بيان
قد تقدم: أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين و آخرين سماعين لهم و لما يلقيه إليهم أعداء الإسلام من النزاعات و الوساوس لتقليب الأمور عليهم و إفساد دعوتهم، و مبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم و انتهاض المشركين و اليهود و النصارى لإبطال دعوتهم و إخماد نارهم و إطفاء نورهم بأي وسيلة أمكنت من لسان أو يد.
و أن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة و إلى الصبر و الثبات ليصلح بذلك أمرهم و ينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم، و ما يطرأ و يهجم عليهم منه من خارجه.
و قد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله تعالى: إن الله لا يخلف الميعاد تعريضا للمنافقين و الزائقين قلبا و دعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين، و التسليم و الإيمان فيما اشتبه لهم و لم يفتهموه من كنهه و حقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين و يجر المسلمين إلى الفتنة و اختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات و ابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي و الضلال و يتبدل به الاجتماع افتراقا، و الشمل شتاتا.
ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار و المشركين و أنهم سيغلبون و ليسوا بمعجزين لله سبحانه و لا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم و الالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها و ولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئا و قد أخطئوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره، و لو كان المال و الأولاد و ما أشبهها مغنية من الله شيئا لأغنت آل فرعون و من قبلهم من الأمم الظالمة أولي الشوكة و القدرة لكنها لم تغن عنهم شيئا و أخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون و يؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا و ثواب الآخرة و رضوان ربهم سبحانه.
فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود و النصارى على ما سيأتي.
قوله تعالى: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا، أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى و رفع حاجته فلا حاجة به إليه، و الإنسان في بادي تكونه و شعوره يرى نفسه محتاجة إلى الخارج منه، و هذا أول علمه الفطري إلى احتياجه إلى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب و أحس بحوائجه بدأ بإحساس الحاجة إلى كماله البدني النباتي و هو الغذاء و الولد، ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات الحيوانية، و هي التي يزينوا له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس و المسكن و المنكح و غير ذلك، و عندئذ يتبدل طلب الغذاء إلى طلب المال الذي يظنه مفتاحا لحل جميع مشكلات الحيوة لأن العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال و الولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء و الولد، ثم انكباب نفسه على مشتهياته، و قصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب، و يعطي لها الاستقلال، و حينئذ ينسى ربه، و يتشبث بذيل المال و الولد، و في هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه و يكفر بها، و قد التبس عليه الأمر فإن ربه هو الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا يستغني عنه شيء بحال و لا يغني عنه شيء بحال.
و بهذا البيان يظهر وجه تقديم الأموال على الأولاد في الآية فإن الركون إلى المال - و قد عرفت أن الأصل فيه الغذاء - أقدم عند الإنسان من الركون إلى الأولاد و أعرف منه و إن كان حب الولد ربما غلب عند الإنسان على حب المال.
و في الآية إيجاز شبيه دفع الدخل، و التقدير: إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و زعموا أن أموالهم و أولادهم تغنيهم من الله، و قد أخطئوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت و لا في شيء، على ما تدل عليه الآية التالية.
قوله تعالى: و أولئك هم وقود النار، الوقود بفتح الواو ما توقد به النار و تشتعل، و الآية جارية مجرى قوله تعالى: «فاتقوا النار التي وقودها الناس و الحجارة»: البقرة - 24، و قوله تعالى: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم»: الأنبياء - 98، و قد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.
و الإتيان بالجملة الاسمية، و الابتداء باسم الإشارة، و كونه دالا على البعد و توسيط ضمير الفصل، و إضافة الوقود إلى النار دون أن يقال وقود، كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر، و لازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار و إيقاد جهنم، و أن غيرهم إنما يحترقون بنارهم، و يتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض» الآية: الأنفال - 37.
قوله تعالى: كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم إلى آخر الآية: الدأب على ما ذكروه هو السير المستمر قال تعالى: «و سخر لكم الشمس و القمر دائبين»: إبراهيم - 33 و منه تسمية العادة دأبا لأنه سير مستمر، و هذا المعنى هو المراد في الآية.
و قوله: كدأب، متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة: لن تغني عنهم، و يفسر الدأب قوله: كذبوا بآياتنا و هو في موضع الحال، و تقدير الكلام كما مرت إليه الإشارة: إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و استمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم و أولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون و من قبلهم و قد كذبوا بآياتنا.
و قوله: فأخذهم الله بذنوبهم، ظاهر الباء أنها تفيد السببية، يقال: أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين، و قياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون و الذين من قبلهم في دأبهم أن يكون البناء للآلة، فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم و يعذبون بها فكذلك آل فرعون و من قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم و كان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي أذنبوها، و كان مكرهم هو الحائق بهم، و ظلمهم عائدا إليهم، قال تعالى: و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله»: الفاطر - 43، و قال تعالى: «و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون»: البقرة - 57.
و من هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب، فإن عقابه تعالى لا يقصد الإنسان و لا يتوجه إليه من جهة دون جهة، و في محل دون محل، و على شرط دون شرط كما أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الإنسان مثله مثلا إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق و تحت، و في بعض الأماكن دون بعض فيدفع بالفرار و التوقي و الالتجاء مثلا و هذا بخلاف عقابه تعالى فإنه يأخذ الإنسان بعمله و ذنبه و هو مع الإنسان في باطنه و ظاهره من غير أن ينفك عنه، و يجعل الإنسان وقودا لنار أحاط به سرداقها، و لا ينفعه فرار و لا قرار، و لا يوجد منه مناص و لا خلاص، فهو شديد العقاب.
و في قوله تعالى: كذبوا بآياتنا فأخذهم الله، التفات من الغيبة إلى الحضور أولا ثم من الحضور إلى الغيبة ثانيا، أما قوله: كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع و تقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل: إن فلانا بذي فحاش سيىء المحاضرة و قد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته، فجملة و قد ابتليت به تصحيح للخبر و إثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية و نحو من الشهادة.
فالمعنى - و الله أعلم - أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر و تكذيب الآيات، و لا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين و قد كذبوا بآياتنا نحن فأخذناهم.
و أما قوله: فأخذهم الله، فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام و هو أسلوب الغيبة، و فيه مع ذلك إرجاع الحكم إلى مقام الألوهية القائمة بجميع شئون العالم و المهيمنة على كل ما دق و جل، و لذلك كرر لفظ الجلالة ثانيا في قوله و الله شديد العقاب، و لم يقل و هو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم و تكذيبهم هذا منازعة و محاربة مع من له جلال الألوهية و يهون عليه أخذ المذنب بذنبه، و هو شديد العقاب لأنه الله جل اسمه.
قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون إلى آخر الآية، الحشر هو إخراج الجماعة عن مقرهم بالإزعاج، و لا يستعمل في الواحد، قال تعالى: «و حشرناهم فلم نغادر منهم أحدا»: الكهف - 47، و المهاد هو الفراش، و ظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما أنه ظاهر الآية السابقة: إن الذين كفروا لن تغني عنهم «الخ» دون اليهود، و هذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبة عليهم و حشرهم إلى جهنم و قد أشارت الآية السابقة إلى تقويهم و تعززهم بالأموال و الأولاد.
قوله تعالى: قد كان لكم آية في فئتين التقتا، ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا، و الكلام من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ستغلبون و تحشرون «الخ» و من الممكن أن يكون خطابا للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار و التفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييدا عجيبا بالتصرف في أبصار العيون، و على هذا يكون الكلام مشتملا على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: «قل للذين» بتوجيهه إليه و إلى من معه من المؤمنين، لكن السياق، كما عرفت، للأول أنسب.
و الآية - بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين و نصرة تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله - و إن لم تتعرض بتشخيص القصة و تسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعة بدر، و السورة نازلة بعدها بل و بعد أحد.
على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية و هم على ذكر منها حيث يقول: قد كان لكم آية «الخ» و لم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر، و الذي ذكره في قصة بدر في سورة الأنفال من قوله تعالى: «و إذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا و إلى الله ترجع الأمور»: الأنفال - 44، و إن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم و لا يتولوا عن المقارعة ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي و الاختلاط لينهزموا بذلك.
و كيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجها إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر، على أن قراءة ترونهم بالتاء أيضا تؤيد ما ذكرناه.
