بيان
قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب، عبر تعالى بالإنزال دون التنزيل لأن المقصود بيان بعض أوصاف مجموع الكتاب النازل و خواصه، و هو أنه مشتمل على آيات محكمة و أخر متشابهة ترجع إلى المحكمات و تبين بها، فالكتاب مأخوذ بهذا النظر أمرا واحدا من غير نظر إلى تعدد و تكثر فناسب استعمال الإنزال دون التنزيل.
قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، مادة حكم تفيد معنى كون الشيء بحيث يمنع ورود ما يفسده أو يبعضه أو يخل أمره عليه، و منه الإحكام و التحكيم، و الحكم بمعنى القضاء، و الحكمة بمعنى المعرفة التامة و العلم الجازم النافع، و الحكمة بفتح الحاء لزمام الفرس، ففي الجميع شيء من معنى المنع و الإتقان، و ربما قيل: إن المادة تدل على معنى المنع مع إصلاح.
و المراد هاهنا من إحكام المحكمات إتقان هذه الآيات من حيث عدم وجود التشابه فيها كالمتشابهات فإنه تعالى و إن وصف كتابه بإحكام الآيات في قوله: «كتاب أحكمت ءاياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود - 1، لكن اشتمال الآية على ذكر التفصيل بعد الإحكام دليل على أن المراد بالإحكام حال من حالات الكتاب كان عليها قبل النزول و هي كونه واحدا لم يطرأ عليه التجزي و التبعض بعد بتكثر الآيات، فهو إتقانه قبل وجود التبعض، فهذا الإحكام وصف لتمام الكتاب، بخلاف وصف الإحكام و الإتقان الذي لبعض آياته بالنسبة إلى بعض آخر من جهة امتناعها عن التشابه في المراد.
و بعبارة أخرى لما كان قوله منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات مشتملا على تقسيم آيات الكتاب إلى قسمي المحكم و المتشابه علمنا به أن المراد بالإحكام غير الإحكام الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: كتاب أحكمت ءاياته الآية و كذا المراد بالتشابه فيه غير التشابه الذي وصف به جميع الكتاب في قوله: «كتابا متشابها مثاني»: الزمر - 23.
و قد وصف المحكمات بأنها أم الكتاب، و الأم بحسب أصل معناه ما يرجع إليه الشيء، و ليس إلا أن الآيات المتشابهة ترجع إليها فالبعض من الكتاب و هي المتشابهات ترجع إلى بعض آخر و هي المحكمات و من هنا يظهر أن الإضافة في قوله أم الكتاب ليست لامية كقولنا: أم الأطفال، بل هي بمعنى من، كقولنا نساء القوم و قدماء الفقهاء و نحو ذلك، فالكتاب يشتمل على آيات هي أم آيات أخر، و في إفراد كلمة الأم من غير جمع دلالة على كون المحكمات غير مختلفة في أنفسها بل هي متفقة مؤتلفة.
و قد قوبلت المحكمات في الآية بقوله: و أخر متشابهات، و التشابه توافق أشياء مختلفة و اتحادها في بعض الأوصاف و الكيفيات، و قد وصف الله سبحانه جميع القرآن بهذا الوصف حيث قال: «كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم» الآية: الزمر - 23، و المراد به لا محالة كون آيات الكتاب ذات نسق واحد من حيث جزالة النظم، و إتقان الأسلوب، و بيان الحقائق و الحكم، و الهداية إلى صريح الحق كما تدل عليه القيود المأخوذة في الآية، فهذا التشابه وصف لجميع الكتاب، و أما التشابه المذكور في هذه الآية، أعني قوله: و أخر متشابهات، فمقابلته لقوله: منه آيات محكمات هن أم الكتاب، و ذكر اتباع الذين في قلوبهم زيغ لها ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل، كل ذلك يدل على أن المراد بالتشابه كون الآية بحيث لا يتعين مرادها لفهم السامع بمجرد استماعها بل يتردد بين معنى و معنى حتى يرجع إلى محكمات الكتاب فتعين هي معناها و تبينها بيانا، فتصير الآية المتشابهة عند ذلك محكمة بواسطة الآية المحكمة، و الآية المحكمة محكمة بنفسها، كما أن قوله: «الرحمن على العرش استوى»: طه - 5، يشتبه المراد منه على السامع أول ما يسمعه، فإذا رجع إلى مثل قوله تعالى: «ليس كمثله شيء»: الشورى - 11، استقر الذهن على أن المراد به التسلط على الملك و الإحاطة على الخلق دون التمكن و الاعتماد على المكان المستلزم للتجسم المستحيل على الله سبحانه، و كذا قوله تعالى: «إلى ربها ناظرة»: القيامة - 23، إذا أرجع إلى مثل قوله: «لا تدركه الأبصار و هو يدرك الأبصار»: الأنعام - 103، علم به أن المراد بالنظر غير النظر بالبصر الحسي، و كذا إذا عرضت الآية المنسوخة على الآية الناسخة تبين أن المراد بها حكم محدود بحد الحكم الناسخ و هكذا.
فهذا ما يتحصل من معنى المحكم و المتشابه، و يتلقاه الفهم الساذج من مجموع قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب فيه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، فإن الآية محكمة بلا شك و لو فرض جميع القرآن غيرها متشابها.
و لو كانت هذه الآية متشابهة عادت جميع آيات القرآن متشابهة و فسد التقسيم الذي يدل عليه قوله: منه آيات الخ، و بطل العلاج الذي يدل عليه قوله: هن أم الكتاب، و لم يصدق قوله: «كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا و نذيرا»: حم السجدة - 4، و لم يتم الاحتجاج الذي يشتمل عليه قوله: «أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن نور و هدى و تبيان و بيان و مبين و ذكر و نحو ذلك.
على أن كل من يرعى نظره في آيات القرآن من أوله إلى آخره لا يشك في أن ليس بينها آية لها مدلول و هي لا تنطق بمعناها و تضل في مرادها، بل ما من آية إلا و فيها دلالة على المدلول: إما مدلول واحد لا يرتاب فيه العارف بالكلام، أو مداليل يلتبس بعضها ببعض، و هذه المعاني الملتبسة لا تخلو عن حق المراد بالضرورة و إلا بطلت الدلالة كما عرفت، و هذا المعنى الواحد الذي هو حق المراد لا محالة لا يكون أجنبيا عن الأصول المسلمة في القرآن كوجود الصانع و توحيده و بعثة الأنبياء و تشريع الأحكام و المعاد و نحو ذلك، بل هو موافق لها و هي تستلزمه و تنتجه و تعين المراد الحق من بين المداليل المتعددة المحتملة، فالقرآن بعضه يبين بعضا، و بعضه أصل يرجع إليه البعض الآخر.
ثم إن هذا الناظر إذا عثر بعد هذه النظرة على قوله تعالى: منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات، لم يشك في أن المراد بالمحكمات هي الآيات المتضمنة للأصول المسلمة من القرآن و بالمتشابهات الآيات التي تتعين و تتضع معانيها بتلك الأصول.
فإن قلت: رجوع الفروع إلى الأصول مما لا ريب فيه فيما كان هناك أصول متعرقة و فروع متفرقة سواء فيه المعارف القرآنية و غيرها، لكن ذلك لا يستوجب حصول التشابه، فما وجه ذلك؟ قلت: وجهه أحد أمرين، فإن المعارف التي يلقيها القرآن على قسمين: فمنها معارف عالية خارجة عن حكم الحس و المادة، و الأفهام العادية لا تلبث دون أن تتردد فيها بين الحكم الجسماني الحسي و بين غيره كقوله تعالى: «إن ربك لبالمرصاد»: الفجر - 14 و قوله تعالى: «و جاء ربك»: الفجر - 22، فيتبادر منها إلى الذهن المستأنس بالمحسوس من الأحكام معان هي من أوصاف الأجسام و خواصها، و تزول بالرجوع إلى الأصول التي تشتمل على نفي حكم المادة و الجسم عن المورد، و هذا مما يطرد في جميع المعارف و الأبحاث غير المادية و الغائبة عن الحواس، و لا يختص بالقرآن الكريم بل يوجد في غيره من الكتب السماوية بما تشتمل عليه من المعارف العالية من غير تحريف، و يوجد أيضا في المباحث الإلهية من الفلسفة، و هو الذي يشير إليه القرآن بلسان آخر في قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها» الآية: الرعد - 17، و قوله:» إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف - 4 و منها ما يتعلق بالنواميس الاجتماعية و الأحكام الفرعية، و اشتمال هذا القسم من المعارف على الناسخ و المنسوخ بالنظر إلى تغير المصالح المقتضية للتشريعات و نحوها من جهة، و نزول القرآن نجوما من جهة أخرى يوجب ظهور التشابه في آياتها، و يرتفع التشابه بإرجاع المتشابه إلى المحكم، و المنسوخ إلى الناسخ.
قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله، الزيغ هو الميل عن الاستقامة، و يلزمه اضطراب القلب و قلقه بقرينة ما يقابله في ذيل الآية من قوله: و الراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، فإن الآية تصف حال الناس بالنسبة إلى تلقي القرآن بمحكمه و متشابهه، و أن منهم من هو زائغ القلب و مائله و مضطربه فهو يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة و التأويل، و منهم من هو راسخ العلم مستقر القلب يأخذ بالمحكم و يؤمن بالمتشابه و لا يتبعه، و يسأل الله تعالى أن لا يزيغ قلبه بعد الهداية.
و من هنا يظهر: أن المراد باتباع المتشابه اتباعه عملا لا إيمانا، و أن هذا الاتباع المذموم اتباع للمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم، إذ على هذا التقدير يصير الاتباع اتباعا للمحكم و لا ذم فيه.
و المراد بابتغاء الفتنة طلب إضلال الناس، فإن الفتنة تقارب الإضلال في المعنى، يقول تعالى: يريدون باتباع المتشابه إضلال الناس في آيات الله سبحانه، و أمرا آخر هو أعظم من ذلك، و هو الحصول و الوقوف على تأويل القرآن و مآخذ أحكام الحلال و الحرام حتى يستغنوا عن اتباع محكمات الدين فينتسخ بذلك دين الله من أصله.
و التأويل من الأول و هو الرجوع فتأويل المتشابه هو المرجع الذي يرجع إليه، و تأويل القرآن هو المأخذ الذي يأخذ منه معارفه.
و قد ذكر الله سبحانه لفظ التأويل في موارد من كلامه فقال سبحانه: «و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق»: الأعراف - 53، أي بالحق فيما أخبروا به و أنبئوا أن الله هو مولاهم الحق، و أن ما يدعون من دونه هو الباطل، و أن النبوة حق، و أن الدين حق، و أن الله يبعث من في القبور، و بالجملة كل ما يظهر حقيقته يوم القيامة من أنباء النبوة و أخبارها.
و من هنا ما قيل: إن التأويل في الآية هو الخارج الذي يطابقه الخبر الصادق كالأمور المشهودة يوم القيامة التي هي مطابقات اسم مفعول أخبار الأنبياء و الرسل و الكتب.
و يرده: أن التأويل على هذا يختص بالآيات المخبرة عن الصفات و بعض الأفعال و عن ما سيقع يوم القيامة، و أما الآيات المتضمنة لتشريع الأحكام فإنها لاشتمالها على الإنشاء لا مطابق لها في الخارج عنها، و كذا ما دل منها على ما يحكم به صريح العقل كعدة من أحكام الأخلاق فإن تأويلها معها، و كذا ما دل على قصص الأنبياء و الأمم الماضية فإن تأويلها على هذا المعنى يتقدمها من غير أن يتأخر إلى يوم القيامة مع، أن ظاهر الآية يضيف التأويل إلى الكتاب كله لا إلى قسم خاص من آياته.
و مثلها قوله تعالى: «و ما كان هذا القرءان أن يفترى إلى أن قال: أم يقولون افتريه إلى أن قال: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين»: يونس - 39، و الآيات كما ترى تضيف التأويل إلى مجموع الكتاب.
و لذلك ذكر بعضهم أن التأويل هو الأمر العيني الخارجي الذي يعتمد عليه الكلام، و هو في مورد الأخبار المخبر به الواقع في الخارج، إما سابقا كقصص الأنبياء و الأمم الماضية، و إما لاحقا كما في الآيات المخبرة عن صفات الله و أسمائه و مواعيده و كل ما سيظهر يوم القيامة، و في مورد الإنشاء كآيات الأحكام المصالح المتحققة في الخارج كما في قوله تعالى: «و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا»: إسراء - 35، فإن تأويل إيفاء الكيل و إقامة الوزن هو المصلحة المترتبة عليهما في المجتمع و هو استقامة أمر الاجتماع الإنساني.
و فيه أولا: أن ظاهر هذه الآية: أن التأويل أمر خارجي و أثر عيني مترتب على فعلهم الخارجي الذي هو إيفاء الكيل و إقامة الوزن لا الأمر التشريعي الذي يتضمنه قوله.
و أوفوا الكيل إذا كلتم و زنوا الآية، فالتأويل أمر خارجي هو مرجع و مآل لأمر خارجي آخر فتوصيف آيات الكتاب بكونها ذات تأويل من جهة حكايتها عن معان خارجية كما في الإخبار أو تعلقها بأفعال أو أمور خارجية كما في الإنشاء لها تأويل، فالوصف وصف بحال متعلق الشيء لا بحال نفس الشيء.
و ثانيا: أن التأويل و إن كان هو المرجع الذي يرجع و يئول إليه الشيء لكنه رجوع خاص لا كل رجوع، فإن المرئوس يرجع إلى رئيسه و ليس بتأويل له، و العدد يرجع إلى الواحد و ليس بتأويل له، فلا محالة هو مرجع بنحو خاص لا مطلقا.
يدل على ذلك قوله تعالى في قصة موسى و الخضر (عليهما السلام): «سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا»: الكهف - 78، و قوله تعالى: «ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا»: الكهف - 82، و الذي نبأه لموسى صور و عناوين لما فعله (عليه السلام) في موارد ثلاث كان موسى (عليه السلام) قد غفل عن تلك الصور و العناوين، و تلقى بدلها صورا و عناوين أخرى أوجبت اعتراضه بها عليه، فالموارد الثلاث: هي قوله تعالى: «حتى إذا ركبا في السفينة خرقها»: الكهف - 71، و قوله تعالى: «حتى إذا لقيا غلاما فقتله»: الكهف - 74، و قوله تعالى: «حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه»: الكهف - 77.
و الذي تلقاه موسى (عليه السلام) من صور هذه القضايا و عناوينها قوله: «أ خرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا»: الكهف - 71، و قوله: «أ قتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا»: الكهف - 74، و قوله: «لو شئت لاتخذت عليه أجرا»: الكهف - 77.
و الذي نبأ به الخضر من التأويل قوله: «أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها و كان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة و أقرب رحما، و أما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك»: الكهف - 82، ثم أجاب عن جميع ما اعترض عليه موسى (عليه السلام) جملة بقوله: «و ما فعلته عن أمري»: الكهف - 82، فالذي أريد من التأويل في هذه الآيات كما ترى هو رجوع الشيء إلى صورته و عنوانه نظير رجوع الضرب إلى التأديب و رجوع الفصد إلى العلاج، لا نظير رجوع قولنا: جاء زيد إلى مجيء زيد في الخارج.
و يقرب من ذلك ما ورد من لفظ التأويل في عدة مواضع من قصة يوسف (عليه السلام) كقوله تعالى: «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: يوسف - 4، و قوله تعالى: و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا»: يوسف - 100، فرجوع ما رآه من الرؤيا إلى سجود أبويه و إخوته له و إن كان رجوعا لكنه من قبيل رجوع المثال إلى الممثل، و كذا قوله تعالى: «و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف أيها الصديق أفتنا إلى أن قال: قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون»: يوسف - 48.
و كذا قوله تعالى: «و دخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا، و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نريك من المحسنين إلى أن قال: يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمرا و أما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه قضي الأمر الذي فيه تستفتيان»: يوسف - 41.
و كذا قوله تعالى: «و يعلمك من تأويل الأحاديث»: يوسف - 61، و قوله تعالى: «و لنعلمه من تأويل الأحاديث»: يوسف - 21، و قوله تعالى: و علمتني من تأويل الأحاديث»: يوسف - 101، فقد استعمل التأويل في جميع هذه الموارد من قصة يوسف (عليه السلام) فيما يرجع إليه الرؤيا من الحوادث، و هو الذي كان يراه النائم فيما يناسبه من الصورة و المثال، فنسبة التأويل إلى ذي التأويل نسبة المعنى إلى صورته التي يظهر بها، و الحقيقة المتمثلة إلى مثالها الذي تتمثل به، كما كان الأمر يجري هذا المجرى فيما أوردناه من الآيات في قصة موسى و الخضر (عليهما السلام)، و كذا في قوله تعالى: و أوفوا الكيل إذا كلتم إلى قوله و أحسن تأويلا الآية: إسراء - 35.
و التدبر في آيات القيامة يعطي أن المراد هو ذلك أيضا في لفظة التأويل في قوله تعالى: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله الآية، و قوله تعالى «هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله»» الآية فإن أمثال قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق - 22، تدل على أن مشاهدة وقوع ما أخبر به الكتاب و أنبأ به الأنبياء يوم القيامة من غير سنخ المشاهدة الحسية التي نعهدها في الدنيا كما أن نفس وقوعها و النظام الحاكم فيها غير ما نألفه في نشأتنا هذه، و سيجيء مزيد بيان له فرجوع أخبار الكتاب و النبوة إلى مضامينها الظاهرة يوم القيامة ليس من قبيل رجوع الإخبار عن الأمور المستقبلة إلى تحقق مضامينها في المستقبل.
فقد تبين بما مر: أولا: أن كون الآية ذات تأويل ترجع إليه غير كونها متشابهة ترجع إلى آية محكمة.
و ثانيا: أن التأويل لا يختص بالآيات المتشابهة بل لجميع القرآن تأويل فللآية المحكمة تأويل كما أن للمتشابهة تأويلا.
و ثالثا: أن التأويل ليس من المفاهيم التي هي مداليل للألفاظ بل هو من الأمور الخارجية العينية، و اتصاف الآيات بكونها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، و أما إطلاق التأويل و إرادة المعنى المخالف لظاهر اللفظ، فاستعمال مولد نشأ بعد نزول القرآن لا دليل أصلا على كونه هو المراد من قوله تعالى: و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية، كما لا دليل على أكثر المعاني المذكورة للتأويل مما سننقله عن قريب.
قوله تعالى: و ما يعلم تأويله إلا الله، ظاهر الكلام رجوع الضمير إلى ما تشابه، لقربه كما هو الظاهر أيضا في قوله: و ابتغاء تأويله، و قد عرفت أن ذلك لا يستلزم كون التأويل مقصورا على الآيات المتشابهة.
و من الممكن أيضا رجوع الضمير إلى الكتاب كالضمير في قوله: ما تشابه منه.
و ظاهر الحصر كون العلم بالتأويل مقصورا عليه سبحانه و أما قوله: و الراسخون في العلم، فظاهر الكلام أن الواو للاستيناف بمعنى كونه طرفا للترديد الذي يدل عليه قوله في صدر الآية: فأما الذين في قلوبهم زيغ، و المعنى: أن الناس في الأخذ بالكتاب قسمان: فمنهم من يتبع ما تشابه منه و منهم من يقول إذا تشابه عليه شيء منه: ءامنا به كل من عند ربنا، و إنما اختلفا لاختلافهم من جهة زيغ القلب و رسوخ العلم.
على أنه لو كان الواو للعطف و كان المراد بالعطف تشريك الراسخين في العلم بالتأويل كان منهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أفضلهم و كيف يتصور أن ينزل القرآن على قلبه و هو لا يدري ما أريد به و من دأب القرآن إذا ذكر الأمة أو وصف أمر جماعة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يفرده بالذكر أولا و يميزه بالشخص تشريفا له و تعظيما لأمره ثم يذكرهم جميعا كقوله تعالى: «ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون»: البقرة - 285، و قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين»: التوبة - 26، و قوله تعالى: «لكن الرسول و الذين ءامنوا معه»: التوبة - 88، و قوله تعالى: «و هذا النبي و الذين ءامنوا»: آل عمران - 68، و قوله تعالى: «لا يخزي الله النبي و الذين ءامنوا معه»: التحريم - 8، إلى غير ذلك، فلو كان المراد بقوله: و الراسخون في العلم، أنهم عالمون بالتأويل - و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم قطعا - كان حق الكلام كما عرفت أن يقال: و ما يعلم تأويله إلا الله و رسوله و الراسخون في العلم، هذا و إن أمكن أن يقال: إن قوله في صدر الآية: هو الذي أنزل عليك الكتاب «الخ» يدل على كون النبي عالما بالكتاب فلا حاجة إلى ذكره ثانيا.
