بيان
غرض السورة دعوة المؤمنين إلى توحيد الكلمة في الدين، و الصبر و الثبات في حماية حماه بتنبيههم بما هم عليه من دقة الموقف لمواجهتهم أعداء كاليهود و النصارى و المشركين و قد جمعوا جمعهم و عزموا عزمهم على إطفاء نور الله تعالى بأيديهم و بأفواههم.
و يشبه أن تكون هذه السورة نازلة دفعة واحدة فإن آياتها و هي مائتا آية - ظاهرة الاتساق و الانتظام من أولها إلى آخرها، متناسبة آياتها، مرتبطة أغراضها.
و لذلك كان مما يترجح في النظر أن تكون السورة إنما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد استقر له الأمر بعض الاستقرار و لما يتم استقراره، فإن فيها ذكر غزوة أحد، و فيها ذكر المباهلة مع نصارى نجران و ذكرا من أمر اليهود، و حثا على المشركين، و دعوة إلى الصبر و المصابرة و المرابطة، و جميع ذلك يؤيد أن السورة نزلت أيام كان المسلمون مبتلين بالدفاع عن حمى الدين بعامة قواهم و جميع أركانهم، فمن جانب كانوا يقاومون الفشل و الفتور اللذين يدبان في داخل جماعتهم بفتنة اليهود و النصارى، و يحاجونهم و يجاوبونهم، و من جانب كانوا يقاتلون المشركين، و يعيشون في حال الحرب و انسلاب الأمن، فقد كان الإسلام في هذه الأيام قد انتشر صيته فثارت الدنيا عليه من اليهود و النصارى و مشركي العرب، و وراء ذلك الروم و العجم و غيرهم.
و الله سبحانه يذكر المؤمنين في هذه السورة من حقائق دينه الذي هداهم به ما يطيب به نفوسهم، و يزول به رين الشبهات و الوساوس الشيطانية و تسويلات أهل الكتاب عن قلوبهم، و يبين لهم: أن الله سبحانه لم يغفل عن تدبير ملكه، و لم يعجزه خلقه، و إنما اختار دينه و هدى جمعا من عباده إليه على طريقة العادة الجارية، و السنة الدائمة، و هي سنة العلل و الأسباب، فالمؤمن و الكافر جاريان على سنة الأسباب، فيوم للكافر و يوم للمؤمن، فالدار دار الامتحان، و اليوم يوم العمل، و الجزاء غدا.
قوله تعالى الله لا إله إلا هو الحي القيوم، قد مر الكلام فيه في تفسير آية الكرسي، و تحصل من هناك أن المراد به بيان قيامه تعالى أتم القيام على أمر الإيجاد و التدبير، فنظام الموجودات بأعيانها و آثارها تحت قيمومة الله لا مجرد قيمومة التأثير كالقيمومة في الأسباب الطبيعية الفاقدة للشعور بل قيمومة حياة تستلزم العلم و القدرة، فالعلم الإلهي نافذ فيها لا يخفى عليه شيء منها و القدرة مهيمنة عليها لا يقع منها إلا ما شاء وقوعه و أذن فيه، و لذلك عقبه بقوله بعد آيتين: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء.
و لما كانت هذه الآيات الست في أول السورة على طريق براعة الاستهلال مشتملة على إجمال ما تحتويه السورة من التفصيل - و قد مر ذكر غرض السورة - كانت هذه الآية بمنزلة تصدير الكلام بالبيان الكلي الذي يستنتج به الغرض، كما أن الآيتين الأخيرتين أعني قوله: إن الله لا يخفى عليه «الخ» بمنزلة التعليل بعد البيان، و على هذا فالكلام التي يتم به أمر براعة الاستهلال هما الآيتان المتوسطتان أعني قوله: نزل عليك الكتاب إلى قوله عزيز ذو انتقام. و على هذا فيعود المعنى إلى أنه يجب على المؤمنين أن يتذكروا أن الله الذي آمنوا به واحد في ألوهيته قائم على الخلق و التدبير قيام حياة، لا يغلب في ملكه و لا يكون إلا ما شاء و أذن فيه فإنهم إذا تذكروا ذلك علموا أنه هو المنزل للكتاب الهادي إلى الحق، و الفرقان المميز بين الحق و الباطل، و أنه إنما جرى في ذلك على ما أجري عليه عالم الأسباب، و ظرف الاختيار، فمن آمن فله أجره، و من كفر فإن الله سيجزيه لأنه عزيز ذو انتقام، و ذلك أنه الله الذي لا إله غيره حتى يحكم في هذه الجهات، و لا يخفى عليه أمرهم، و لا يخرج عن إرادته و مشيئته فعالهم و كفرهم.