فمحصل معنى الآية: أنكم أيها المشركون لو كنتم من أولي الأبصار و البصائر لكفاكم في الاعتبار و الدلالة على أن الغلبة للحق و أن الله يؤيد بنصره من يشاء و لا يغلب بمال و لا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه، و قد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة، و لا يقاسون بهم قوة، كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا ليس لهم إلا ستة أدرع و ثمانية سيوف و فرسان، و كان جيش المشركين قريبا من ألف مقاتل لهم من العدة و القوة و الخيل و الجمال و الهيئة ما لا يقدر بقدر، فنصر الله المؤمنين على قلتهم و ذلتهم على أعدائه و كثرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأي العين، و أيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال و أولاد و لم يغنهم جمعهم و لا كثرتهم و قوتهم من الله شيئا.
و قد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون و الذين من قبلهم في تكذيب آيات الله و أخذهم بذنوبهم في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين ما ذكره هاهنا بعينه.
و في موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل و الإبادة ففي آياته تهديد بالقتال.
قوله تعالى: فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة، لم يقل و أخرى في سبيل الشيطان أو في سبيل الطاغوت و نحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى و أن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله و الجهاد في سبيله و بين الكفر به تعالى.
و الظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله: فئة تقاتل، أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة و ستة و عشرين و لقد كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و أما احتمال اختلاف الضميرين مرجعا بأن يكون المعنى: يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ، و هو ظاهر.
و ربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة، و يكون المعنى: يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم يرون الألف ألفين و لازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثا لهم في النسبة و ذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر: «و إذ يريكموهم إذا التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم»: الأنفال - 44، فإن الآية تنافي الآية.
و أجيب بأن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم على هذا أن يقال: يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك.
و أما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد الموقف و المقام، و لا دليل على ذلك لإمكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم و تزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة و حمي الوطيس رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا بذلك و ولوا الأدبار، و هذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة: «لا يسأل عن ذنبه إنس و لا جان»: الرحمن - 39، مع قوله: «و قفوهم إنهم مسئولون»: الصافات - 24، و ليس إلا أن الموقف غير الموقف.
و في شأن الضميرين أعني في قوله: يرونهم مثليهم، احتمالات أخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ، و لذلك تركنا ذكرها، و الله العالم.
قوله تعالى: و الله يؤيد بنصره من يشاء، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، التأييد من الأيد و هو القوة، و المراد بالأبصار قيل: هو العيون الظاهرية لكون الآية مشتملة على التصرف في رؤية العيون، و قيل: هو البصائر لأن العبرة إنما تكون بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري، و الأمر هين، فإن الله سبحانه في كلامه يعد من لا يعتبر بالعبر و المثلات أعمى، و يذكر أن العين يجب أن تبصر و تميز الحق من الباطل و في ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر، و أن البصيرة و البصر في مورد المعارف الإلهية واحد بنوع من الاستعارة لنهاية ظهورها و وضوحها، و الآيات في ذلك كثيرة جدا، و من أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى: «فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور»: الحج - 46، أي إن الأبصار إنما هي في القلوب دون الرءوس، و قوله تعالى: «و لهم أعين لا يبصرون بها»: الأعراف - 179، و الآية في مقام التعجيب، و قوله تعالى: و جعل على بصره غشاوة»: الجاثية - 23، إلى غير ذلك من الآيات، فالمراد بالأبصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر و تفهم فهو من الاستعارة بالكناية، و النكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس، و يزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة.
و ظاهر قوله: إن في ذلك «الخ» أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله: قل للذين كفروا «الخ»، و الدليل عليه الكاف في قوله: ذلك، فإنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في هذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيماء إلى قلة فهمهم و عمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر.
قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات من النساء «الخ»، الآية و ما يتلوها بمنزلة البيان و شرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفا: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا «الخ» إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالأموال و الأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب هذه المشتهيات و انقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة، و قد اشتبه عليهم الأمر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا، ليس لها إلا أنها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب و الاشتهاء و لا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الإنساني في حيوته و بقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين: البقرة - 36.
و إنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة و يأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها و زينتها بعين الاستقلال و ينسوا بها ما وراءها، و يأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم، قال تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا»: الكهف - 8.
إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات و ذرائع إلى رضوان الله سبحانه أمورا مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها و زعموا أنها تغني عنهم من الله شيئا فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة و وبالا بعد ما كانت مثوبة مقربة.
قال تعالى: «إنما مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس و الأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها و ازينت و ظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس إلى أن قال: و يوم يحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم إلى أن قال: و ردوا إلى الله موليهم الحق و ضل عنهم ما كان يفترون»: يونس - 30 تشير الآيات إلى أمر الحيوة و زينتها بيده تعالى لا ولي لها دونه لكن الإنسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه، و أنه قادر على تدبيرها و تنظيمها فيتخذ لنفسه فيها شركاء - كالأصنام و ما بمعناها من المال و الولد و غيرهما، إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة، و يزيل الروابط التي بينه و بين شركائه، و عند ذلك يضل عن الإنسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير و يظهر له معنى ما علمه في الدنيا و حقيقته، و رد إلى الله مولاه الحق.
و هذا التزين أعني: ظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال و جمال الغاية و المقصد لا يستند إلى الله سبحانه فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة، و قد قال تعالى: «إن الله بالغ أمره»: الطلاق - 3، و قال تعالى: «و الله غالب على أمره»: يوسف - 21، بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى: «و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون»: الأنعام - 43، و قال تعالى: «و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم»: الأنفال - 48.
نعم لله سبحانه الإذن في ذلك ليتم أمر الفتنة، و تستقيم التربية كما قال تعالى: «أ حسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون و لقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون: العنكبوت - 4، و على هذا الإذن يمكن أن يحمل قوله تعالى: «كذلك زينا لكل أمة عملهم: الأنعام - 108، و إن أمكن أيضا أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا: الكهف - 7.
و بالجملة التزيين تزيينان: تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة و ابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال و الجاه و الأولاد و النفوس، و هو سلوك إلهي حسن، نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله: إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها الآيات، و كقوله تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق»: الأعراف - 32.
و تزيين لجلب القلوب و إيقافها على الزينة و إلهائها عن ذكر الله و هو تصرف شيطاني مذموم، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان، و حذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى: «و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون» الآية، و قوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان: «قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين»: الحجر - 39، و قوله تعالى: زين لهم سوء أعمالهم»: التوبة - 37، إلى غير ذلك من الآيات.
و هذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث إن الشيطان و كل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل و يتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده و شاءه، و ينتظم بذلك أمر الصنع و الإيجاد، و يفوز الفائزون بحسن إرادتهم و اختيارهم، و يمتاز المجرمون.
و بما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله: زين للناس حب الشهوات «الخ» ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور و إن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزيينا صالحا لأن يدعو إلى عبادته تعالى و هو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزيينا ملهيا عن ذكره تعالى و هو المنسوب إليه بالإذن، لكن لاشتمال الآية على ما لا ينسب إليه مستقيما كما يجيء بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس.
و من هنا يظهر صحة ما ذكره بعض المفسرين: أن فاعل زين هو الشيطان لأن حب الشهوات أمر مذموم، و كذا حب كثرة المال مذموم، و قد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية و في ما يتلوها.
و يظهر به فساد ما ذكره بعضهم: أن الكلام في طبيعة البشر و الحب الناشىء فيها و مثله لا يسند إلى الشيطان بحال و إنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا.
قال: و لذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال تعالى: «و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم»، و قال «و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون»، و أما الحقائق و طبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له، قال عز و جل: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا» و قال: كذلك زينا لكل أمة عملهم» فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع، انتهى.
وجه الفساد: أنه و إن أصاب في قوله: إن الحقائق و طبائع الأشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله: إن الكلام في طبيعة البشر و ما ينشأ منها بحسب الطبع، و ذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق و التدبير و الإيمان و الكفر و الإطاعة و العصيان، خلق الخلق و هداهم إلى سعادتهم، و أن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بآياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب، و بالجملة الذين أطاعوا الشيطان و اتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره و تدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنة الامتحان فهو الخالق للطبائع و قواها و ميولها و أفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب و الكرامة، و هو الذي أذن لإبليس و لم يمنعه من الوسوسة و النزعة و لم يمنع الإنسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منهم شهداء، و إنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلي بذلك نفوس المؤمنين، و يطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة و الشدة و الابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين و جهالة الذين في قلوبهم مرض بإفساد الأمور و تقليبها عليهم، و التقصير في طاعة الله و رسوله، و من الخارج بالدعوة الشاقة الدينية، و وثوب الكفار من العرب عليهم من جانب، و أهل الكتاب و اليهود منهم خاصة من جانب آخر، و تهديد الكفار كالروم و العجم بالقوة و العدة من جانب آخر، و هؤلاء الكافرون و من يحذو حذوهم اشتبه عليهم الأمر في الركون إلى الدنيا و زخارفها حيث أخذوها غاية و هي مقدمة و الغاية أمامها.
فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الأمم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم و تكوينهم و جميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل و أعمال السعادة و الشقاوة و الطاعة و المعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته، و لا يغلب في أمره لا في الدنيا و لا في الآخرة أما في الدنيا فإنما هو إذن و امتحان، و أما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و كذلك الآيات أعني قوله: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار و إن كذبوا آيات ربهم و بدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه و جنته فركنوا و اعتمدوا عليها و استغنوا بها عن ربهم، و نسوا مقامه ليسوا بمعجزين و لا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم، و يؤيد عباده المؤمنين عليهم و سيحشرهم إلى جهنم و بئس المهاد، و هم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعا في الحياة الدنيا و عند الله حسن المآب، فالآيات أيضا تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح و الطالح من أعمالهم.
على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهدا بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله و إنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى: «كذلك زينا لكل أمة عملهم» يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك و يؤيد ما ذكرناه و هو قوله تعالى: «و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون»: الأنعام - 108، و هو ظاهر.
و كذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن التزيين على قسمين محمود و مذموم و الأعمال نوعان حسنة و سيئة، و إنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن، و الباقي للشيطان و هو و إن كان حقا من وجه و لكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل و نحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل، و لا يأمر بالسوء و الفحشاء، و أما النسبة غير المستقيمة و بالواسطة التي يعبر عنه بالإذن و نحوه فلا مانع عنها، و لو لا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شيء، و خلقه لكل شيء، و ملكه لكل شيء، و انتفاء الشريك عنه على الإطلاق، و القرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى: «يضل من يشاء»: الرعد - 27، و قوله: «أزاغ الله قلوبهم»: الصف - 5، و قوله: «الله يستهزىء بهم و يمدهم في طغيانهم: البقرة - 15، و قوله: «أمرنا مترفيها ففسقوا»: الإسراء - 16، إلى غير ذلك من الآيات، و لم ينشأ خطؤهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء و آثارها و أفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الأمور الموجودة أمرا مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الأشياء و قبيل المصنوعات و ما يتقدم عليها و ما يتأخر عنها.
و لزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب و العلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة و لا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها و كل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكا لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب و لا في حدوثه حظ، فأجرام تدور، و بحر تسري و فلك تجري، و أرض تقل، و نبات ينبت، و حيوان يدب، و إنسان يعيش و يكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها و لا وحدة جسمية من المادة و قوتها: توحدها.
ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال و التلاشي بين عناوين الأعمال و صور الأفعال من خير و شر، و سعادة و شقاوة، و هدى و ضلال، و طاعة و معصية و إحسان و إساءة، و عدل و ظلم، و غير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود و لا متشابكة التحقق.
و قد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات و أنواع المخلوقات مرتبط الأجزاء متلائم الأبعاض، يتبدل جزء منه إلى جزء، و يتحول بعضه إلى بعض، فيوما إنسان، و يوما نبات، و يوما جماد، و يوما جمع، و يوما فرق، و حيوة البعض بعينها ممات الآخر، و كون الجديد منه فساد للقديم بعينه.
و كذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها و ما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات و هو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع، و إن عزب عن علمنا و إدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود، فهذا مما بينت في الأبحاث العلمية منذ القديم، و أوضحته الأبحاث الطبيعية و الرياضية اليوم أتم إيضاح، و لقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الإنباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها و طبيعيها و رياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث، و ذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية و الأرضية، و ارتباط ما بينها، و نفع بعضها في بعض، و اشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة، و نفوذ القدر في جميعها و السلوك إلى المعاد، و أن إلى ربك المنتهى.
و كذلك أوصاف الأفعال و عناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الأمور المتقابلة المتعاندة فلو لا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع و الإيجاد أن تكون شيء ما يحتاج إلى فساد آخر، و سبق أمر يتوقف على لحوق آخر.
و لو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الإنساني الطبيعي، و لا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق، فإن الإطاعة مثلا حسنة لأن المعصية سيئة، و الحسنة موجبة للثواب، لأن السيئة موجبة للعقاب، و الثواب لذيذ للعامل لأن العقاب مولم له، و اللذة سعادة مرغوب فيها لأن الألم شقاوة مهروب عنها، و السعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها و الشقاوة هي التي يتوجه عنها، و لو لا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.
فالإطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالألم فالشقاء و إنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله و يحيى بموته، و كيف يمكن أن تقع دعوة إلى شيء من غير تحذير عما يخالفه؟ و كيف يمكن أن يكون خلافه ممكنا دون أن يكون واقعا بما يدعو إليه من الأغراض و الميول؟.
فقد تبين من ما ذكرناه: أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح و على المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه و خلقه غير أن الكون و الفساد في غير الأعمال و أوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لأن الخلق و الأمر له.
لا شريك له و قبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة و قبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان و تسليط الهوى على الإنسان و تأمير الظالمين على الناس و نحو ذلك ينسب إليه تعالى بالإضلال و الإخزاء و الخذلان و نحوها نسبة غير مستقيمة، و هي التي يعبر عنها بالإذن فيقال: إنه تعالى أذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة و التسويل، و لم يمنع الإنسان أن يتبع الهوى، و لم يضرب بين الظالم و ما يريده من الظلم بحجاب لأن السعادة و الشقاوة مبنيتان على الاختيار، فمن سعد فباختياره، و من شقي فباختياره، و لو لا ذلك لم تتم الحجة، و لم تجر سنة الاختيار و الامتحان.
و لم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم، فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء و ضرورة تأثير الأسباب و اعترفوا بذلك لزمهم الإيجاب في جانب الصانع تعالى و سلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته.
و أما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال و أسندوها إلى إرادته و قدره تعالى لزمهم القول بالإيجاب و الإجبار في جانب المصنوع و هو الإنسان، و ببطلان الاختيار يبطل الثواب و العقاب، و التكليف و التشريع.
مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول: «و الله غالب على أمره»: يوسف - 21 و يقول: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف - 54 و يقول: «لله ما في السموات و الأرض»: يونس - 55، على أنها و ما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا»: البقرة - 26.
و لنرجع إلى ما كنا فيه من الكلام في قوله تعالى: زين للناس حب الشهوات فنقول: الظاهر أن فاعل زين غيره تعالى و هو الشيطان أو النفس: أما أولا فلأن المقام مقام ذم الكفار بركونهم إلى هذه المشتهيات من المال و الأولاد و استغنائهم بتزينها لهم عن الله سبحانه، و الأليق بمثل هذه الزينة الصارفة عن الله الشاغلة عن ذكره أن لا ينسب إليه تعالى.
و أما ثانيا: فلأنه لو كان هذا هو التزيين المنسوب إليه تعالى لكان المراد به الميل الغريزي الذي للإنسان إلى هذه الأمور فكان الأنسب في التعبير أن يقال: زين للإنسان أو لبني آدم و نحوها كقوله تعالى: «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين»: التين - 5، و قوله تعالى: «و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر الآية: الأسرى - 70، و أما لفظ الناس فالأعرف منه أن يستعمل في الموارد التي فيها شيء من إلغاء الميز أو حقارة الشخص و دناءة الفكر نحو قوله: «فأبى أكثر الناس إلا كفورا»: الأسرى - 89، و قوله: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى»: الحجرات - 13 و غير ذلك.
و أما ثالثا: فلأن الأمور التي عدها تعالى بيانا لهذه الشهوات لا تناسب التزيين الفطري إذ كان الأنسب عليه أن يبدل لفظ النساء بما يؤدي معنى مطلق الزوجية، و لفظ البنين بالأولاد، و لفظ القناطير المقنطرة، بالأموال فإن الحب الطبيعي موجود في النساء بالنسبة إلى الرجال كما هو موجود في الرجال بالنسبة إلى النساء، و كذا هو مغروز في الإنسان بالنسبة إلى مطلق الأولاد و مطلق الأموال دون خصوص البنين و خصوص القناطير المقنطرة، و لذلك اضطر القائل بكون فاعل زين هو الله سبحانه أن يقول: إن المراد حب مطلق الزوجية و مطلق الأولاد و مطلق الأموال و إنما ذكرت النساء و البنين و القناطير لكونها أقوى الأفراد و أعرفها ثم تكلف في بيان ذلك بما لا موجب له.