فالظاهر أن العلم بالتأويل مقصور في الآية عليه تعالى، و لا ينافي ذلك ورود الاستثناء عليه كما أن الآيات دالة على انحصار علم الغيب عليه تعالى مع ورود الاستثناء عليه كما في قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن - 27، و لا ينافيه أيضا كون المستثنى الراسخين في العلم بعينهم، إذ لا منافاة بين أن تدل هذه الآية على شأن من شئون الراسخين في العلم، و هو الوقوف عند الشبهة و الإيمان و التسليم في مقابل الزائغين قلبا و بين أن تدل آيات أخر على أنهم أو بعضا منهم عالمون بحقيقة القرآن و تأويل آياته على ما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: و الراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، الرسوخ هو أشد الثبات، و وقوع الراسخين في العلم في مقابلة الذين في قلوبهم زيغ ثم توصيفهم بأنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا يدل على تمام تعريفهم، و هو أن لهم علما بالله و بآياته لا يدخله ريب و شك، فما حصل لهم من العلم بالمحكمات ثابت لا يتزلزل، و هم يؤمنون به و يتبعونه أي يعلمون به و إذا وردت عليهم آية متشابهة لم يوجب تشابهها اضطراب قلوبهم فيما عندهم من العلم الراسخ بل آمنوا بها و توقفوا عن اتباعها عملا و في قولهم: ءامنا به كل من عند ربنا ذكر الدليل و النتيجة معا فإن كون المحكم و المتشابه جميعا من عند الله تعالى يوجب الإيمان بالكل: محكمه و متشابهه، و وضوح المراد في المحكم يوجب اتباعه عملا، و التوقف في المتشابه من غير رده لأنه من عند الله و لا يجوز اتباع ما ينافي المحكم من معانيه المتشابهة لسطوع البيان في المحكم فيجب أن يتبع من معانيه المحتملة ما يوافق معنى المحكم، و هذا بعينه إرجاع المتشابه إلى المحكم فقوله: كل من عند ربنا بمنزلة الدليل على الأمرين جميعا، أعني: الإيمان و العمل في المحكم، و الإيمان فقط في المتشابه و الرجوع في العمل إلى المحكم.
قوله تعالى: و ما يذكر إلا أولوا الألباب، التذكر هو الانتقال إلى دليل الشيء لاستنتاجه، و لما كان قولهم: كل من عند ربنا كما مر استدلالا منهم و انتقالا لما يدل على فعلهم سماه الله تعالى تذكرا و مدحهم به.
و الألباب جمع لب و هو العقل الزكي الخالص من الشوائب، و قد مدحهم الله تعالى مدحا جميلا في موارد من كلامه، و عرفهم بأنهم أهل الإيمان بالله و الإنابة إليه و اتباع أحسن القول ثم وصفهم بأنهم على ذكر من ربهم دائما فأعقب ذلك أنهم أهل التذكر أي الانتقال إلى المعارف الحقة بالدليل و أهل الحكمة و المعرفة، قال تعالى: «و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر - 18، و قال تعالى: «إن في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياما و قعودا و على جنوبهم»: آل عمران - 191، و هذا الذكر الدائم و ما يتبعه من التذلل و الخضوع هو الإنابة الموجبة لتذكرهم بآيات الله و انتقالهم إلى المعارف الحقة كما قال تعالى: «و ما يتذكر إلا من ينيب»: الغافر - 13، و قد قال: «و ما يذكر إلا أولوا الألباب»: البقرة - 269 آل عمران - 7.
قوله تعالى: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، و هذا من آثار رسوخهم في العلم فإنهم لما علموا بمقام ربهم، و عقلوا عن الله سبحانه أيقنوا أن الملك لله وحده و أنهم لا يملكون لأنفسهم شيئا فمن الجائز أن يزيغ قلوبهم بعد رسوخ العلم فالتجئوا إلى ربهم، و سألوه أن لا يزيغ قلوبهم بعد إذ هداهم، و أن يهب لهم من لدنه رحمة تبقي لهم هذه النعمة و يعينهم على السير في صراط الهداية و السلوك في مراتب القرب.
و أما سؤال أن يهبهم رحمة بعد سؤال أن لا يزيغ قلوبهم فلأن عدم إزاغة القلب لا يستلزم بقاء الرسوخ في العلم فمن الجائز أن لا يزاغ قلوبهم و ينتزع عنها العلم فتبقى سدى مهملة لا سعداء بالعلم و لا أشقياء بالإزاغة بل في حال الجهل و الاستضعاف، و هم في حاجة مبرمة إلى ما هم عليه من العلم، و مع ذلك لا تقف حاجتهم في ما هم عليه من الموقف بل هم سائروا طريق يحتاجون فيه إلى أنواع من الرحمة لا يعلمها و لا يحصيها إلا الله سبحانه، و هم مستشعرون بحاجتهم هذه و الدليل عليه قولهم بعد: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه.
فقولهم: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، استعاذة من نزول الزيغ إلى قلوبهم و إزاحته العلم الراسخ الذي فيها و قولهم و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب استمطار لسحاب الرحمة حتى تدوم بها حياة قلوبهم و تنكير الرحمة، و توصيفها بكونها من لدنه إظهار منهم الجهل بشأن هذه الرحمة، و أنها كيف ينبغي أن تكون غير أنهم يعلمون أنه لو لا رحمة من ربهم و لو لا كونها من لدنه لم يتم لهم أمر.
و في الاستعاذة من الزيغ إلى الله محضا و استيهاب الرحمة من لدنه محضا دلالة على أنهم يرون تمام الملك لله محضا من غير توجه إلى أمر الأسباب.
قوله تعالى: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد، هذا منهم بمنزلة التعليل لسؤال الرحمة و ذلك لعلمهم بأن إقامة نظام الخلقة و دعوة الدين و كدح الإنسان في مسير وجوده كل ذلك مقدمة لجمعهم إلى يوم القيامة الذي لا يغنى فيه و لا ينصر أحد إلا بالرحمة كما قال تعالى: «إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون، إلا من رحم الله»: الدخان - 42 و لذلك سألوا رحمة من ربهم و فوضوا تعيينها و تشخيصها إليه لينفعهم في أمرهم.
و قد وصفوا هذا اليوم بأنه لا ريب فيه ليتجه بذلك كمال اهتمامهم بالسؤال و الدعاء، و عللوا هذا التوصيف أيضا بقولهم: إن الله لا يخلف الميعاد لأن شأنهم الرسوخ في العلم، و لا يرسخ العلم بشيء و لا يستقر تصديق إلا مع العلم بعلته المنتجة، و علة عدم ارتيابهم في تحقق هذا اليوم هو ميعاد الله سبحانه به فذكروه.
و نظير هذا الوجه جار في تعليلهم قولهم و هب لنا من لدنك رحمة بقولهم: إنك أنت الوهاب فكونه تعالى وهابا يعلل به سؤالهم الرحمة، و إتيانهم بلفظة أنت و تعريف الخبر باللام المفيد للحصر يعلل به قولهم: من لدنك، الدال على الاختصاص، و كذا يجري مثل الوجه في قولهم: ربنا لا تزغ قلوبنا، حيث عقبوه بما يجري مجرى العلة بالنسبة إليه، و هو قولهم: بعد إذ هديتنا، و قد مر آنفا أن قولهم: ءامنا به، من حيث تعقيبه بقولهم: كل من عند ربنا، من هذا القبيل أيضا.
فهؤلاء رجال آمنوا بربهم و ثبتوا عليه فهداهم الله سبحانه، و كمل عقولهم فلا يقولون إلا عن علم و لا يفعلون إلا عن علم فسماهم الله تعالى راسخين في العلم، و كنى عنهم بأولى الألباب، و أنت إذا تدبرت ما عرف الله به أولي الألباب وجدته منطبقا على ما ذكره من شأنهم في هذه الآيات، قال تعالى: و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هديهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر - 18.
فوصفهم بالإيمان و اتباع أحسن القول، و الإنابة إلى الله سبحانه، و قد وصف بهذه الأوصاف الراسخين في العلم في هذه الآيات.
و أما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله إن الله لا يخلف الميعاد فلأن هذا الميعاد لا يختص بهم بل يعمهم و غيرهم فكان الأولى تبديل قولهم: ربنا، إلى لفظة الجلالة لأن حكم الألوهية عام شامل لكل شيء.
كلام تفصيلي في المحكم و المتشابه و التأويل
هذا الذي أوردناه من الكلام في معنى المحكم و المتشابه و التأويل فيما مر هو الذي يتحصل من تدبر كلامه سبحانه و يستفاد من المأثور عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) سيجيء في البحث الروائي.
لكن القوم اختلفوا في المقام، و قد شاع الخلاف و اشتد الانحراف بينهم، و ينسحب ذيل النزاع و المشاجرة إلى الصدر الأول من مفسري الصحابة و التابعين، و قلما يوجد في ما نقل إلينا من كلامهم ما يقرب مما مر من البيان فضلا عن أن ينطبق عليه تمام الانطباق.
و السبب العمدة في ذلك الخلط بين البحث عن المحكم و المتشابه و بين البحث عن معنى التأويل، فأوجب ذلك اختلالا عجيبا في عقد المسألة و كيفية البحث و النتيجة المأخوذة منه، و نحن نورد تفصيل القول في كل واحد من أطراف هذه الأبحاث و ما قيل فيها و ما هو المختار من الحق مع تمييز مورد البحث بما تيسر في ضمن فصول
1 - المحكم و المتشابه
الإحكام و التشابه من الألفاظ المبينة المفاهيم في اللغة، و قد وصف بهما الكتاب كما في قوله تعالى: «كتاب أحكمت ءاياته»: هود - 1، و قوله تعالى: «كتابا متشابها مثاني»: الزمر - 23، و لم يتصف بهما إلا جملة الكتاب من جهة إتقانه في نظمه و بيانه و من جهة تشابه نظمه و بيانه في البلوغ إلى غاية الإتقان و الإحكام.
لكن قوله تعالى: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات الآية لما اشتمل على تقسيم نفس آيات الكتاب إلى المحكمات و المتشابهات علمنا أن المراد بالإحكام و التشابه هاهنا غير ما يتصف به تمام الكتاب، و كان من الحري البحث عن معناهما و تشخيص مصداقهما من الآيات، و فيه أقوال ربما تجاوزت العشرة: أحدها: أن المحكمات هو قوله تعالى في سورة الأنعام: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا إلى آخر الآيات الثلاث»: الأنعام - 152 و المتشابهات هي التي تشابهت على اليهود، و هي الحروف المقطعة النازلة في أوائل عدة من السور القرآنية مثل الم و الر و حم، و ذلك أن اليهود أولوها على حساب الجمل، فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة و عمرها فاشتبه عليهم الأمر.
نسب إلى ابن عباس من الصحابة.
و فيه: أنه قول من غير دليل و لو سلم فلا دليل على انحصارهما.
فيهما، على أن لازمه وجود قسم ثالث ليس بمحكم و لا متشابه مع أن ظاهر الآية يدفعه.
لكن الحق أن النسبة في غير محلها، و الذي نقل عن ابن عباس: أنه قال إن الآيات الثلاث من المحكمات لا أن المحكمات هي الآيات الثلاث، ففي الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن عبد الله بن قيس سمعت ابن عباس يقول: في قوله منه ءايات محكمات، قال: الثلاث آيات من آخر سورة الأنعام محكمات: قل تعالوا، و الآيتان بعدها.
و يؤيد ذلك ما رواه عنه أيضا في قوله: آيات محكمات قال: من هاهنا: قل تعالوا إلى آخر ثلاث آيات، و من هاهنا: و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه إلى آخر ثلاث آيات. فالروايتان تشهدان أنه إنما ذكر هذه الآيات مثالا لسائر المحكمات لا أنه قصرها فيها.
و ثانيها عكس الأول و هو أن المحكمات هي الحروف المقطعة في فواتح السور و المتشابهات غيرها.
نقل ذلك عن أبي فاختة حيث ذكر في قوله تعالى: هن أم الكتاب: إنهن فواتح السور منها يستخرج القرآن: الم ذلك الكتاب، منها استخرجت البقرة و الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم، منها استخرجت آل عمران و عن سعيد بن جبير مثله في معنى قوله: هن أم الكتاب، قال: أصل الكتاب لأنهن مكتوبات في جميع الكتب، انتهى.
و يدل ذلك على أنهما يذهبان في معنى فواتح السور إلى أن المراد بها ألفاظ الحروف بعناية أن الكتاب الذي نزل عليكم هو هذه الحروف المقطعة التي تتألف منها الكلمات و الجمل، كما هو أحد المذاهب في معنى فواتح السور.
و فيه: مضافا إلى أنه مبني على ما لا دليل عليه أصلا أعني تفسير الحروف المقطعة في فواتح السور بما عرفت أنه لا ينطبق على نفس الآية فإن جميع القرآن غير فواتح السور يصير حينئذ من المتشابه، و قد ذم الله سبحانه اتباع المتشابه، و عده من زيغ القلب مع أنه تعالى مدح اتباع القرآن بل عده من أوجب الواجبات كقوله تعالى: «و اتبعوا النور الذي أنزل معه»: الأعراف - 157، و غيره من الآيات.
و ثالثها: أن المتشابه هو ما يسمى مجملا و المحكم هو المبين.
و فيه: أن ما بين من أوصاف المحكم و المتشابه في الآية لا ينطبق على المجمل و المبين.
بيان ذلك: أن إجمال اللفظ هو كونه بحيث يختلط و يندمج بعض جهات معناه ببعض فلا ينفصل الجهة المرادة عن غيرها، و يوجب ذلك تحير المخاطب أو السامع في تشخيص المراد و قد جرى دأب أهل اللسان في ظرف التفاهم أن لا يتبعوا ما هذا شأنه من الألفاظ بل يستريحون إلى لفظ آخر مبين يبين هذا المجمل فيصير بذلك مبينا فيتبع فهذا حال المجمل مع مبينه، فلو كان المحكم و المتشابه هما المجمل و المبين بعينهما كان المتبع هو المتشابه إذا رد إلى المحكم، دون نفس المحكم، و كان هذا الاتباع مما لا يجوزه قريحة التكلم و التفاهم فلم يقدم على مثله أهل اللسان سواء في ذلك أهل الزيغ منهم و الراسخون في العلم و لم يكن اتباع المتشابه أمرا يلحقه الذم و يوجب زيغ القلب.
رابعها أن المتشابهات هي الآيات المنسوخة لأنها يؤمن بها و لا يعمل بها، و المحكمات هي الآيات الناسخة لأنها يؤمن بها، و يعمل بها و نسب إلى ابن عباس و ابن مسعود و ناس من الصحابة، و لذلك كان ابن عباس يحسب أنه يعلم تأويل القرآن.
و فيه: أنه على تقدير صحته لا دليل فيه على انحصار المتشابهات في الآيات المنسوخة فإن الذي ذكره تعالى من خواص اتباع المتشابه من ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل جار في كثير من الآيات غير المنسوخة كآيات الصفات و الأفعال، على أن لازم هذا القول وجود الواسطة بين المحكم و المتشابه.
و فيما نقل عن ابن عباس ما يدل على أن مذهبه في المحكم و المتشابه أعم مما ينطبق على الناسخ و المنسوخ، و أنه إنما ذكرهما من باب المثال ففي الدر المنثور: أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس قال: المحكمات ناسخه و حلاله و حرامه و حدوده و فرائضه و ما يؤمن به، و المتشابهات منسوخه و مقدمه و مؤخره و أمثاله و أقسامه و ما يؤمن به و لا يعمل به، انتهى.
خامسها: أن المحكمات ما كان دليله واضحا لائحا كدلائل الوحدانية و القدرة و الحكمة، و المتشابهات ما يحتاج في معرفته إلى تأمل و تدبر.
و فيه: أنه إن كان المراد من كون الدليل واضحا لائحا أو محتاجا إلى التأمل و التدبر كون مضمون الآية ذا دليل عقلي قريب من البداهة أو بديهي و عدم كونه كذلك كان لازمه كون آيات الأحكام و الفرائض و نحوها من المتشابه لفقدانها الدليل العقلي اللائح الواضح، و حينئذ يكون اتباعها مذموما مع أنها واجبة الاتباع، و إن كان المراد به كونه ذا دليل واضح لائح من نفس الكتاب و عدم كونه كذلك فجميع الآيات من هذه الجهة على وتيرة واحدة، و كيف لا؟ و هو كتاب متشابه مثاني، و نور، و مبين، و لازمه كون الجميع محكما و ارتفاع المتشابه المقابل له من الكتاب و هو خلف الفرض و خلاف النص.
سادسها: أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي، و المتشابه ما لا سبيل إلى العلم به كوقت قيام الساعة و نحوه.
و فيه: أن الإحكام و التشابه وصفان لآية الكتاب من حيث إنها آية أي دالة على معرفة من المعارف الإلهية، و الذي تدل عليه آية من آيات الكتاب ليس بعادم للسبيل، و لا ممتنع الفهم إما بنفسه أو بضميمة غيره، و كيف يمكن أن يكون هناك أمر مراد من لفظ الآية و لا يمكن نيله من جهة اللفظ؟ مع أنه وصف كتابه بأنه هدى، و أنه نور، و أنه مبين، و أنه في معرض فهم الكافرين فضلا عن المؤمنين حيث قال: «تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت ءاياته قرءانا عربيا لقوم يعلمون بشيرا و نذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون»: حم السجدة - 4، و قال تعالى: «أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، فما تعرضت له آية من آيات الكتاب ليس بممتنع الفهم، و لا الوقوف عليه مستحيل، و ما لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت قيام الساعة و سائر ما في الغيب المكنون لم يتعرض لبيانه آية من الآيات بلفظها حتى تسمى متشابها.
على أن في هذا القول خلطا بين معنى المتشابه و تأويل الآية كما مر.
سابعها: أن المحكمات آيات الأحكام و المتشابهات غيرها مما يصرف بعضها بعضا، نسب هذا القول إلى مجاهد و غيره.
و فيه: أن المراد بالصرف الذي ذكره إن كان مطلق ما يعين على تشخيص المراد باللفظ حتى يشمل مثل التخصيص بالمخصص، و التقييد بالمقيد و سائر القرائن المقامية كانت آيات الأحكام أيضا كغيرها متشابهات، و إن كان خصوص ما لا إبهام في دلالته على المراد و لا كثرة في محتملاته حتى يتعين المراد به بنفسه، و يتعين المراد بغيره بواسطته كان لازم كون ما سوى آيات الأحكام متشابهة أن لا يحصل العلم بشيء من معارف القرآن غير الأحكام لأن المفروض عدم وجود آية محكمة فيها ترجع إليها المتشابهات منها و يتبين بذلك معانيها.
ثامنها: أن المحكم من الآيات ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا و المتشابه ما احتمل من التأويل أوجها كثيرة و نسب إلى الشافعي، و كان المراد به أن المحكم ما لا ظهور له إلا في معنى واحد كالنص و الظاهر القوي في ظهوره و المتشابه خلافه.
و فيه: أنه لا يزيد على تبديل اللفظ باللفظ شيئا، فقد بدل لفظ المحكم بما ليس له إلا معنى واحد، و المتشابه بما يحتمل معاني كثيرة، على أنه أخذ التأويل بمعنى التفسير أي المعنى المراد باللفظ و قد عرفت أنه خطأ، و لو كان التأويل هو التفسير بعينه لم يكن لاختصاص علمه بالله، أو بالله و بالراسخين في العلم وجه فإن القرآن يفسر بعضه بعضا، و المؤمن و الكافر و الراسخون في العلم و أهل الزيغ في ذلك سواء.
تاسعها: أن المحكم ما أحكم و فصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم، و المتشابه ما اشتبهت ألفاظه من قصصهم بالتكرير في سور متعددة، و لازم هذا القول اختصاص التقسيم بآيات القصص.