قوله تعالى: نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه، قد مر أن التنزيل يدل على التدريج كما أن الإنزال يدل على الدفعة.
و ربما ينقض ذلك بقول: «لو لا نزل عليه القرءان جملة واحدة»: الفرقان - 32، و بقوله تعالى: «أن ينزل علينا مائدة»: المائدة - 112، و قوله تعالى: «لو لا نزل عليه ءاية»: الأنعام - 37، و قوله تعالى: «قل إن الله قادر على أن ينزل ءاية»: الأنعام - 37، و لذلك ذكر بعض المفسرين: أن الأولى أن يقال: إن معنى نزل عليك الكتاب: أنزله إنزالا بعد إنزال دفعا للنقض.
و الجواب: أن المراد بالتدريج في النزول ليس هو تخلل زمان معتد به بين نزول كل جزء من أجزاء الشيء و بين جزئه الآخر بل الأشياء المركبة التي توجد بوجود أجزائها لوجودها نسبة إلى مجموع الأجزاء و بذلك يصير الشيء أمرا واحدا غير منقسم، و التعبير عنه من هذه الجهة بالنزول كقوله تعالى: «أنزل من السماء ماء»: الرعد - 17 و هو الغيث.
و نسبته من حيث وجوده بوجود أجزائه واحدا بعد واحد سواء تخلل بينهما زمان معتد به أو لم يتخلل و هو التدريج، و التعبير عنه بالتنزيل كقوله تعالى: «و هو الذي ينزل الغيث»: الشورى - 28.
و من هنا يظهر: أن الآيات المذكورة للنقض غير ناقضة - فإن المراد بقوله لو لا نزل عليه القرءان جملة واحدة الآية: أن ينزل عليه القرآن آية بعد آية في زمان متصل واحد من غير تخلل زمان معتد به كما كان عليه الأمر في نزول القرآن في الشئون و الحوادث و الأوقات المختلفة، و بذلك يظهر الجواب عن بقية الآيات المذكورة.
و أما ما ذكره البعض المزبور فهو على أنه استحسان غير جائز في اللغة البتة، لا يدفع شيئا من النقض بالآيات المذكورة، بل هي بحالها و هو ظاهر.
و قد جرى كلامه تعالى أن يعبر عن إفاضة الكتاب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتنزيل و النزول، و النزول يستلزم مقاما أو مكانا عاليا رفيعا يخرج منه الشيء نوعا من الخروج و يقصد مقاما أو مكانا آخر أسفل فيستقر فيه، و قد وصف نفسه تعالت ذاته بالعلو و رفعة الدرجات و قد وصف كتابه أنه من عنده، قال تعالى: «إنه علي حكيم»: الشورى - 51، و قال تعالى: «و لما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم»: البقرة - 89، فصح بذلك استعمال لفظ النزول في مورد استقرار الوحي في قلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ذكروا أن الحق هو الخبر من حيث إن بحذائه خارجا ثابتا كما أن الصدق هو الخبر من حيث إنه مطابق للخارج، و على هذا فإطلاق الحق على الأعيان الخارجية و الأمور الواقعية كما يطلق على الله سبحانه: أنه حق، و على الحقائق الخارجية أنها حقة إنما هو من جهة أن كلا منها حق من جهة الخبر عنها، و كيف كان فالمراد بالحق في الآية: الأمر الثابت الذي لا يقبل البطلان.
و الظاهر أن الباء في قوله: بالحق للمصاحبة و المعنى: نزل عليك الكتاب تنزيلا يصاحب الحق و لا يفارقه، فيوجب مصاحبة الحق أن لا يطرأ عليه و لا يخالطه باطل فهو في أمن من جهة ظهور الباطل عليه، ففي قوله: نزل عليك الكتاب بالحق استعارة بالكناية، و قد قيل في معنى الباء وجوه أخر لا يخلو عن سقم.
و التصديق من الصدق يقال صدقت مقالا كذا أي قررته على الصدق و اعترفت بكونه صدقا و صدقت فلانا أي اعترفت بصدقه فيما يخبر به.