و أما رابعا: فلأن كون التزيين هو المنسوب إلى الله سبحانه لا يلائم قوله تعالى في آخر الآية: ذلك متاع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم، فإن ظاهره أنه كلام موضوع لصرفهم عن هذه الشهوات الدنيوية و توجيه نفوسهم إلى ما عند الله من الجنان و الأزواج و الرضوان، و لا معنى للصرف عن المقدمة إلى ذي المقدمة فإن في ذلك مناقضة ظاهرة و إبطالا للأمرين معا كالذي يريد الشبع و يمتنع عن الأكل.
فإن قلت: الآية أعني قوله: زين للناس حب الشهوات «الخ» بحسب الملخص من معناها مساوقة لقوله تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة»: الأعراف - 32، و لازم انطباق المعنى أن يكون فاعل التزيين في هذه الآية أيضا هو الله سبحانه.
قلت: بين الآيتين فرق من حيث المقام: فإن المقام فيما نحن فيه: مقام ذم هذه الشهوات المحبوبة للناس لصرفها و إلهائها الناس عما لهم عند الله، و حثهم على الإعراض عنها و التوجه إلى ما عند الله سبحانه بخلاف تلك الآية فإنها مسوقة لبيان أن هذه النعم زينت للإنسان و أنها للمؤمنين في هذه الدنيا بالاشتراك في الدنيا و بالاختصاص في الآخرة، و لذلك بدل لفظ الناس هناك بلفظ العباد.
و عدت هذه الزينة رزقا طيبا.
و إن قلت: إن التزيين علق في الآية على حب الشهوات دون نفس الشهوات، و من المعلوم أن تزيين الحب للإنسان و جذبه لنفسه و جلبه لقلبه أمر طبيعي و خاصة ذاتية له فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعل الحب مؤثرا في قلوبهم أي خلق الحب في قلوبهم، و لا ينسب الخلق إلا إلى الله سبحانه فهو الفاعل في قوله: زين.
قلت: لازم ما ذكرناه من القرائن أن يكون المراد بتزيين الحب جعل الحب بحيث يجذب الناس إلى نفسه و يصدهم عن غيره فإن الزينة هي الأمر المطلوب الجالب الذي ينضم إلى غيره ليجلب الإنسان إلى ذلك الغير بتبع جلبه إلى نفسه كما أن المرأة تتزين بضم أمور تستصحب الحسن و الجمال إلى نفسها ليقصدها الرجل بها فالمقصود هو بالحقيقة تلك الأمور و المنتفع من هذا القصد هي المرأة، و بالجملة فيئول معنى تزيين الحب للناس إلى جعله في أعينهم بحيث يؤدي إلى التوله فيه و الولوع في الاشتغال به لا أصل تأثير الحب كما هو الظاهر من معنى قوله تعالى: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا»: مريم - 59، و يؤيد هذا المعنى ما سيأتي من الكلام في العد الواقع في قوله: من النساء و البنين و القناطير، على أن لفظ الشهوات ربما لم يخل عن الدلالة بالشغف و الولوع و إن كان بمعنى المشتهيات.
قوله تعالى: من النساء و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة «الخ»، النساء جمع لا واحد له من لفظه، و البنين جمع ابن و هو ذكور الأولاد بواسطة أو بلا واسطة، و القناطير جمع قنطار و هو ملء مسك ذهبا أو هو المسك المملوء، و المقنطرة اسم مفعول مشتق من القنطار و هو جامد، و هذا من دأبهم يعتبرون في الجوامد شيئا من النسب يكسب بها معنى مصدريا ثم يشتقون منه المشتقات كالباقل و التامر و العطار لبائع البقل و التمر و العطر، و فائدة توصيف الشيء بالوصف المأخوذ من لفظه تثبيت معناه له، و التلميح إلى أنه واجد لمعنى لفظه غير فاقدة كما يقال: دنانير مدنرة و دواوين مدونة، و يقال: حجاب محجوب و ستر مستور، و الخيل: هو الأفراس، و المسومة مأخوذة من سامت الإبل سوما بمعنى ذهبت لترعى فهي سائمة، أو من سمت الإبل في المرعى و أسمتها و سومتها بمعنى أعلمتها.
فالخيل المسومة إما المرسلة للرعي أو المعلمة، و الأنعام جمع نعم بفتحتين و هو الإبل و البقر و الغنم، و البهائم أعم منه و يطلق على غير الوحش و الطير و الحشرات، و الحرث هو الزرع و فيه معنى الكسب و هو تربية النبات أو النبات المربى للانتفاع به في المعاش.
و بناء التعداد في الآية ليس على تكثر حب الشهوات بحسب تكثر المشتهيات أعني متعلقات الشهوة بمعنى أن الإنسان بحسب طبعه يميل إلى الأزواج و الأولاد و المال حتى يتكلف في توجيه التعبيرات الواقعة في الآية كالتعبير عن الإنسان بالناس و التعبير عن الأولاد بخصوص البنين، و التعبير عن المال بالقناطير المقنطرة «الخ» بما تكلف به جمع من المفسرين.
بل على كون الناس أصنافا في الشغف و الولوع بمشتهيات الدنيا فمن شهواني لا هم له إلا التعشق بالنساء و غرامهن و التقرب إليهن و الأنس بصحبتهن، و يستصحب ذلك أذنابا من وجوه الفساد و معاصي الله سبحانه كاتخاذ المعازف و الأغاني و شرب المسكرات و أمور أخر غيرهما، و هذا مما يختص بالرجال عادة، و لا يوجد في النساء إلا في غاية الشذوذ، و من محب للبنين و التكاثر و التقوي بهم كما يوجد غالبا في أهل البدو، و يختص أيضا بالبنين دون البنات، و من مغرم بالمال أكبر همه أن يقنطر القناطير، و يملأ المخازن من وجوه النقد، و ظهور هذا الجنون أيضا في جمع المال إنما هو في وجوه النقد من الذهب و الفضة أو ما يتقوم بهما دون أمثال الأثاث إلا أن يراد لأجلهما بوجه، و يوجد غالبا في الحاضر دون البادي، أو أن المختار عنده اتخاذ الخيل المسومة كالمغرمين بالفروسة و أمثالهم أو اتخاذ الماشية من الأنعام، أو يستحب الحرث، و ربما يجتمع البعض من هذه الثلاثة الأخيرة مع البعض و ربما تفترق.
و هذه أقسام الشهوات التي ينسل الناس إليها صنفا صنفا بالتعلق بواحد منها و جعله أصلا في اقتناء مزايا الحيوة، و جعل غيره فرعا مقصودا بالقصد الثاني، و قلما يوجد أو لا يوجد أصلا في الناس من ساوى بين جميعها، و قصد الجميع قصدا أولا معتدلا.
و أما مثل الجاه و المقام و الصدارة و نحوها فهي جميعا أمور وهمية بالحقيقة إنما تتعلق الرغبة إليها بالقصد الثاني لا يعد الالتذاذ بها التذاذا شهويا، على أن الآية ليست في مقام حصر الشهوات.
و من هنا يتأيد ما تقدمت الإشارة إليه من أن المراد بحب الشهوات التوغل و الانغمار في حبها و هو المنسوب إلى الشيطان دون أصل الحب المودع في الفطرة و هو المنسوب إلى الله سبحانه.
قوله تعالى: ذلك متاع الحياة الدنيا، أي هذه الشهوات أمور يتمتع بها لإقامة هذه الحيوة التي هي أقرب الحيوتين منكم و هما الحيوة الدنيا و الحيوة الأخرى، و الحيوة الدنيا و كذا المتاع الذي يتمتع به لها أمر فان داثر ليس لها عاقبة باقية صالحة، و صلاح العقبى و حسن المآب إنما هو عند الله سبحانه و هو قوله تعالى: و الله عنده حسن المآب.
قوله تعالى: قل أ أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات إلى آخر الآية، الآية مسوقة لبيان قوله: و الله عنده حسن المآب و قد وضع فيها محل هذه الشهوات الفانية الباطلة أمور هي خير للإنسان لكونها باقية و حسنة حقيقة من غير بطلان، و هي أمور مجانسة لهذه الشهوات في ما يريده الإنسان من خواصها و آثارها غير أنها خالية عن القبح و الفساد غير صارفة للإنسان عن ما هو خير منها، و هي الجنة و مطهرات الأزواج و رضوان الله تعالى.
