بيان
الآيتان جواب عن شبهة أخرى كانت اليهود توردها على المؤمنين من جهة النسخ، و هي ما حدث في أمر القبلة بتحويلها من بيت المقدس إلى الكعبة، و قد مر في تفسير قوله تعالى: «فول وجهك شطر المسجد الحرام» الآية: البقرة - 144 أن تحويل، القبلة كان من الأمور الهامة التي كانت له تأثيرات عميقة مادية و معنوية في حيوة أهل الكتاب - و خاصة اليهود - مضافا إلى كونه مخالفا لمذهبهم من النسخ، و لذلك طالت المشاجرات و المشاغبات بينهم و بين المسلمين بعد نزول حكم القبلة إلى أمد بعيد.
و المستفاد من الآية - إن أول بيت «الخ» - أنهم جمعوا في شبهتهم بين شبهة النسخ و بين انتساب الحكم إلى ملة إبراهيم فيكون محصل الشبهة: أن الكعبة كيف يمكن أن يكون قبلة في ملة إبراهيم مع أن الله جعل بيت المقدس قبلة و هل هذا إلا القول بحكم نسخي في ملة إبراهيم الحقة مع كون النسخ محالا باطلا؟.
و الجواب: أن الكعبة موضوعة للعبادة قبل غيرها كبيت المقدس فلقد بناها إبراهيم من غير شك و وضعها للعبادة، و فيها آيات بينات تدل على ذلك كمقام إبراهيم، و أما بيت المقدس فبانيه سليمان و هو بعد إبراهيم بقرون.
قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة إلى آخر الآية، البيت معروف، و المراد بوضع البيت للناس وضعه لعبادتهم و هو أن يجعلوه ذريعة يتوسل به إلى عبادة الله سبحانه، و يستعان به فيها بأن يعبد الله فيه، و بقصده و المسير إليه و غير ذلك، و الدليل على ذلك ما يشتمل عليه الكلام من كونه مباركا و هدى للعالمين و غير ذلك، و يشعر به التعبير عن الكعبة بالذي ببكة فإن فيه تلويحا إلى ازدحام الناس عنده في الطواف و الصلوة و غيرهما من العبادات و المناسك، و أما كونه أول بيت بني على الأرض و وضع لينتفع به الناس فلا دلالة على ذلك من جهة اللفظ.
و المراد ببكة أرض البيت سميت بكة لازدحام الناس فيها، و ربما قيل إن بكة هي مكة، و أنه من تبديل الميم باء كما في قولهم لازم و لازب و راتم و راتب و نحو ذلك، و قيل: هو اسم للحرم، و قيل: المسجد، و قيل: المطاف.
و المباركة مفاعلة من البركة و هي الخير الكثير، فالمباركة إفاضة الخير الكثير عليه و جعله فيه، و هي و إن كانت تشمل البركات الدنيوية و الأخروية، إلا أن ظاهر مقابلتها مع قوله: هدى للعالمين أن المراد بها إفاضة البركات الدنيوية و عمدتها وفور الأرزاق و توفر الهمم و الدواعي إلى عمرانه بالحج إليه و الحضور عنده و الاحترام له و إكرامه فيئول المعنى إلى ما يتضمنه قوله تعالى في دعوة إبراهيم: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلوة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون»: إبراهيم - 37.
و كونه هدى هو إراءته للناس سعادة آخرتهم، و إيصاله إياهم إلى الكرامة و القرب و الزلفى بما وضعه الله للعبادة، و بما شرع عنده من أقسام الطاعات و النسك و لم يزل منذ بناه إبراهيم مقصدا للقاصدين و معبدا للعابدين.
و قد دل القرآن على أن الحج شرع أول ما شرع في زمن إبراهيم (عليه السلام) بعد الفراغ من بنائه، قال تعالى: «و عهدنا إلى إبراهيم و إسمعيل أن طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركع السجود»: البقرة - 125، و قال: خطابا لإبراهيم: «و أذن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر يأتين من كل فج عميق»: الحج - 27، و الآية كما ترى تدل على أن هذا الأذان و الدعوة سيقابل بتلبية عامة من الناس الأقربين و الأبعدين من العشائر و القبائل.
