بيان
قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل على رسوله»، أمر المؤمنين بالإيمان ثانيا بقرينة التفصيل في متعلق الإيمان الثاني أعني قوله «بالله و رسوله و الكتاب» إلخ و أيضا بقرينة الإيعاد و التهديد على ترك الإيمان بكل واحد من هذا التفاصيل إنما هو أمر ببسط المؤمنين إجمال إيمانهم على تفاصيل هذه الحقائق فإنها معارف مرتبطة بعضها ببعض، مستلزمة بعضها ببعض، فالله سبحانه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي الموجبة لأن يخلق خلقا و يهديهم إلى ما يرشدهم و يسعدهم ثم يبعثهم ليوم الجزاء، و لا يتم ذلك إلا بإرسال رسل مبشرين و منذرين، و إنزال كتب تحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، و تبين لهم معارف المبدأ و المعاد، و أصول الشرائع و الأحكام.
فالإيمان بواحد من حقائق هذه المعارف لا يتم إلا مع الإيمان بجميعها من غير استثناء، و الرد لبعضها مع الأخذ ببعض آخر كفر لو أظهر، و نفاق لو كتم و أخفى، و من النفاق أن يتخذ المؤمن مسيرا ينتهي به إلى رد بعض ذلك، كأن يفارق مجتمع المؤمنين و يتقرب إلى مجتمع الكفار و يواليهم، و يصدقهم في بعض ما يرمون به الإيمان و أهله، أو يعترضوا أو يستهزءون به الحق و خاصته، و لذلك عقب تعالى هذه الآية بالتعرض لحال المنافقين و وعيدهم بالعذاب الأليم.
و ما ذكرناه من المعنى هو الذي يقضي به ظاهر الآية و هو أوجه مما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله «يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا»،: يا أيها الذين آمنوا في الظاهر بالإقرار بالله و رسوله آمنوا في الباطن ليوافق ظاهركم باطنكم.
و كذا ما ذكره بعضهم أن معنى «ءامنوا» اثبتوا على إيمانكم، و كذا ما ذكره آخرون أن الخطاب لمؤمني أهل الكتاب أي يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب آمنوا بالله و رسوله و الكتاب الذي نزل على رسوله و هو القرآن.
و هذه المعاني و إن كانت في نفسها صحيحة لكن القرائن الكلامية ناهضة على خلافها، و أردأ الوجوه آخرها.
قوله تعالى: «و من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا» لما كان الشطر الأول من الآية أعني قوله «يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا - إلى قوله - من قبل» دعوة إلى الجمع بين جميع ما ذكر فيه بدعوى أن أجزاء هذا المجموع مرتبطة غير مفارق بعضها بعضا كان هذا التفصيل ثانيا في معنى الترديد و المعنى: و من يكفر بالله أو ملائكته أو كتبه أو رسله أو اليوم الآخر أي من يكفر بشيء من أجزاء الإيمان فقد ضل ضلالا بعيدا.
و ليس المراد بالعطف بالواو الجمع في الحكم ليتم الجميع موضوعا واحدا له حكم واحد بمعنى أن الكفر بالمجموع من حيث إنه مجموع ضلال بعيد دون الكفر بالبعض دون البعض.
على أن الآيات القرآنية ناطقة بكفر من كفر بكل واحد مما ذكر في الآية على وجه التفصيل.
قوله تعالى: «إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا» الآية لو أخذت وحدها منقطعة عما قبلها و ما بعدها كانت دالة على ما يجازي به الله تعالى أهل الردة إذا تكررت منهم الردة بأن آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا فالله سبحانه يوعدهم - و حالهم هذا الحال - بأنه لا يغفر لهم، و لا يهديهم سبيلا، و ليس من المرجو منه المتوقع من رحمته ذلك لعدم استقرارهم على إيمان، و جعلهم أمر الله ملعبة يلعبون بها، و من كان هذا حاله لم يثبت بالطبع على إيمان جدي يقبل منه، و إن كانوا لو آمنوا إيمانا جديا شملتهم المغفرة و الهداية فإن التوبة بالإيمان بالله حقيقة مما لا يرده الله في حال على ما وعد الله تعالى عباده، و قد تقدم الكلام فيه في قوله تعالى «إنما التوبة على الله»: الآية النساء: 17 في الجزء الرابع من هذا الكتاب.
