بيان
مضمون الآيتين لا يخلو عن ارتباط بما تقدمهما من الآيتين فإنه ما قد اختتمتا بذكر التوبة فمن الممكن أن يكون هاتان نزلتا مع تينك، و هاتان الآيتان مع ذلك متضمنتان لمعنى مستقل في نفسه، و هو إحدى الحقائق العالية الإسلامية و التعاليم الراقية القرآنية، و هي حقيقة التوبة و شأنها و حكمها.
قوله تعالى: «إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب» التوبة هي الرجوع، و هي رجوع من العبد إلى الله سبحانه بالندامة و الانصراف عن الإعراض عن العبودية، و رجوع من الله إلى العبد رحمة بتوفيقه للرجوع إلى ربه أو بغفران ذنبه، و قد مر مرارا أن توبة واحدة من العبد محفوفة بتوبتين من الله سبحانه على ما يفيده القرآن الكريم.
و ذلك أن التوبة من العبد حسنة تحتاج إلى قوة و الحسنات من الله، و القوة لله جميعا فمن الله توفيق الأسباب حتى يتمكن العبد من التوبة و يتمشى له الانصراف عن التوغل في غمرات البعد و الرجوع إلى ربه ثم إذا وفق للتوبة و الرجوع احتاج في التطهر من هذه الألواث، و زوال هذه القذارات، و الورود و الاستقرار في ساحة القرب إلى رجوع آخر من ربه إليه بالرحمة و الحنان و العفو و المغفرة.
و هذان الرجوعان من الله سبحانه هما التوبتان الحافتان لتوبة العبد و رجوعه قال تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا: «التوبة: 118» و هذه هي التوبة الأولى، و قال تعالى: فأولئك أتوب عليهم: «البقرة: 160» و هذه هي التوبة الثانية، و بين التوبتين منه تعالى توبة العبد كما سمعت.
و أما قوله: على الله للذين، لفظة على و اللام تفيدان معنى النفع و الضرر كما في قولنا: دارت الدائرة لزيد على عمرو، و كان السباق لفلان على فلان، و وجه إفادة على و اللام معنى الضرر و النفع أن على تفيد معنى الاستعلاء، و اللام معنى الملك و الاستحقاق، و لازم ذلك أن المعاني المتعلقة بطرفين ينتفع بها أحدهما و يتضرر بها الآخر كالحرب و القتال و النزاع و نحوها فيكون أحدهما الغالب و الآخر المغلوب ينطبق على الغالب منهما معنى الملك و على المغلوب معنى الاستعلاء، و كذا ما أشبه ذلك كمعنى التأثير بين المتأثر و المؤثر، و معنى العهد و الوعد بين المتعهد و المتعهد له، و الواعد و الموعود له و هكذا، فظهر أن كون على و اللام لمعنى الضرر و النفع إنما هو أمر طار من ناحية مورد الاستعمال لا من ناحية معنى اللفظ.
و لما كان نجاح التوبة إنما هو لوعد وعده الله عباده فأوجبها بحسبه على نفسه لهم قال هاهنا: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة فيجب عليه تعالى قبول التوبة لعباده لكن لا على أن لغيره أن يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف سواء سمي ذلك الغير بالعقل أو نفس الأمر أو الواقع أو الحق أو شيئا آخر، تعالى عن ذلك و تقدس بل على أنه تعالى وعد عباده أن يقبل توبة التائب منهم و هو لا يخلف الميعاد، فهذا معنى وجوب قبول التوبة على الله فيما يجب، و هو أيضا معنى وجوب كل ما يجب على الله من الفعل.
و ظاهر الآية أولا أنها لبيان أمر التوبة التي لله أعني رجوعه تعالى بالرحمة إلى عبده دون توبة العبد و إن تبين بذلك أمر توبة العبد بطريق اللزوم فإن توبة الله سبحانه إذا تمت شرائطها لم ينفك ذلك من تمام شرائط توبة العبد، و هذا أعني كون الآية في مقام بيان توبة الله سبحانه لا يحتاج إلى مزيد توضيح.
و ثانيا: أنها تبين أمر التوبة أعم مما إذا تاب العبد من الشرك و الكفر بالإيمان أو تاب من المعصية إلى الطاعة بعد الإيمان فإن القرآن يسمي الأمرين جميعا بالتوبة قال تعالى: الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به و يستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة و علما فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك: «المؤمن: 7» يريد: للذين آمنوا بقرينة أول الكلام فسمى الإيمان توبة، و قال تعالى: ثم تاب عليهم: «التوبة: 118».