و دل أيضا على أن هذا الشعار الإلهي كان على استقراره و معروفيته في زمن شعيب عند الناس كما حكاه الله عنه في قوله لموسى (عليه السلام): «إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك»: القصص - 27، فقد أراد بالحج سنة و ليس إلا لكون السنين تعد بالحج لتكررها بتكرره.
و كذا في دعوة إبراهيم (عليه السلام) شيء كثير يدل على كون البيت لم يزل معمورا بالعبادة آية في الهداية راجع سورة إبراهيم.
و كان عرب الجاهلية يعظمونه و يأتون بالحج بعنوان أنه من شرع إبراهيم، و قد ذكر التاريخ أن سائر الناس أيضا كانوا يعظمونه، و هذا في نفسه نوع من الهداية لما فيه من التوجه إلى الله سبحانه و ذكره، و أما بعد ظهور الإسلام فالأمر أوضح، و قد ملأ ذكره مشارق الأرض و مغاربها، و هو يعرض نفسه لأفهام الناس و قلوبهم بنفسه و بذكره، و في عبادات المسلمين و طاعاتهم و قيامهم و قعودهم و مذابحهم و سائر شئونهم.
فهو هدى بجميع مراتب الهداية آخذة من الخطور الذهني إلى الانقطاع التام الذي لا يمسه إلا المطهرون من عباد الله المخلصين.
على أنه يهدي عالم المسلمين إلى سعادتهم الدنيوية التي هي وحدة الكلمة و ائتلاف الأمة و شهادة منافعهم، و يهدي عالم غيرهم بإيقاظهم و تنبيههم إلى ثمرات هذه الوحدة و ائتلاف القوى المختلفة المتشتتة.
و من هنا يظهر أولا: أنه هدى إلى سعادة الدنيا و الآخرة كما أنه هدى بجميع مراتب الهداية، فالهداية مطلقة.
و ثانيا: أنه هدى للعالمين لا لعالم خاص و جماعة مخصوصة كآل إبراهيم أو العرب أو المسلمين و ذلك لما فيه من سعة الهداية.
قوله تعالى: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، الآيات و إن وصفت بالبينات، و أفاد ذلك تخصصا ما في الموصوف إلا أنها مع ذلك لا تخرج عن الإبهام، و المقام مقام بيان مزايا البيت و مفاخره التي بها يتقدم على غيره في الشرف و لا يناسب ذلك إلا الإتيان ببيان واضح، و الوصف بما لا غبار عليه بالإبهام و الإجمال، و هذا من الشواهد على كون قوله: مقام إبراهيم و من دخله كان آمنا و لله على الناس إلى آخر الآية بيانا لقوله: آيات بينات فالآيات هي: مقام إبراهيم، و تقرير الأمن فيه، و إيجاب حجة على الناس المستطيعين.
لكن لا كما يتراءى من بعض التفاسير من كون الجمل الثلاث بدلا أو عطف بيان من قوله: آيات لوضوح أن ذلك يحتاج إلى رجوع الكلام بحسب التقدير إلى مثل قولنا: هي مقام إبراهيم، و الأمن لمن دخله، و حجة لمن استطاع إليه سبيلا، و في ذلك إرجاع قوله: و من دخله، سواء كان إنشاء أو إخبارا إلى المفرد بتقدير أن و إرجاع قوله: و لله على الناس، و هي جملة إنشائية إلى الخبرية ثم عطفه على الجملة السابقة و تأويلها إلى المفرد بذلك أو بتقدير أن فيها أيضا، و كل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام البتة.
و إنما سيقت هذه الجمل الثلاث أعني قوله: مقام إبراهيم «الخ»، كل لغرض خاص من إخبار أو إنشاء حكم ثم تتبين بها الآيات فتعطي فائدة البيان كما يقال: فلان رجل شريف هو ابن فلان و يقري الضيف و يجب علينا أن نتبعه.