و قد اختصت الأزواج بالذكر مع كون ذكر الجنة كالمشتمل عليها لكون الوقاع أعظم اللذائذ الجسمية عند الإنسان، و لذلك أيضا قدم ذكر النساء في قوله: من النساء و البنين و القناطير المقنطرة «الخ».
و أما الرضوان بكسر الراء و ضمها فهو الرضا و هو أن يلائم الأمر الواقع نفس صاحبه من غير أن يمتنع منه و يدافعه، و يقابله السخط.
و قد تكرر في القرآن ذكر رضى الله سبحانه، و هو منه تعالى كما يتصور بالنسبة إلى فعل عباده في باب الطاعة كذلك يتصور بالنسبة إلى غير باب الطاعة كالأوصاف و الأحوال و غير ذلك إلا أن جل الموارد التي ذكر فيها أو كلها من قبيل الرضا بالطاعة، و لذلك ربما قوبل بينه و بين رضا العبد فرضاه عن عبده لطاعته، و رضى العبد عنه لجزائه الحسن أو لحكمة كقوله تعالى: «رضي الله عنهم و رضوا عنه: البينة - 8، و قوله تعالى: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية»: الفجر - 28، و قوله تعالى: «و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم و رضوا عنه و أعد لهم جنات» الآية: البراءة - 100.
و ذكر الرضوان هاهنا أعني في عداد ما هو خير للناس من مشتهيات الحيوة الدنيا يدل على أنه نفسه من مشتهيات الإنسان أو يستلزم أمرا هو كذلك عنى بذكره في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية، و كذا في مقابل الفضل و الرحمة في قوله: «فضلا من ربهم و رضوانا»: المائدة - 2، و قوله: «و مغفرة من الله و رضوان»: الحديد - 29، و قوله: «برحمة منه و رضوان»: البراءة - 21.
و لعل الذي يكشف عن هذا الذي أبهمته هذه الآية هو التدبر في المعنى الذي ذكرناه و في قوله تعالى: رضي الله عنهم الآية و قوله: راضية مرضية الآية حيث علق رضاه بأنفسهم، و الرضا عن أنفسهم غير الرضا عن أفعالهم فيعود المعنى إلى أنه لا يمنعهم عن نفسه فيما يسألونه فيئول إلى معنى قوله «لهم ما يشاءون فيها»: ق - 35، ففي رضوان الله عن الإنسان المشية المطلقة للإنسان.
و من هنا يظهر: أن الرضوان في هذه الآية قوبل به من الشهوات المذكورة في الآية السابقة أن الإنسان يحسب أنه لو اقتناها و خاصة القناطير المقنطرة من بينها أفادته إطلاق المشية و أعطته سعة القدرة فله ما يشاء، و عنده ما يريد.
و قد اشتبه عليه الأمر فإنما يتم ذلك برضا الله الذي إليه أمر كل شيء.
قوله تعالى: و الله بصير بالعباد.
لما تحصل من هذه الآية و التي قبلها: أن الله أعد للإنسان في كلتا الدارين الدنيا و الآخرة نعما يتنعم بها و مآرب أخرى مما تلتذ به نفسه كالأزواج، و ما يؤكل و يشرب، و الملك و نحوها، و هي متشابهة في الدارين غير أن ما في الدنيا مشترك بين الكافر و المؤمن مبذول لهما معا و ما في الآخرة مختص بالمؤمن لا يشاركه فيها الكفار كان المقام مظنة سؤال الفرق في ذلك، و بلفظ آخر سؤال وجه المصلحة في اختصاص المؤمن بنعم الآخرة أجاب عنه بقوله: و الله بصير بالعباد، و معناه: أن هذا الفرق الذي فرق الله به بين المؤمن و الكافر ليس مبنيا على العبث و الجزاف تعالى عن ذلك بل إن في الفريقين أمرا هو المستدعي لهذا الفرق و الله بصير بهم يرى ما فيهم من الفرق و هو التقوى في المؤمن دون الكافر، و قد وصف هذا التقوى و عرفه بما يلحق بهذه الآية من قوله: الذين يقولون ربنا إلى آخر الآيتين و ملخصه: أنهم يظهرون فاقتهم إلى ربهم و عدم استغنائهم عنه، و يصدقون ذلك بالعمل الصالح و لكن الكافر يستغني عن ربه بشهوات الدنيا و ينسى آخرته و عاقبة أمره.
و من ألطف ما يستفاد من الآيتين أعني قوله تعالى: ذلك متاع الحيوة الدنيا و الله عنده حسن المآب قل أ أنبئكم بخير من ذلكم إلى آخر الآية و ما في معناهما من الآيات كقوله تعالى: «قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون،: الأعراف - 32، الجواب عن إشكال استوجهه كثير من الباحثين على ظواهر الآيات الواصفة لنعم الجنة.
أما الإشكال فهو أن المتأمل في أطوار وجود هذه الموجودات المشهودة في هذا العالم لا يشك في أن الأفعال الصادرة منها و أعمالها التي يعملها إنما هي متفرعة على القوى و الأدوات التي جهز بها كل واحد منها ليدفع بها عن وجوده و يحفظ بها بقاءه كما يحققه البحث عن الغايات الوجودية و أن الوجود لا يستند إلى اتفاق أو جزاف أو عبث.
فهو ذا الإنسان مجهز في جميع بدنه بجهاز دقيق في غاية الدقة يتمشى به أمر تغذيه، و إنما يتغذى لتهيئة بدل ما يتحلل من أجزائه و إنما يفعل ذلك ليمد وجوده للبقاء، و أيضا هو مجهز بجهاز التناسل على ما فيه من الأدوات و القوى الفعالة و المترتبة ليحفظ بقاء نوعه و الأمر في وجود النبات و الحيوان نظير الأمر في تجهيز الإنسان.
ثم إن الخلقة احتالت في تسخيرها و خاصة في تسخير ذوات الشعور منها و هي الحيوان و الإنسان بإبداع لذائذ في أفعالها و إيداعها في القوى لتتسابق إلى الأفعال لأجل هذه اللذائذ و هي لا تشعر أن الخلقة تريد منها غايتها و هي بقاء الوجود و تغرها بتطميعها باللذة التي تزينها لها فيحصل بذلك ما يريده الخلقة، و يلتذ الفاعل بهذه الزينة التي تغرها و يلعب بها، فلو لا ما في الغذاء و النكاح مثلا من اللذة لما قصدهما الإنسان مثلا لمجرد كونهما مقدمة للبقاء، و بطل بذلك غرض الخلقة لكن الله سبحانه أودع فيه لذة الغذاء و لذة النكاح لا يستريح الإنسان في طريق النيل إليهما دون أن يتحمل كل تعب و عناء و يقاسي كل مصيبة و بلاء، و هو في اقتناء هذه الشهوات مختال فخور بما ليس فيه إلا الغرور، و أما الصنع و الخلقة فينال بغيته و يبلغ أمنيته فإنه ما كان يريد بهذا التدبير إلا بقاء وجود الفرد و قد حصل بالتغذي، و إلا بقاء وجود النوع و قد حصل بالنكاح و السفاد و لم يبق للإنسان مثلا فيما كان يريده إلا الخيال.
و إذا كان هذه اللذائذ الدنيوية مقصودة في الخلقة لأجل غرض محدود معجل فلا معنى لتحققها في ما لا تحقق هناك لذلك الغرض، فلذة الأكل و الشرب و جميع اللذائذ الراجعة إلى التغذي مقصودة في الطبيعة لأجل حفظ البدن عن آفة التحلل و فساد التركيب و هو الموت، و لذة النكاح و جميع اللذائذ المرتبطة به و هي أمور جمة إنما تقصدها الخلقة لأجل حفظ النوع من الفناء و الاضمحلال، فلو فرض للإنسان وجود لا يلحقه موت و لا فناء و حيوة مأمونة من كل شر و مكروه فأي فائدة تترتب على وجود القوى البدنية التي تعمل لأجل تحصيل بقاء الشخص أو النوع؟ و أي ثمرة يثمرها تجهيزات البدن و أعضاؤه كالكلي و المثانة و الطحال و الكبد و غيرها و جميعها إنما أوجدت لأعمال تنفع في البقاء المعجل المحدود دون البقاء المخلد المؤبد؟.