و الدليل على أن المراد هي التوبة أعم من أن تكون من الشرك أو المعصية التعميم الموجود في الآية التالية: و ليست التوبة «إلخ» فإنها تتعرض لحال الكافر و المؤمن معا، و على هذا فالمراد بقوله: يعملون السوء ما يعم حال المؤمن و الكافر معا فالكافر كالمؤمن الفاسق ممن يعمل السوء بجهالة إما لأن الكفر من عمل القلب، و العمل أعم من عمل القلب و الجوارح، أو لأن الكفر لا يخلو من أعمال سيئة من الجوارح فالمراد من الذين يعملون السوء بجهالة الكافر و الفاسق إذا لم يكونا معاندين في الكفر و المعصية.
و أما قوله تعالى: بجهالة فالجهل يقابل العلم بحسب الذات غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلا من أعمالهم الجارية عن علم و إرادة، و أن الإرادة إنما تكون عن حب ما و شوق ما سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل لكن من له عقل مميز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيئة المذمومة عند العقلاء فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيئات المذمومة لهوى نفساني و داعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم، و غاب عنه عقله المميز الحاكم في الحسن و القبيح و الممدوح و المذموم، و ظهر عليه الهوى و عندئذ يسمى حاله في علمه و إرادته «جهالة» في عرفهم و إن كان بالنظر الدقيق نوعا من العلم لكن لما لم يؤثر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل و ذمه في ردعه عن الوقوع في القبح و الشناعة ألحق بالعدم فكان هو جاهلا عندهم حتى إنهم يسمون الإنسان الشاب الحدث السن قليل التجربة جاهلا لغلبة الهوى و ظهور العواطف و الإحساسات النيئة على نفسه، و لذلك أيضا تراهم لا يسمون حال مقترف السيئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيئة عن الهوى و العاطفة جهالة بل يسمونها عنادا و عمدا و غير ذلك.
فتبين بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى و ظهور الشهوة و الغضب من غير عناد مع الحق، و من خواص هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنت ثورة القوى و خمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف للسيئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج عاد الإنسان إلى العلم و زالت الجهالة، و بانت الندامة بخلاف الفعل الصادر عن عناد و تعمد و نحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى و العواطف و الأميال النفسانية بل أمرا يسمى عندهم بخبث الذات و رداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى و الأميال سريعا أو بطيئا بل دام نوعا بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله.
نعم ربما يتفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده و لجاجه و استعلائه على الحق فيتواضع للحق و يدخل في ذل العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة، و في الحقيقة كل معصية جهالة من الإنسان، و على هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة و العافية.
و من هنا يظهر معنى قوله تعالى: ثم يتوبون من قريب أي إن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفا على طريقته ملازما لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى و العمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج بل يرجع عن عمله من قريب فالمراد بالقريب العهد القريب أو الزمان القريب و هو قبل ظهور آيات الآخرة و قدوم الموت.
و كل معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جزاء عمله و وبال فعله ألزمته نفسه على الندامة و التبري من فعله لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه و هداية فطرته بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشريرة للتخلص من وبال الفعل، و الدليل عليه أنه إذا اتفق تخلصه من الوبال المخصوص عاد ثانيا إلى ما كان عليه من سيئات الأعمال قال تعالى: و لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون: «الأنعام: 28».
و الدليل على أن المراد بالقريب في الآية هو ما قبل ظهور آية الموت قوله تعالى في الآية التالية: و ليست التوبة إلى قوله: قال إني تبت الآن.
و على هذا يكون قوله: ثم يتوبون من قريب كناية عن المساهلة المفضية إلى فوت الفرصة.
و يتبين مما مر أن القيدين جميعا أعني قوله: بجهالة، و قوله: ثم يتوبون من قريب احترازيان يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد و استعلاء على الله، و بالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلا و توانيا و مماطلة إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضا قبول هذا الرجوع، و لا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار و موطن الطاعة و المعصية، و مع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية، قال تعالى: يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: «الأنعام 158» و قال تعالى: فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده و خسر هنالك الكافرون: «المؤمن: 85» إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكبارا على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع و التذلل لله، و لم يتساهل و يتسامح في أمر التوبة تساهلا يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
و يمكن أن يكون قوله: بجهالة قيدا توضيحيا، و يكون المعنى: للذين يعملون السوء و لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم فإنه مخاطرة بالنفس و تعرض لعذاب أليم، أو لا يكون ذلك إلا عن جهل منهم بكنه المعصية و ما يترتب عليها من المحذور، و لازمه كون قوله: ثم يتوبون من قريب إشارة إلى ما قبل الموت لا كناية عن المساهلة في أمر التوبة فإن من يأتي بالمعصية استكبارا و لا يخضع لسلطان الربوبية يخرج على هذا الفرض بقوله: ثم يتوبون من قريب لا بقوله: بجهالة و على هذا لا يمكن الكناية بقوله: ثم يتوبون عن التساهل و التواني فافهم ذلك، و لعل الوجه الأول أوفق لظاهر الآية.