قوله تعالى: مقام إبراهيم مبتدأ لخبر محذوف و التقدير فيه مقام إبراهيم، و هو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم الخليل (عليه السلام)، و قد استفاض النقل بأن الحجر مدفون في المكان الذي يدعى اليوم بمقام إبراهيم على حافة المطاف حيال الملتزم، و قد أشار إليه أبو طالب عم النبي في قصيدته اللامية: و موطىء إبراهيم في الصخر رطبة.
على قدميه حافيا غير ناعل.
و ربما يفهم من قوله: مقام إبراهيم أن البيت أو في البيت موضع قيام إبراهيم بعبادة الله سبحانه.
و يمكن أن يكون تقدير الكلام: هي مقام إبراهيم و الأمن و الحج ثم وضع قوله: و من دخله، و قوله: و لله على الناس، و هما جملتان مشتملتان على حكم إنشائي موضع الخبرين، و هذا من أعاجيب أسلوب القرآن حيث يستخدم الكلام المسوق لغرض في سبيل غرض آخر فيضعه موضعه لينتقل منه إليه فيفيد فائدتين، و يحفظ الجهتين كحكاية الكلام في موضع الإخبار كقوله: «كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله»: البقرة - 285، و كما مر في قوله تعالى «أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه» الآية: البقرة - 258، و قوله: «أو كالذي مر على قرية» الآية: البقرة - 259، و قد بينا النكتة في ذلك في تفسير الثانية، و كما في قوله تعالى: «يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»: الشعراء - 89، و كما في قوله تعالى: «و لكن البر من آمن بالله الآية: البقرة - 177، حيث وضع صاحب البر، مكان البر، و كما في قوله تعالى: «و مثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع» الآية: البقرة - 171 و مثله غالب الأمثال الواردة في القرآن الكريم.
و على هذا فوزان قوله: فيه آيات بينات مقام إبراهيم - إلى قوله - عن العالمين في التردد بين الإنشاء و الإخبار، وزان قوله: «و اذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب و عذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد و شراب و وهبنا له أهله و مثلهم معهم رحمة منا و ذكرى لأولي الألباب و خذ بيدك ضغثا فاضرب به و لا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب»: ص - 44.
و هذا الذي ذكرناه غير ما ذكره بعضهم من حديث البدلية، و إن كان بدلا و لا بد فالأولى جعل قوله: مقام إبراهيم بدلا و جعل الجملتين التاليتين مستأنفتين دالتين على بدلين محذوفين.
و التقدير فيه آيات بينات مقام إبراهيم و أمن الداخل و حج المستطيع للبيت.
و لا ريب في كون كل واحد من هذه الأمور آية بينة دالة بوقوعها على الله سبحانه مذكرة لمقامه إذ ليست الآية إلا العلامة الدالة على الشيء بوجه، و أي علامة دالة عليه تعالى مذكرة لمقامه أعظم و أجلى في نظر أهل الدنيا من موقف إبراهيم و من حرم آمن يأمن من دخله و من مناسك و عبادات يأتي بها الألوف بعد الألوف من الناس تتكرر بتكرر السنين، و لا تنسخ بانتساخ الليالي و الأيام، و أما كون كل آية أمرا خارقا للعادة ناقضا لسنة الطبيعة فليس من الواجب، و لا لفظ الآية بمفهومه يدل عليه، و لا استعماله في القرآن ينحصر فيه.
قال تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها» الآية: البقرة - 106، و هي تشمل الأحكام المنسوخة في الشرع قطعا، و قال تعالى: «أ تبنون بكل ريع آية تعبثون»: الشعراء - 128، إلى غير ذلك من الآيات.
و من هنا يظهر ما في إصرار بعض المفسرين على توجيه كون المقام آية خارقة، و كون الأمن و الحج مذكورين لغير غرض بيان الآية.
و كذا إصرار آخرين على أن المراد بالآيات البينات أمور أخر من خواص الكعبة و قد أغمضنا عن ذكرها، و من أرادها فليراجع بعض مطولات التفاسير فإن ذلك مبني على كون المراد من الآيات الآيات المعجزة و خوارق العادة، و لا دليل على ذلك كما مر.