و أما الجواب فهو أن الله سبحانه إنما خلق ما خلق من لذائذ الدنيا و النعم التي تتعلق بها هذه اللذائذ زينة في الأرض ليقصدها الإنسان فينجذب إلى الحيوة و يتعلق بها كما قال: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها»: الكهف - 7، و قال «المال و البنون زينة الحيوة الدنيا»: الكهف - 46، و قال: «تبتغون عرض الحيوة الدنيا»: النساء - 94، و قال - و هو أجمع للغرض -: «و لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه و رزق ربك خير و أبقى»: طه - 131، و قال أيضا: «و ما أوتيتم من شيء فمتاع الحيوة الدنيا و زينتها و ما عند الله خير و أبقى أ فلا تعقلون»: القصص - 60، إلى غير ذلك من الآيات، و جميعها تبين أن هذه النعم الموجودة في الدنيا، و اللذائذ المتعلقة بها أمور مقصودة لأجل الحيوة و أمتعة يتمتع بها لأجل الحيوة هذه الحيوة المحدودة التي لا تتعدى أياما قلائل، فلو لا الحيوة لما كانت هي مقصودة و لا مخلوقة، و هذا هو حق الأمر!.
لكن يجب أن يعلم أن وجود الإنسان الباقي ليس إلا هذا الوجود الذي يمكث هاهنا برهة من الزمان بتحوله من طور إلى طور، و ليس ذلك إلا روحا كائنا من بدن و على بدن هو مجموع هذه الأجزاء المأخوذة من هذه العناصر و القوى الفعالة فيها، و لو فرض ارتفاع هذه الأمور التي نعدها مقدمات مقصودة للبقاء لم يبق وجود و لا بقاء أعني أن فرض عدمها هو فرض عدم الإنسان رأسا لا فرض عدم استمرار وجود الإنسان فافهم ذلك.
فالإنسان في الحقيقة هو الذي ينشعب أفرادا و يأكل و يشرب و ينكح و يتصرف في كل شيء بالأخذ و الإعطاء و يحس و يتخيل و يعقل و يسر و يفرح و يبتهج و هكذا، كل ذلك ملائم لذاته الذي هو كالمجموع منها و بعضها مقدمة لبعضها، و هو السائر الدائر في مثل مسافة دورية.
فإذا نقله الله من دار الفناء إلى دار البقاء و كتب عليه الخلود و الدوام إما بثواب دائم أو بعقاب دائم لم يكن ذلك بإبطال وجوده و إيجاد وجود باق بل بإثبات وجوده بعد ما كان متغيرا في معرض الزوال فهو لا محالة إما متنعم بنعم من سنخ نعم الدنيا لكنها باقية أو نقم و مصائب من سنخ نقم الدنيا و مصائبها.
و كل ذلك منكوح أو مأكول أو مشروب أو ملبوس أو مسكون أو قرين أو سرور أو نحو ذلك.
فالإنسان هو الإنسان و ما يحتاج إليه و يستكمل به هو الذي كان يحتاج إليه و يستكمل به من مطالبه و مقاصده و إنما الفرق هو اختلاف الدارين بالبقاء و ما يلحق به.
هذا هو الذي يظهر من كلامه سبحانه حيث يبين حقيقة البنية الإنسانية فيقول: «و لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ثم إنكم بعد ذلك لميتون ثم إنكم يوم القيامة تبعثون»: المؤمنون - 16، انظر إلى موضع قوله: و لقد خلقنا، و الخلق هو الجمع و التركيب، و إلى موضع قوله: ثم أنشأناه، الدال على تبديل نحو الخلق و الإيجاد، و إلى موضع قوله: ثم إنكم يوم القيامة، و المخاطب به هو الذي أنشىء خلقا آخر.
و يقول أيضا: «قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون»: الأعراف - 25 فيفيد أن حيوة الإنسان حيوة أرضية مؤلفة من نعمها و من نقمها.
و تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة الآية: البقرة - 213.
و قد قال تعالى في هذه النعم الأرضية: «ذلك متاع الحيوة الدنيا» ثم قال: «و ما الحيوة الدنيا في الآخرة إلا متاع: الرعد - 26، فجعل نفس الحيوة الدنيا متاعا في الآخرة يتمتع به، و هذا من أبدع البيان، و باب ينفتح به للمتدبر ألف باب، و فيه تصديق قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كما تعيشون تموتون و كما تموتون تبعثون.
و بالجملة الحيوة الدنيا هي الوجود الدنيوي بما كسب من حسنة أو سيئة و هو الذي يتمتع به في الآخرة من حيث سعادته و شقائه أي ما يراه فوزا و فلاحا لنفسه و ما يراه خيبة و خسرانا فيعطى سعادته بإعطاء لذائذه أو يحرم من نيلها و هما نعيم الجنة و عذاب النار.
و بعبارة أخرى واضحة، للإنسان مثلا سعادة بحسب الطبيعة و شقاء بحسبها في بقائه شخصا و نوعا و هما منوطتان بفعله الطبيعي من الأكل و الشرب و النكاح و قد زينت له بلذائذ مقدمية و هذا بحسب الطبيعة ثم إذا أخذ الإنسان في الاستكمال و أخذ في الفعالية بالشعور و الإرادة صار نوعا كماله هو الذي يختاره شعوره و إرادته فما لا يشعر به و لا يشاؤه ليس كمالا لهذا الموجود الشاعر المريد و إن كان كمالا طبيعيا و كذا العكس كما نرى أنا لا نلتذ بما لا نشعر به و إن كان من سعادة الطبيعة كصحة البدن و المال و الولد، و نلتذ بما نشعر به من اللذائذ و إن لم يطابق الخارج كالمريض المعتقد للصحة و نظائر ذلك فهذه اللذائذ المقدمية تصير كمالا حقيقيا لهذا الإنسان و إن كانت كمالات مقدمية للطبيعة فإذا أبقى الله سبحانه هذا الإنسان بقاء مخلدا كانت سعادته هي التي يشاؤها من اللذائذ، و شقاؤه هو الذي لا يشاؤه سواء كانت بحسب الطبيعة مقدمة أو لم يكن، إذ من البديهي أن خير الشخص أو القوة الشاعرة المريدة هو فيما يعلم به و يشاؤه، و شره فيما يعلم به و لا يريده.
فقد تحصل أن سعادة الإنسان أن ينال في الآخرة ما كان يريده من لذائذ الحيوة في الدنيا من الأكل و الشرب و النكاح و ما فوق ذلك و هو الجنة، و شقاؤه أن لا ينال ذلك و هو النار.
قال تعالى: «لهم فيها ما يشاءون»: النحل - 31.
قوله تعالى: الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا و قنا عذاب النار وصف للمتقين المدلول عليهم بقوله في الآية السابقة: للذين اتقوا، فوصفهم أنهم يقولون ربنا و فيه إظهار للعبودية بذكره تعالى بالربوبية و استرحام منه تعالى فيما يسألونه بقولهم: إننا آمنا، و الجملة ليست في مقام الامتنان عليه تعالى فإن المن منه تعالى بالإيمان كما قال تعالى: «بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان»: الحجرات - 17 بل استنجاز لما وعد الله تعالى عباده أنه يغفر لمن آمن منهم، قال تعالى: «و آمنوا به يغفر لكم»: الأحقاف - 31، و لذلك فرعوا عليه قولهم: فاغفر لنا ذنوبنا، بفاء التفريع.
و في تأكيد قولهم بأن دلالة على صدقهم و ثباتهم في إيمانهم.
و المغفرة للذنوب لا يستلزم التخلص من العذاب بمعنى أن الوقاية من عذاب النار فضل من الله سبحانه بالنسبة إلى من آمن به و عبده من غير استحقاق من العبد يثبت له حقا على الله سبحانه أن يجيره من عذاب النار، أو ينعمه بالجنة فإن الإيمان و الإطاعة أيضا من نعمه و لا يملك غيره تعالى منه شيئا إلا ما جعله على نفسه من حق، و من الحق الذي جعل على نفسه لعباده أن يغفر لهم و يقيهم عذاب النار إن آمنوا به، قال تعالى: «و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم من عذاب أليم»: الأحقاف - 31.
و ربما استفيد من بعض الآيات أن الوقاية من عذاب النار هو المغفرة و الجنة كقوله تعالى: «هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار و مساكن طيبة في جنات عدن»: الصف - 12، فإن في الآيتين الأخيرتين تفصيل لما أجمل في الآية الأولى من قوله: هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، و هذا معنى دقيق سنشرحه في مورد يناسبه إن وفقنا له.
قوله تعالى: الصابرين و الصادقين إلى آخر الآية وصفهم بخمس خصال لا يشذ منها تقوى من متق، فالصبر لسبقه على بقية الخصال و إطلاقه يشمل أقسام الصبر، و هي ثلاث: صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية، و صبر عند المصيبة.