فالآية تحكم بحرمانهم على ما يجري عليه الطبع و العادة، و لا تأبى الاستثناء لو اتفق إيمان و استقامة عليه من هذه الطائفة نادرا كما يستفاد من نظير الآية، قال تعالى: «كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم و شهدوا أن الرسول حق و جاءهم البينات و الله لا يهدي القوم الظالمين إلى أن قال إلا الذين تابوا من بعد ذلك و أصلحوا فإن الله غفور رحيم إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم و أولئك هم الضالون»: آل عمران: 90.
و الآيات - كما ترى - تستثني ممن كفر بعد إيمانه، و قوبل بنفي المغفرة و الهداية، و هي مع ذلك تنفي قبول توبة من ازداد كفرا بعد الإيمان، صدر الآيات فيمن كفر بعد الإيمان و الشهادة بحقية الرسول و ظهور الآيات البينات، فهو ردة عنادا و لجاجا، و الازدياد فيه لا يكون إلا مع استقرار العناد و العتو في قلوبهم، و تمكن الطغيان و الاستكبار في نفوسهم، و لا يتحقق الرجوع و التوبة ممن هذا حاله عادة.
هذا ما يقتضيه سياق الآية لو أخذت وحدها كما تقدم، لكن الآيات جميعا لا تخلو عن ظهور ما أو دلالة على كونها ذات سياق واحد متصلا بعضها ببعض، و على هذا التقدير يكون قوله «إن الذين آمنوا ثم كفروا»، في مقام التعليل «لقوله و من يكفر بالله - إلى قوله - فقد ضل ضلالا بعيدا» و يكون الآيتان ذواتي مصداق واحد أي إن من يكفر بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر هو الذي آمن ثم كفر ثم آمن ثم كفر ثم ازداد كفرا، و يكون أيضا هو من المنافقين الذين تعرض تعالى لهم في قوله بعد «بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما» إلى آخر الآيات.
و على هذا يختلف المعنى المراد بقوله «إن الذين آمنوا ثم كفروا» إلى آخر الآيات بحسب ما فسر به قوله «يا أيها الذين ءامنوا ءامنوا بالله» و رسوله على ما تقدم من تفاسيره المختلفة: فإن فسر بأن آمنوا بالله و رسوله في الباطن كما آمنتم به في الظاهر كان معنى الإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر ما يبتلى به المنافقون من اختلاف الحال دائما إذا لقوا المؤمنين و إذا لقوا الكفار.
و إن فسر بأن اثبتوا على الإيمان الذي تلبستم به كان المراد من الإيمان ثم الكفر و هكذا هو الردة بعد الردة المعروفة.
و إن فسر بأن المراد دعوة أهل الكتاب إلى الإيمان بالله و رسوله كان المراد بالإيمان ثم الكفر و هكذا الإيمان بموسى ثم الكفر به بعبادة العجل ثم الإيمان بعزير أو بعيسى ثم الكفر به ثم الازدياد فيه بالكفر بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما جاء به من عند ربه، كما قيل.
و إن فسر بأن ابسطوا إجمال إيمانكم على تفاصيل الحقائق كما استظهرناه كان قوله «إن الذين ءامنوا ثم كفروا»، تعليلا منطبقا على حال المنافقين المذكورين فيما بعد، المفسرين بقوله «الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين» فإن من اتصل بالكفار منفصلا عن مجتمع المؤمنين لا يخلو عن الحضور في محاضرهم و الاستيناس بهم، و الشركة في محاوراتهم، و التصديق لبعض ما يتذاكرونه من الكلام الذي لا يرتضيه الله سبحانه، و ينسبونه إلى الدين و أوليائه من المطاعن و المساوىء و يستهزءون و يسخرون به.
فهو كلما لقي المؤمنين و اشترك معهم في شيء من شعائر الدين آمن به، و كلما لقي الكفار و أمضى بعض ما يتقولونه كفر، فلا يزال يؤمن زمانا و يكفر زمانا حتى إذا استحكم فيه هذه السجية كان ذلك منه ازديادا في الكفر و الله أعلم.