فالحق أن قوله: و من دخله كان آمنا: مسوق لبيان حكم تشريعي لا خاصة تكوينية غير أن الظاهر أن يكون الجملة إخبارية يخبر بها عن تشريع سابق للأمن كما ربما استفيد ذلك من دعوة إبراهيم المذكورة في سورتي إبراهيم و البقرة و قد كان هذا الحق محفوظا للبيت قبل البعثة بين عرب الجاهلية و يتصل بزمن إبراهيم (عليه السلام).
و أما كون المراد من حديث الأمن هو الإخبار بأن الفتن و الحوادث العظام لا تقع و لا ينسحب ذيلها إلى الحرم فيدفعه وقوع ما وقع من الحروب و المقاتلات و اختلال الأمن فيه، و خاصة ما وقع منها قبل نزول هذه الآية، و قوله تعالى «أ و لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا و يتخطف الناس من حولهم»: العنكبوت - 67، لا يدل على أزيد من استقرار الأمن و استمراره في الحرم، و ليس ذلك إلا لما يراه الناس من حرمة هذا البيت و وجوب تعظيمه الثابت في شريعة إبراهيم (عليه السلام) و ينتهي بالأخرة إلى جعله سبحانه و تشريعه.
و كذا ما وقع في دعاء إبراهيم المحكي في قوله تعالى: «رب اجعل هذا البلد آمنا»: إبراهيم - 35، و قوله: «رب اجعل هذا بلدا آمنا»: البقرة - 126، حيث سأل الأمن لبلد مكة فأجابه الله بتشريع الأمن و سوق الناس سوقا قلبيا إلى تسليم ذلك و قبوله زمانا بعد زمان.
قوله تعالى: و لله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا، الحج بالكسر و قرىء بالفتح هو القصد ثم اختص استعماله بقصد البيت على نهج مخصوص بينه الشرع، و قوله: سبيلا تمييز من قوله: استطاع.
و الآية تتضمن تشريع الحج إمضاء لما شرع لإبراهيم (عليه السلام) كما يدل عليه قوله تعالى حكاية لما خوطب به إبراهيم: «و أذن في الناس بالحج» الآية: الحج - 27، و من هنا يظهر أن وزان قوله: و لله على الناس «الخ» وزان قوله تعالى: و من دخله كان آمنا في كونه إخبارا عن تشريع سابق و إن كان من الممكن أن يكون إنشاء على نحو الإمضاء لكن الأظهر من السياق هو الأول كما لا يخفى.
قوله تعالى: و من كفر فإن الله غني عن العالمين، الكفر هاهنا من الكفر بالفروع نظير الكفر بترك الصلوة و الزكوة فالمراد بالكفر الترك.
و الكلام من قبيل وضع المسبب أو الأثر مقام السبب أو المنشإ كما أن قوله: فإن الله غني «الخ» من قبيل وضع العلة موضع المعلول، و التقدير: و من ترك الحج فلا يضر الله شيئا فإن الله غني عن العالمين.
بحث روائي
عن ابن شهرآشوب عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في قوله تعالى: إن أول بيت وضع للناس: الآية فقال له رجل أ هو أول بيت؟ قال لا قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى و الرحمة و البركة. و أول من بناه إبراهيم، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبي طالب: في قوله «إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة قال: كانت البيوت قبله و لكنه كان أول بيت وضع لعبادة الله.
أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير عن مطر مثله، و الروايات في هذه المعاني كثيرة.
و في العلل، عن الصادق (عليه السلام): موضع البيت بكة، و القرية مكة.
و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): إنما سميت بكة بكة لأن الناس يبكون فيها.
أقول: يعني يزدحمون.
و فيه، عن الباقر (عليه السلام): إنما سميت مكة بكة لأنه يبك بها الرجال و النساء، و المرأة تصلي بين يديك، و عن يمينك، و عن شمالك و معك و لا بأس بذلك إنما يكره ذلك في سائر البلدان.