و الصدق و إن كان بحسب تحليل حقيقته هو مطابقة ظاهر الإنسان من قول و فعل لباطنه لكنه بهذا المعنى يشتمل جميع الفضائل الباقية كالصبر و القنوت و غيرهما و ليس بمراد فالمراد به و الله أعلم الصدق في القول فحسب.
و القنوت هو الخضوع لله سبحانه و يشمل العبادات و أقسام النسك و الإنفاق هو بذل المال لمن يستحق البذل و الاستغفار بالأسحار يستلزم قيام آخر الليل و الاستغفار فيه، و السنة تفسره بصلوة الليل و الاستغفار في قنوت الوتر، و قد ذكر الله أنه سبيل الإنسان إلى ربه كما في سورتي المزمل و الدهر من قوله تعالى بعد ذكر قيام الليل و التهجد به: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا»: المزمل - 19 الدهر - 29.
قوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم قائما بالقسط، أصل الشهادة هو المعاينة أعني تحمل العلم عن حضور و حس ثم استعمل في أدائها و إظهار الشاهد ما تحمله من العلم ثم صار كالمشترك بين التحمل و التأدية بعناية وحدة الغرض فإن التحمل يكون غالبا لحفظ الحق و الواقع من أن يبطل بنزاع أو تغلب أو نسيان أو خفاء فكانت الشهادة تحفظا على الحق و الواقع، فبهذه العناية كان التحمل و التأدية كلاهما شهادة أي حفظا و إقامة للحق و القسط هو العدل.
و لما كانت الآيات السابقة أعني قوله: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا، إلى قوله: و المستغفرين بالأسحار، تبين: أن الله سبحانه لا إله غيره و لا يغني عنه شيء، و أن ما يحسبه الإنسان مغنيا عنه و يركن إليه في حيوته ليس إلا زينة و إلا متاعا خلقه الله ليتمتع به في سبيل ما هو خير منه و لا ينال إلا بتقوى الله تعالى، و بعبارة أخرى: هذه النعم التي يحن إليها الإنسان مشتركة في الدنيا بين الكافر و المؤمن مختصة في الآخرة بالمؤمن أقام الشهادة في هذه الآية على أن هذا الذي بينته الآيات حق لا ينبغي أن يرتاب فيه.
فشهد و هو الله عز اسمه على أنه لا إله إلا هو و إذ ليس هناك إله غيره فليس هناك أحد يغني منه شيئا من مال أو ولد أو غير ذلك من زينة الحيوة أو أي سبب من الأسباب إذ لو أغنى شيء من هذه منه شيئا لكان إلها دونه أو معتمدا إلى إله دونه منتهيا إليه و لا إله غيره.
شهد بهذه الشهادة و هو قائم بالقسط في فعله، حاكم بالعدل في خلقه إذ دبر أمر العالم بخلق الأسباب و المسببات و إلقاء الروابط بينها، و جعل الكل راجعا إليه بالسير و الكدح و التكامل و ركوب طبق، عن طبق و وضع في مسير هذا المقصد نعما لينتفع منها الإنسان في عاجله لأجله و في طريقه لمقصده لا ليركن إليه و يستقر عنده فالله يشهد بذلك و هو شاهد عدل.
و من لطيف الأمر أن عدله يشهد على نفسه و على وحدته في ألوهيته أي إن عدله ثابت بنفسه و مثبت لوحدانيته، بيان ذلك: أنا إنما نعتبر في الشاهد العدالة ليكون جاريا على مستوى طريق الحيوة ملازما لصراط الفطرة من غير أن يميل إلى إفراط أو تفريط فيضع الفعل في غير موضعه فتكون شهادته مأمونة عن الكذب و الزور فملازمة الصدق و المجاراة مع صراط التكوين يوجب عدالة الإنسان فنفس النظام الحاكم في العالم و الجاري بين أجزائه الذي هو فعله سبحانه هو العدل محضا.
و نحن في جميع الوقائع التي لا ترضى بها نفوسنا من الحوادث الكونية أو نجدها على خلاف ما نميل إليه و نطمع فيه ثم نعترض عليها و نناقش فيها إنما نذكر في الاعتراض عليه ما يظهر لنا من حكم عقولنا أو تميل إليه غرائزنا، و جميع ذلك مأخوذة من نظام الكون ثم نبحث عنها فيظهر سبب الحادثة فتسقط الشبهة أو نعجز عن الحصول على السبب فلا يقع في أيدينا إلا الجهل بالسبب أي عدم العلم دون العلم بالعدم، فنظام الكون و هو فعل الله سبحانه هو العدل فافهم ذلك.
و لو كان هناك إله يغني منه في شيء من الأمور لم يكن نظام التكوين عدلا مطلقا بل كان فعل كل إله عدلا بالنسبة إليه و في دائرة قضائه و عمله.
و بالجملة فالله سبحانه يشهد، و هو شاهد عدل، على أنه لا إله إلا هو يشهد لذلك بكلامه و هو قوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو، على ما هو ظاهر الآية الشريفة، فالآية في اشتمالها على شهادته تعالى للتوحيد نظيرة قوله تعالى: «لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى بالله شهيدا»: النساء - 166.
و الملائكة يشهدون بأنه لا إله إلا هو، فإن الله يخبر في آيات مكية نازلة قبل هذه الآيات بأنهم عباد مكرمون لا يعصون ربهم و يعملون بأمره و يسبحونه و في تسبيحهم شهادة أن لا إله غيره، قال تعالى: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء - 27، و قال تعالى: «و الملائكة يسبحون بحمد ربهم»: الشورى - 5 و أولوا العلم يشهدون أنه لا إله إلا هو يشاهدون من آياته الآفاقية و الأنفسية و قد ملأت مشاعرهم و رسخت في عقولهم.
و قد ظهر مما تقدم أولا أن المراد بالشهادة شهادة القول على ما هو ظاهر الآية الشريفة دون شهادة الفعل و إن كانت صحيحة حقة في نفسها فإن عالم الوجود يشهد على وحدانيته في الألوهية بالنظام الواحد المتصل الجاري فيه، و بكل جزء من أجزائه التي هي أعيان الموجودات.
و ثانيا: أن قوله تعالى: قائما بالقسط حال من فاعل قوله: شهد الله، و العامل فيه شهد، و بعبارة أخرى قيامه بالقسط ليس بمشهود له لا له تعالى و لا للملائكة و أولي العلم بل الله سبحانه حال كونه قائما بالقسط يشهد أن لا إله إلا هو و الملائكة و أولوا العلم يشهدون بالوحدانية كما هو ظاهر الآية حيث فرقت بين قوله: لا إله إلا هو، و قوله: قائما بالقسط: بتوسيط قوله: و الملائكة و أولوا العلم، و لو كان القيام بالقسط من أجزاء الشهادة لكان حق الكلام أن يقال: إنه لا إله إلا هو قائما بالقسط و الملائكة، و من ذلك يظهر ما فيما ذكره عدة من المفسرين في تفسير الآية من الجهتين جميعا كما لا يخفى على من راجع ما ذكروه في المقام.
و من أردإ الإشكال ما ذكره بعضهم: أن حمل الشهادة على الشهادة الكلامية كما مر يوجب الاستناد في أمر التوحيد إلى النقل دون العقل مع كونه حينئذ متوقفا على صحة الوحي فإن صدق هذه الشهادة يتوقف على كون القرآن وحيا حقا و هو متوقف عليه فيكون بيانا دوريا، و من هنا ذكر بعضهم أن المراد بالشهادة هنا معنى استعاري بدعوى أن دلالة جميع ما خلقه الله من خلق على ما فيها من وحدة الحاجة و اتصال النظام على وحدة صانعها بمنزلة نطقه و إخباره تعالى بأنه واحد لا إله غيره و كذا عبادة ملائكته له و إطاعتهم لأمره، و كذا ما يشاهده أولوا العلم من أفراد الإنسان من آيات وحدانيته بمنزلة شهادتهم على وحدانيته تعالى.
و الجواب: أن فيه خلطا و مغالطة فإن النقل إنما لا يعتمد عليه فيما للعقل أو الحس إليه سبيل لكونه لا يفيد العلم فيما يجب فيه تحصيل العلم، أما لو فرض إفادته من العلم ما يفيد العقل مثلا أو أقوى منه كان في الاعتبار مثل العقل أو أقوى منه كما أن المتواتر من الخبر أقوى أثرا و أجلى صدقا من القضية التي أقيم عليها برهان مؤلف من مقدمات عقلية نظرية و إن كانت يقينية و أنتجت اليقين.