و فيه: أنه لا دليل على هذا التخصيص أصلا، على أن الذي ذكره تعالى من خواص المحكم و المتشابه و هو ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل في اتباع المتشابه دون المحكم لا ينطبق عليه، فإن هذه الخاصة توجد في غير آيات القصص كما توجد فيها، و توجد في القصة الواحدة كقصة جعل الخلافة في الأرض كما توجد في القصص المتكررة.
عاشرها: أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان و المحكم خلافه، و هذا الوجه منسوب إلى الإمام أحمد.
و فيه: أن آيات الأحكام محتاجة إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أنها من المحكمات قطعا لما تقدم بيانه مرارا، و كذا الآيات المنسوخة من المتشابه كما تقدم مع عدم احتياجها إلى بيان لكونها نظائر لسائر آيات الأحكام.
الحادي عشر: أن المحكم ما يؤمن به و يعمل به و المتشابه ما يؤمن به و لا يعمل به، و نسب إلى ابن تيمية، و لعل المراد به: أن الأخبار متشابهات و الإنشاءات محكمات كما استظهره بعضهم و إلا لم يكن قولا برأسه لصحة انطباقه على عدة من الأقوال المتقدمة.
و فيه: أن لازمه كون غير آيات الأحكام متشابهات، و لازمه أن لا يمكن حصول العلم بشيء من المعارف الإلهية في غير الأحكام إذ لا يتحقق فيها عمل مع عدم وجود محكم فيها يرجع إليه ما تشابه منها، و من جهة أخرى: الآيات المنسوخة إنشاءات و ليست بمحكمات قطعا.
و الظاهر أن مراده من الإيمان و العمل بالمحكم و الإيمان من غير عمل بالمتشابه ما يدل عليه لفظ الآية: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه، و الراسخون في العلم يقولون ءامنا به كل من عند ربنا، إلا أن الأمرين أعني الإيمان و العمل معا في المحكم و الإيمان فقط في المتشابه لما كانا وظيفتين لكل من آمن بالكتاب كان عليه أن يشخص المحكم و المتشابه قبلا حتى يؤدي وظيفته، و على هذا فلا يكفي معرفة المحكم و المتشابه بهما في تشخيص مصداقهما و هو ظاهر.
الثاني عشر: إن المتشابهات هي آيات الصفات خاصة أعم من صفات الله سبحانه كالعليم و القدير و الحكيم و الخبير و صفات أنبيائه كقوله تعالى في عيسى بن مريم (عليهما السلام): «و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء - 171، و ما يشبه ذلك، نسب إلى ابن تيمية.
و فيه: أنه مع تسليم كون آيات الصفات من المتشابهات لا دليل على انحصارها فيها.
و الذي يظهر من بعض كلامه المنقول على طوله أنه يأخذ المحكم و المتشابه بمعناهما اللغوي و هو ما أحكمت دلالته و ما تشابهت احتمالاته و المعنيان نسبيان فربما اشتبهت دلالة آية على قوم كالعامة و علمها آخرون بالبحث و هم العلماء، و هذا المعنى في آيات الصفات أظهر فإنها بحيث تشتبه مراداتها لغالب الناس لكون أفهامهم قاصرة عن الارتقاء إلى ما وراء الحس، فيحسبون ما أثبته الله تعالى لنفسه من العلم و القدرة و السمع و البصر و الرضا و الغضب و اليد و العين و غير ذلك أمورا جسمانية أو معاني ليست بالحق، و تقوم بذلك الفتن، و تظهر البدع، و تنشأ المذاهب، فهذا معنى المحكم و المتشابه، و كلاهما مما يمكن أن يحصل به العلم، و الذي لا يمكن نيله و العلم به هو تأويل المتشابهات بمعنى حقيقة المعاني التي تدل عليها أمثال آيات الصفات، فهب أنا علمنا معنى قوله: إن الله على كل شيء قدير، و إن الله بكل شيء عليم و نحو ذلك لكنا لا ندري حقيقة علمه و قدرته و سائر صفاته و كيفية أفعاله الخاصة به، فهذا هو تأويل المتشابهات الذي لا يعلمها إلا الله تعالى، انتهى ملخصا، و سيأتي ما يتعلق بكلامه من البحث عند ما نتكلم في التأويل إن شاء الله.
الثالث عشر: أن المحكم ما للعقل إليه سبيل و المتشابه بخلافه.
و فيه: أنه قول من غير دليل، و الآيات القرآنية و إن انقسمت إلى ما للعقل إليه سبيل و ما ليس للعقل إليه سبيل، لكن ذلك لا يوجب كون المراد بالمحكم و المتشابه في هذه الآية استيفاء هذا التقسيم، و شيء مما ذكر فيها من نعوت المحكم و المتشابه لا ينطبق عليه انطباقا صحيحا، على أنه منقوض بآيات الأحكام فإنها محكمة و لا سبيل للعقل إليها.
الرابع عشر: أن المحكم ما أريد به ظاهره و المتشابه ما أريد به خلاف ظاهره، و هذا قول شائع عند المتأخرين من أرباب البحث، و عليه يبتني اصطلاحهم في التأويل: أنه المعنى المخالف لظاهر الكلام و كأنه أيضا مراد من قال: إن المحكم ما تأويله تنزيله، و المتشابه ما لا يدرك إلا بالتأويل.
و فيه: أنه اصطلاح محض لا ينطبق عليه ما في الآية من وصف المحكم و المتشابه فإن المتشابه إنما هو متشابه من حيث تشابه مراده و مدلوله، و ليس المراد بالتأويل المعنى المراد من المتشابه حتى يكون المتشابه متميزا عن المحكم بأن له تأويلا، بل المراد بالتأويل في الآية أمر يعم جميع الآيات القرآنية من محكمها و متشابهها كما مر بيانه.
على أنه ليس في القرآن آية أريد فيها ما يخالف ظاهرها، و ما يوهم ذلك من الآيات إنما أريد بها معان يعطيها لها آيات أخر محكمة، و القرآن يفسر بعضه بعضا، و من المعلوم أن المعنى الذي تعطيه القرائن متصلة أو منفصلة للفظ ليس بخارج عن ظهوره و بالخصوص في كلام نص متكلمه على أن ديدنه أن يتكلم بما يتصل بعضه ببعض، و يشهد بعضه على بعض و يرتفع كل اختلاف و تناف مترائى بالتدبر فيه، قال تعالى: «أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82 الخامس عشر: ما عن الأصم: أن المحكم ما أجمع على تأويله و المتشابه ما اختلف فيه و كان المراد بالإجماع و الاختلاف كون مدلول الآية بحيث يختلف فيه الأنظار أو لا يختلف.
و فيه: أن ذلك مستلزم لكون جميع الكتاب متشابها و ينافيه التقسيم الذي في الآية إذ ما من آية من آي الكتاب إلا و فيه اختلاف ما: إما لفظا أو معنى أو في كونها ذات ظهور أو غيرها، حتى ذهب بعضهم إلى أن القرآن كله متشابه مستدلا بقوله تعالى: «كتابا متشابها»: الزمر - 23، غفلة عن أن هذا الاستدلال منه يبتني على كون ما استدل به آية محكمة و هو يناقض قوله و ذهب آخرون إلى أن ظاهر الكتاب ليس بحجة أي أنه لا ظاهر له.
السادس عشر: أن المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته غيره سواء كان الإشكال من جهة اللفظ أو من جهة المعنى، ذكره الراغب.
قال في مفردات القرآن: و المتشابه من القرآن ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، إما من حيث اللفظ، أو من حيث المعنى، فقال الفقهاء: المتشابه ما لا ينبىء ظاهره عن مراده، و حقيقة ذلك: أن الآيات عند اعتبار بعضها ببعض ثلاثة أضرب: محكم على الإطلاق، و متشابه على الإطلاق، و محكم من وجه متشابه من وجه.
فالمتشابه في الجملة ثلاثة أضرب: متشابه من جهة اللفظ فقط، و متشابه من جهة المعنى فقط، و متشابه من جهتهما.
و المتشابه من جهة اللفظ ضربان: أحدهما يرجع إلى الألفاظ المفردة، و ذلك إما من جهة غرابته نحو الأب و يزفون، و إما من جهة مشاركة في اللفظ كاليد و العين، و الثاني يرجع إلى جملة الكلام المركب، و ذلك ثلاثة أضرب: ضرب لاختصار الكلام نحو «و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء» و ضرب لبسط الكلام نحو ليس كمثله شيء لأنه لو قيل ليس مثله شيء كان أظهر للسامع، و ضرب لنظم الكلام نحو «أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما» تقديره الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و قوله: و لو لا رجال مؤمنون إلى قوله لو تزيلوا.
و المتشابه من جهة المعنى أوصاف الله تعالى و أوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه، أو لم يكن من جنس ما لم نحسه.
و المتشابه من جهة المعنى و اللفظ جميعا خمسة أضرب: الأول: من جهة الكمية كالعموم و الخصوص نحو اقتلوا المشركين، و الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب و الندب نحو فانكحوا ما طاب لكم، و الثالث من جهة الزمان كالناسخ و المنسوخ نحو اتقوا الله حق تقاته، و الرابع: من جهة المكان أو الأمور التي نزلت فيها نحو و ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، و قوله: إنما النسيء زيادة في الكفر، فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية، و الخامس: من جهة الشروط التي بها يصح الفعل أو يفسد كشروط الصلوة و النكاح.
و هذه الجملة إذا تصورت علم: أن كل ما ذكره المفسرون في تفسير المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم نحو قول من قال المتشابه الم، و قول قتادة: المحكم الناسخ و المتشابه المنسوخ، و قول الأصم: المحكم ما أجمع على تأويله و المتشابه ما اختلف فيه.
ثم جميع المتشابه على ثلاثة أضرب ضرب لا سبيل للوقوف عليه كوقت الساعة و خروج دابة الأرض و كيفية الدابة و نحو ذلك.
و ضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة و الأحكام الغلقة و ضرب متردد بين الأمرين، يجوز أن يختص بمعرفة حقيقته بعض الراسخين في العلم و يخفى على من دونهم، و هو الضرب المشار إليه بقوله (عليه السلام) في علي رضي الله عنه: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل، و قوله لابن عباس مثل ذلك، انتهى كلامه و هو أعم الأقوال في معنى المتشابه جمع فيها بين عدة من الأقوال المتقدمة.
و فيه: أولا: أن تعميمه المتشابه لموارد الشبهات اللفظية كغرابة اللفظ و إغلاق التركيب و العموم و الخصوص و نحوها لا يساعد عليه ظاهر الآية، فإن الآية جعلت المحكمات مرجعا يرجع إليه المتشابهات، و من المعلوم أن غرابة اللفظ و أمثالها لا تنحل عقدتها من جهة دلالة المحكمات، بل لها مرجع آخر ترجع إليه و تتضح به.
و أيضا: الآية تصف المتشابهات بأنها من شأنها أن تتبع لابتغاء الفتنة، و من المعلوم: أن اتباع العام من غير رجوع إلى مخصصه، و المطلق من غير رجوع إلى مقيده و أخذ اللفظ الغريب مع الإعراض عما يفسره في اللغة مخالف لطريقة أهل اللسان لا تجوزه قريحتهم فلا يكون بالطبع موجبا لإثارة الفتنة لعدم مساعدة اللسان عليه.
و ثانيا: أن تقسيمه المتشابه بما يمكن فهمه لعامة الناس و ما لا يمكن فهمه لأحد و ما يمكن فهمه لبعض دون بعض ظاهر في أنه يرى اختصاص التأويل بالمتشابه، و قد عرفت خلافه.
هذا هو المعروف من أقوالهم في معنى المحكم و المتشابه و تمييز مواردهما، و قد عرفت ما فيها، و عرفت أيضا أن الذي يظهر من الآية على ظهورها و سطوع نورها خلاف ذلك كله، و أن الذي تعطيه الآية في معنى المتشابه: أن تكون الآية مع حفظ كونها آية دالة على معنى مريب مردد لا من جهة اللفظ بحيث يعالجه الطرق المألوفة عند أهل اللسان كإرجاع العام و المطلق إلى المخصص و المقيد و نحو ذلك بل من جهة كون معناها غير ملائم لمعنى آية أخرى محكمة لا ريب فيه تبين حال المتشابهة.
و من المعلوم أن معنى آية من الآيات لا يكون على هذا الوصف إلا مع كون ما يتبع من المعنى مألوفا مأنوسا عند الأفهام العامية تسرع الأذهان الساذجة إلى تصديقه أو يكون ما يرام من تأويل الآية أقرب إلى قبول هذه الأفهام الضعيفة الإدراك و التعقل.
و أنت إذا تتبعت البدع و الأهواء و المذاهب الفاسدة التي انحرف فيها الفرق الإسلامية عن الحق القويم بعد زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سواء كان في المعارف أو في الأحكام وجدت أكثر مواردها من اتباع المتشابه، و التأويل في الآيات بما لا يرتضيه الله سبحانه.
ففرقة تتمسك من القرآن بآيات للتجسيم، و أخرى للجبر، و أخرى للتفويض و أخرى لعثرة الأنبياء، و أخرى للتنزيه المحض بنفي الصفات، و أخرى للتشبيه الخالص و زيادة الصفات، إلى غير ذلك، كل ذلك للأخذ بالمتشابه من غير إرجاعه إلى المحكم الحاكم فيه.
و طائفة ذكرت: أن الأحكام الدينية إنما شرعت لتكون طريقا إلى الوصول فلو كان هناك طريق أقرب منها كان سلوكه متعينا لمن ركبه فإنما المطلوب هو الوصول بأي طريق اتفق و تيسر، و أخرى قالت إن التكليف إنما هو لبلوغ الكمال، و لا معنى لبقائه بعد الكمال بتحقق الوصول فلا تكليف لكامل.
و قد كانت الأحكام و الفرائض و الحدود و سائر السياسات الإسلامية قائمة و مقامة في عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يشذ منها شاذ ثم لم تزل بعد ارتحاله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنقص و تسقط حكما فحكما، يوما فيوما بيد الحكومات الإسلامية، و لم يبطل حكم أو حد إلا و اعتذر المبطلون: أن الدين إنما شرع لصلاح الدنيا و إصلاح الناس، و ما أحدثوه أصلح لحال الناس اليوم، حتى آل الأمر إلى ما يقال: إن الغرض الوحيد من شرائع الدين إصلاح الدنيا بإجرائها، و الدنيا اليوم لا تقبل السياسة الدينية و لا تهضمها بل تستدعي وضع قوانين ترتضيها مدنية اليوم و إجراءها، و إلى ما يقال إن التلبس بالأعمال الدينية لتطهير القلوب و هدايتها إلى الفكرة و الإرادة الصالحتين، و القلوب المتدربة بالتربية الاجتماعية، و النفوس الموقوفة على خدمة الخلق في غنى عن التطهر بأمثال الوضوء و الغسل و الصلوة و الصوم.
إذا تأملت في هذه و أمثالها و هي لا تحصى كثرة و تدبرت في قوله تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله الآية، لم تشك في صحة ما ذكرناه، و قضيت بأن هذه الفتن و المحن التي غادرت الإسلام و المسلمين لم تستقر قرارها إلا من طريق اتباع المتشابه، و ابتغاء تأويل القرآن.
و هذا و الله أعلم هو السبب في تشديد القرآن الكريم في هذا الباب، و إصراره البالغ على النهي عن اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة و التأويل و الإلحاد في آيات الله و القول فيها بغير علم و اتباع خطوات الشيطان فإن من دأب القرآن أنه يبالغ في التشديد في موارد سينثلم من جهتها ركن من أركان الدين فتنهدم به بنيته كالتشديد الواقع في تولي الكفار، و مودة ذوي القربى، و قرار أزواج النبي، و معاملة الربا، و اتحاد الكلمة في الدين و غير ذلك.
و لا يغسل رين الزيغ من القلوب و لا يسد طريق ابتغاء الفتنة اللذين منشؤهما الركون إلى الدنيا و الإخلاد إلى الأرض و اتباع الهوى إلا ذكر يوم الحساب كما قال تعالى: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص - 26، و لذلك ترى الراسخين في العلم المتأبين تأويل القرآن بما لا يرتضيه ربهم يشيرون إلى ذلك في خاتمة مقالهم حيث يقولون: ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد.
2 - ما معنى كون المحكمات أم الكتاب
ذكر جماعة: أن كون الآيات المحكمة أم الكتاب كونها أصلا في الكتاب عليه تبتني قواعد الدين و أركانها فيؤمن بها، و يعمل بها و ليس الدين إلا مجموعا من الاعتقاد و العمل، و أما الآيات المتشابهة فهي لتزلزل مرادها و تشابه مدلولها لا يعمل بها بل إنما يؤمن بها إيمانا.
و أنت بالتأمل فيما تقدم من الأقوال تعلم أن هذا لازم بعض الأقوال المتقدمة، و هي التي ترى أن المتشابه إنما صار متشابها لاشتماله على تأويل يتعذر الوصول إليه و فهمه، أو أن المتشابه يمكن حصول العلم به و رفع تشابهه في الجملة أو بالجملة بالرجوع إلى عقل أو لغة أو طريقة عقلائية يستراح إليها في رفع الشبهات اللفظية.
و قال آخرون: إن معنى أمومة المحكمات رجوع المتشابهات إليها، و كلامهم مختلف في تفسير هذا الرجوع فظاهر بعضهم: أن المراد بالرجوع هو قصر المتشابهات على الإيمان و الاتباع العملي في مواردها للمحكم كالآية المنسوخة يؤمن بها و يرجع في موردها إلى العمل بالناسخة، و هذا القول لا يغاير القول الأول كثير مغايرة، و ظاهر بعض آخر أن معناها كون المحكمات مبينة للمتشابهات، رافعة لتشابهها.
و الحق هو المعنى الثالث، فإن معنى الأمومة الذي تدل عليه قوله: هن أم الكتاب الآية يتضمن عناية زائدة و هو أخص من معنى الأصل الذي فسرت به الأم في القول الأول، فإن في هذه اللفظة.
أعني لفظة الأم عناية بالرجوع الذي فيه انتشاء و اشتقاق و تبعض، فلا تخلو اللفظة عن الدلالة على كون المتشابهات ذات مداليل ترجع و تتفرع على المحكمات، و لازمه كون المحكمات مبينة للمتشابهات.
على أن المتشابه إنما كان متشابها لتشابه مراده لا لكونه ذا تأويل، فإن التأويل كما مر يوجد للمحكم كما يوجد للمتشابه، و القرآن يفسر بعضه بعضا، فللمتشابه مفسر و ليس إلا المحكم، مثال ذلك قوله تعالى: «إلى ربها ناظرة»: القيامة - 23، فإنه آية متشابهة، و بإرجاعها إلى قوله تعالى: «ليس كمثله شيء»: الشورى - 11، و قوله تعالى لا تدركه الأبصار»: الأنعام - 103، يتبين: أن المراد بها نظرة و رؤية من غير سنخ رؤية البصر الحسي، و قد قال تعالى: «ما كذب الفؤاد ما رأى أ فتمارونه على ما يرى إلى أن قال لقد رأى من ءايات ربه الكبرى»: النجم - 18، فأثبت للقلب رؤية تخصه، و ليس هو الفكر فإن الكفر إنما يتعلق بالتصديق و المركب الذهني و الرؤية إنما تتعلق بالمفرد العيني، فيتبين بذلك أنه توجه من القلب ليست بالحسية المادية و لا بالعقلية الذهنية، و الأمر على هذه الوتيرة في سائر المتشابهات.
3 - ما معنى التأويل؟
فسر قوم من المفسرين التأويل بالتفسير و هو المراد من الكلام و إذ كان المراد من بعض الآيات معلوما بالضرورة كان المراد بالتأويل على هذا من قوله تعالى و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية هو المعنى المراد بالآية، المتشابهة، فلا طريق إلى العلم بالآيات المتشابه على هذا القول لغير الله سبحانه أو لغيره و غير الراسخين في العلم.
و قالت طائفة أخرى: إن المراد بالتأويل: هو المعنى المخالف لظاهر اللفظ، و قد شاع هذا المعنى بحيث عاد اللفظ حقيقة ثانية فيه بعد ما كان بحسب اللفظ لمعنى مطلق الإرجاع أو المرجع.