و إذ كان مبتلى باختلاف الحال و عدم استقراره فلا توبة له لأنه غير ثابت على حال الندامة لو ندم على ما فعله، إلا أن يتوب و يستقر على توبته استقرارا لا يزلزله اختلاف الأحوال، و لا تحركه عواصف الأهواء، و لذا قيد الله سبحانه التوبة المقبولة من مثل هذا المنافق بقيود لا تبقي مجالا للتغير و التحول فقال في الاستثناء الآتي: «إلا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله الآية.
قوله تعالى: «بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما الذين يتخذون» إلخ تهديد للمنافقين، و قد وصفهم بموالاة الكافرين دون المؤمنين، و هذا وصف أعم مصداقا من المنافقين الذين لم يؤمن قلوبهم، و إنما يتظاهرون بالإيمان فإن طائفة من المؤمنين لا يزالون مبتلين بموالاة الكفار، و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و الاتصال بهم باطنا و اتخاذ الوليجة منهم حتى في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
و هذا يؤيد بعض التأييد أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين طائفة من المؤمنين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، و يؤيده ظاهر قوله في الآية اللاحقة «و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم إلى قوله - إنكم إذا مثلهم» فإن ذلك تقرير لتهديد المنافقين، و الخطاب فيه للمؤمنين، و يؤيده أيضا ما سيصف تعالى حالهم في نفاقهم بقوله «و لا يذكرون الله إلا قليلا» فأثبت لهم شيئا من ذكر الله تعالى، و هو بعيد الانطباق على المنافقين الذين لم يؤمنوا بقلوبهم قط.
قوله تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا» استفهام إنكاري ثم جواب بما يقرر الإنكار فإن العزة من فروع الملك، و الملك لله وحده، قال تعالى «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء و تنزع الملك ممن تشاء و تعز من تشاء و تذل من تشاء»: آل عمران: 26.
قوله تعالى: «و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم - إلى قوله - مثلهم» يريد ما نزله في سورة الأنعام: «و إذا رأيت الذين يخوضون في ءاياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره و إما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين: الأنعام: 68 فإن سورة الأنعام مكية، و سورة النساء مدنية.
و يستفاد من إشارة الآية إلى آية الأنعام أن بعض الخطابات القرآنية وجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة، و المراد بها ما يعم الأمة.
و قوله «إنكم إذا مثلهم تعليل للنهي أي بما نهيناكم لأنكم إذا قعدتم معهم - و الحال هذه - تكونون مثلهم، و قوله «إن الله جامع المنافقين و الكافرين في جهنم». قوله تعالى: «الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله»، التربص: الانتظار.
و الاستحواذ: الغلبة و التسلط، و هذا وصف آخر لهؤلاء المنافقين فإنهم إنما حفظوا رابطة الاتصال بالفريقين جميعا: المؤمنين و الكافرين، يستدرون الطائفتين و يستفيدون ممن حسن حاله منهما، فإن كان للمؤمنين فتح قالوا: إنا كنا معكم فليكن لنا سهم مما أوتيتموه من غنيمة و نحوها، و إن كان للكافرين نصيب قالوا: أ لم نغلبكم و نمنعكم من المؤمنين؟ أي من الإيمان بما آمنوا به و الاتصال بهم فلنا سهم مما أوتيتموه من النصيب أو منة عليكم حيث جررنا إليكم النصيب.
قيل: عبر عما للمؤمنين بالفتح لأنه هو الموعود لهم، و للكافرين بالنصيب تحقيرا له فإنه لا يعبأ به بعد ما وعد الله المؤمنين أن لهم الفتح و أن الله وليهم، و لعله لذلك نسب الفتح إلى الله دون النصيب.
قوله تعالى: «فالله يحكم بينكم يوم القيامة و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» الخطاب للمؤمنين و إن كان ساريا إلى المنافقين و الكافرين جميعا، و أما قوله «و لن يجعل الله»، فمعناه أن الحكم يومئذ للمؤمنين على الكافرين، و لن ينعكس الأمر أبدا، و فيه إياس للمنافقين، أي لييئس هؤلاء المنافقون فالغلبة للمؤمنين على الكافرين بالآخرة.
و يمكن أن يكون نفي السبيل أعم من النشأتين: الدنيا و الآخرة، فإن المؤمنين غالبون بإذن الله دائما ما داموا ملتزمين بلوازم إيمانهم، قال تعالى: «و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين»: آل عمران: 139.