و قد ذكر بعضهم: أن المراد بقوله: ثم يتوبون من قريب أن تتحقق التوبة في زمان قريب من وقت وقوع المعصية عرفا كزمان الفراغ من إتيان المعصية أو ما يعد عرفا متصلا به لا أن يمتد إلى حين حضور الموت كما ذكر.
و هو فاسد لإفساده معنى الآية التالية فإن الآيتين في مقام بيان ضابط كلي لتوبة الله سبحانه أي لقبول توبة العبد على ما يدل عليه الحصر الوارد في قوله: إنما التوبة على الله للذين إلخ و الآية الثانية تبين الموارد التي لا تقبل فيها التوبة، و لم يذكر في الآية إلا موردان هما التوبة للمسيء المتسامح في التوبة إلى حين حضور الموت، و التوبة للكافر بعد الموت، و لو كان المقبول من التوبة هو ما يعد عرفا قريبا متصلا بزمان المعصية لكان للتوبة غير المقبولة مصاديق أخر لم تذكر في الآية.
قوله تعالى: «فأولئك يتوب الله عليهم و كان الله عليما حكيما» الآيتان باسم الإشارة الموضوع للبعيد لا يخلو من إشارة إلى ترفيع قدرهم و تعظيم أمرهم كما يدل قوله: يعملون السوء بجهالة على المساهلة في إحصاء معاصيهم على خلاف ما في الآية الثانية: و ليست التوبة للذين يعملون السيئات إلخ.
و قد اختير لختم الكلام قوله: و كان الله عليما حكيما دون أن يقال: و كان الله غفورا رحيما للدلالة على أن فتح باب التوبة إنما هو لعلمه تعالى بحال العباد و ما يؤديهم إليه ضعفهم و جهالتهم، و لحكمته المقتضية لوضع ما يحتاج إليه إتقان النظام و إصلاح الأمور و هو تعالى لعلمه و حكمته لا يغره ظواهر الأحوال بل يختبر القلوب، و لا يستزله مكر و لا خديعة فعلى التائب من العباد أن يتوب حق التوبة حتى يجيبه الله حق الإجابة.
قوله تعالى: «و ليست التوبة للذين يعملون السيئات» إلخ في عدم إعادة قوله: على الله مع كونه مقصودا ما لا يخفى من التلويح إلى انقطاع الرحمة الخاصة و العناية الإلهية عنهم كما أن إيراد السيئات بلفظ الجمع يدل على العناية بإحصاء سيئاتهم و حفظها عليهم كما تقدمت الإشارة إليه.
و تقييد قوله: يعملون السيئات بقوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت المفيد لاستمرار الفعل إما لأن المساهلة في المبادرة إلى التوبة و تسويفها في نفسه معصية مستمرة متكررة، أو لأنه بمنزلة المداومة على الفعل، أو لأن المساهلة في أمر التوبة لا تخلو غالبا عن تكرر معاص مجانسة للمعصية الصادرة أو مشابهة لها.
و في قوله: حتى إذا حضر أحدهم الموت دون أن يقال: حتى إذا جاءهم الموت دلالة على الاستهانة بالأمر و الاستحقار له أي حتى يكون أمر التوبة هينا هذا الهوان سهلا هذه السهولة حتى يعمل الناس ما يهوونه و يختاروا ما يشاءونه و لا يبالون و كلما عرض لأحدهم عارض الموت قال: إني تبت الآن فتندفع مخاطر الذنوب و مهلكة مخالفة الأمر الإلهي بمجرد لفظ يردده ألسنتهم أو خطور يخطر ببالهم في آخر الأمر.
و من هنا يظهر معنى تقييد قوله: قال إني تبت بقوله: الآن فإنه يفيد أن حضور الموت و مشاهدة هذا القائل سلطان الآخرة هما الموجبان له أن يقول تبت سواء ذكره أو لم يذكره فالمعنى: إني تائب لما شاهدت الموت الحق و الجزاء الحق، و قد قال تعالى في نظيره حاكيا عن المجرمين يوم القيامة: و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون: «السجدة: 12».
فهذه توبة لا تقبل من صاحبها لأن اليأس من الحياة الدنيا و هول المطلع هما اللذان أجبراه على أن يندم على فعله و يعزم على الرجوع إلى ربه و لات حين رجوع حيث لا حياة دنيوية و لا خيرة عملية.