و المراد مما بين يديه التوراة و الإنجيل كما قال تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى إلى أن قال: و ءاتيناه الإنجيل فيه هدى إلى أن قال: و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب الآية:» المائدة - 48، و الكلام لا يخلو عن دلالة على أن ما بأيدي اليهود و النصارى من التوراة و الإنجيل لا يخلو عن بعض ما أنزله الله على موسى و عيسى (عليهما السلام)، و إن كانا لا يخلوان عن السقط و التحريف، فإن الدائر بينهم في عصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو التوراة الموجودة اليوم و الأناجيل الأربعة المشهورة، فالقرآن يصدق التوراة و الإنجيل الموجودين، لكن في الجملة لا بالجملة لمكان الآيات الناطقة بالتحريف و السقط فيهما قال تعالى: «و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل إلى أن قال: و جعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه و نسوا حظا مما ذكروا به إلى أن قال: و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به الآية: المائدة - 14.
قوله تعالى: و أنزل التوراة و الإنجيل من قبل هدى للناس، التوراة كلمة عبرانية بمعنى الشريعة، و الإنجيل لفظ يوناني، و قيل فارسي الأصل معناه البشارة، و سيجيء استيفاء البحث عن الكتابين في قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور الآيات:» المائدة - 44.
و مما أصر عليه القرآن تسمية كتاب عيسى (عليه السلام) بالإنجيل بصيغة الإفراد و القول بأنه نازل من عند الله سبحانه مع أن الأناجيل كثيرة، و المعروفة منها أعني الأناجيل الأربعة كانت موجودة قبل نزول القرآن و في عهده، و هي التي ينسب تأليفها إلى لوقا و مرقس و متى و يوحنا، و لا يخلو ما ذكرناه من إفراد الاسم و التوصيف بالنزول عن دلالة على التحريف و الإسقاط، و كيف كان لا يخلو ذكر التوراة و الإنجيل في هذه الآية و في أول السورة من التعريض لليهود و النصارى على ما سيذكره من أمرهم و قصص تولد عيسى و نبوته و رفعه.
قوله تعالى: و أنزل الفرقان، الفرقان ما يفرق به بين الحق و الباطل على ما في الصحاح، و اللفظ بمادته يدل على الأعم من ذلك، و هو كل ما يفرق به بين شيء و شيء.
قال تعالى: «يوم الفرقان يوم التقى الجمعان:» الأنفال - 41، و قال تعالى: «يجعل لكم فرقانا»: الأنفال - 29.
و إذا كان الفرق المطلوب عند الله فيما يرجع إلى معنى الهداية هو الفرق بين الحق و الباطل في العقائد و المعارف و بين وظيفة العبد و ما ليس بوظيفة له بالنسبة إلى الأعمال الصادرة عنه في الحياة الدنيا انطبق معناه على مطلق المعارف الأصلية و الفرعية التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه بالوحي، أعم من الكتاب و غيره.
قال تعالى: «و لقد ءاتينا موسى و هارون الفرقان»: الأنبياء - 48، و قال تعالى: «و إذ ءاتينا موسى الكتاب و الفرقان»: البقرة - 53، و قال تعالى «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا»: الفرقان - 1.
و قد عبر تعالى عن هذا المعنى بالميزان في قوله: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط»: الحديد - 25.
و هو في وزان قوله: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: البقرة - 213.
فالميزان كالفرقان هو الدين الذي يحكم بين الناس بالعدل مع ما ينضم إليه من المعارف و وظائف العبودية، و الله أعلم.
و قيل: المراد بالفرقان القرآن.
و قيل: الدلالة الفاصلة بين الحق و الباطل.
و قيل: الحجة القاطعة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على من حاجه في أمر عيسى.
و قيل النصر.
و قيل: العقل.
و الوجه ما قدمناه.
قوله تعالى: إن الذين كفروا بآيات الله إلى قوله ذو انتقام، الانتقام على ما قيل مجازاة المسيء على إساءته، و ليس من لازم المعنى أن يكون للتشفي، فإن ذلك من لوازم الانتقامات التي بيننا حيث إن إساءة المسيء يوجب منقصة و ضررا في جانبنا فنتدارك ذلك بالمجازاة الشديدة التي توجب تشفي قلوبنا، و أما هو تعالى فأعز ساحة من أن ينتفع أو يتضرر بشيء من أعمال عباده لكنه وعد - و له الوعد الحق - أن سيقضي بين عباده بالحق إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
قال تعالى: «و الله يقضي بالحق»: المؤمن - 20، و قال تعالى: «ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى»: النجم - 31.