قوله تعالى: «إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم» المخادعة هي الإكثار أو التشديد في الخدعة بناء على أن زيادة المباني تدل على زيادة المعاني.
و قوله «و هو خادعهم» في موضع الحال أي يخادعون الله في حال هو يخدعهم و يئول المعنى إلى أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الصادرة عن النفاق من إظهار الإيمان، و الاقتراب من المؤمنين، و الحضور في محاضرهم و مشاهدهم أن يخادعوا الله أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين فيستدروا منهم بظاهر إيمانهم و أعمالهم من غير حقيقة، و لا يدرون أن هذا الذي خلى بينهم و بين هذه الأعمال و لم يمنعهم منها هو الله سبحانه، و هو خدعة منه لهم و مجازاة لهم بسوء نياتهم و خباثة أعمالهم فخدعتهم له بعينها خدعته لهم.
قوله تعالى: «و إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا» هذا وصف آخر من أوصافهم و هو القيام إلى الصلاة - إذا قاموا إليها - كسالى يراءون الناس، و الصلاة أفضل عبادة يذكر فيها الله، و لو كانت قلوبهم متعلقه بربهم مؤمنة به لم يأخذهم الكسل و التواني في التوجه إليه و ذكره، و لم يعملوا عملهم لمراءاة الناس، و لذكروا الله تعالى كثيرا على ما هو شأن تعلق القلب و اشتغال البال.
قوله تعالى: «مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء»، قال في المجمع: يقال: ذبذبته فذبذب أي حركته فتحرك فهو كتحريك شيء معلق انتهى.
فكون الشيء مذبذبا أن يتردد بين جانبين من غير تعلق بشيء منهما، و هذا نعت المنافقين، يتذبذبون بين ذلك - أي الذي ذكر من الإيمان و الكفر - لا إلى هؤلاء أي لا إلى المؤمنين فقط كالمؤمنين بالحقيقة، و لا إلى الكفار فقط كالكافرين محضا.
و قوله «و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا» في مقام التعليل لما سبقه من حديث الذبذبة، فسبب ترددهم بين الجانبين من غير تعلق بأحدهما أن الله أضلهم عن السبيل فلا سبيل لهم يردونه.
و لهذه العلة بعينها قيل: «مذبذبين بين ذلك» و لم يقل: متذبذبين أي القهر الإلهي هو الذي يجر لهم هذا النوع من التحريك الذي لا ينتهي إلى غاية ثابتة مطمئنة.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء» إلى آخر الآيتين السلطان هو الحجة.
و الدرك بفتحتين - و قد يسكن الراء - قال الراغب: الدرك كالدرج لكن الدرج يقال اعتبارا بالصعود، و الدرك اعتبارا بالحدور، و لهذا قيل: درجات الجنة و دركات النار، و لتصور الحدور في النار سميت هاوية انتهى.
و الآية - كما ترى - تنهى المؤمنين عن الاتصال بولاية الكفار و ترك ولاية المؤمنين، ثم الآية الثانية تعلل ذلك بالوعيد الشديد المتوجه إلى المنافقين، و ليس إلا أن الله سبحانه يعد هذا الصنيع نفاقا يحذر المؤمنين من الوقوع فيه.
و السياق يدل على أن قوله «يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا»، كالنتيجة المستنتجة مما تقدم أو الفرع المتفرع عليه، و هذا كالصريح في أن الآيات السابقة إنما تتعرض لحال مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان من المؤمنين و يسميهم المنافقين، و لا أقل من شمولها لهم ثم يعظ المؤمنين أن لا يقربوا هذا الحمى و لا يتعرضوا لسخط الله، و لا يجعلوا الله تعالى على أنفسهم حجة واضحة فيضلهم و يخدعهم و يذبذبهم في الحياة الدنيا، ثم يجمع بينهم و بين الكافرين في جهنم جميعا، ثم يسكنهم في أسفل درك من النار، و يقطع بينهم و بين كل نصير ينصرهم، و شفيع يشفع لهم.
و يظهر من الآيتين أولا: أن الإضلال و الخدعة و كل سخط إلهي من هذا القبيل إنما عن حجة واضحة تعطيها أعمال العباد، فهي إخزاء على طريق المقابلة و المجازاة، و حاشا الجناب الإلهي أن يبدأهم بالشر و الشقوة من غير تقدم ما يوجب ذلك من قبلهم، فقوله «أ تريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا»؟ يجري مجرى قوله «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26.