و كيف كان فهذا المعنى هو الشائع عند المتأخرين كما أن المعنى الأول هو الذي كان شائعا بين قدماء المفسرين سواء فيه من كان يقول: إن التأويل لا يعلمه إلا الله، و من كان يقول إن الراسخين في العلم أيضا يعلمونه كما نقل عن ابن عباس أنه كان يقول: أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله.
و ذهب طائفة أخرى: إلى أن التأويل معنى من معاني الآية لا يعلمه إلا الله تعالى، أو لا يعلمه إلا الله و الراسخون في العلم مع عدم كونه خلاف ظاهر اللفظ، فيرجع الأمر إلى أن للآية المتشابهة معاني متعددة بعضها تحت بعض، منها ما هو تحت اللفظ يناله جميع الأفهام، و منها ما هو أبعد منه لا يناله إلا الله سبحانه أو هو تعالى و الراسخون في العلم.
و قد اختلفت أنظارهم في كيفية ارتباط هذه المعاني باللفظ فإن من المتيقن أنها من حيث كونها مرادة من اللفظ ليست في عرض واحد و إلا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد و هو غير جائز على ما بين في محله، فهي لا محالة معان مترتبة في الطول: فقيل: إنها لوازم معنى اللفظ إلا أنها لوازم مترتبة بحيث يكون للفظ معنى مطابقي و له لازم و للازمه لازم و هكذا، و قيل: إنها معان مترتبة بعضها على بعض ترتب الباطن على ظاهره، فإرادة المعنى المعهود المألوف إرادة لمعنى اللفظ و إرادة لباطنه بعين إرادته نفسه كما إنك إذا قلت: اسقني فلا تطلب بذاك إلا السقي و هو بعينه طلب للإرواء، و طلب لرفع الحاجة الوجودية، و طلب للكمال الوجودي و ليس هناك أربعة أوامر و مطالب، بل الطلب الواحد المتعلق بالسقي متعلق بعينه بهذه الأمور التي بعضها في باطن بعض و السقي مرتبط بها و معتمد عليها.
و هاهنا قول رابع: و هو أن التأويل ليس من قبيل المعاني المرادة باللفظ بل هو الأمر العيني الذي يعتمد عليه الكلام، فإن كان الكلام حكما إنشائيا كالأمر و النهي فتأويله المصلحة التي توجب إنشاء الحكم و جعله و تشريعه، فتأويل قوله: أقيموا الصلاة مثلا هو الحالة النورانية الخارجية التي تقوم بنفس المصلي في الخارج فتنهاه عن الفحشاء و المنكر، و إن كان الكلام خبريا فإن كان إخبارا عن الحوادث الماضية كان تأويله نفس الحادثة الواقعة في ظرف الماضي كالآيات المشتملة على أخبار الأنبياء و الأمم الماضية فتأويلها نفس القضايا الواقعة في الماضي، و إن كان إخبارا عن الحوادث و الأمور الحالية و المستقبلة فهو على قسمين: فإما أن يكون المخبر به من الأمور التي تناله الحواس أو تدركه العقول كان أيضا تأويله ما هو في الخارج من القضية الواقعة كقوله تعالى: «و فيكم سماعون لهم»: التوبة - 47، و قوله تعالى: «غلبت الروم في أدنى الأرض و هم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين»: الروم - 4 و إن كان من الأمور المستقبلة الغيبية التي لا تناله حواسنا الدنيوية و لا يدرك حقيقتها عقولنا كالأمور المربوطة بيوم القيامة و وقت الساعة و حشر الأموات و الجمع و السؤال و الحساب و تطاير الكتب، أو كان مما هو خارج من سنخ الزمان و إدراك العقول كحقيقة صفاته و أفعاله تعالى فتأويلها أيضا نفس حقائقها الخارجية.
و الفرق بين هذا القسم أعني الآيات المبينة لحال صفات الله تعالى و أفعاله و ما يلحق بها من أحوال يوم القيامة و نحوها و بين الأقسام الأخر أن الأقسام الأخر يمكن حصول العلم بتأويلها بخلاف هذا القسم، فإنه لا يعلم حقيقة تأويله إلا الله تعالى، نعم يمكن أن يناله الراسخون في العلم بتعليم الله تعالى بعض النيل على قدر ما تسعه عقولهم، و أما حقيقة الأمر الذي هو حق التأويل فهو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.
فهذا هو الذي يتحصل من مذاهبهم في معنى التأويل، و هي أربعة.
و هاهنا أقوال أخر ذكروها هي في الحقيقة من شعب القول الأول و إن تحاشى القائلون بها عن قبوله.
فمن جملتها أن التفسير أعم من التأويل و أكثر استعماله في الألفاظ و مفرداتها و أكثر استعمال التأويل في المعاني و الجمل، و أكثر ما يستعمل التأويل في الكتب الإلهية، و يستعمل التفسير فيها و في غيرها.
و من جملتها: أن التفسير بيان معنى اللفظ الذي لا يحتمل إلا وجها واحدا و التأويل تشخيص أحد محتملات اللفظ بالدليل استنباطا.
و من جملتها: أن التفسير بيان المعنى المقطوع من اللفظ و التأويل ترجيع أحد المحتملات من المعاني غير المقطوع بها، و هو قريب من سابقه.
و من جملتها: أن التفسير بيان دليل المراد و التأويل بيان حقيقة المراد، مثاله: قوله تعالى: إن ربك لبالمرصاد فتفسيره: أن المرصاد مفعال من قولهم: رصد يرصد إذا راقب، و تأويله التحذير عن التهاون بأمر الله و الغفلة عنه.
و من جملتها: أن التفسير بيان المعنى الظاهر من اللفظ و التأويل بيان المعنى المشكل.
و من جملتها: أن التفسير يتعلق بالرواية و التأويل يتعلق بالدراية.
و من جملتها: أن التفسير يتعلق بالاتباع و السماع و التأويل يتعلق بالاستنباط و النظر.
فهذه سبعة أقوال هي في الحقيقة من شعب القول الأول الذي نقلناه، يرد عليها ما يرد عليه و كيف كان فلا يصح الركون إلى شيء من هذه الأقوال الأربعة و ما ينشعب منها.
أما إجمالا: فلأنك قد عرفت: أن المراد بتأويل الآية ليس مفهوما من المفاهيم تدل عليه الآية سواء كان مخالفا لظاهرها أو موافقا، بل هو من قبيل الأمور الخارجية، و لا كل أمر خارجي حتى يكون المصداق الخارجي للخبر تأويلا له، بل أمر خارجي مخصوص نسبته إلى الكلام نسبة الممثل إلى المثل بفتحتين و الباطن إلى الظاهر.
و أما تفصيلا فيرد على القول الأول: أن أقل ما يلزمه أن يكون بعض الآيات القرآنية لا ينال تأويلها أي تفسيرها أي المراد من مداليلها اللفظية عامة الأفهام، و ليس في القرآن آيات كذلك بل القرآن ناطق بأنه إنما أنزل قرآنا ليناله الأفهام، و لا مناص لصاحب هذا القول إلا أن يختار أن الآيات المتشابهة إنما هي فواتح السور من الحروف المقطعة حيث لا ينال معانيها عامة الأفهام، و يرد عليه: أنه لا دليل عليه، و مجرد كون التأويل مشتملا على معنى الرجوع و كون التفسير أيضا غير خال عن معنى الرجوع لا يوجب كون التأويل هو التفسير كما أن الأم مرجع لأولادها و ليست بتأويل لهم، و الرئيس مرجع للمرءوس و ليس بتأويل له.
على أن ابتغاء الفتنة عد في الآية خاصة مستقلة للتشابه و هو يوجد في غير فواتح السور فإن أكثر الفتن المحدثة في الإسلام إنما حدثت باتباع علل الأحكام و آيات الصفات و غيرها.
و أما القول الثاني فيرد عليه: أن لازمه وجود آيات في القرآن أريد بها معان يخالفها ظاهرها الذي يوجب الفتنة في الدين بتنافيه مع المحكمات، و مرجعه إلى أن في القرآن اختلافا بين الآيات لا يرتفع إلا بصرف بعضها عن ظواهرها إلى معان لا يفهمها عامة الأفهام، و هذا يبطل الاحتجاج الذي في قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرءان و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، إذ لو كان ارتفاع اختلاف آية مع آية بأن يقال: إنه أريد بإحداهما أو بهما معا غير ما يدل عليه الظاهر بل معنى تأويلي باصطلاحهم لا يعلمه إلا الله سبحانه مثلا لم تنجح حجة الآية، فإن انتفاء الاختلاف بالتأويل باصطلاحهم في كل مجموع من الكلام و لو كان لغير الله أمر ممكن، و لا دلالة فيه على كونه غير كلام البشر، إذ من الواضح أن كل كلام حتى القطعي الكذب و اللغو يمكن إرجاعه إلى الصدق و الحق بالتأويل و الصرف عن ظاهره، فلا يدل ارتفاع الاختلاف بهذا المعنى عن مجموع كلام على كونه كلام من يتعالى عن اختلاف الأحوال، و تناقض الآراء، و السهو و النسيان و الخطاء و التكامل بمرور الزمان كما هو المعني بالاحتجاج في الآية، فالآية بلسان احتجاجها صريح في أن القرآن معرض لعامة الأفهام، و مسرح للبحث و التأمل و التدبر، و ليس فيه آية أريد بها معنى يخالف ظاهر الكلام العربي و لا أن فيه أحجية و تعمية.
و أما القول الثالث فيرد عليه: أن اشتمال الآيات القرآنية على معان مترتبة بعضها فوق بعض و بعضها تحت بعض مما لا ينكره إلا من حرم نعمة التدبر، إلا أنها جميعا - و خاصة لو قلنا إنها لوازم المعنى - مداليل لفظية مختلفة من حيث الانفهام و ذكاء السامع المتدبر و بلادته، و هذا لا يلائم قوله تعالى في وصف التأويل: و ما يعلم تأويله إلا الله، فإن المعارف العالية و المسائل الدقيقة لا يختلف فيها الأذهان من حيث التقوى و طهارة النفس بل من حيث الحدة و عدمها، و إن كانت التقوى و طهارة النفس معينين في فهم المعارف الطاهرة الإلهية لكن ذلك ليس على نحو الدوران و العلية كما هو ظاهر قوله و ما يعلم تأويله إلا الله.
و أما القول الرابع فيرد عليه: أنه و إن أصاب في بعض كلامه لكنه أخطأ في بعضه الآخر فإنه و إن أصاب في القول بأن التأويل لا يختص بالمتشابه بل يوجد لجميع القرآن، و أن التأويل ليس من سنخ المدلول اللفظي بل هو أمر خارجي يبتني عليه الكلام لكنه أخطأ في عد كل أمر خارجي مرتبط بمضمون الكلام حتى مصاديق الأخبار الحاكية عن الحوادث الماضية و المستقبلة تأويلا للكلام، و في حصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و آيات القيامة.
توضيحه: أن المراد حينئذ من التأويل في قوله تعالى: و ابتغاء تأويله «الخ» إما أن يكون تأويل القرآن برجوع ضميره إلى الكتاب فلا يستقيم قوله: و ما يعلم تأويله إلا الله «الخ» فإن كثيرا من تأويل القرآن و هو تأويلات القصص بل الأحكام أيضا و آيات الأخلاق مما يمكن أن يعلمه غيره تعالى و غير الراسخين في العلم من الناس حتى الزائغون قلبا على قوله فإن الحوادث التي تدل عليها آيات القصص يتساوى في إدراكها جميع الناس من غير أن يحرم عنه بعضهم، و كذا الحقائق الخلقية و المصالح التي يوجدها العمل بالأحكام من العبادات و المعاملات و سائر الأمور المشرعة.
و إن كان المراد بالتأويل فيه تأويل المتشابه فقط استقام الحصر في قوله: و ما يعلم تأويله إلا الله الخ، و أفاد أن غيره تعالى و غير الراسخين في العلم مثلا لا ينبغي لهم ابتغاء تأويل المتشابه، و هو يؤدي إلى الفتنة و إضلال الناس لكن لا وجه لحصر المتشابه الذي لا يعلم تأويله في آيات الصفات و القيامة فإن الفتنة و الضلال كما يوجد في تأويلها يوجد في تأويل غيرها من آيات الأحكام و القصص و غيرهما كأن يقول القائل و قد قيل إن المراد من تشريع الأحكام إحياء الاجتماع الإنساني بإصلاح شأنه بما ينطبق على الصلاح، فلو فرض أن صلاح المجتمع في غير الحكم المشرع، أو أنه لا ينطبق على صلاح الوقت وجب اتباعه و إلغاء الحكم الديني المشرع.
و كأن يقول القائل و قد قيل إن المراد من كرامات الأنبياء المنقولة في القرآن أمور عادية، و إنما نقل بألفاظ ظاهرها خلاف العادة لصلاح استمالة قلوب العامة لانجذاب نفوسهم و خضوع قلوبهم لما يتخيلونه خارقا للعادة قاهرا لقوانين الطبيعة.
و يوجد في المذاهب المنشعبة المحدثة في الإسلام شيء كثير من هذه الأقاويل، و جميعها من التأويل في القرآن ابتغاء للفتنة بلا شك، فلا وجه لقصر المتشابه على آيات الصفات و آيات القيامة.
إذا عرفت ما مر علمت: أن الحق في تفسير التأويل أنه الحقيقة الواقعية التي تستند إليها البيانات القرآنية من حكم أو موعظة أو حكمة، و أنه موجود لجميع الآيات القرآنية: محكمها و متشابهها، و أنه ليس من قبيل المفاهيم المدلول عليها بالألفاظ بل هي من الأمور العينية المتعالية من أن يحيط بها شبكات الألفاظ، و إنما قيدها الله سبحانه بقيد الألفاظ لتقريبها من أذهاننا بعض التقريب فهي كالأمثال تضرب ليقرب بها المقاصد و توضح بحسب ما يناسب فهم السامع كما قال تعالى: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف - 4 و في القرآن تصريحات و تلويحات بهذا المعنى.
على أنك قد عرفت فيما مر من البيان أن القرآن لم يستعمل لفظ التأويل في الموارد التي - استعملها و هي ستة عشر موردا على ما عدت - إلا في المعنى الذي ذكرناه.
4 - هل يعلم تأويل القرآن غير الله سبحانه
هذه المسألة أيضا من موارد الخلاف الشديد بين المفسرين، و منشؤه الخلاف الواقع بينهم في تفسير قوله تعالى: و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية، و أن الواو هل هو للعطف أو للاستيناف، فذهب بعض القدماء و الشافعية و معظم المفسرين من الشيعة إلى أن الواو للعطف و أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه من القرآن، و ذهب معظم القدماء و الحنفية من أهل السنة إلى أنه للاستيناف و أنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله و هو مما استأثر الله سبحانه بعلمه.
و قد استدلت الطائفة الأولى على مذهبها بوجوه كثيرة، و ببعض الروايات.
و الطائفة الثانية بوجوه أخر و عدة من الروايات الواردة في أن تأويل المتشابهات مما استأثر الله سبحانه بعلمه و تمادت كل طائفة في مناقضة صاحبتها و المعارضة مع حججها.
و الذين ينبغي أن يتنبه له الباحث في المقام أن المسألة لم تخل عن الخلط و الاشتباه من أول ما دارت بينهم و وقعت موردا للبحث و التنقير، فاختلط رجوع المتشابه إلى المحكم.
و بعبارة أخرى المعنى المراد من المتشابه بتأويل الآية كما ينبىء به ما عنونا به المسألة و قررنا عليه الخلاف و قول كل من الطرفين آنفا.
و لذلك تركنا التعرض لنقل حجج الطرفين لعدم الجدوى في إثباتها أو نفيها بعد ابتنائها على الخلط و أما الروايات فإنها مخالفة لظاهر الكتاب فإن الروايات المثبتة، أعني الدالة على أن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فإنها أخذت التأويل مرادفا للمعنى المراد من لفظ المتشابه و لا تأويل في القرآن بهذا المعنى.
كما روي من طرق أهل السنة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا لابن عباس فقال: اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل، و ما روي من قول ابن عباس: أنا من الراسخين في العلم و أنا أعلم تأويله، و من قوله: إن المحكمات هي الآيات الناسخة و المتشابهات هي المنسوخة فإن لازم هذه الروايات على ما فهموه أن يكون معنى الآية المحكمة تأويلا للآية المتشابهة و هو الذي أشرنا إليه أن التأويل بهذا المعنى ليس موردا لنظر الآية.
و أما الروايات النافية أعني الدالة على أن غيره لا يعلم تأويل المتشابهات مثل ما روي: أن ابن عباس كان يقرأ: و ما يعلم تأويله إلا الله و يقول الراسخون في العلم آمنا به و كذلك كان يقرأ أبي بن كعب.
و ما روي أن ابن مسعود كان يقرأ: و إن تأويله إلا عند الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به، فهذه لا تصلح لإثبات شيء: أما أولا: فلأن هذه القراءات لا حجية فيها و أما ثانيا: فلأن غاية دلالتها أن الآية لا تدل على علم الراسخين في العلم بالتأويل و عدم دلالة الآية عليه غير دلالتها على عدمه كما هو المدعى فمن الممكن أن يدل عليه دليل آخر.
و مثل ما في الدر المنثور، عن الطبراني عن أبي مالك الأشعري أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا أخاف على أمتي إلا ثلاث خصال أن يكثر لهم المال فيتحاسدوا فيقتلوا، و أن يفتح لهم الكتاب فيأخذه المؤمن يبتغي تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله - و الراسخون في العلم يقولون آمنا به - كل من عند ربنا و ما يذكر إلا أولوا الألباب، و أن يكثر علمهم فيضيعونه و لا يبالون به.
و هذا الحديث على تقدير دلالته على النفي لا يدل إلا على نفيه عن مطلق المؤمن لا عن خصوص الراسخين في العلم و لا ينفع المستدل إلا الثاني.
و مثل الروايات الدالة على وجوب اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه.
و عدم دلالتها على النفي مما لا يرتاب فيه.
و مثل ما في تفسير الآلوسي، عن ابن جرير عن ابن عباس مرفوعا: أنزل القرآن على أربعة أحرف: حلال و حرام لا يعذر أحد بجهالته، و تفسير تفسره العلماء، و متشابه لا يعلمه إلا الله، و من ادعى علمه سوى الله تعالى فهو كاذب.
و الحديث مع كونه مرفوعا و معارضا بما نقل عنه من دعوة الرسول له و ادعائه العلم به لنفسه مخالف لظاهر القرآن: أن التأويل غير المعنى المراد بالمتشابه على ما عرفت فيما مر.
و الذي ينبغي أن يقال: أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى، و أما هذه الآية فلا دلالة لها على ذلك.
أما الجهة الثانية فلما مر في البيان السابق: أن الآية بقرينة صدرها و ذيلها و ما تتلوها من الآيات إنما هي في مقام بيان انقسام الكتاب إلى المحكم و المتشابه، و تفرق الناس في الأخذ بها فهم بين مائل إلى اتباع المتشابه لزيغ في قلبه و ثابت على اتباع المحكم و الإيمان بالمتشابه لرسوخ في علمه، فإنما القصد الأول في ذكر الراسخين في العلم بيان حالهم و طريقتهم في الأخذ بالقرآن و مدحهم فيه قبال ما ذكر من حال الزائغين و طريقتهم و ذمهم، و الزائد على هذا القدر خارج عن القصد الأول و لا دليل على تشريكهم في العلم بالتأويل مع ذلك إلا وجوه غير تامة تقدمت الإشارة، إليها فيبقى الحصر المدلول عليه بقوله تعالى: و ما يعلم تأويله إلا الله من غير ناقض ينقضه من عطف و استثناء و غير ذلك.
فالذي تدل عليه الآية هو انحصار العلم بالتأويل فيه تعالى و اختصاصه به.
لكنه لا ينافي دلالة دليل منفصل يدل على علم غيره تعالى به بإذنه كما في نظائره مثل العلم بالغيب قال تعالى قل لا يعلم من في السموات و الأرض الغيب إلا الله»: النمل - 65، و قال تعالى: «إنما الغيب لله: يونس - 20، و قال تعالى: و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو»: الأنعام - 59، فدل جميع ذلك على الحصر ثم قال تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول: الجن - 27، فأثبت ذلك لبعض من هو غيره و هو من ارتضى من رسول، و لذلك نظائر في القرآن.