و فيه، عن الباقر (عليه السلام) قال: لما أراد الله أن يخلق الأرض أمر الرياح فضربن متن الماء حتى صار موجا ثم أزبد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحى الأرض من تحته و هو قول الله: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا، فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها.
أقول: و الأخبار في دحو الأرض من تحت الكعبة كثيرة، و ليست مخالفة للكتاب، و لا أن هناك برهانا يدفع ذلك غير ما كانت تزعمه القدماء من علماء الطبيعة أن الأرض عنصر بسيط قديم، و قد بان بطلان هذا القول بما لا يحتاج إلى بيان.
و هذا تفسير ما ورد من الروايات في أن الكعبة أول بيت أي بقعة في الأرض و إن كان الظاهر من الآية ما تشتمل عليه الروايتان الأوليان.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فيه آيات بينات: أنه سئل ما هذه الآيات البينات؟ قال: مقام إبراهيم حيث قام على الحجر فأثرت فيه قدماه، و الحجر الأسود، و منزل إسماعيل.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر، و لعل ذكره هذه الأمور من باب العد و إن لم تشتمل على بعضها الآية.
و في تفسير العياشي، عن عبد الصمد، قال: طلب أبو جعفر أن يشتري من أهل مكة بيوتهم أن يزيد في المسجد فأبوا فأرغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فأتى أبا عبد الله (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم و أفنيتهم لنزيد في المسجد و قد منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لم يغمك ذلك و حجتك عليهم فيه ظاهرة، فقال: و بما أحتج عليهم؟ فقال: بكتاب الله، فقال: في أي موضع؟ فقال: قول الله: إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة، و قد أخبرك الله: أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم، و إن كان البيت قديما فيهم فله فناؤه، فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت.
و فيه، عن الحسن بن علي بن النعمان، قال: لما بنى المهدي في المسجد الحرام بقيت دار في تربيع المسجد فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكل قال له: إنه لا ينبغي أن تدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا، فقال له علي بن يقطين: يا أمير المؤمنين إني أكتب إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) لأخبرك بوجه الأمر في ذلك فكتب إلى والي المدينة أن يسأل موسى بن جعفر (عليه السلام) عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع عليها صاحبها، فكيف المخرج من ذلك؟. فقال ذلك لأبي الحسن (عليه السلام)، فقال أبو الحسن (عليه السلام): فلا بد من الجواب في هذا؟ فقال له: الأمر لا بد منه، فقال له: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، و إن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها. فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله ثم أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن (عليه السلام) فسألوه أن يكتب إلى المهدي كتابا في ثمن دارهم فكتب إليه أن أوضح لهم شيئا فأرضاهم.
أقول: و الروايتان مشتملتان على استدلال لطيف، و كان أبو جعفر المنصور كان هو البادىء بتوسعة المسجد الحرام ثم تم الأمر للمهدي.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: و لله على الناس حج البيت «الخ»، يعني به الحج و العمرة جميعا لأنهما مفروضان.
أقول: و رواه العياشي في تفسيره، و قد فسر الحج فيه بمعناه اللغوي و هو القصد.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): و من كفر قال: ترك.
أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و قد عرفت أن الكفر ذو مراتب كالإيمان، و أن المراد منه الكفر بالفروع.
و في الكافي، عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) في حديث قال: قلت: فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال: لا، و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و الكفر في الرواية بمعنى الرد، و الآية تحتمله، فالكفر فيها بمعناه اللغوي و هو الستر على الحق، و على حسب الموارد تتعين له مصاديق.
بحث تاريخي
من المتواتر المقطوع به أن الذي بنى الكعبة إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان القاطنون حولها يومئذ ابنه إسماعيل و جرهم من قبائل اليمن و هي بناء مربع تقريبا و زواياها الأربع إلى الجهات الأربع تتكسر عليها الرياح و لا تضرها مهما اشتدت.