كيف و هو عزيز على الإطلاق منيع الجانب من أن ينتهك محارمه.
و قد قيل إن الأصل في معنى العزة الامتناع.
و قوله تعالى: إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد، من حيث إطلاق العذاب و عدم تقييده بالآخرة أو يوم القيامة ربما تضمن الوعيد بالعذاب في الدنيا كما في الآخرة.
و هذا من الحقائق القرآنية التي ربما قصر الباحثون في استيفاء البحث عنه و ليس ذلك إلا لكوننا لا نعد شيئا عذابا إلا إذا اشتمل على شيء من الآلام الجسمانية، أو نقص أو فساد في النعم المادية كذهاب الأموال و موت الأعزة و نقاهة الأبدان، مع أن الذي يعطيه القرآن بتعليمه أمر وراء ذلك.
كلام في معنى العذاب في القرآن
القرآن يعد معيشة الناسي لربه ضنكا و إن اتسعت في أعيننا كل الاتساع.
قال تعالى: «و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا»: طه - 124، و يعد الأموال و الأولاد عذابا و إن كنا نعدها نعمة هنيئة قال تعالى: «و لا تعجبك أموالهم و أولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الدنيا و تزهق أنفسهم و هم كافرون»: التوبة - 85.
و حقيقة الأمر كما مر إجمال بيانه في تفسير قوله تعالى: «و قلنا يا ءادم اسكن أنت و زوجك الجنة»:، البقرة - 35، أن سرور الإنسان و غمه و فرحه و حزنه و رغبته و رهبته و تعذبه و تنعمه كل ذلك يدور مدار ما يراه سعادة أو شقاوة، هذا أولا.
و أن النعمة و العذاب و ما يقاربهما من الأمور تختلف باختلاف ما تنسب إليه فللروح سعادة و شقاوة و للجسم سعادة و شقاوة و كذا للحيوان منهما شيء و للإنسان منهما شيء و هكذا، و هذا ثانيا.
و الإنسان المادي الدنيوي الذي لم يتخلق بأخلاق الله تعالى، و لم يتأدب بأدبه يرى السعادة المادية هي السعادة و لا يعبأ بسعادة الروح و هي السعادة المعنوية.
فيتولع في اقتناء المال و البنين و الجاه و بسط السلطة و القدرة.
و هو و إن كان يريد من قبل نفس هذا الذي ناله لكنه ما كان يريد إلا الخالص من التنعم و اللذة على ما صورته له خياله و إذا ناله رأى الواحد من اللذة محفوفا بالألوف من الألم.
فما دام لم ينل ما يريده كان أمنية و حسرة و إذا ناله وجده غير ما كان يريده لما يرى فيه من النواقص و يجد معه من الآلام و خذلان الأسباب التي ركن إليها و لم يتعلق قلبه بأمر فوقها فيه طمأنينة القلب و السلوة عن كل فائتة فكان أيضا حسرة فلا يزال فيما وجده متألما به معرضا عنه طالبا لما هو خير منه لعله يشفي غليل صدره و فيما لم يجده متقلبا بين الآلام و الحسرات.
فهذا حاله فيما وجده، و ذاك حاله فيما فقده.
و أما القرآن فإنه يرى أن الإنسان أمر مؤلف من روح خالد و بدن مادي متحول متغير، و هو على هذا الحال حتى يرجع إلى ربه فيتم له الخلود من غير زوال، فما كان فيه سعادة الروح محضا كالعلم و نحو ذلك فهو من سعادته، و ما كان فيه سعادة جسمه و روحه معا كالمال و البنين إذا لم تكن شاغلة عن ذكر الله، و موجبة للإخلاد إلى الأرض فهو أيضا من سعادته و نعمت السعادة.
و كذا ما كان فيه شقاء الجسم و نقص لما يتعلق بالبدن و سعادة الروح الخالد كالقتل في سبيل الله و ذهاب المال و اليسار لله تعالى فهو أيضا من سعادته بمنزلة التحمل لمر الدواء ساعة لحيازة الصحة دهرا.