و ثانيا: أن في النار لأهلها مراتب تختلف في السفالة، و لا محالة يشتد بحسبها عذابهم يسميها الله تعالى بالدركات.
قوله تعالى: «إلا الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله» استثناء من الوعيد الذي ذكر في المنافقين بقوله: «إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار» الآية و لازم ذلك خروجهم من جماعة المنافقين، و لحوقهم بصف المؤمنين، و لذلك ذيل الاستثناء بذكر كونهم مع المؤمنين، و ذكر ثواب المؤمنين جميعا فقال تعالى: «فأولئك مع المؤمنين و سوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما.
و قد وصف الله هؤلاء الذين استثناهم من المنافقين بأوصاف عديدة ثقيلة، و ليست تنبت أصول النفاق و أعراقه إلا بها، فذكر التوبة و هي الرجوع إلى الله تعالى، و لا ينفع الرجوع و التوب وحده حتى يصلحوا كل ما فسد منهم من نفس و عمل، و لا ينفع الإصلاح إلا أن يعتصموا بالله أي يتبعوا كتابه و سنة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لا سبيل إلى الله إلا ما عينه و ما سوى ذلك فهو سبيل الشيطان.
و لا ينفع الاعتصام المذكور إلا إذا أخلصوا دينهم - و هو الذي فيه الاعتصام - لله، فإن الشرك ظلم لا يعفى عنه و لا يغفر، فإذا تابوا إلى الله و أصلحوا كل فاسد منهم و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله كانوا عند ذلك مؤمنين لا يشوب إيمانهم شرك، فآمنوا النفاق و اهتدوا قال تعالى: «الذين ءامنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82.
و يظهر من سياق الآية أن المراد بالمؤمنين هم المؤمنون محضا المخلصون للإيمان، و قد عرفهم الله تعالى بأنهم الذين تابوا و أصلحوا و اعتصموا بالله و أخلصوا دينهم لله، و هذه الصفات تتضمن تفاصيل جميع ما عده الله تعالى في كتابه من صفاتهم و نعوتهم كقوله تعالى «قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون و الذين هم عن اللغو معرضون» إلى آخر الآيات: المؤمنون: 3، و قوله تعالى «و عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما و الذين يبيتون لربهم سجدا و قياما» الآيات: الفرقان: 64، و قوله «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء: 65.
فهذا هو مراد القرآن بالمؤمنين إذا أطلق اللفظ إطلاقا من غير قرينة تدل على خلافه.
و قد قال تعالى: «فأولئك مع المؤمنين» و لم يقل: فأولئك من المؤمنين لأنهم بتحقق هذه الأوصاف فيهم أول تحققها يلحقون بهم، و لن يكونوا منهم حتى تستمر فيهم الأوصاف على استقرارها، فافهم ذلك.
قوله تعالى: «ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم و ءامنتم»، ظاهره أنه خطاب للمؤمنين، لأن الكلام جار على خطابهم و إنما يخاطبون بهذا الخطاب مع الغض عن إيمانهم و فرضهم كالعاري عنه على ما هو شأن مثل هذا الخطاب.
و هو كناية عن عدم حاجته تعالى إلى عذابهم، و أنهم لو لم يستوجبوا العذاب بتركهم الشكر و الإيمان لم يكن من قبله تعالى ما يوجب عذابهم، لأنه لا ينتفع بعذابهم حتى يؤثره، و لا يستضر بوجودهم حتى يدفعه عن نفسه بعذابهم، فالمعنى: لا موجب لعذابكم إن شكرتم نعمة الله بأداء واجب حقه و آمنتم به و كان الله شاكرا لمن شكره و آمن به، عليما لا يجهل مورده.