ما زالت الكعبة على بناء إبراهيم حتى جددها العمالقة ثم بنو جرهم أو بالعكس كما مر في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام).
ثم لما آل أمر الكعبة إلى قصي بن كلاب أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرن الثاني قبل الهجرة هدمها و بناها فأحكم بناءها، و سقفها بخشب الدوم و جذوع النخل و بنى إلى جانبها دار الندوة، و كان في هذه الدار حكومته و شوراه مع أصحابه، ثم قسم جهات الكعبة بين طوائف قريش فبنوا دورهم على المطاف حول الكعبة، و فتحوا عليه أبواب دورهم.
و قبل البعثة بخمس سنين هدم السيل الكعبة فاقتسمت الطوائف العمل لبنائها و كان الذي يبنيها ياقوم الرومي، و يساعده عليه نجار مصري، و لما انتهوا إلى وضع الحجر الأسود تنازعوا بينهم في أن أيها يختص بشرف وضعه فرأوا أن يحكموا محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم)، و سنه إذ ذاك خمس و ثلاثون سنة لما عرفوا من وفور عقله و سداد رأيه، فطلب رداء و وضع عليه الحجر، و أمر القبائل فأمسكوا بأطرافه و رفعوه حتى إذا وصل إلى مكانه من البناء في الركن الشرقي أخذه هو فوضعه بيده في موضعه.
و كانت النفقة قد بهظتهم فقصروا بناءها على ما هي عليه الآن و قد بقي بعض ساحته خارج البناء من طرف الحجر حجر إسماعيل لاستصغارهم البناء.
و كان البناء على هذا الحال حتى تسلط عبد الله بن الزبير على الحجاز في عهد يزيد بن معاوية فحاربه الحصين قائد يزيد بمكة، و أصاب الكعبة بالمنجنيق فانهدمت و أحرقت كسوتها و بعض أخشابها، ثم انكشف عنها لموت يزيد، فرأى ابن الزبير أن يهدم الكعبة و يعيد بناءها فأتى لها بالجص النقي من اليمن، و بناها به و أدخل الحجر في البيت، و ألصق الباب بالأرض، و جعل قبالته بابا آخر ليدخل الناس من باب و يخرجوا من آخر، و جعل ارتفاع البيت سبعة و عشرين ذراعا و لما فرغ من بنائها ضمخها بالمسك و العبير داخلا و خارجا، و كساها بالديباج، و كان فراغه من بنائها 17 رجب سنة 64 هجرية.
ثم لما تولى عبد الملك بن مروان الخلافة بعث الحجاج بن يوسف قائده فحارب ابن الزبير حتى غلبه فقتله، و دخل البيت فأخبر عبد الملك بما أحدثه ابن الزبير في الكعبة، فأمره بإرجاعها إلى شكلها الأول، فهدم الحجاج من جانبها الشمالي ستة أذرع و شبرا، و بنى ذلك الجدار على أساس قريش، و رفع الباب الشرقي و سد الغربي ثم كبس أرضها بالحجارة التي فضلت منها.
و لما تولى السلطان سليمان العثماني الملك سنة ستين و تسعمائة غير سقفها، و لما تولى السلطان أحمد العثماني سنة إحدى و عشرين بعد الألف أحدث فيها ترميما و لما حدث السيل العظيم سنة تسع و ثلاثين بعد الألف هدم بعض حوائطها الشمالية و الشرقية و الغربية فأمر السلطان مراد الرابع من ملوك آل عثمان بترميمها و لم يزل على ذلك حتى اليوم و هو سنة ألف و ثلاث مائة و خمس و سبعين هجرية قمرية و سنة ألف و ثلاثمائة و ثمانية و ثلاثين هجرية شمسية.
شكل الكعبة:
شكل الكعبة مربع تقريبا و هي مبنية بالحجارة الزرقاء الصلبة و يبلغ ارتفاعها ستة عشر مترا، و قد كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخفض منه بكثير على ما يستفاد من حديث رفع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) على عاتقه يوم الفتح لأخذ الأصنام التي كانت على الكعبة و كسرها.
