون من قوله تعالى.
قوله تعالى: «و ترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم» إلى آخر الآية الحف الإحداق و الإحاطة بالشيء، و العرش هو المقام الذي يصدر منه الفرامين و الأوامر الإلهية التي يدبر بها العالم، و الملائكة هم المجرون لمشيته العاملون بأمره، و رؤية الملائكة على تلك الحال كناية عن ظهور ذلك و قد طويت السماوات.
و المعنى: و ترى يومئذ الملائكة و الحال أنهم محدقون بالعرش مطيفون به لإجراء الأمر الصادر منه و هم يسبحون بحمد ربهم.
و قوله: «و قضي بينهم» احتمل رجوع الضمير إلى الملائكة، و رجوعه إلى الناس و الملائكة جميعا، و رجوعه إلى جميع الخلائق، و رجوعه إلى الناس فالقضاء بين أهل الجنة و أهل النار منهم أو بين الأنبياء و أممهم.
و يضعف الاحتمال الأخير أن القضاء بين الناس قد ذكر قبلا في قوله: «و قضي بينهم بالحق و هم لا يظلمون» فذكر القضاء بينهم ثانيا تكرار من غير موجب.
لكن ظاهر القضاء بين جماعة هو الحكم لبعضهم على بعض لوجود اختلاف ما بينهم و لا تحقق للاختلاف بين الملائكة، و هذا يؤيد أن يكون الضمير لغيرهم و القضاء بين الناس غير أن القضاء كما يطلق على نفس حكم الحاكم يصح إطلاقه على مجموع الحكم و مقدماته و تبعاته من حضور المتخاصمين و طرح الدعوى و شهادة الشهود و حكم الحاكم و إيفاء المحق حقه فمن الممكن أن يكون المراد بالقضاء المذكور أولا نفس الحكم الإلهي و بهذا القضاء المذكور ثانيا هو مجموع ما يجري عليهم من حين يبعثون إلى حين دخول أهل النار النار و أهل الجنة الجنة و استقرارهم فيهما و بذلك يندفع إشكال التكرار من غير موجب.
و قوله: «و قيل الحمد لله رب العالمين» كلمة خاتمة للبدء و العود و ثناء عام له تعالى أنه لم يفعل و لا يفعل إلا الجميل.
قيل: قائله المتقون و كان حمدهم الأول على دخولهم الجنة و الثاني للقضاء بينهم و بين غيرهم بالحق، و قيل: قائله الملائكة و لم ينسب إليهم صريحا لتعظيم أمرهم، و قيل: القائل جميع الخلائق.
و يؤيد الأول قوله تعالى في صفة أهل الجنة: «و آخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين:» يونس: - 10 و هو حمد عام خاتم للخلقة كما سمعت.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين» فهذه مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى لأمته، و هو ما قاله الصادق (عليه السلام): إن الله عز و جل بعث نبيه بإياك أعني و اسمعي يا جارة.
و عن كتاب التوحيد، بإسناده إلى الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عز و جل لا يوصف:. قال: و قال زرارة: قال أبو جعفر (عليه السلام): إن الله لا يوصف و كيف يوصف و قد قال في كتابه: «و ما قدروا الله حق قدره؟» فلا يوصف بقدر إلا كان أعظم من ذلك.
و فيه، بإسناده عن سليمان بن مهران قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و الأرض جميعا قبضته يوم القيامة» قال: ملكه لا يملكها معه أحد. و القبض عن الله تعالى في موضع آخر المنع و البسط منه الإعطاء و التوسع كما قال عز و جل: «و الله يقبض و يبسط و إليه ترجعون» يعني يعطي و يوسع و يضيق، و القبض منه عز و جل في وجه آخر الأخذ و الأخذ في وجه القبول منه كما قال: «و يأخذ الصدقات» أي يقبلها من أهلها و يثيب عليها. قلت: فقوله عز و جل: «و السموات مطويات بيمينه»؟ قال: اليمين اليد و اليد القدرة و القوة يقول عز و جل: «و السموات مطويات بيمينه» أي بقدرته و قوته سبحانه و تعالى عما يشركون.
أقول: و روي في الدر المنثور، عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «فصعق من في السموات و من في الأرض إلا من شاء الله» أنهم الشهداء مقلدون بأسيافهم حول عرشه الخبر و ظاهره أن النفخة غير نفخة الإماتة و قد تقدم أن الآية ظاهرة في خلافه.
و روي عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): أنهم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت و حملة العرش و أنهم يموتون بعدها الخبر.
و الآية ظاهرة في خلافه.
و روي عن جابر: استثني موسى لأنه كان صعق قبل، الخبر.
و فيه أن الصعق سواء أخذ بمعنى الموت أو بمعنى الغشية لا يختص الصعق قبل ذلك بموسى (عليه السلام).
و في المجمع،: في قوله تعالى: «لها سبعة أبواب» فيه قولان أحدهما ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن جهنم لها سبعة أبواب أطباق بعضها فوق بعض و وضع إحدى يديه على الأخرى فقال: هكذا و أن الله وضع الجنان على الأرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية و في رواية الكلبي أسفلها الهاوية و أعلاها جهنم.
و في الخصال، عن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: إن للجنة ثمانية أبواب: باب يدخل منه النبيون و الصديقون، و باب يدخل منه الشهداء و الصالحون، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبونا. فلا أزال واقفا على الصراط أدعو و أقول: رب سلم شيعتي و محبي و أنصاري و من تولاني في دار الدنيا فإذا النداء من بطنان العرش قد أجيبت دعوتك و شفعت في شيعتك و يشفع كل رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه. و باب يدخل منه سائر المسلمين ممن يشهد أن لا إله إلا الله و لم يكن في قلبه مثقال من بغضنا أهل البيت.
|