و أما الجهة الأولى - و هي أن القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى في الجملة - فبيانه: أن الآيات كما عرفت تدل على أن تأويل الآية أمر خارجي نسبته إلى مدلول الآية نسبة الممثل إلى المثل، فهو و إن لم يكن مدلولا للآية بما لها من الدلالة لكنه محكي لها محفوظ فيها نوعا من الحكاية و الحفظ، نظير قولك: «في الصيف ضيعت اللبن» لمن أراد أمرا قد فوت أسبابه من قبل، فإن المفهوم المدلول عليه بلفظ المثل و هو تضييع المرأة اللبن في الصيف لا ينطبق شيء منه على المورد، و هو مع ذلك ممثل لحال المخاطب حافظ له يصوره في الذهن بصورة مضمنة في الصورة التي يعطيها الكلام بمدلوله.
كذلك أمر التأويل فالحقيقة الخارجية التي توجب تشريع حكم من الأحكام أو بيان معرفة من المعارف الإلهية أو وقوع حادثة هي مضمون قصة من القصص القرآنية و إن لم تكن أمرا يدل عليه بالمطابقة نفس الأمر و النهي أو البيان أو الواقعة الكذائية إلا أن الحكم أو البيان أو الحادثة لما كان كل منها ينتشي منها و يظهر بها فهو أثرها الحاكي لها بنحو من الحكاية و الإشارة كما أن قول السيد لخادمه، اسقني ينتشي عن اقتضاء الطبيعة الإنسانية لكمالها، فإن هذه الحقيقة الخارجية هي التي تقتضي حفظ الوجود و البقاء، و هو يقتضي بدل ما يتحلل من البدن، و هو يقتضي الغذاء اللازم، و هو يقتضي الري، و هو يقتضي الأمر بالسقي مثلا، فتأويل قوله: اسقني هو ما عليه الطبيعة الخارجية الإنسانية من اقتضاء الكمال في وجوده و بقائه، و لو تبدلت هذه الحقيقة الخارجية إلى شيء آخر يباين الأول مثلا لتبدل الحكم الذي هو الأمر بالسقي إلى حكم آخر و كذا الفعل الذي يعرف فيفعل أو ينكر فيجتنب في واحد من المجتمعات الإنسانية على اختلافها الفاحش في الآداب و الرسوم إنما يرتضع من ثدي الحسن و القبح الذي عندهم و هو يستند إلى مجموعة متحدة متفقة من علل زمانية و مكانية و سوابق عادات و رسوم مرتكزة في ذهن الفاعل بالوراثة ممن سبقه و تكرر المشاهدة ممن شاهده من أهل منطقته، فهذه العلة المؤتلفة الأجزاء هي تأويل فعله أو تركه من غير أن تكون عين فعله أو تركه لكنها محكية مضمنة محفوظة بالفعل أو الترك، و لو فرض تبدل المحيط الاجتماعي لتبدل ما أتي به من الفعل أو الترك.
فالأمر الذي له التأويل سواء كان حكما أو قصة أو حادثة يتغير بتغير التأويل لا محالة، و لذلك ترى أنه تعالى في قوله: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية، لما ذكر اتباع أهل الزيغ ما ليس بمراد من المتشابه ابتغاء للفتنة ذكر أنهم بذلك يبتغون تأويله الذي ليس بتأويل له و ليس إلا لأن التأويل الذي يأخذون به لو كان هو التأويل الحقيقي لكان اتباعهم للمتشابه اتباعا حقا غير مذموم و تبدل الأمر الذي يدل عليه المحكم و هو المراد من المتشابه إلى المعنى غير المراد الذي فهموه من المتشابه و اتبعوه.
فقد تبين: أن تأويل القرآن حقائق خارجية تستند إليه آيات القرآن في معارفها و شرائعها و سائر ما بينته بحيث لو فرض تغير شيء من تلك الحقائق انقلب ما في الآيات من المضامين.
و إذا أجدت التدبر وجدت أن هذا ينطبق تمام الانطباق على قوله تعالى: و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف - 4، فإنه يدل على أن القرآن النازل كان عند الله أمرا أعلى و أحكم من أن يناله العقول أو يعرضه التقطع و التفصل لكنه تعالى عناية بعباده جعله كتابا مقررا و ألبسه لباس العربية لعلهم يعقلون ما لا سبيل لهم إلى عقله و معرفته ما دام في أم الكتاب، و أم الكتاب هذا هو المدلول عليه بقوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب»: الرعد - 39، و بقوله: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج - 22.
و يدل على إجمال مضمون الآية أيضا قوله تعالى: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود - 1، فالإحكام كونه عند الله بحيث لا ثلمة فيه و لا فصل، و التفصيل هو جعله فصلا فصلا و آية آية و تنزيله على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و يدل على هذه المرتبة الثانية التي تستند إلى الأولى قوله تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا»: إسراء - 106، فقد كان القرآن غير مفروق الآيات ثم فرق و نزل تنزيلا و أوحي نجوما.
و ليس المراد بذلك أنه كان مجموع الآيات مرتب السور على حال الذي هو عليه الآن عندنا كتابا مؤلفا مجموعا بين الدفتين مثلا ثم فرق و أنزل على النبي نجوما ليقرأه على الناس على مكث كما يفرقه المعلم المقرىء منا قطعات ثم يعلمه و يقريه متعلمه كل يوم قطعة على حسب استعداد ذهنه.
و ذلك أن بين إنزال القرآن نجوما على النبي و بين إلقائه قطعة قطعة على المتعلم فرقا بينا و هو دخالة أسباب النزول في نزول الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا شيء من ذلك و لا ما يشبهه في تعلم المتعلم فالقطعات المختلفة الملقاة إلى المتعلم في أزمنة مختلفة يمكن أن تجمع و ينضم بعضها إلى بعض في زمان واحد، و لا يمكن أن تجمع أمثال قوله تعالى: «فاعف عنهم و اصفح»: المائدة - 13، و قوله تعالى: «قاتلوا الذين يلونكم من الكفار»: التوبة - 123، و قوله تعالى: «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها»: المجادلة - 1، و قوله تعالى: «خذ من أموالهم صدقة»: التوبة - 103، و نحو ذلك فيلغى سبب النزول و زمانها ثم يفرض نزولها في أول البعثة أو في آخر زمان حيوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمراد بالقرآن في قوله: و قرآنا فرقناه غير القرآن بمعنى الآيات المؤلفة.
و بالجملة فالمحصل من الآيات الشريفة أن وراء ما نقرؤه و نعقله من القرآن أمرا هو من القرآن بمنزلة الروح من الجسد و المتمثل من المثال - و هو الذي يسميه تعالى بالكتاب الحكيم - و هو الذي تعتمد و تتكي عليه معارف القرآن المنزل و مضامينه، و ليس من سنخ الألفاظ المفرقة المقطعة و لا المعاني المدلول عليها بها، و هذا بعينه هو التأويل المذكور في الآيات المشتملة عليه لانطباق أوصافه و نعوته عليه.
و بذلك يظهر حقيقة معنى التأويل، و يظهر سبب امتناع التأويل عن أن تمسه الأفهام العادية و النفوس غير المطهرة.
ثم إنه تعالى قال: «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون»: الواقعة - 79، و لا شبهة في ظهور الآيات في أن المطهرين من عباد الله هم يمسون القرآن الكريم الذي في الكتاب المكنون و المحفوظ من التغير، و من التغير تصرف الأذهان بالورود عليه و الصدور منه و ليس هذا المس إلا نيل الفهم و العلم، و من المعلوم أيضا: أن الكتاب المكنون هذا هو أم الكتاب المدلول عليه بقوله: يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب، و هو المذكور في قوله: و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم.
و هؤلاء قوم نزلت الطهارة في قلوبهم، و ليس ينزلها إلا الله سبحانه، فإنه تعالى لم يذكرها إلا كذلك أي منسوبة إلى نفسه كقوله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت و يطهركم تطهيرا»: الأحزاب - 33، و قوله تعالى: «و لكن يريد ليطهركم»: المائدة - 6، و ما في القرآن شيء من الطهارة المعنوية إلا منسوبة إلى الله أو بإذنه، و ليست الطهارة إلا زوال الرجس من القلب، و ليس القلب من الإنسان إلا ما يدرك به و يريد به، فطهارة القلب طهارة نفس الإنسان في اعتقادها و إرادتها و زوال الرجس عن هاتين الجهتين، و يرجع إلى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة من غير ميلان إلى الشك و نوسان بين الحق و الباطل، و ثباته على لوازم ما علمه من الحق من غير تمايل إلى اتباع الهوى و نقض ميثاق العلم و هذا هو الرسوخ في العلم فإن الله سبحانه ما وصف الراسخين في العلم إلا بأنهم مهديون ثابتون على ما علموا غير زائغة قلوبهم إلى ابتغاء الفتنة، فقد ظهر أن هؤلاء المطهرين راسخون في العلم، هذا.
و لكن ينبغي أن لا تشتبه النتيجة التي ينتجها هذا البيان، فإن المقدار الثابت بذلك أن المطهرين يعلمون التأويل، و لازم تطهيرهم أن يكونوا راسخين في علومهم، لما أن تطهير قلوبهم منسوب إلى الله و هو تعالى سبب غير مغلوب، لا أن الراسخين في العلم يعلمونه بما أنهم راسخون في العلم أي إن الرسوخ في العلم سبب للعلم، بالتأويل فإن الآية لا تثبت ذلك، بل ربما لاح من سياقها جهلهم بالتأويل حيث قال تعالى: يقولون آمنا به كل من عند ربنا الآية، و قد وصف الله تعالى رجالا من أهل الكتاب برسوخ العلم و مدحهم بذلك، و شكرهم على الإيمان و العمل الصالح في قوله: «لكن الراسخون في العلم منهم و المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك» الآية: النساء - 162، و لم يثبت مع ذلك كونهم عالمين بتأويل الكتاب.
و كذلك إن الآية أعني قوله تعالى: لا يمسه إلا المطهرون لم تثبت للمطهرين إلا مس الكتاب في الجملة، و أما أنهم يعلمون كل التأويل و لا يجهلون شيئا منه و لا في وقت فهي ساكتة عن ذلك، و لو ثبت لثبت بدليل منفصل.
5 - ما هو السبب في اشتمال الكتاب على المتشابه؟
و من الاعتراضات التي أوردت على القرآن الكريم الاعتراض باشتماله على المتشابهات و هو أنكم تدعون أن تكاليف الخلق إلى يوم القيامة فيه، و أنه قول فصل يميز بين الحق و الباطل، ثم إنا نراه يتمسك به كل صاحب مذهب من المذاهب المختلفة بين المسلمين لإثبات مذهبه، و ليس ذلك إلا لوقوع التشابه في آياته، أ فليس أنه لو جعله جليا نقيا عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى الغرض المطلوب، و أقطع لمادة الخلاف و الزيغ؟.
و أجيب عنه بوجوه من الجواب بعضها ظاهر السخافة كالجواب بأن وجود المتشابهات يوجب صعوبة تحصيل الحق و مشقة البحث و ذلك موجب لمزيد الأجر و الثواب! و كالجواب بأنه لو لم يشتمل إلا على صريح القول في مذهب لنفر ذلك سائر أرباب المذاهب فلم ينظروا فيه، لكنه لوجود التشابه فيه أطمعهم في النظر فيه و كان في ذلك رجاء أن يظفروا بالحق فيؤمنوا به! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب الاستعانة بدلالة العقل، و في ذلك خروج عن ظلمة التقليد و دخول في ضوء النظر و الاجتهاد! و كالجواب بأن اشتماله على المتشابه أوجب البحث عن طرق التأويلات المختلفة، و في ذلك فائدة التضلع بالفنون المختلفة كعلم اللغة و الصرف و النحو و أصول الفقه!.
فهذه أجوبة سخيفة ظاهرة السخافة بأدنى نظر و الذي يستحق الإيراد و البحث من الأجوبة وجوه ثلاثة: الأول: أن اشتمال القرآن الكريم على المتشابهات لتمحيص القلوب في التصديق به، فإنه لو كان كل ما ورد في الكتاب معقولا واضحا لا شبهة فيه عند أحد لما كان في الإيمان شيء من معنى الخضوع لأمر الله تعالى و التسليم لرسله.
و فيه: أن الخضوع هو نوع انفعال و تأثر من الضعيف في مقابل القوي، و الإنسان إنما يخضع لما يدرك عظمته أو لما لا يدركه لعظمته و بهورة الإدراك كقدرة الله غير المتناهية و عظمته غير المتناهية و سائر صفاته التي إذا واجهها العقل رجع القهقرى لعجزه عن الإحاطة بها، و أما الأمور التي لا ينالها العقل لكنه يغتر و يغادر باعتقاد أنه يدركها فما معنى خضوعه لها؟ كالآيات المتشابهة التي يتشابه أمرها على العقل فيحسب أنه يعقلها و هو لا يعقل.
الثاني: أن اشتماله على المتشابه إنما هو لبعث العقل على البحث و التنقير، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان.
و فيه: أن الله تعالى أمر الناس بإعمال العقل و الفكر في الآيات الآفاقية و الأنفسية إجمالا في موارد من كلامه، و تفصيلا في موارد أخرى كخلق السماوات و الأرض و الجبال و الشجر و الدواب و الإنسان و اختلاف ألسنته و ألوانه، و ندب إلى التعقل و التفكر و السير في الأرض و النظر في أحوال الماضين، و حرض على العقل و الفكر، و مدح العلم بأبلغ المدح و في ذلك غنى عن البحث في أمور ليس إلا مزالق للأقدام و مصارع للأفهام.
الثالث: أن الأنبياء بعثوا إلى الناس و فيهم العامة و الخاصة، و الذكي و البليد و العالم و الجاهل، و كان من المعاني ما لا يمكن التعبير عنه بعبارة تكشف عن حقيقته و تشرح كنهه بحيث يفهمه الجميع على السواء، فالحري في أمثال هذه المعاني أن تلقى بحيث يفهمه الخاصة و لو بطريق الكناية و التعريض و يؤمر العامة فيها بالتسليم و تفويض الأمر إلى الله تعالى.
و فيه: أن الكتاب كما يشتمل على المتشابهات كذلك يشتمل على المحكمات التي تبين المتشابهات بالرجوع إليها، و لازم ذلك أن لا تتضمن المتشابهات أزيد مما يكشف عنها المحكمات، و عند ذلك يبقى السؤال و هو أنه ما فائدة وجود المتشابهات في الكتاب و لا حاجة إليها مع وجود المحكمات؟ على حاله، و منشأ الاشتباه أن المجيب أخذ المعاني نوعين متباينين: معان يفهمها جميع المخاطبين من العامة و الخاصة و هي مداليل المحكمات، و معان سنخها بحيث لا يتلقاها إلا الخاصة من المعارف العالية و الحكم الدقيقة، فصار بذلك المتشابهات لا ترجع معانيها إلى المحكمات، و قد مر أن ذلك مخالف لمنطوق الآيات الدالة على أن القرآن يفسر بعضه بعضا و غير ذلك.
و الذي ينبغي أن يقال: أن وجود المتشابه في القرآن ضروري ناش عن وجود التأويل الموجب لتفسير بعضه بعضا بالمعنى الذي أوضحناه للتأويل فيما مر.
و يتضح ذلك بعض الاتضاح بإجادة التدبر في جهات البيان القرآني و التعليم الإلهي و الأمور التي بنيت عليها معارفه و الغرض الأقصى من ذلك و هي أمور: منها: أن الله سبحانه ذكر أن لكتابه تأويلا هو الذي تدور مداره المعارف القرآنية و الأحكام و القوانين و سائر ما يتضمنه التعليم الإلهي، و أن هذا التأويل الذي تستقبله و تتوجه إليه جميع هذه البيانات أمر يقصر عن نيله الأفهام و تسقط دون الارتقاء إليه العقول إلا نفوس طهرهم الله و أزال عنهم الرجس، فإن لهم خاصة أن يمسوه.
و هذا غاية ما يريده تعالى من الإنسان المجيب لدعوته في ناحية العلم أن يهتدي إلى علم كتابه الذي هو تبيان كل شيء، و مفتاحه التطهير الإلهي، و قد قال تعالى: «ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج و لكن يريد ليطهركم»: المائدة - 7، فجعل الغاية لتشريع الدين هي التطهير الإلهي.
و هذا الكمال الإنساني كسائر الكمالات المندوب إليها لا يظفر بكمالها إلا أفراد خاصة، و إن كانت الدعوة متعلقه بالجميع متوجهة إلى الكل، فتربية الناس بالتربية الدينية إنما تثمر كمال التطهير في أفراد خاصة و بعض التطهير في آخرين، و يختلف ذلك باختلاف درجات الناس، كما أن الإسلام يدعو إلى حق التقوى في العمل.
قال تعالى: «اتقوا الله حق تقاته»: آل عمران - 102، و لكن لا يحصل كماله إلا في أفراد و فيمن دونهم دون ذلك على طريق الأمثل فالأمثل، كل ذلك لاختلاف الناس في طبائعهم و أفهامهم، و هكذا جميع الكمالات الاجتماعية من حيث التربية و الدعوة، يدعو داعي الاجتماع إلى الدرجة القصوى من كل كمال كالعلم و الصنعة و الثروة و الراحة و غيرها لكن لا ينالها إلا البعض، و من دونه ما دونها على اختلاف مراتب الاستعدادات.
و بالحقيقة أمثال هذه الغايات ينالها المجتمع من غير تخلف دون كل فرد منه.
و منها: أن القرآن قطع بأن الطريق الوحيد إلى إيصال الإنسان إلى هذه الغاية الشريفة تعريف نفس الإنسان لنفسه بتربيته في ناحيتي العلم و العمل: أما في ناحية العلم فبتعليمه الحقائق المربوطة به من المبدإ و المعاد و ما بينهما من حقائق العالم حتى يعرف نفسه بما ترتبطه به من الواقعيات معرفة حقيقية و أما في ناحية العمل فبتحميل قوانين اجتماعية عليه بحيث تصلح شأن حيوته الاجتماعية، و لا تشغله عن التخلص إلى عالم العلم و العرفان، ثم بتحميل تكاليف عبادية يوجب العمل بها و المزاولة عليها توجه نفسه، و خلوص قلبه إلى المبدإ و المعاد، و إشرافه على عالم المعنى و الطهارة، و التجنب عن قذارة الماديات و ثقلها.
و أنت إذا أحسنت التدبر في قوله تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الفاطر - 10، و ضممته إلى ما سمعت إجماله في قوله تعالى: و لكن يريد ليطهركم الآية، و إلى قوله تعالى: «عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم»: المائدة - 105، و قوله تعالى: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة - 11، و ما يشابهه من الآيات اتضح لك الغرض الإلهي في تشريع الدين و هداية الإنسان إليه، و السبيل الذي سلكه لذلك فافهم.
و يتفرع على هذا البيان نتيجة مهمة: هي أن القوانين الاجتماعية في الإسلام مقدمة للتكاليف العبادية مقصودة لأجلها، و التكاليف العبادية مقدمة للمعرفة بالله و بآياته، فأدنى الإخلال أو التحريف أو التغيير في الأحكام الاجتماعية من الإسلام يوجب فساد العبودية و فساد العبودية يؤدي إلى اختلال أمر المعرفة.
و هذه النتيجة - على أنها واضحة التفرع على البيان - تؤيدها التجربة أيضا: فإنك إذا تأملت جريان الأمر في طروق الفساد في شئون الدين الإسلامي بين هذه الأمة و أمعنت النظر فيه: من أين شرع و في أين ختم وجدت أن الفتنة ابتدأت من الاجتماعيات ثم توسطت في العباديات ثم انتهت إلى رفض المعارف.
و قد ذكرناك فيما مر: أن الفتنة شرعت باتباع المتشابهات و ابتغاء تأويلها، و لم يزل الأمر على ذلك حتى اليوم.
و منها: أن الهداية الدينية إنما بنيت على نفي التقليد عن الناس و ركوز العلم بينهم ما استطيع، فإن ذلك هو الموافق لغايتها التي هي المعرفة، و كيف لا؟ و لا يوجد بين كتب الوحي كتاب، و لا بين الأديان دين يعظمان من أمر العلم و يحرضان عليه بمثل ما جاء به القرآن و الإسلام.