و طول الضلع الذي فيه الميزاب و الذي قبالته عشرة أمتار و عشرة سانتي مترات، و طول الضلع الذي فيه الباب و الذي قبالته اثنا عشر مترا، و الباب على ارتفاع مترين من الأرض، و في الركن الذي على يسار الباب للداخل، الحجر الأسود على ارتفاع متر و نصف من أرض المطاف، و الحجر الأسود حجر ثقيل بيضي الشكل غير منتظم لونه أسود ضارب إلى الحمرة، و فيه نقط حمراء، و تعاريج صفراء، و هي أثر لحام القطع التي كانت تكسرت منه، قطرة نحو ثلاثين سانتي مترا.
و تسمى زوايا الكعبة من قديم أيامها بالأركان فيسمى الشمالي بالركن العراقي، و الغربي بالشامي و الجنوبي باليماني، و الشرقي الذي فيه الحجر الأسود بالأسود، و تسمى المسافة التي بين الباب و ركن الحجر بالملتزم لالتزام الطائف إياه في دعائه و استغاثته، و أما الميزاب على الحائط الشمالي و يسمى ميزاب الرحمة فمما أحدثه الحجاج بن يوسف ثم غيره السلطان سليمان سنة 954 إلى ميزاب من الفضة ثم أبدله السلطان أحمد سنة 1021 بآخر من فضة منقوشة بالميناء الزرقاء يتخللها نقوش ذهبية، ثم أرسل السلطان عبد المجيد من آل عثمان سنة 1273 ميزابا من الذهب فنصب مكانه و هو الموجود الآن.
و قبالة الميزاب حائط قوسي يسمى بالحطيم، و هو قوس من البناء طرفاه إلى زاويتي البيت الشمالية و الغربية، و يبعدان عنهما مقدار مترين و ثلاثة سانتي مترات، و يبلغ ارتفاعه مترا، و سمكه مترا و نصف متر، و هو مبطن بالرخام المنقوش، و المسافة بين منتصف هذا القوس من داخله إلى منتصف ضلع الكعبة ثمانية أمتار و أربعة و أربعون سانتي مترا.
و الفضاء الواقع بين الحطيم و بين حائط البيت هو المسمى بحجر إسماعيل، و قد كان يدخل منه ثلاثة أمتار تقريبا في الكعبة في بناء إبراهيم، و الباقي كان زريبة لغنم هاجر و ولدها، و يقال: إن هاجر و إسماعيل مدفونان في الحجر.
و أما تفصيل ما وقع في داخل البيت من تغيير و ترميم، و ما للبيت من السنن و التشريفات فلا يهمنا التعرض له.
كسوة الكعبة:
قد تقدم في ما نقلناه من الروايات في سورة البقرة في قصة هاجر و إسماعيل و نزولهما أرض مكة أن هاجر علق كساءها على باب الكعبة بعد تمام بنائها.
و أما كسوة البيت نفسه فيقال: إن أول من كساها تبع أبو بكر أسعد كساها بالبرود المطرزة بأسلاك الفضة، و تبعه خلفاؤه ثم أخذ الناس يكسونها بأردية مختلفة فيضعونها بعضها على بعض، و كلما بلي منها ثوب وضع عليها آخر إلى زمن قصي، و وضع قصي على العرب رفادة لكسوتها سنويا و استمر ذلك في بنيه و كان أبو ربيعة بن المغيرة يكسوها سنة و قبائل قريش سنة.
و قد كساها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالثياب اليمانية، و كان على ذلك حتى إذا حج الخليفة العباسي المهدي شكى إليه سدنة الكعبة من تراكم الأكسية على سطح الكعبة، و ذكروا أنه يخشى سقوطه فأمر برفع تلك الأكسية، و إبدالها بكسوة واحدة كل سنة، و جرى العمل على ذلك حتى اليوم، و للكعبة كسوة من داخل، و أول من كساها من داخل أم العباس بن عبد المطلب لنذر نذرته في ابنها العباس.