و أما ما فيه سعادة الجسم و شقاء الروح فهو شقاء للإنسان و عذاب له و القرآن يسمى سعادة الجسم فقط متاعا قليلا لا ينبغي أن يعبأ به قال تعالى: «لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأويهم جهنم و بئس المهاد»: آل عمران - 196 197.
و كذا ما فيه شقاء الجسم و الروح معا يعده القرآن عذابا كما يعدونه عذابا لكن وجه النظر مختلف، فإنه عذاب عنده لما فيه من شقاء الروح و عذاب عندهم لما فيه من شقاء الجسم، و ذلك كأنواع العذاب النازلة على الأمم السالفة، قال تعالى: «أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد و فرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد»: الفجر - 6 14.
و السعادة و الشقاوة لذوي الشعور يتقومان بالشعور و الإدراك فإنا لا نعد الأمر اللذيذ الذي نلناه و لم نحس به سعادة لأنفسنا كما لا نعد الأمر المؤلم غير المشعور به شقاء، و من هنا يظهر أن هذا التعليم القرآني الذي يسلك في السعادة و الشقاوة غير مسلك المادة، و الإنسان المولع بالمادة لا بد من أن يستتبع نوع تربية يرى بها الإنسان السعادة الحقيقية التي يشخصها القرآن سعادة و الشقاوة الحقيقية شقاوة، و هو كذلك، فإنه يلقن على أهله: أن لا يتعلق قلوبهم بغير الله، و يروا أن ربهم هو المالك الذي يملك كل شيء فلا يستقل شيء إلا به، و لا يقصد شيء إلا له.
و هذا الإنسان لا يرى لنفسه في الدنيا إلا السعادة بين ما كان فيه سعادة روحه و جسمه، و ما كان فيه سعادة روحه محضا، و أما ما دون ذلك فإنه يراه عذابا و نكالا، و أما الإنسان المتعلق بهوى النفس و مادة الدنيا فإنه و إن كان ربما يرى ما اقتناه من زينة الدنيا سعادة لنفسه و خيرا و لذة فإنه سوف يطلع على خبطه في مشيه، و انقلبت سعادته المظنونة بعينها شقاوة عليه قال تعالى: «فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون: المعارج - 42، و قال تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق - 22، و قال تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم»: النجم - 30، على أنهم لا يصفو لهم عيش إلا و هو منغص بما يربو عليه من الغم و الهم.
و من هنا يظهر: أن الإدراك و الفكر الموجود في أهل الله و خاصة القرآن غيرهما في غيرهم مع كونهم جميعا من نوع واحد هو الإنسان، و بين الفريقين وسائط من أهل الإيمان ممن لم يستكمل التعليم و التربية الإلهيين.
فهذا ما يتحصل من كلامه تعالى في معنى العذاب و كلامه تعالى مع ذلك لا يستنكف عن تسمية الشقاء الجسماني عذابا لكن نهايته أنه عذاب في مرحلة الجسم دون الروح، قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه السلام): «أني مسني الشيطان بنصب و عذاب»: ص - 41، و قال تعالى: «و إذ أنجيناكم من ءال فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم و يستحيون نساءكم و في ذلك بلاء من ربكم عظيم»: الأعراف - 141، فسمى ما يصنعون بهم بلاء و امتحانا من الله و عذابا في نفسه لا منه سبحانه.
قوله تعالى: إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء الخ، قد علل تعالى عذاب الذين كفروا بآياته بأنه عزيز ذو انتقام لكن لما كان هذا التعليل لا يخلو عن حاجة إلى ضميمة تنضم إليه ليتم المطلوب فإن العزيز ذا الانتقام يمكن أن يخفى عليه كفر بعض من كفر بنعمته فلا يبادر بالعذاب و الانتقام، فعقب لذلك الكلام بقوله: إن الله لا يخفى عليه، فبين أنه عزيز لا يخفى عليه شيء ظاهر على الحواس و لا غائب عنها، و من الممكن أن يكون المراد مما في الأرض و ما في السماء الأعمال الظاهرة القائمة بالجوارح و الخفية الكامنة في القلوب على حد ما نبهنا عليه في قوله تعالى: «لله ما في السموات و ما في الأرض و إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله الآية: البقرة - 284.