و هذا المعنى هو الموجب لأن يبين الكتاب للإنسان حقائق المعارف أولا، و ارتباط ما شرعه له من الأحكام العملية بتلك الحقائق ثانيا، و بعبارة أخرى أن يفهمه أنه موجود مخلوق لله تعالى خلقه بيده و وسط في خلقه و بقائه ملائكته و سائر خلقه من سماء و أرض و نبات و حيوان و مكان و زمان و ما عداها، و أنه سائر إلى معاده و ميعاده سيرا اضطراريا، و كادح إلى ربه كدحا فملاقيه ثم يجزى جزاء ما عمله، أيما إلى جنة، أيما إلى نار فهذه طائفة من المعارف.
ثم يفهمه أن الأعمال التي تؤديه إلى سعادة الجنة ما هي، و ما تؤديه إلى شقوة النار ما هي؟ أي يبين له الأحكام العبادية و القوانين الاجتماعية، و هذه طائفة أخرى.
ثم يبين له: أن هذه الأحكام و القوانين مؤدية إلى السعادة أي يفهمه: أن هذه الطائفة الثانية مرتبطة بالطائفة الأولى، و أن تشريعها و جعلها للإنسان إنما هو لمراعاة سعادته لاشتمالها على خير الإنسان في الدنيا و الآخرة، و هذه طائفة ثالثة.
و ظاهر عندك أن الطائفة الثانية بمنزلة المقدمة، و الطائفة الأولى بمنزلة النتيجة، و الطائفة الثالثة بمنزلة الرابط الذي يربط الثانية بالأولى، و دلالة الآيات على كل واحدة من هذه الطوائف المذكورة واضحة و لا حاجة إلى إيرادها.
و منها: أنه لما كانت عامة الناس لا يتجاوز فهمهم المحسوس و لا يرقى عقلهم إلى ما فوق عالم المادة و الطبيعة، و كان من ارتقى فهمه منهم بالارتياضات العلمية إلى الورود في إدراك المعاني و كليات القواعد و القوانين يختلف أمره باختلاف الوسائل التي يسرت له الورود في عالم المعاني و الكليات كان ذلك موجبا لاختلاف الناس في فهم المعاني الخارجة عن الحس و المحسوس اختلافا شديدا ذا عرض عريض على مراتب مختلفة، و هذا أمر لا ينكره أحد.
و لا يمكن إلقاء معنى من المعاني إلى إنسان إلا من طريق معلوماته الذهنية التي تهيأت عنده في خلال حيوته و عيشته، فإن كان مأنوسا بالحس فمن طريق المحسوسات على قدر ما رقى إليه من مدارج الحس كما يمثل لذة النكاح للصبي بحلاوة الحلواء، و إن كان نائلا للمعاني الكلية فبما نال، و على قدر ما نال و هذا ينال المعاني من البيان الحسي و العقلي معا بخلاف المأنوس بالحس.
ثم إن الهداية الدينية لا تختص بطائفة دون طائفة من الناس بل تعم جميع الطوائف و تشمل عامة الطبقات و هو ظاهر.
و هذا المعنى أعني اختلاف الأفهام و عموم أمر الهداية مع ما عرفت من وجود التأويل للقرآن هو الموجب أن يساق البيانات مساق الأمثال، و هو أن يتخذ ما يعرفه الإنسان و يعهده ذهنه من المعاني فيبين به ما لا يعرفه لمناسبة ما بينهما نظير توزين المتاع بالمثاقيل و لا مسانخة بينهما في شكل أو صورة أو حجم أو نوع إلا ما بينهما من المناسبة وزنا.
و الآيات القرآنية المذكورة سابقا كقوله تعالى: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف - 4، و ما يشابهه من الآيات و إن بينت هذا الأمر بطريق الإشارة و الكناية، لكن القرآن لم يكتف بذلك دون أن بينه بما ضربه مثلا في أمر الحق و الباطل فقال تعالى: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق و الباطل، فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال»: الرعد - 17، فبين أن حكم المثل جار في أفعاله تعالى كما هو جار في أقواله، ففعله تعالى كقوله الحق إنما قصد منهما الحق الذي يحويانه و يصاحب كلا منهما أمور غير مقصودة و لا نافعة يعلوهما و يربوهما لكنها ستزول و تبطل، و يبقى الحق الذي ينفع الناس، و إنما يزول و يزهق بحق آخر هو مثله، و هذا كالآية المتشابهة تتضمن من المعنى حقا مقصودا، و يصاحبه و يعلو عليه بالاستباق إلى الذهن معنى آخر باطل غير مقصود، لكنه سيزول بحق آخر يظهر الحق الأول على الباطل الذي كان يعلوه، ليحق الحق بكلماته و يبطل الباطل و لو كره المجرمون، و الكلام في انطباق هذا المثل على أفعاله الخارجية المتقررة في عالم الكون كالكلام في أقواله عز من قائل.
و بالجملة: المتحصل من الآية الشريفة: أن المعارف الحقة الإلهية كالماء الذي أنزله الله تعالى من السماء هي في نفسها ماء فحسب، من غير تقييد بكمية و لا كيفية، ثم إنها كالسيل السائل في الأودية تتقدر بأقدار مختلفة من حيث السعة و الضيق، و هذه الأقدار أمور ثابتة كل في محله كالحال في أصول المعارف و الأحكام التشريعية، و مصالح الأحكام التي ذكرنا فيما مر أنها روابط تربط الأحكام بالمعارف الحقة.
و هذا حكمها في نفسها مع قطع النظر عن البيان اللفظي.
و هي في مسيرها ربما صحبت ما هو كالزبد يظهر ظهورا ثم يسرع في الزوال و ذلك كالأحكام المنسوخة التي تنسخه النواسخ من الآيات، فإن المنسوخ مقتضى ظاهر طباعه أن يدوم لكن الحكم الناسخ يبطل دوامه و يضع مكانه حكما آخر.
هذا بالنظر إلى نفس هذه المعارف مع قطع النظر عن ورودها في وادي البيان اللفظي.
و أما المعارف الحقة من حيث كونها واردة في ظرف اللفظ و الدلالة فإنها بورودها أودية الدلالات اللفظية تتقدر بأقدارها، تتشكل بأشكال المرادات الكلامية بعد إطلاقها، و هذه أقوال ثابتة من حيث مراد المتكلم بكلامه إلا أنها مع ذلك أمثال يمثل بها أصل المعنى المطلق غير المتقدر، ثم إنها بمرورها في الأذهان المختلفة تحمل معاني غير مقصودة كالزبد في السيل، لأن الأذهان من جهة ما تخزنه من المرتكزات و المألوفات تتصرف في المعاني الملقاة إليها، و جل هذا التصرف إنما هو في المعاني غير المألوفة كالمعارف الأصلية، و مصالح الأحكام و ملاكاتها كما مر، و أما الأحكام و القوانين فلا تصرف فيها مع قطع النظر عن ملاكاتها فإنها مألوفة، و من هنا يظهر أن المتشابهات إنما هي الآيات من حيث اشتمالها على الملاكات و المعارف، دون متن الأحكام و القوانين الدينية.
و منها: أنه تحصل من البيان السابق أن البيانات اللفظية القرآنية أمثال للمعارف الحقة الإلهية لأن البيان نزل في هذه الآيات إلى سطح الأفهام العامة التي لا تدرك إلا الحسيات و لا تنال المعاني الكلية إلا في قالب الجسمانيات، و لما استلزم ذلك في إلقاء المعاني الكلية المجردة عن عوارض الأجسام و الجسمانيات أحد محذورين: فإن الأفهام في تلقيها المعارف المرادة منها إن جمدت في مرتبة الحس و المحسوس انقلبت الأمثال بالنسبة إليها حقائق ممثلة، و فيه بطلان الحقائق و فوت المرادات و المقاصد و إن لم تجمد و انتقلت إلى المعاني المجردة بتجريد الأمثال عن الخصوصيات غير الدخيلة لم يؤمن من الزيادة و النقيصة.
نظير ذلك أنا لو ألقي إلينا المثل السائر: عند الصباح يحمد القوم السرى، أو تمثل لنا بقول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.
و قد حيل بين العير و النزوان.
فإنا من جهة سبق عهد الذهن بالقصة أو الأمر الممثل له نجرد المثل عن الخصوصيات المكتنفة بالكلام كالصباح و القوم و السرى، و نفهم من ذلك أن المراد: أن حسن تأثير عمل و تحسين فعله إنما يظهر إذا فرغ منه و بدا أثره، و أما هو ما دام الإنسان مشتغلا به محسا تعب فعله فلا يقدر قدره، و يظهر ذلك تجريد ما تمثل به من الشعر، و أما إذا لم نعهد الممثل و جمدنا على الشعر أو المثل خفي عنا الممثل و عاد المثل خبرا من الأخبار، و لو لم نجمد و انتقلنا إجمالا إلى أنه مثل لم يمكنا تشخيص المقدار الذي يجب طرحه بالتجريد و ما يجب حفظه للفهم و هو ظاهر.
و لا مخلص عن هذين المحذورين إلا بتفريق المعاني الممثل لها إلى أمثال مختلفة، و تقليبها في قوالب متنوعة حتى يفسر بعضها بعضا، و يوضح بعضها أمر بعض، فيعلم بالتدافع الذي بينها أولا: أن البيانات أمثال و لها في ما وراءها حقائق ممثلة، و ليست مقاصدها و مراداتها مقصورة على اللفظ المأخوذ من مرتبة الحس و المحسوس و ثانيا: بعد العلم بأنها أمثال: يعلم بذلك المقدار الذي يجب طرحه من الخصوصيات المكتنفة بالكلام، و ما يجب حفظه منها للحصول على المرام، و إنما يحصل ذلك بأن هذا يتضمن نفي بعض الخصوصيات الموجودة في ذلك.
و ذاك نفي بعض ما في هذا.
و إيضاح المقاصد المبهمة و المطالب الدقيقة بإيراد القصص المتعددة و الأمثال و الأمثلة الكثيرة المتنوعة أمر دائر في جميع الألسنة و اللغات من غير اختصاص بقوم دون قوم، و لغة دون لغة، و ليس ذلك إلا لأن الإنسان يشعر بقريحة البيان مساس حاجته إلى نفي الخصوصيات الموهمة لخلاف المراد في القصة الواحدة أو المثل الواحد بالخصوصيات النافية الموجودة في قصة أخرى مناسبة أو مثل آخر مناسب.
فقد تبين أن من الواجب أن يشتمل القرآن الكريم على الآيات المتشابهة، و أن يرفع التشابه الواقع في آية بالأحكام الواقع في آية أخرى، و اندفع بذلك الإشكال باشتمال القرآن على المتشابهات لكونها مخلة لغرض الهداية و البيان.
و قد ظهر من جميع ما تقدم من الأبحاث على طولها أمور: الأول: أن الآيات القرآنية تنقسم إلى قسمين: محكم و متشابه، و ذلك من جهة اشتمال الآية وحدها على مدلول متشابه و عدم اشتمالها.
الثاني: أن لجميع القرآن محكمه و متشابهه تأويلا.
و أن التأويل ليس من قبيل المفاهيم اللفظية بل من الأمور الخارجية نسبته إلى المعارف و المقاصد المبينة نسبة الممثل إلى المثال، و أن جميع المعارف القرآنية أمثال مضروبة للتأويل الذي عند الله.
الثالث: أن التأويل يمكن أن يعلمه المطهرون و هم راسخون في العلم.
الرابع: أن البيانات القرآنية أمثال مضروبة لمعارفها و مقاصدها، و هذا المعنى غير ما ذكرناه في الأمر الثاني من كون معارفه أمثالا و قد أوضحناه فيما مر.
الخامس: أن من الواجب أن يشتمل القرآن على المتشابهات، كما أن من الواجب أن يشتمل على المحكمات.
السادس: أن المحكمات أم الكتاب إليها ترجع المتشابهات رجوع بيان.
السابع: أن الإحكام و التشابه وصفان يقبلان الإضافة و الاختلاف بالجهات بمعنى أن آية ما يمكن أن تكون محكمة من جهة، متشابهة من جهة أخرى فتكون محكمة بالإضافة إلى آية و متشابهة بالإضافة إلى أخرى.
و لا مصداق للمتشابه على الإطلاق في القرآن، و لا مانع من وجود محكم على الإطلاق.
الثامن: أن من الواجب أن يفسر بعض القرآن بعضا.
التاسع: أن للقرآن مراتب مختلفة من المعنى، مترتبة طولا من غير أن تكون الجميع في عرض واحد فيلزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد، أو مثل عموم المجاز، و لا هي من قبيل اللوازم المتعددة لملزوم واحد، بل هي معان مطابقية يدل على كل واحد منها اللفظ بالمطابقة بحسب مراتب الأفهام.
و لتوضيح ذلك نقول: قال الله تبارك و تعالى: «اتقوا الله حق تقاته»: آل عمران - 102، فأنبأ أن للتقوى الذي هو الانتهاء عما نهى الله عنه و الايتمار بما أمر الله به مرتبة هي حق التقوى، و يعلم بذلك أن هناك من التقوى ما هو دون هذه المرتبة الحقة، فللتقوى الذي هو بوجه العمل الصالح مراتب و درجات بعضها فوق بعض.
و قال أيضا: «أ فمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله و مأويه جهنم و بئس المصير هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون»: آل عمران - 163، فبين أن العمل مطلقا سواء كان صالحا أو طالحا درجات و مراتب، و الدليل على أن المراد بها درجات العمل قوله: و الله بصير بما يعملون، و نظير الآية قوله تعالى: «و لكل درجات مما عملوا و ليوفيهم أعمالهم و هم لا يظلمون»: الأحقاف - 19، و قوله تعالى: «و لكل درجات مما عملوا و ما ربك بغافل عما يعملون»: الأنعام - 132، و الآيات في هذا المعنى كثيرة، و فيها ما يدل على أن درجات الجنة و دركات النار بحسب مراتب الأعمال و درجاتها.
و من المعلوم أن العمل من أي نوع كان هو من رشحات العلم يترشح من اعتقاد قلبي يناسبه، و قد استدل تعالى على كفر اليهود و على فساد ضمير المشركين و على نفاق المنافقين من المسلمين و على إيمان عدة من الأنبياء و المؤمنين بأعمالهم و أفعالهم في آيات كثيرة جدا يطول ذكرها، فالعمل كيف كان يلازم ما يناسبه من العلم و يدل عليه.
و بالعكس يستلزم كل نوع من العمل ما يناسبه من العلم و يحصله و يركزه في النفس كما قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت - 69، و قال تعالى: «و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين»: الحجر - 99، و قال أيضا: «ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوآى أن كذبوا بآيات الله و كانوا بها يستهزئون»: الروم - 10، و قال: «فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه و بما كانوا يكذبون»: البراءة - 77، و الآيات في هذا المعنى أيضا كثيرة تدل الجميع على أن العمل صالحا كان أو طالحا يولد من أقسام المعارف و الجهالات و هي العلوم المخالفة للحق ما يناسبه.
و قال تعالى - و هو كالكلمة الجامعة في العمل الصالح و العلم النافع -: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الفاطر - 10، فبين أن شأن الكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق أن يصعد إلى الله تعالى و يقرب صاحبه منه، و شأن العمل الصالح أن يرفع هذا العلم و الاعتقاد.
و من المعلوم أن ارتفاع العلم في صعوده إنما هو بخلوصه من الشك و الريب و كمال توجه النفس إليه و عدم تقسيم القلب فيه و في غيره و هو مطلق الشرك فكلما كمل خلوصه من الشك و الخطوات اشتد صعوده و ارتفاعه.
و لفظ الآية لا يخلو عن دلالة على ذلك فإنها عبرت في الكلم الطيب بالصعود و وصف العمل بالرفع، و الصعود يقابل النزول كما أن الرفع يقابل الوضع، و هما أعني الصعود و الارتفاع وصفان يتصف بهما المتحرك من السفل إلى العلو بنسبته إلى الجانبين فهو صاعد بالنظر إلى قصده العلو و اقترابه منه، و مرتفع من جهة انفصاله من السفل و ابتعاده منه، فالعمل يبعد الإنسان و يفصله من الدنيا و الإخلاد إلى الأرض بصرف نفسه عن التعلق بزخارفها الشاغلة و التشتت و التفرق بهذه المعلومات الفانية غير الباقية و كلما زاد الرفع و الارتفاع زاد صعود الكلم الطيب، و خلصت المعرفة عن شوائب الأوهام و قذارات الشكوك، و من المعلوم أيضا كما مر: أن العمل الصالح ذو مراتب و درجات، فلكل درجة من العمل الصالح رفع الكلم الطيب و توليد العلوم و المعارف الحقة الإلهية على ما يناسب حالها.
و الكلام في العمل الطالح و وضعه الإنسان نظير الكلام في العمل الصالح و رفعه و قد مر بعض الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم»: الحمد - 6.
فظهر أن للناس بحسب مراتب قربهم و بعدهم منه تعالى مراتب مختلفة من العمل و العلم، و لازمه أن يكون ما يتلقاه أهل واحدة من المراتب و الدرجات غير ما يتلقاه أهل المرتبة و الدرجة الأخرى التي فوق هذه أو تحتها، فقد تبين أن للقرآن معاني مختلفة مترتبة.
و قد ذكر الله سبحانه أصنافا من عباده و خص كل صنف بنوع من العلم و المعرفة لا يوجد في الصنف الآخر كالمخلصين و خص بهم العلم بأوصاف ربهم حق العلم، قال تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات - 160، و خص بهم أشياء أخر من المعرفة و العلم سيجيء بيانها إن شاء الله تعالى، و كالموقنين و خص بهم مشاهدة ملكوت السماوات و الأرض قال تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام - 75، و كالمنيبين و خص بهم التذكر، قال تعالى: «و ما يتذكر إلا من ينيب»: المؤمن - 13، و كالعالمين و خص بهم عقل أمثال القرآن، قال تعالى: «و تلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون»: العنكبوت - 43، و كأنهم أولوا الألباب و المتدبرون لقوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها»: محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) - 24، و لقوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، فإن مؤدى الآيات الثلاث يرجع إلى معنى واحد و هو العلم بمتشابه القرآن و رده إلى محكمه، و كالمطهرين خصهم الله بعلم تأويل الكتاب قال تعالى: «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون»: الواقعة - 79، و كالأولياء و هم أهل الوله و المحبة لله و خص بهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء إلا الله سبحانه و لذلك لا يخافون شيئا و لا يحزنون لشيء، قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون»: يونس - 62، و كالمقربين و المجتبين و الصديقين و الصالحين و المؤمنين و لكل منهم خواص من العلم و الإدراك يختصون بها، سنبحث عنها في المحال المناسبة لها.
و نظير هذه المقامات الحسنة مقامات سوء في مقابلها، و لها خواص رديئة في باب العلم و المعرفة، و لها أصحاب كالكافرين و المنافقين و الفاسقين و الظالمين و غيرهم، و لهم أنصباء من سوء الفهم و رداءة الإدراك لآيات الله و معارفه الحقة، طوينا ذكرها إيثارا للاختصار، و سنتعرض لها في خلال أبحاث هذا الكتاب إن شاء الله.
العاشر: أن للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق و بيان حالها فالآية منه لا يختص بمورد نزولها بل يجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالأمثال التي لا تختص بمواردها الأول، بل تتعداها إلى ما يناسبها، و هذا المعنى هو المسمى بجري القرآن، و قد مر بعض الكلام فيه في أوائل الكتاب.
بحث روائي
في تفسير العياشي،: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن المحكم و المتشابه قال: المحكم ما يعمل به و المتشابه ما اشتبه على جاهله.
أقول: و فيه تلويح إلى أن المتشابه مما يمكن العلم به.
و فيه، أيضا عنه (عليه السلام): أن القرآن محكم و متشابه: فأما المحكم فتؤمن به و تعمل به و تدين، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول الله عز و جل: و أما الذين في قلوبهم زيغ - فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة - و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله - و الراسخون في العلم يقولون آمنا به - كل من عند ربنا. و الراسخون في العلم هم آل محمد.
أقول: و سيجيء كلام في معنى قوله (عليه السلام): و الراسخون في العلم هم آل محمد.