فإذا كان الشاهد المفروض يمتنع عليه الكذب و الزور بصريح البرهان كانت شهادته تفيد ما يفيده البرهان من اليقين، و الله سبحانه و هو الله الذي لا سبيل للنقص و الباطل إليه لا يتصور في حقه الكذب فشهادته على وحدانية نفسه شهادة حق كما أن إخباره عن شهادة الملائكة و أولي العلم يثبت شهادتهم.
على أن من أثبت له شركاء كالأصنام و أربابها فإنما يثبتها بعنوان أنها شفعاء عند الله و وسائط بينه و بين خلقه كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى»: الزمر - 3، و كذا من اتخذ له شريكا بالشرك الخفي من هوى أو رئيس مطاع أو مال أو ولد إنما يتخذه سببا من الله غير أنه مستقل بالتأثير بعد حصوله له، و بالجملة ما اتخذ له من شريك فإنما يشاركه فيما يشاركه بتشريكه لا بنفسه، و إذا شهد الله على أنه لم يتخذ لنفسه شريكا أبطل ذلك دعوى من يدعي له شريكا، و جرى الكلام مجرى قوله: «قل أ تنبئون الله بما لا يعلم في السموات و لا في الأرض»: يونس - 18، فإنه إبطال لدعوى وجود الشريك بأن الله لا يعلم به في السموات و الأرض و لا يخفى عليه شيء، و بالحقيقة هو خبر مثل سائر الأخبار الصادرة عن مصدر الربوبية و العظمة كقوله: «سبحانه و تعالى عما يشركون»: يونس - 18، و نحو ذلك، غير أنه لوحظ فيه انطباق معنى الشهادة عليه لكونه خبرا في مورد دعوى، و المخبر به قائم بالقسط فكان شهادة فعبر بلفظ الشهادة تفننا في الكلام، فيئول المعنى إلى أنه لو كان في الوجود أرباب من دون الله مؤثرون في الخلق و التدبير شركاء أو شفعاء في ذلك لعلمه الله و شهد به لكنه يخبر أنه ليس يعلم لنفسه شريكا فلا شريك له، و لعلم و اعترف به الملائكة الكرام الذين هم الوسائط المجرون للأمر في الخلق و التدبير لكنهم يشهدون أن لا شريك له، و لعلم به و شهد أثره أولوا العلم لكنهم يشهدون بما شاهدوا من الآيات أن لا شريك له.
فالكلام نظير قولنا: لو كان في المملكة الفلانية ملك مؤثر في شئون المملكة و إدارة أمورها غير الملك الذي نعرفه لعلم به الملك و عرفه لأنه من المحال أن لا يحس بوجوده و هو يشاركه، و لعلم به القوى المجرية و العمال المتوسطون بين العرش و الرعية و كيف يمكن أن لا يشعروا بوجوده و هم يحملون أوامره و يجرون أحكامه بين ما في أيديهم من الأحكام و الأوامر و لعلم به العقلاء من عامة أهل المملكة و كيف لا و هم يطيعون أوامره و عهوده و يعيشون في ملكه لكن الملك ينكر وجوده، و عمال الدولة لا يعرفونه، و عقلاء الرعية لا يشاهدون ما يدل على وجوده؟ فليس.
قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم، الجملة كالمعترضة الدخيلة في الكلام لاستيفاء حق معترض يفوت لو لا ذكره مع عدم كونه مقصودا في الكلام أصالة، و من أدب القرآن أن يظهر تعظيم الله جل شأنه في موارد يذكر أمره ذكرا يخطر منه بالبال ما لا يليق بساحة كبريائه كقوله تعالى: «قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه»: يونس - 68، فقوله: سبحانه قصد به التعظيم في مقام يحكى فيه قول لا يلائم حقه تعالى، و نظيره بوجه قوله تعالى: «و قالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم» الآية: المائدة - 64.
و بالجملة لما اشتمل أول الآية على شهادة الله و الملائكة و أولي العلم - بنفي الشريك كان من حق الله سبحانه على من يحكي و يخبر عن هذه الشهادة أعني المتكلم و هو في الآية هو الله سبحانه و على من يسمع ذلك أن يوحد الله بنفي الشريك عنه فيقول: لا إله إلا هو.
نظير ذلك قوله تعالى في قصة الإفك: «و لو لا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم»: النور - 16، فإن من حقه تعالى عليهم أن إذا سمعوا بهتانا و أرادوا تنزيه من بهت عليه أن ينزهوا الله قبله فإنه تعالى أحق من يجب تنزيهه.
فموضع قوله: لا إله إلا هو العزيز الحكيم موضع الثناء عليه تعالى لاستيفاء حق تعظيمه و لذا تمم بالاسمين العزيز الحكيم، و لو كان في محل النتيجة من الشهادة لكان حق الكلام أن يتمم بوصفي الوحدة و القيام بالقسط، فهو تعالى حقيق بالتوحيد إذا ذكرت الشهادة المذكورة على وحدانيته لأنه المتفرد بالعزة التي يمنع جانبه أن يستذل بوجود شريك له في مقام الألوهية، و المتوحد بالحكمة التي تمنع غيره أن ينقض أمره في خلقه أو ينفذ في خلال تدبيره و ما نظمه من أمر العالم فيفسد عليه ما أراده.
و قد تبين بما مر من البيان وجه تكرار كلمة التوحيد في الآية، و كذا وجه تتميمها بالاسمين: العزيز الحكيم، و الله العالم.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون الآية روى محمد بن إسحاق عن رجاله قال: لما أصاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا ببدر و قدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال: يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، و أسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم و قد عرفتم أني نبي مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة إنا و الله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس فأنزل الله هذه الآية: أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن إسحاق و ابن جرير و البيهقي في الدلائل، عن ابن عباس، و روى ما يقرب منه القمي في تفسيره، و قد عرفت مما تقدم: أن سياق الآيات لا يلائم نزولها في حق اليهود كل الملاءمة، و أن الأنسب بسياقها أن تكون نازلة بعد غزوة أحد، و الله أعلم.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما تلذذ الناس في الدنيا و الآخرة بلذة أكبر لهم من لذة النساء، و هو قوله: زين للناس حب الشهوات من النساء و البنين الآية ثم قال: و إن أهل الجنة ما يتلذذون بشيء من الجنة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب.
أقول: و قد استفيد ذلك من الترتيب المجعول في الآية للشهوات ثم تقديم النساء على باقي المشتهيات ثم جعل هذه الشهوات متاع الدنيا و شهوات الجنة خيرا منها.
و مراده (عليه السلام) من الحصر في كون النكاح أكبر لذائذ الناس إنما هو الحصر الإضافي أي إن النكاح أكبر لذة بالنسبة إلى هذه الشهوات المتعلقة بجسم الإنسان، و أما غيرها كالتذاذ الإنسان بوجود نفسه أو التذاذ ولي من أولياء الله تعالى بقرب ربه و مشاهدة آياته الكبرى و لطائف رضوانه و إكرامه و غيرهما فذلك خارج عن مورد كلامه (عليه السلام)، و قد قامت البراهين العلمية على أن أعظم اللذائذ التذاذ الشيء بنعمة وجوده، و أخرى على أن التذاذ الأشياء بوجود ربها أعظم من التذاذها بنفسها.
و هناك روايات كثيرة دالة على أن التذاذ العبد بلذة الحضور و القرب منه تعالى أكبر عنده من كل لذة، و قد روي في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه يسخى نفسي في سرعة الموت و القتل فينا قول الله تعالى: «أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها» و هو ذهاب العلماء، و سيجيء عدة من هذه الروايات في المواضع المناسبة لها من هذا الكتاب.
و في المجمع،: في قوله تعالى: القناطير المقنطرة عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) القنطار ملء مسك ثور ذهبا.
و في تفسير القمي، قال (عليه السلام): الخيل المسومة المرعية.
و في الفقيه، و الخصال، عن الصادق (عليه السلام): من قال في وتره إذا أوتر: أستغفر الله و أتوب إليه سبعين مرة و هو قائم فواظب على ذلك حتى تمضي سنة كتبه الله عنده من المستغفرين بالأسحار، و وجبت له المغفرة من الله تعالى.
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر عن أئمة أهل البيت، و هو من سنن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، أيضا عن ابن جرير عن جعفر بن محمد قال: من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة كتب من المستغفرين، و قوله (عليه السلام): و وجبت له المغفرة من الله، مستفاد من قوله تعالى حكاية عنهم: فاغفر لنا ذنوبنا، فإن في الحكاية لدعائهم من غير رد إمضاء للاستجابة.
|