قوله تعالى: هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، التصوير إلقاء الصورة على الشيء و الصورة تعم ما له ظل كالتمثال و ما لا ظل له.
و الأرحام جمع رحم و هو مستقر الجنين من الإناث.
و هذه الآية في معنى الترقي بالنسبة إلى ما سبقها من الآيتين، فإن محصل الآيتين: أن الله تعالى يعذب الذين كفروا بآياته لأنه العزيز المنتقم العالم بالسر و العلانية فلا يغلب في أمره بل هو الغالب و محصل هذه الآية أن الأمر أعظم من ذلك، و من يكفر بآياته و يخالف عن أمره أذل و أوضع من أن يكفر باستقلال من نفسه و اعتماد على قدرته من غير أن يأذن الله في ذلك فيغلب هو على أمره تعالى، و يبطل النظام الأحسن الذي نظم الله سبحانه عليه الخلقة فتظهر إرادته على إرادة ربه بل الله سبحانه هو أذن له في ذلك، بمعنى أنه نظم الأمور نوع نظم يؤدي إلى وجود الاختيار في الإنسان، و هو الوصف الذي يمكنه به ركوب صراط الإيمان و الطاعة أو التزام طريق الكفر و المعصية، ليتم بذلك أمر الفتنة و الامتحان، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر، و ما يشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.
فما من كفر و لا إيمان و لا غيرهما إلا عن تقدير، و هو نظم الأشياء على نحو يتيسر لكل شيء ما يتوجه إليه من مقاصده التي سوف يستوفيها بعمله بتصويره بصورته الخاصة التي تمهد له السلوك إلى ما يسلك إليه.
فالله سبحانه هو الغالب على أمره القاهر في إرادته المهيمن على خلقه، يظن الإنسان أنه يفعل ما يشاء و يتصرف فيما يريد، و يقطع بذلك النظم المتصل الذي نظمه الله في الكون فيسبق التقدير، و هذا بعينه من القدر.
و هذا هو المراد بقوله: يصوركم في الأرحام كيف يشاء، أي ينظم أجزاء وجودكم في بدء الأمر على نحو يؤدي إلى ما يشاؤه في ختمه مشية إذن لا مشية حتم.
و إنما خص الكلام بالتقدير الجاري في الإنسان و لم يذكر التقدير العام الجاري في العالم كله لينطبق على المورد، و لما مر أن في الآيات تعريضا للنصارى في قولهم في المسيح (عليه السلام) و الآيات منتهية إلى ما هو الحق من أمره، فإن النصارى لا ينكرون كينونته (عليه السلام) في الرحم و أنه لم يكون نفسه.
و التعميم بعد التخصيص في الخطاب أعني قوله: يصوركم بعد قوله: نزل عليك، للدلالة على أن إيمان المؤمنين أيضا ككفر الكافرين غير خارج عن حكم القدر، فتطيب نفوسهم بالرحمة و الموهبة الإلهية في حق أنفسهم، و يتسلوا بما سمعوه من أمر القدر و من أمر الانتقام فيما يعظم عليهم من كفر الكافرين.
قوله تعالى: لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فيه عود إلى ما بدىء به الكلام في الآيات من التوحيد، و هو بمنزلة تلخيص الدليل للتأكيد.
فإن هذه الأمور المذكورة أعني هداية الخلق بعد إيجادهم، و إنزال الكتاب و الفرقان، و إتقان التدبير بتعذيب الكافرين أمور لا بد أن تستند إلى إله يدبرها و إذ لا إله إلا الله تعالى شأنه فهو الذي يهدي الناس و هو الذي ينزل الكتاب و الفرقان، و هو يعذب الكافرين بآياته، و إنما يفعل ما يفعل من الهداية و الإنزال و الانتقام و التقدير بعزته و حكمته.