و فيه، أيضا عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الناسخ و المنسوخ و المحكم و المتشابه قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهله.
قال: و في رواية: الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما يشبه بعضه بعضا.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: فالمنسوخات من المتشابهات و في العيون، عن الرضا (عليه السلام): من رد متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم. ثم قال إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتبعوا متشابهها فتضلوا.
أقول: الأخبار كما ترى متقاربة في تفسير المتشابه، و هي تؤيد ما ذكرناه في البيان السابق: أن التشابه يقبل الارتفاع، و أنه إنما يرتفع بتفسير المحكم له.
و أما كون المنسوخات من المتشابهات فهو كذلك كما تقدم و وجه تشابهها ما يظهر منها من استمرار الحكم و بقائه، و يفسره الناسخ ببيان أن استمراره مقطوع.
و أما ما ذكره (عليه السلام) في خبر العيون: أن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فقد وردت في هذا المعنى عنهم (عليهم السلام) روايات مستفيضة، و الاعتبار يساعده فإن الأخبار لا تشتمل إلا على ما اشتمل عليه القرآن الشريف، و لا تبين إلا ما تعرض له و قد عرفت فيما مر: أن التشابه من أوصاف المعنى الذي يدل عليه اللفظ و هو كونه بحيث يقبل الانطباق على المقصود و على غيره لا من أوصاف اللفظ من حيث دلالته على المعنى نظير الغرابة و الإجمال، و لا من أوصاف أعم من اللفظ و المعنى.
و بعبارة أخرى: إنما عرض التشابه لما عرض عليه من الآيات لكون بياناتها جارية مجرى الأمثال بالنسبة إلى المعارف الحقة الإلهية، و هذا المعنى بعينه موجود في الأخبار ففيها متشابه و محكم كما في القرآن، و قد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: إنا معاشر الأنبياء نكلم الناس على قدر عقولهم و في تفسير العياشي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليه السلام): أن رجلا قال لأمير المؤمنين (عليه السلام): هل تصف لنا ربنا نزداد له حبا و معرفة؟ فغضب و خطب الناس فقال فيما قال عليك يا عبد الله بما دلك عليه القرآن من صفته و تقدمك فيه الرسول من معرفته، و استضىء من نور هدايته فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلفك الشيطان عليه مما ليس عليك في الكتاب فرضه، و لا في سنة الرسول و أئمة الهدى أمره فكل علمه إلى الله، و لا تقدر عظمة الله و اعلم يا عبد الله: أن الراسخين في العلم الذين اختارهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كل من عند ربنا، و قد مدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمى تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عنه منهم رسوخا فاقتصر على ذلك و لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
أقول: قوله (عليه السلام): و اعلم يا عبد الله أن الراسخين في العلم الخ ظاهر في أنه (عليه السلام) أخذ الواو في قوله تعالى: و الراسخون في العلم يقولون، للاستيناف دون العطف كما استظهرناه من الآية و مقتضى ذلك أن ظهور الآية لا يساعد على كون الراسخين في العلم عالمين بتأويله، لا أنه يساعد على عدم إمكان علمهم به، فلا ينافي وجود بيان آخر يدل عليه كما تقدم بيانه و هو ظاهر بعض الأخبار عن أئمة أهل البيت كما سيأتي.
و قوله (عليه السلام): الذين أغناهم الله عن الاقتحام في السدد المضروبة دون الغيوب، خبر أن، و الكلام ظاهر في تحضيض المخاطب و ترغيبه أن يلزم طريقة الراسخين في العلم بالاعتراف بالجهل فيما جهله فيكون منهم، و هذا دليل على تفسيره (عليه السلام) الراسخين في العلم بمطلق من لزم ما علمه و لم يتعد إلى ما جهله.
و المراد بالغيوب المحجوبة بالسدد: المعاني المرادة بالمتشابهات المخفية عن الأفهام العامة و لذا أردفه بقوله ثانيا: فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره، و لم يقل بجملة ما جهلوا تأويله فافهم.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم و نحن نعلم تأويله.
أقول: و الرواية لا تخلو عن ظهور في كون قوله تعالى و الراسخون في العلم، معطوفا على المستثنى في قوله: و ما يعلم تأويله إلا الله لكن هذا الظهور يرتفع بما مر من البيان و ما تقدم من الرواية، و لا يبعد كل البعد أن يكون المراد بالتأويل هو المعنى المراد بالمتشابه فإن هذا المعنى من التأويل المساوق لتفسير المتشابه كان شائعا في الصدر الأول بين الناس.
و أما قوله (عليه السلام): نحن الراسخون في العلم، و قد تقدم في رواية للعياشي عن الصادق (عليه السلام) قوله: و الراسخون في العلم هم آل محمد، و هذه الجملة مروية في روايات أخر أيضا فجميع ذلك من باب الجري و الانطباق كما يشهد بذلك ما تقدم و يأتي من الروايات.
و في الكافي، أيضا عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) إلى أن قال: يا هشام إن الله حكى عن قوم صالحين: أنهم قالوا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا - و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها، إنه لم يخف الله من لم يعقل عن الله، و من لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سره لعلانيته موافقا، لأن الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه.
أقول: قوله (عليه السلام): لم يخف الله من لم يعقل عن الله، في معنى قوله تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»، و قوله (عليه السلام): و من لم يعقل عن الله «الخ» أحسن بيان لمعنى الرسوخ في العلم لأن الأمر ما لم يعقل حق التعقل لم ينسد طرق الاحتمالات فيه، و لم يزل القلب مضطربا في الإذعان به و إذا تم التعقل و عقد القلب عليه لم يخالفه باتباع ما يخالفه من الهوى فكان ما في قلبه هو الظاهر في جوارحه و كان ما يقوله هو الذي يفعله، و قوله: و لا يكون أحد كذلك الخ بيان لعلامة الرسوخ في العلم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني عن أنس و أبي أمامة و وائلة بن أسقف و أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الراسخين في العلم فقال: من برت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عف بطنه و فرجه فذلك من الراسخين في العلم.
أقول: و يمكن توجيه الرواية بما يرجع إلى معنى الحديث السابق.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): أن الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه.
أقول: و هو منطبق على الآية، فإن الراسخين في العلم قوبل به فيها قوله: الذين في قلوبهم زيغ، فيكون رسوخ العلم عدم اختلاف العالم و ارتيابه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه عن أم سلمة: أن رسول الله كان يكثر في دعائه أن يقول اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول الله و إن القلوب لتتقلب؟ قال نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع الله فإن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه، الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق عديدة عن عدة من الصحابة كجابر و نواس بن شمعان و عبد الله بن عمر و أبي هريرة، و المشهور في هذا الباب ما في حديث نواس: قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن.
و قد روى اللفظة فيما أظن الشريف الرضي في المجازات النبوية.
و روي عن علي (عليه السلام): أنه قيل له. هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبة و برأ النسمة إلا أن يعطي الله عبدا فهما في كتابه.
أقول: و هو من غرر الأحاديث، و أقل ما يدل عليه: أن ما نقل من أعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم.
و الكافي، عن الصادق عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أيها الناس إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كل جديد، و يقربان كل بعيد، و يأتيان بكل موعود، فأعدوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول الله و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، و ماحل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدل على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق، له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى، و منار الحكمة، و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة، فليجل جال بصره، و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكر حيوة قلب البصير، كما يمشي المستنير في الظلمات، فعليكم بحسن التخلص، و قلة التربص.
أقول: و رواه العياشي في تفسيره إلى قوله: فليجل جال.
و في الكافي، و تفسير العياشي، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى، و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة، و ضياء من الأحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار.
أقول: و الروايات في هذا المساق كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل بيته (عليهم السلام).
و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الرواية: ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا و له حد و لكل حد مطلع، ما يعني بقوله: ظهر و بطن؟ قال: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر، كلما جاء منه شيء وقع، قال الله: و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم، نحن نعلمه.
أقول: الرواية المنقولة في ضمن الرواية هي ما روته الجماعة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بألفاظ مختلفة و إن كان المعنى واحدا كما في تفسير الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن للقرآن ظهرا و بطنا و حدا و مطلعا.
و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا: أن للقرآن ظهرا و بطنا و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن.
و قوله (عليه السلام) منه ما مضى و منه ما يأتي، ظاهره رجوع الضمير إلى القرآن باعتبار اشتماله على التنزيل و التأويل فقوله: يجري كما يجري الشمس و القمر يجري فيهما معا، فينطبق في التنزيل على الجري الذي اصطلح عليه الأخبار في انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين»: التوبة - 120، على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الأعصار المتأخرة عن زمان نزول الآية، و هذا نوع من الانطباق، و كانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس، و انطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين، و هذا نوع آخر من الانطباق أدق من الأول، و كانطباقها و انطباق آيات المذنبين على أهل المراقبة و الذكر و الحضور في تقصيرهم و مساهلتهم في ذكر الله تعالى، و هذا نوع آخر أدق من ما تقدمه، و كانطباقها عليهم في قصورهم الذاتي عن أداء حق الربوبية، و هذا نوع آخر أدق من الجميع.
و من هنا يظهر أولا: أن للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب أهله و مقاماتهم، و قد صور الباحثون عن مقامات الإيمان و الولاية من معانيه ما هو أدق مما ذكرناه.
و ثانيا: أن الظهر و البطن أمران نسبيان، فكل ظهر بطن بالنسبة إلى ظهره و بالعكس كما يظهر من الرواية التالية.
و في تفسير العياشي، عن جابر قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن شيء من تفسير القرآن فأجابني ثم سألته ثانية فأجابني بجواب آخر، فقلت جعلت فداك كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر إن للقرآن بطنا و للبطن بطن، و ظهرا و للظهر ظهر، يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، إن الآية تكون أولها في شيء و أوسطها في شيء و آخرها في شيء و هو كلام متصل ينصرف على وجوه.
و فيه، أيضا عنه (عليه السلام) في حديث قال: و لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، و لكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات و الأرض و لكل قوم آية يتلونها هم منها من خير أو شر.
و في المعاني، عن حمران بن أعين قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن ظهر القرآن و بطنه فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، و بطنه الذين عملوا بأعمالهم، يجري فيهم ما نزل في أولئك و في تفسير الصافي، عن علي (عليه السلام): ما من آية إلا و لها أربعة معان: ظاهر و باطن و حد و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحد هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع هو مراد الله من العبد بها.
أقول: المراد بالتلاوة ظاهر مدلول اللفظ بدليل أنه (عليه السلام) عده من المعاني، فالمراد بالفهم في تفسيره الباطن ما هو في باطن الظاهر من المعنى، و المراد بقوله: هو أحكام الحلال و الحرام ظاهر المعارف المتلقاة من القرآن في أوائل المراتب أو أواسطها في مقابل المطلع الذي هو المرتبة العليا، و الحد و المطلع نسبيان كما أن الظاهر و الباطن نسبيان كما عرفت فيما تقدم، فكل مرتبة عليا هي مطلع بالنسبة إلى السفلى.
و المطلع إما بضم الميم و تشديد الطاء و فتح اللام اسم مكان من الاطلاع، أو بفتح الميم و اللام و سكون الطاء اسم مكان من الطلوع، و هو مراد الله من العبد بها كما ذكره (عليه السلام).
و قد ورد هذه الأمور الأربعة في النبوي المعروف هكذا: إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر و بطن و لكن حد مطلع.
و في رواية: و لكل حد و مطلع.
و معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و لكل حد مطلع على ما في إحدى الروايتين: أن لكل واحد من الظهر و البطن الذي هو حد مطلع يشرف عليه، هذا هو الظاهر، و يمكن أن يرجع إليه ما في الرواية الأخرى: و لكل حد و مطلع بأن يكون المعنى: و لكل منهما حد هو نفسه و مطلع و هو ما ينتهي إليه الحد فيشرف على التأويل، لكن هذا لا يلائم ظاهرا ما في رواية علي (عليه السلام): ما من آية إلا و لها أربعة معان «الخ» إلا أن يراد أن لها أربعة اعتبارات من المعنى و إن كان ربما انطبق بعضها على بعض.
و على هذا فالمتحصل من معاني الأمور الأربعة: أن الظهر هو المعنى الظاهر البادىء من الآية، و الباطن هو الذي تحت الظاهر سواء كان واحدا أو كثيرا، قريبا منه أو بعيدا بينهما واسطة، و الحد هو نفس المعنى سواء كان ظهرا أو بطنا و المطلع هو المعنى الذي طلع منه الحد و هو بطنه متصلا به فافهم.
و في الحديث المروي من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنزل القرآن على سبعة أحرف.
أقول: و الحديث و إن كان مرويا باختلاف ما في لفظه، لكن معناها مروي مستفيضا و الروايات متقاربة معنى، روتها العامة و الخاصة.
و قد اختلف في معنى الحديث اختلافا شديدا ربما أنهي إلى أربعين قولا، و الذي يهون الخطب أن في نفس الأخبار تفسيرا لهذه السبعة الأحرف، و عليه التعويل.
ففي بعض الأخبار: نزل القرآن على سبعة أحرف أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و قصص و مثل، و في بعضها: زجر و أمر و حلال و حرام و محكم و متشابه و أمثال.
و عن علي (عليه السلام): أن الله أنزل القرآن على سبعة أقسام، كل منها كاف شاف، و هي أمر و زجر و ترغيب و ترهيب و جدل و مثل و قصص.
فالمتعين حمل السبعة الأحرف على أقسام الخطاب و أنواع البيان و هي سبعة على وحدتها في الدعوة إلى الله و إلى صراطه المستقيم، و يمكن أن يستفاد من هذه الرواية حصر أصول المعارف الإلهية في الأمثال فإن بقية السبعة لا تلائمها إلا بنوع من العناية على ما لا يخفى.
بحث آخر روائي
في الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار أقول: و هذا المعنى رواه الفريقان، و في معناه أحاديث أخر رووه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
75 - و في منية المريد، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
أقول: و رواه أبو داود في سننه.
75 - و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار.
75 - و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ.
أقول: و رواه أبو داود و الترمذي و النسائي.
75 - و فيه، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أكثر ما أخاف على أمتي من بعدي رجل يناول القرآن يضعه على غير مواضعه.
75 - و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر و إن أخطأ فهو أبعد من السماء.
75 - و فيه، عن يعقوب بن يزيد عن ياسر عن الرضا (عليه السلام) قال: الرأي في كتاب الله كفر.
أقول: و في معناها روايات أخر مروية في العيون و الخصال و تفسير العياشي و غيرها.
قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): من فسر القرآن برأيه، الرأي هو الاعتقاد عن اجتهاد و ربما أطلق على القول عن الهوى و الاستحسان و كيف كان لما ورد قوله: برأيه مع الإضافة إلى الضمير علم منه أن ليس المراد به النهي عن الاجتهاد المطلق في تفسير القرآن حتى يكون بالملازمة أمرا بالإتباع و الاقتصار بما ورد من الروايات في تفسير الآيات عن النبي و أهل بيته صلى الله عليه و عليهم على ما يراه أهل الحديث، على أنه ينافي الآيات الكثيرة الدالة على كون القرآن عربيا مبينا، و الآمرة بالتدبر فيه، و كذا ينافي الروايات الكثيرة الآمرة بالرجوع إلى القرآن و عرض الأخبار عليه.
بل الإضافة في قوله: برأيه تفيد معنى الاختصاص و الانفراد و الاستقلال بأن يستقل المفسر في تفسير القرآن بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس فإن قطعة من الكلام من أي متكلم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي و نحكم بذلك: أنه أراد كذا كما نجري عليه في الأقارير و الشهادات و غيرهما، كل ذلك لكون بياننا مبنيا على ما نعلمه من اللغة و نعهده من مصاديق الكلمات حقيقة و مجازا.
و البيان القرآني غير جار هذا المجرى على ما تقدم بيانه في الأبحاث السابقة بل هو كلام موصول بعضها ببعض في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض كما قاله علي (عليه السلام) فلا يكفي ما يتحصل من آية واحدة بإعمال القواعد المقررة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها و يجتهد في التدبر فيها كما يظهر من قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، و قد مر بيانه في الكلام على الإيجاز و غيره.
فالتفسير بالرأي المنهي عنه أمر راجع إلى طريق الكشف دون المكشوف و بعبارة أخرى إنما نهى (عليه السلام) عن تفهم كلامه على نحو ما يتفهم به كلام غيره و إن كان هذا النحو من التفهم ربما صادف الواقع، و الدليل على ذلك قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرواية الأخرى: من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ فإن الحكم بالخطإ مع فرض الإصابة ليس إلا لكون الخطإ في الطريق و كذا قوله (عليه السلام) في حديث العياشي: إن أصاب لم يؤجر.
و يؤيده ما كان عليه الأمر في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن القرآن لم يكن مؤلفا بعد و لم يكن منه إلا سور أو آيات متفرقة في أيدي الناس فكان في تفسير كل قطعة قطعة منه خطر الوقوع في خلاف المراد.
و المحصل: أن المنهي عنه إنما هو الاستقلال في تفسير القرآن و اعتماد المفسر على نفسه من غير رجوع إلى غيره، و لازمه وجوب الاستمداد من الغير بالرجوع إليه، و هذا الغير لا محالة إما هو الكتاب أو السنة، و كونه هي السنة ينافي القرآن و نفس السنة الآمرة بالرجوع إليه و عرض الأخبار عليه، فلا يبقى للرجوع إليه و الاستعداد منه في تفسير القرآن إلا نفس القرآن.
و من هنا يظهر حال ما فسروا به حديث التفسير بالرأي فقد تشتتوا في معناه على أقوال: أحدها: أن المراد به التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، و هي خمسة عشر علما على ما أنهاه السيوطي في الإتقان: اللغة، و النحو، و التصريف، و الاشتقاق، و المعاني، و البيان، و البديع، و القراءة، و أصول الدين، و أصول الفقه، و أسباب النزول و كذا القصص، و الناسخ و المنسوخ، و الفقه، و الأحاديث المبينة لتفسير المجملات و المبهمات، و علم الموهبة، و يعني بالأخير ما أشار إليه الحديث النبوي: من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم.
الثاني: أن المراد به تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثالث: التفسير المقرر للمذهب الفاسد بأن يجعل المذهب أصلا و التفسير تبعا فيرد إليه بأي طريق أمكن و إن كان ضعيفا.
الرابع: التفسير بأن مراد الله تعالى كذا على القطع من غير دليل.
الخامس: التفسير بالاستحسان و الهوى: و هذه الوجوه الخمسة نقلها ابن النقيب على ما ذكره السيوطي في الإتقان، و هنا وجوه أخر نتبعها بها.
السادس: أن المراد به هو القول في مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة و التابعين ففيه تعرض لسخط الله تعالى.
السابع: القول في القرآن بما يعلم أن الحق غيره، نقلهما ابن الأنباري.
الثامن: أن المراد به القول في القرآن بغير علم و تثبت، سواء علم أن الحق خلافه أم لا.
التاسع: هو الأخذ بظاهر القرآن بناء على أنه لا ظهور له بل يتبع في مورد الآية النص الوارد عن المعصوم، و ليس ذلك تفسيرا للآية بل اتباعا للنص، و يكون التفسير على هذا من الشئون الموقوفة على المعصوم.
العاشر: أنه الأخذ بظاهر القرآن بناء على أن له ظهورا لا نفهمه بل المتبع في تفسير الآية هو النص عن المعصوم.
فهذه وجوه عشرة، و ربما أمكن إرجاع بعضها إلى بعض، و كيف كان فهي وجوه خالية عن الدليل، على أن بعضها ظاهر البطلان أو يظهر بطلانه بما تقدم في المباحث السابقة، فلا نطيل بالتكرار.
و بالجملة فالمتحصل من الروايات و الآيات التي تؤيدها كقوله تعالى: أ فلا يتدبرون القرآن الآية، و قوله تعالى: «الذين جعلوا القرآن عضين»: الحجر - 91، و قوله تعالى: «إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أ فمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة» الآية: حم السجدة - 40، و قوله تعالى: «يحرفون الكلم عن مواضعه،: النساء - 46، و قوله تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم»: إسراء - 36، إلى غير ذلك أن النهي في الروايات إنما هو متوجه إلى الطريق و هو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين.
و ليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ و سرد الجمل و إعمال الصناعات اللفظية فإنما هو كلام عربي روعي فيه جميع ما يراعى في كلام عربي و قد قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم»: إبراهيم - 4، و قال تعالى: «و هذا لسان عربي مبين: النحل - 103، و قال تعالى: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»: الزخرف - 3.
و إنما الاختلاف من جهة المراد و المصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام.
توضيح ذلك أنا من جهة تعلق وجودنا بالطبيعة الجسمانية و قطوننا المعجل في الدنيا المادية ألفنا من كل معنى مصداقه المادي، و اعتدنا بالأجسام و الجسمانيات فإذا سمعنا كلام واحد من الناس الذين هم أمثالنا يحكي عن حال أمر من الأمور و فهمنا منه معناه حملناه على ما هو المعهود عندنا من المصداق و النظام الحاكم فيه لعلمنا بأنه لا يعني إلا ذلك لكونه مثلنا لا يشعر إلا بذلك، و عند ذلك يعود النظام الحاكم في المصداق يحكم في المفهوم فربما خصص به العام أو عمم به الخاص أو تصرف في المفهوم بأي تصرف آخر و هو الذي نسميه بتصرف القرائن العقلية غير اللفظية.
مثال ذلك أنا إذا سمعنا عزيزا من أعزتنا ذا سؤدد و ثروة يقول: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، و تعقلنا مفهوم الكلام و معاني مفرداته حكمنا في مرحلة التطبيق على المصداق: أن له أبنية محصورة حصينة تسع شيئا كثيرا من المظروفات فإن الخزانة هكذا تتخذ إذا اتخذت، و أن له فيها مقدارا وفرا من الذهب و الفضة و الورق و الأثاث و الزينة و السلاح، فإن هذه الأمور هي التي يمكن أن تخزن عندنا و تحفظ حفظا، و أما الأرض و السماء و البر و البحر و الكوكب و الإنسان فهي و إن كانت أشياء لكنها لا تخزن و لا تتراكم، و لذلك نحكم بأن المراد من الشيء بعض من أفراده غير المحصورة، و كذا من الخزائن قليل من كثير فقد عاد النظام الموجود في المصداق و هو أن كثيرا من الأشياء لا يخزن، و أن ما يختزن منها إنما يختزن في بناء حصين مأمون عن الغيلة و الغارة أوجب تقييدا عجيبا في إطلاق مفهوم الشيء و الخزائن.
ثم إذا سمعنا الله تعالى ينزل على رسوله قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه»: الحجر - 21، فإن لم يرق أذهاننا عن مستواها الساذج الأولي فسرنا كلامه بعين ما فسرنا به كلام الواحد من الناس مع أنه لا دليل لنا على ذلك البتة فهو تفسير بما نراه من غير علم.
و إن رقت أذهاننا عن ذلك قليلا، و أذعنا بأنه تعالى لا يخزن المال و خاصة إذا سمعناه تعالى يقول في ذيل الآية: و ما ننزله إلا بقدر معلوم، و يقول أيضا: «و ما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها»: الجاثية - 5، حكمنا بأن المراد بالشيء الرزق من الخبز و الماء و أن المراد بنزوله نزول المطر لأنا لا نشعر بشيء ينزل من السماء غير المطر فاختزان كل شيء عند الله ثم نزوله بالقدر كناية عن اختزان المطر و نزوله لتهيئة المواد الغذائية.
و هذا أيضا تفسير بما نراه من غير علم إذا لا مستند له إلا أنا لا نعلم شيئا ينزل من السماء غير المطر، و الذي بأيدينا هاهنا عدم العلم دون العلم بالعدم.
و إن تعالينا عن هذا المستوى أيضا و اجتنبنا ما فيه من القول في القرآن بغير علم و أبقينا الكلام على إطلاقه التام، و حكمنا أن قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، يبين أمر الخلقة غير أنا لما كنا لا نشك في أن ما نجده من الأشياء المتجددة بالخلقة كالإنسان و الحيوان و النبات و غيرها لا تنزل من السماء، و إنما تحدث حدوثا في الأرض حكمنا بأن قوله: و إن من شيء إلا عندنا خزائنه، كناية عن مطاوعة الأشياء في وجودها لإرادة الله تعالى، و أن الإرادة بمنزلة مخزن يختزن فيه جميع الأشياء المخلوقة و إنما يخرج منه و ينزل من عنده تعالى ما يتعلق به مشيته تعالى، و هذا أيضا كما ترى تفسير للآية بما نراه من غير علم، إذ لا مستند لنا فيه سوى أنا نجد الأشياء غير نازلة من عند الله بالمعنى الذي نعهده من النزول، و لا علم لنا بغيره.
و إذا تأملت ما وصفه الله تعالى في كتابه من أسماء ذاته و صفاته و أفعاله و ملائكته و كتبه و رسله و القيامة و ما يتعلق بها، و حكم أحكامه و ملاكاتها، و تأملت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية وجدت أن ذلك كله من قبيل التفسير بالرأي من غير علم، و تحريف لكلمه عن مواضعها.
و قد تقدم في الفصل الخامس من البحث في المحكم و المتشابه أن البيانات القرآنية بالنسبة إلى المعارف الإلهية كالأمثال أو هي أمثال بالنسبة إلى ممثلاتها.
و قد فرقت في الآيات المتفرقة، و بينت ببيانات مختلفة ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعض، و لذلك كان بعضها شاهدا على البعض، و الآية مفسرة للآية، و لو لا ذلك لاختل أمر المعارف الإلهية في حقائقها، و لم يمكن التخلص في تفسير الآية من القول بغير علم على ما تقدم بيانه.
و من هنا يظهر: أن التفسير بالرأي كما بيناه لا يخلو عن القول بغير علم كما يشير الحديث النبوي السابق: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
و من هنا يظهر أيضا أن ذلك يؤدي إلى ظهور التنافي بين الآيات القرآنية من حيث إبطاله الترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي إلى وقوع الآية في غير موقعها، و وضع الكلمة في غير موضعها.
و يلزمها تأويل بعض القرآن أو أكثر آياتها بصرفها عن ظاهرها كما يتأول المجبرة آيات الاختيار و المفوضة آيات القدر، و غالب المذاهب في الإسلام لا يخلو عن التأول في الآيات القرآنية و هي الآيات التي لا يوافق ظاهرها مذهبهم، فيتشبثون في ذلك بذيل التأويل استنادا إلى القرينة العقلية، و هو قولهم: إن الظاهر الفلاني قد ثبت خلافه عند العقل فيجب صرف الكلام عنه.
و بالجملة يؤدي ذلك إلى اختلاط الآيات بعضها ببعض ببطلان ترتيبها، و دفع مقاصد بعضها ببعض، و يبطل بذلك المرادان جميعا إذ لا اختلاف في القرآن فظهور الاختلاف بين الآيات - بعضها مع بعض - ليس إلا لاختلال الأمر و اختلاط المراد فيهما معا.
و هذا هو الذي ورد التعبير عنه في الروايات بضرب بعض القرآن ببعض كما في الروايات التالية: في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق عن أبيه (عليه السلام) قال: ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.
و في المعاني، و المحاسن، مسندا و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر.
قال الصدوق: سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال: هو أن تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى.
أقول: ما أجاب به لا يخلو عن إبهام، فإن أراد به الخلط المذكور و ما هو المعمول عند الباحثين في مناظراتهم من معارضة الآية بالآية و تأويل البعض بالتمسك بالبعض فحق، و إن أراد به تفسير الآية بالآية و الاستشهاد بالبعض للبعض فخطأ، و الروايتان التاليتان تدفعانه.
و في تفسير النعماني، بإسناده إلى إسماعيل بن جابر قال سمعت أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) يقول: إن الله تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء فلا نبي بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده، أحل فيه حلالا و حرم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم، و جعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) علما باقيا في أوصيائه، فتركهم الناس و هم الشهداء على أهل كل زمان، و عدلوا عنهم ثم قتلوهم، و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، قال الله سبحانه: «فنسوا حظا مما ذكروا به - و لا تزال تطلع على خائنة منهم»، و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم، و احتجوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجوا بأول الآية و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره إذ لم يأخذوه عن أهله فضلوا و أضلوا. و اعلموا رحمكم الله: أنه من لم يعرف من كتاب الله عز و جل الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام، و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكي و المدني و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير، و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار فيه، و الصفة لما قبل مما يدل على ما بعد، و المؤكد منه و المفصل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله. و متى ما ادعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على الله الكذب و رسوله و مأواه جهنم و بئس المصير.
و في نهج البلاغة، و الإحتجاج، قال (عليه السلام): ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم تجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعا و إلههم واحد، و نبيهم واحد، و كتابهم واحد فأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟ أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟ أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) عن تبليغه و أدائه؟ و الله سبحانه يقول: ما فرطنا في الكتاب من شيء و فيه تبيان كل شيء، و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، و أنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه: و لو كان من عند غير الله - لوجدوا فيه اختلافا كثيرا، و أن القرآن ظاهره أنيق، و باطنه عميق لا تحصى عجائبه، و لا تنقضي غرائبه، و لا تكشف الظلمات إلا به.
أقول: و الرواية كما ترى ناصة على أن كل نظر ديني يجب أن ينتهي إلى القرآن، و قوله: فيه تبيان، نقل للآية بالمعنى.
و في الدر المنثور، و أخرج ابن سعد و ابن الضريس في فضائله و ابن مردويه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب فقال: بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم، و ضرب الكتاب بعضه ببعض. قال: و إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا و لكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به، و ما تشابه عليكم فآمنوا به.
و فيه، أيضا و أخرج أحمد من وجه آخر عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوما يتدارءون فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا فلا تكذبوا بعضه ببعض فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه.
أقول: و الروايات كما ترى يعد ضرب القرآن بعضه ببعض مقابلا لتصديق بعض القرآن بعضا، و هو الخلط بين الآيات من حيث مقامات معانيها، و الإخلال بترتيب مقاصدها كأخذ المحكم متشابها و المتشابه محكما و نحو ذلك.
فالتكلم في القرآن بالرأي، و القول في القرآن بغير علم كما هو موضوع الروايات المنقولة سابقا، و ضرب القرآن بعضه ببعضه كما هو مضمون الروايات المنقولة آنفا يحوم الجميع حول معنى واحد و هو الاستمداد في تفسير القرآن بغيره.
فإن قلت: لا ريب أن القرآن إنما نزل ليعقله الناس و يفهموه كما قال تعالى: «إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس»: الزمر - 41، و قال تعالى: «هذا بيان للناس،: آل عمران - 138، إلى غير ذلك من الآيات، و لا ريب أن مبينه هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قال تعالى «و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»: النحل - 44، و قد بينه للصحابة، ثم أخذ عنهم التابعون فما نقلوه عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلينا فهو بيان نبوي لا يجوز التجافي و الإغماض عنه بنص القرآن، و ما تكلموا فيه من غير إسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو و إن لم يجر مجرى النبويات في حجيتها لكن القلب إليه أسكن فإن ما ذكروه في تفسير الآيات إما مسموع من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شيء هداهم إليه الذوق المكتسب من بيانه و تعليمه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كذا ما ذكره تلامذتهم من التابعين و من يتلوهم، و كيف يخفى عليهم معاني القرآن مع تعرقهم في العربية، و سعيهم في تلقيها من مصدر الرسالة، و اجتهادهم البالغ في فقه الدين على ما يقصه التاريخ من مساعي رجال الدين في صدر الإسلام.
و من هنا يظهر: أن العدول عن طريقتهم و سنتهم، و الخروج من جماعتهم، و تفسير آية من الآيات بما لا يوجد بين أقوالهم و آرائهم بدعة، و السكوت عما سكتوا عنه واجب.
و في ما نقل عنهم كفاية لمن أراد فهم كتاب الله تعالى، فإنه يبلغ زهاء ألوف من الروايات، و قد ذكر السيوطي أنه أنهاه إلى سبعة عشر ألف رواية عن النبي و عن الصحابة و التابعين.
قلت: قد مر فيما تقدم أن الآيات التي تدعو الناس عامة من كافر أو مؤمن ممن شاهد عصر النزول أو غاب عنه إلى تعقل القرآن و تأمله و التدبر فيه و خاصة قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء - 82، تدل دلالة واضحة على أن المعارف القرآنية يمكن أن ينالها الباحث بالتدبر و البحث، و يرتفع به ما يتراءى من الاختلاف بين الآيات، و الآية في مقام التحدي، و لا معنى لإرجاع فهم معاني الآيات - و المقام هذا المقام - إلى فهم الصحابة و تلامذتهم من التابعين حتى إلى بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن ما بينه إما أن يكون معنى يوافق ظاهر الكلام فهو مما يؤدي إليه اللفظ و لو بعد التدبر و التأمل و البحث، و إما أن يكون معنى لا يوافق الظاهر و لا أن الكلام يؤدي إليه فهو مما لا يلائم التحدي و لا تتم به الحجة و هو ظاهر.
نعم تفاصيل الأحكام مما لا سبيل إلى تلقيه من غير بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أرجعها القرآن إليه في قوله تعالى: «و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا»: الحشر - 7 و ما في معناه من الآيات، و كذا تفاصيل القصص و المعاد مثلا.
و من هنا يظهر أن شأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا المقام هو التعليم فحسب و التعليم إنما هو هداية المعلم الخبير ذهن المتعلم و إرشاده إلى ما يصعب عليه العلم به و الحصول عليه لا ما يمتنع فهمه من غير تعليم، فإنما التعليم تسهيل للطريق و تقريب للمقصد، لا إيجاد للطريق و خلق للمقصد، و المعلم في تعليمه إنما يروم ترتيب المطالب العلمية و نضدها على نحو يستسهله ذهن المتعلم و يأنس به فلا يقع في جهد الترتيب و كد التنظيم فيتلف العمر و موهبة القوة أو يشرف على الغلط في المعرفة.
و هذا هو الذي يدل عليه أمثال قوله تعالى: «و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم» الآية: النحل - 44، و قوله تعالى: «و يعلمهم الكتاب و الحكمة»: الجمعة - 2، فالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما يعلم الناس و يبين لهم ما يدل عليه القرآن بنفسه، و يبينه الله سبحانه بكلامه، و يمكن للناس الحصول عليه بالأخرة لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين لهم معاني لا طريق إلى فهمها من كلام الله تعالى فإن ذلك لا ينطبق البتة على مثل قوله تعالى: «كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون»: حم السجدة - 3، و قوله تعالى: «و هذا لسان عربي مبين»: النحل - 103.
على أن الأخبار المتواترة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) المتضمنة لوصيته بالتمسك بالقرآن و الأخذ به و عرض الروايات المنقولة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) على كتاب الله لا يستقيم معناها إلا مع كون جميع ما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مما يمكن استفادته من الكتاب، و لو توقف ذلك على بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من الدور الباطل و هو ظاهر.
على أن ما ورد به النقل من كلام الصحابة مع قطع النظر عن طرقه لا يخلو عن الاختلاف فيما بين الصحابة أنفسهم بل عن الاختلاف فيما نقل عن الواحد منهم على ما لا يخفى على المتتبع المتأمل في أخبارهم، و القول بأن الواجب حينئذ أن يختاروا أحد الأقوال المختلفة المنقولة عنهم في الآية، و يجتنب عن خرق إجماعهم، و الخروج عن جماعتهم مردود بأنهم أنفسهم لم يسلكوا هذا الطريق، و لم يستلزموا هذا المنهج و لم يبالوا بالخلاف فيما بينهم فكيف يجب على غيرهم أن يقفوا على ما قالوا به و لم يختصوا بحجية قولهم على غيرهم و لا بتحريم الخلاف على غيرهم دونهم.
على أن هذا الطريق و هو الاقتصار على ما نقل من مفسري صدر الإسلام من الصحابة و التابعين في معاني الآيات القرآنية يوجب توقف العلم في سيره، و بطلان البحث في أثره كما هو مشهود في ما بأيدينا من كلمات الأوائل و الكتب المؤلفة في التفسير في القرون الأولى من الإسلام، و لم ينقل منهم في التفسير إلا معان ساذجة بسيطة خالية عن تعمق البحث و تدقيق النظر فأين ما يشير إليه قوله تعالى: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»: النحل - 89، من دقائق المعارف في القرآن؟ و أما استبعاد أن يختفي عليهم معاني القرآن مع ما هم عليه من الفهم و الجد و الاجتهاد فيبطله نفس الخلاف الواقع بينهم في معاني كثير من الآيات و التناقض الواقع في الكلمات المنقولة عنهم إذ لا يتصور اختلاف و لا تناقض إلا مع فرض خفاء الحق و اختلاط طريقه بغيره.
فالحق أن الطريق إلى فهم القرآن الكريم غير مسدود، و أن البيان الإلهي و الذكر الحكيم بنفسه هو الطريق الهادي إلى نفسه، أي إنه لا يحتاج في تبيين مقاصده إلى طريق، فكيف يتصور أن يكون الكتاب الذي عرفه الله تعالى بأنه هدى و أنه نور و أنه تبيان لكل شيء مفتقرا إلى هاد غيره و مستنيرا بنور غيره و مبينا بأمر غيره؟ فإن قلت: قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال في آخر خطبة خطبها: إني تارك فيكم الثقلين: الثقل الأكبر و الثقل الأصغر: فأما الأكبر فكتاب ربي، و أما الأصغر فعترتي أهل بيتي فاحفظوني فيهما فلن تضلوا ما تمسكتم بهما رواه الفريقان بطرق متواترة عن جم غفير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنه، أنهى علماء الحديث عدتهم إلى خمس و ثلاثين صحابيا، و في بعض الطرق: لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، و الحديث دال على حجية قول أهل البيت (عليهم السلام) في القرآن و وجوب اتباع ما ورد عنهم في تفسيره و الاقتصار على ذلك و إلا لزم التفرقة بينهم و بينه.
قلت: ما ذكرناه في معنى اتباع بيان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آنفا جار هاهنا بعينه، و الحديث غير مسوق لإبطال حجية ظاهر القرآن و قصر الحجية على ظاهر بيان أهل البيت (عليهم السلام).
كيف و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لن يفترقا، فيجعل الحجية لهما معا فللقرآن الدلالة على معانيه و الكشف عن المعارف الإلهية، و لأهل البيت الدلالة على الطريق و هداية الناس إلى أغراضه و مقاصده.
على أن نظير ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوة الناس إلى الأخذ بالقرآن و التدبر فيه و عرض ما نقل عنه عليه وارد عن أهل البيت (عليهم السلام).
على أن جما غفيرا من الروايات التفسيرية الواردة عنهم (عليهم السلام) مشتملة على الاستدلال بآية على آية، و الاستشهاد بمعنى على معنى، و لا يستقيم ذلك إلا بكون المعنى مما يمكن أن يناله المخاطب و يستقل به ذهنه لوروده من طريقه المتعين له.
على أن هاهنا روايات عنهم (عليهم السلام) تدل على ذلك بالمطابقة كما رواه في المحاسن، بإسناده عن أبي لبيد البحراني عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فمن زعم أن كتاب الله مبهم فقد هلك و أهلك.
و يقرب منه ما فيه، و في الإحتجاج، عنه (عليه السلام) قال: إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله الحديث.
و بما مر من البيان يجمع بين أمثال هذه الأحاديث الدالة على إمكان نيل المعارف القرآنية منه و عدم احتجابها من العقول و بين ما ظاهره خلافه كما في تفسير العياشي، عن جابر قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن للقرآن بطنا و للبطن ظهرا، ثم قال: يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال منه إن الآية لتنزل أولها في شيء و أوسطها في شيء و آخرها في شيء، و هو كلام متصل ينصرف على وجوه، و هذا المعنى وارد في عدة روايات.
و قد رويت الجملة أعني قوله: و ليس شيء أبعد «الخ» في بعضها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد روي عن علي (عليه السلام): أن القرآن حمال ذو وجوه الحديث، فالذي ندب إليه تفسيره من طريقه و الذي نهي عنه تفسيره من غير طريقه و قد تبين أن المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه و تفسير الآية بالآية و ذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي و أهل بيته صلى الله عليه و عليهم و تهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود، و الله الهادي.
|