منزلة الكعبة:
كانت الكعبة مقدسة معظمة عند الأمم المختلفة فكانت الهنود يعظمونها، و يقولون: إن روح «سيفا» و هو الأقنوم الثالث عندهم حلت في الحجر الأسود حين زار مع زوجته بلاد الحجاز.
و كانت الصابئة من الفرس و الكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة، و ربما قيل: إنه بيت زحل لقدم عهده و طول بقائه.
و كانت الفرس يحترمون الكعبة أيضا زاعمين أن روح هرمز حلت فيها، و ربما حجوا إليها زائرين.
و كانت اليهود يعظمونها و يعبدون الله فيها على دين إبراهيم، و كان بها صور و تماثيل منها تمثال إبراهيم و إسماعيل، و بأيديهما الأزلام، و منها صورتا العذراء و المسيح، و يشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضا كاليهود.
و كانت العرب أيضا تعظمها كل التعظيم، و تعدها بيتا لله تعالى، و كانوا يحجون إليها من كل جهة و هم يعدون البيت بناء لإبراهيم، و الحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث.
ولاية الكعبة:
كانت الولاية على الكعبة لإسماعيل ثم لولده من بعده حتى تغلبت عليهم جرهم فقبضوا بولايتها ثم ملكتها العماليق و هم طائفة من بني كركر بعد حروب وقعت بينهم، و قد كانوا ينزلون أسفل مكة كما أن جرهم كانت تنزل أعلى مكة و فيهم ملوكهم.
ثم كانت الدائرة لجرهم على العماليق فعادت الولاية إليهم فتولوها نحو من ثلاثمائة سنة، و زادوا في بناء البيت و رفعته على ما كان في بناء إبراهيم.
ثم لما نشأت ولد إسماعيل و كثروا و صاروا ذوي قوة و منعة و ضاقت بهم الدار حاربوا جرهم فغلبوهم و أخرجوهم من مكة و مقدم الإسماعيليين يومئذ عمرو بن لحي، و هو كبير خزاعة فاستولى على مكة و تولى أمر البيت، و هو الذي وضع الأصنام على الكعبة و دعى الناس إلى عبادتها، و أول صنم وضعه عليها هو «هبل»، حمله معه من الشام إلى مكة و وضعه عليها ثم أتبعه بغيره حتى كثرت و شاعت عبادتها بين العرب، و هجرت الحنيفية.
و في ذلك يقول شحنة بن خلف الجرهمي يخاطب عمرو بن لحي.
يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة شتى بمكة حول البيت أنصابا
و كان للبيت رب واحد أبدا فقد جعلت له في الناس أربابا
لتعرفن بأن الله في مهل.
سيصطفي دونكم للبيت حجابا.
و كانت الولاية في خزاعة إلى زمن حليل الخزاعي فجعلها حليل من بعده لابنته و كانت تحت قصي بن كلاب، و جعل فتح الباب و غلقها لرجل من خزاعة يسمى أبا غبشان الخزاعي فباعه أبو غبشان من قصي بن كلاب ببعير و زق خمر، و في ذلك يضرب المثل السائر «أخسر ممن صفقة أبي غبشان».
فانتقلت الولاية إلى قريش، و جدد قصي بناء البيت كما قدمناه و كان الأمر على ذلك حتى فتح النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة، و دخل الكعبة و أمر بالصور و التماثيل فمحيت، و أمر بالأصنام فهدمت و كسرت، و قد كان مقام إبراهيم و هو الحجر الذي عليه أثر قدمي إبراهيم موضوعا بمعجن في جوار الكعبة ثم دفن في محله الذي يعرف به الآن، و هو قبة قائمة على أربعة أعمدة يقصدها الطائفون للصلاة.
و أخبار الكعبة و ما يتعلق بها من المعاهد الدينية كثيرة طويلة الذيل اقتصرنا منها على ما تمسه حاجة الباحث المتدبر في آيات الحج و الكعبة.
و من خواص هذا البيت الذي بارك الله فيه و جعله هدى أنه لم يختلف في شأنه أحد من طوائف الإسلام.
|