و في الآية دلالة على أن العذاب الشامل لأهله إنما هو من قبلهم لا من قبله، و كذا كل ما يستوجب العذاب من ضلال أو شرك أو معصية، و لو كان شيء من ذلك من قبله تعالى لكان العذاب الذي يستتبعه أيضا من قبله لأن المسبب يستند إلى من استند إليه السبب.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم: عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله «إن الذين ءامنوا ثم كفروا ثم ءامنوا - ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا» قال: نزلت في عبد الله بن أبي سرح الذي بعثه عثمان إلى مصر ثم ازداد كفرا حين لم يبق فيه من الإيمان شيء و فيه، عن أبي بصير قال: سمعته يقول: «إن الذين ءامنوا ثم كفروا» الآية من زعم أن الخمر حرام ثم شربها، و من زعم أن الزنا حرام ثم زنى، و من زعم أن الزكاة حق و لم يؤدها.
أقول: فيه تعميم للآية على الكفر بجميع مراتبه، و من مراتبه ترك الواجبات و فعل المحرمات، و تأييد لما تقدم في البيان.
و فيه، عن محمد بن الفضيل: عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قول الله «و قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم ءايات الله - إلى قوله إنكم إذا مثلهم» قال: إذا سمعت الرجل يجحد الحق و يكذب به و يقع في أهله فقم من عنده و لا تقاعده.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
و في العيون، بإسناده عن أبي الصلت الهروي: عن الرضا (عليه السلام) في قول الله جل جلاله «و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» قال: فإنه يقول: و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين حجة، و لقد أخبر الله تعالى عن كفار قتلوا نبيهم بغير الحق و مع قتلهم إياهم لم يجعل الله لهم على أنبيائه سبيلا. و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي: «و لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا» قال: في الآخرة.
أقول: و قد تقدم أن ظاهر السياق هو الآخرة و لو عمم لغيرها بأخذ الجملة وحدها شملت الحجة في الدنيا.
و في العيون، بإسناده عن الحسن بن فضال قال: سألت علي بن موسى الرضا (عليهما السلام) عن قوله «يخادعون الله و هو خادعهم» فقال الله تبارك و تعالى: لا يخادع، و لكنه يجازيهم جزاء الخديعة. و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل: فيما النجاة غدا؟ فقال: النجاة أن لا تخادعوا الله فيخدعكم فإنه من يخادع الله يخدعه، و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر. فقيل: فكيف يخادع الله؟ قال: يعمل بما أمر الله ثم يريد به غيره فاتقوا الرئاء فإنه شرك بالله، إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له. و في الكافي، بإسناده عن أبي المعزى الخصاف رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله عز و جل في السر فقد ذكر الله كثيرا، إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية، و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: «يراءون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا» أقول: و هذا معنى آخر لقلة الذكر لطيف.
و في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن علي قال: لا يقل عمل مع تقوى، و كيف يقل ما يتقبل؟.
أقول: و هذا أيضا معنى لطيف، و مرجعه بالحقيقة إلى ما مر في الخبر السابق.
و فيه: أخرج مسلم و أبو داود و البيهقي في سننه عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا.
أقول: و هذا معنى آخر لقلة الذكر فإن لمثل هذا المصلي من الذكر مجرد التوجه إلى الله بقيامه إلى الصلاة، و كان يمكنه أن يستغرق في ذكره بالحضور و الطمأنينة في صلاته.
و المراد بكون الشمس بين قرني الشيطان دنوها من أفق الغروب كأنه يجعل النهار و الليل قرنين للشيطان ينطح بهما ابن آدم أو يظهر لابن آدم.
و فيه: أخرج عبد بن حميد و البخاري في تاريخه و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة و إلى هذه مرة لا تدري أيهما تتبع و فيه: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كل سلطان في القرآن فهو حجة و فيه: و أخرج ابن أبي شيبة و المروزي في زوائد الزهد و أبو الشيخ بن حبان عن مكحول قال: بلغني أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما أخلص عبد لله أربعين صباحا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
أقول: و الرواية من المشهورات، و قد رويت بلفظها أو بمعناها بطرق أخرى.
و فيه: أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، قيل: يا رسول الله و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزه عن المحارم.
أقول: و الرواية مستفيضة معنى و قد رويت بطرق مختلفة في جوامع أهل السنة و الشيعة عن النبي و أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و سنورد عمدة ألفاظها المنقولة في موضع يناسبها إن شاء الله تعالى.
و في ذيل هذه الآيات روايات في أسباب النزول مختلفة متشتتة، تركنا إيرادها لظهورها في الجري و تطبيق المصداق.
و الله أعلم.
|