بحث روائي
في المجمع، عن الكلبي و محمد بن إسحاق و الربيع بن أنس: نزلت أوائل السورة إلى نيف و ثمانين آية في وفد نجران، و كانوا ستين راكبا، قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و في الأربعة عشر ثلاثة نفر يئول إليهم أمرهم: العاقب أمير القوم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه، و اسمه عبد المسيح و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم، و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم، و كان قد شرف فيهم و درس كتبهم، و كانت ملوك الروم قد شرفوه و مولوه و بنوا له الكنائس لعلمه و اجتهاده، فقدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة و دخلوا مسجده حين صلى العصر، عليهم ثياب الحبرات: جبب و أردية في جمال رجال بلحرث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما رأينا وفدا مثلهم، و قد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس، و قاموا فصلوا في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت الصحابة: يا رسول الله هذا في مسجدك؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): دعوهم، فصلوا إلى المشرق، فكلم السيد و العاقب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال لهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أسلما، قالا: قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولدا و عبادتكما الصليب و أكلكما الخنزير. قالا إن لم يكن ولدا لله فمن أبوه؟ و خاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت و أن عيسى يأتيه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء و يحفظه و يرزقه؟ قالوا: بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا، قال: أ لستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلا ما علم؟ قالوا: لا، قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، و ربنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث قالوا: بلى، قال: أ لستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غذي كما يغذى الصبي ثم كان يطعم و يشرب و يحدث؟ قالوا: بلى، قال فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية.
أقول: و روى هذا المعنى السيوطي في الدر المنثور، عن أبي إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر عن محمد بن جعفر بن الزبير و عن ابن إسحاق عن محمد بن سهل بن أبي أمامة، أما القصة فسيجيء نقلها، و أما نزول أول السورة في ذلك فكأنه اجتهاد منهم و قد تقدم: أن ظاهر سياقها نزولها دفعة.
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الشقي من شقي في بطن أمه، و السعيد من سعد في بطن أمه.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: إن الله إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي مما أخذ عليه الميثاق من صلب آدم أو ما يبدو له فيه و يجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع و أوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي و قضائي النافذ و قدري، فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث الله ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله، يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء و يشقان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن الله تعالى، ثم يوحي الله إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان. فيقولان: يا رب ما نكتب؟ فيوحي الله عز و جل إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، فيرفعان رءوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة أمه، فينظران فيه، فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه سعيدا أو شقيا و جميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب و يجعلانه بين عينيه، ثم يقيمانه قائما في بطن أمه، قال: فربما عتا فانقلب، و لا يكون ذلك إلا في كل عات أو مارد، و إذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى الله إلى الرحم: أن افتحي بابك حتى يخرج خلقي إلى أرضي و ينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فتفتح الرحم باب الولد فينقلب فتصير رجلاه فوق رأسه و رأسه في أسفل البطن ليسهل الله على المرأة و على الولد الخروج، فبعث الله عز و جل إليه ملكا يقال له: زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فإذا احتبس زجره الملك زجرة أخرى فيفزع منها، فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة.
أقول: قوله: إذا أراد أن يخلق النطفة، أي يجعلها بشرا تاما سويا، و تقييدها بقوله: التي هي مما أخذ عليها الميثاق إشارة إلى ما سيجيء بيانه: أن الإنسان الذي في هذه النشأة الدنيوية و أحواله مسبوقة الوجود بنشأة أخرى سابقة عليه تجري هذه على صراط تلك، و هي المسماة في لسان الأخبار بعالم الذر و الميثاق، فما أخذ عليه الميثاق لا بد من أن يخلق في هذه النشأة الدنيوية، و ما يخلق في هذه النشأة هو مما أخذ عليه الميثاق من غير أن يقبل التغيير و التبديل فذلك من القضاء المحتوم.
و لذلك ردد الكلام بينه و بين قوله: أو ما يبدو له فيه أي يبدو له البداء في تمام خلقه، فلا يتم و يعود سقطا، فالقسم المقابل له لا بداء فيه كما ذكرنا.
و قوله و يجعلها في الرحم عطف على قوله: يخلق النطفة.
قوله (عليه السلام) يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، يمكن أن يكون قوله من فم المرأة من كلام الراوي كما يؤيده وضع الظاهر موضع المضمر.
و على ظاهر الحال من كونه من كلام الإمام (عليه السلام) هو من الشواهد على كون دخولهما و اقتحامهما في بطن المرأة من غير سنخ دخول الجسم، في الجسم إذ لا طريق إلى الرحم من غير الفرج إلا العروق، و منها العرق الذي يدر منه دم الحيض فينصب في الرحم، و ليس هذا المنفذ بأسهل للدخول من جدران الرحم، فللدخول من الفم سبب غير سهولة الطريق و هو ظاهر.
قوله (عليه السلام): و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، كأنها الروح النباتية التي هي المبدأ للتغذي و التنمي.
قوله (عليه السلام): فينفخان فيها روح الحيوة و البقاء، ظاهره رجوع الضمير إلى الروح القديمة، فروح الحيوة و البقاء منفوخة في الروح النباتية، و لو فرض رجوعه إلى المضغة مثلا كانت منفوخة في المضغة الحية بالروح النباتية فتصير المضغة النباتية منفوخة فيها، و على أي حال يفيد الكلام أن نفخ الروح الإنساني إنما هو نوع ترق للروح النباتية بالاشتداد على ما يقتضيه القول بالحركة الجوهرية.
و بذلك يظهر معنى انتقال الروح القديمة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فالروح متحد الوجود مع البدن بوجه و هو النطفة و ما يمدها من دم الحيض و هي المتحدة مع بدني الأبوين و هما مع النطفة و هلم جرا، فما يجري على الإنسان متعين في الجملة في وجود آبائه و أمهاته، مشهود في صور أشخاصهم، و هو بوجه كالفهرس المأخوذ من الكتاب الموضوع قبله.
و به يظهر معنى قوله (عليه السلام): فيوحي الله عز و جل إليهما أي إلى الملكين أن ارفعا رءوسكما إلى رأس أمه، و ذلك أن الذي لأبيه من شرح قضائه و قدره قد انقطع عنه بانفصال النطفة، فما بقي متصلا به إلا أمه، و هو قوله (عليه السلام): فإذا اللوح يقرع جبهة أمه و الجبهة مجتمع حواس الإنسان و طليعة وجهه فينتظران فيه فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه سعيدا أو شقيا و جميع شأنه، فيملي أحدهما على صاحبه فنسبتهما شبيهة نسبة الفاعل و القابل فيكتبان جميع ما في اللوح.
قوله (عليه السلام): و يشترطان البداء فيما يكتبان، و ذلك لعدم اشتمال صورته على تمام علل حوادثه المستقبلة، فإن الصورة و إن كانت مبدأ لجميع ما يجري على الإنسان من أحواله و الحوادث المختصة به لكن ليست بالمبدإ كله بل للأمور و الحوادث الخارجة عنه دخالة في ذلك، و لذلك كان الذي يتراءى منها من الحوادث غير حتمي الوقوع، فكانت مظنة للبداء.
و اعلم: أن نسبة تفاصيل الولادة إلى تحريك الله سبحانه الرجل، و وحيه إلى الرحم، و إرسال الملكين الخلاقين و الملك الزاجر إلى غير ذلك لا ينافي استناد هذه الحوادث و منها الولادة إلى أسبابها الطبيعية، فإن هذين القبيلين من الأسباب أعني الأسباب المعنوية و الأسباب المادية واقعان أحدهما في طول الآخر لا في عرضه حتى يبطل أحدهما الآخر، أو يتدافعا فيبطلا معا، أو يعود الأمر إلى تركب العلة التامة من مجموع السببين، بل كل منهما علة تامة لكن في مرتبته.
فمن أقامه الله سبحانه لهداية الناس إلى سعادتهم المعنوية و سلوكهم إلى مرضاته و هم الأنبياء (عليهم السلام) و الطريق طريق الباطن - فإنما وظيفته أن يكلم الناس بلسان يسلك بهم مسلك الباطن و يذكرهم مقام ربهم في جميع بياناته، و هو توسيط الملائكة و استناد الحوادث إلى أعمالهم، و نسبة السعادة إلى تأييدهم، و نسبة الشقاء بخصوصياته إلى الشياطين و تسويلهم، و نسبة الجميع إلى الله سبحانه على ما يليق بساحة قدسه و حضرة ربوبيته، ليستنتج من ذلك صور الهداية و الضلال و الربح و الخسران، و بالجملة جميع شئون الحيوة الآخرة، و هم مع ذلك لم يهملوا أمر الأسباب الطبيعية و لم يضيعوا حقها، فإنها أحد ركني حيوة الإنسان و الأساس الذي تستند إليه الحيوة الدنيا، و لا بد للإنسان أن يعرف جملة أمرها كما لا بد له أن يعرف جملة الأمر في الأسباب المعنوية حتى يتم له معرفة نفسه فيعرف ربه.
|