قوله تعالى: «و لا الذين يموتون و هم كفار» هذا مصداق آخر لعدم قبول التوبة و هو الإنسان يتمادى في الكفر ثم يموت و هو كافر فإن الله لا يتوب عليه فإن إيمانه و هو توبته لا ينفعه يومئذ، و قد تكرر في القرآن الكريم أن الكفر لا نجاة معه بعد الموت، و أنهم لا يجابون و إن سألوا، قال تعالى: إلا الذين تابوا و أصلحوا و بينوا فأولئك أتوب عليهم و أنا التواب الرحيم إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون: البقرة: 162، و قال تعالى: إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا و لو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم و ما لهم من ناصرين: - آل عمران: 91، و نفي الناصرين نفي للشفاعة في حقهم كما تقدم في الكلام على الآية في الجزء الثالث من الكتاب.
و تقييد الجملة بقوله: و هم كفار يدل على التوبة للعاصي المؤمن إذا مات على المعصية من غير استكبار و لا تساهل فإن التوبة من العبد بمعنى رجوعه إلى عبودية اختيارية و إن ارتفع موضوعها بالموت كما تقدم لكن التوبة منه تعالى بمعنى الرجوع بالمغفرة و الرحمة يمكن أن يتحقق بعد الموت لشفاعة الشافعين، و هذا في نفسه من الشواهد على أن المراد بالآيتين بيان حال توبة الله سبحانه لعباده لا بيان حال توبة العبد إلى الله إلا بالتبع.
قوله تعالى: «أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما» اسم الإشارة يدل على بعدهم من ساحة القرب و التشريف، و الإعتاد: و الإعداد أو الوعد.
كلام في التوبة
التوبة بتمام معناها الوارد في القرآن من التعاليم الحقيقية المختصة بهذا الكتاب السماوي فإن التوبة بمعنى الإيمان عن كفر و شرك و إن كانت دائرة في سائر الأديان الإلهية كدين موسى و عيسى (عليهما السلام) لكن لا من جهة تحليل حقيقة التوبة، و تسريتها إلى الإيمان بل باسم أن ذلك إيمان.
حتى أنه يلوح من الأصول التي بنوا عليها الديانة المسيحية المستقلة عدم نفع التوبة و استحالة أن يستفيد منها الإنسان كما يظهر مما أوردوه في توجيه الصلب و الفداء، و قد تقدم نقله في الكلام على خلقة المسيح في الجزء الثالث من هذا الكتاب.
هذا و قد انجر أمر الكنيسة بعد إلى الإفراط في أمر التوبة إلى حيث كانت تبيع أوراق المغفرة و تتجر بها، و كان أولياء الدين يغفرون ذنوب العاصين فيما اعترفوا به عندهم! لكن القرآن حلل حال الإنسان بحسب وقوع الدعوة عليه و تعلق الهداية به فوجده بالنظر إلى الكمال و الكرامة و السعادة الواجبة له في حياته الأخروية عند الله سبحانه التي لا غنى له عنها في سيره الاختياري إلى ربه فقيرا كل الفقر في ذاته صفر الكف بحسب نفسه قال تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني: - فاطر: 15، و قال: و لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا يملكون موتا و لا حياة و لا نشورا: - الفرقان: 3.
فهو واقع في مهبط الشقاء و منحط البعد و منعزل المسكنة كما يشير إليه قوله تعالى: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين: - التين: 5، و قوله: و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ثم ننجي الذين اتقوا و نذر الظالمين فيها جثيا: - مريم: 72، و قوله: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى: - طه 117.
و إذا كان كذلك فوروده منزلة الكرامة و استقراره في مستقر السعادة يتوقف على انصرافه عما هو فيه من مهبط الشقاء و منحط البعد و انقلاعه عنه برجوعه إلى ربه، و هو توبته إليه في أصل السعادة و هو الإيمان، و في كل سعادة فرعية و هي كل عمل صالح أعني التوبة و الرجوع عن أصل الشقاء و هو الشرك بالله سبحانه، و عن فروعات الشقاء و هي سيئات الأعمال بعد الشرك، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله و الانخلاع عن ألواث البعد و الشقاء يتوقف عليها الاستقرار في دار الكرامة بالإيمان، و التنعم بأقسام نعم الطاعات و القربات، و بعبارة أخرى يتوقف القرب من الله و دار كرامته على التوبة من الشرك و من كل معصية، قال تعالى: و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: - النور: 31، فالتوبة بمعنى الرجوع إلى الله تعم التوبتين جميعا بل تعمهما و غيرهما على ما سيجيء إن شاء الله.
ثم إن الإنسان لما كان فقيرا في نفسه لا يملك لنفسه خيرا و لا سعادة قط إلا بربه كان محتاجا في هذا الرجوع أيضا إلى عناية من ربه بأمره، و إعانة منه له في شأنه فيحتاج رجوعه إلى ربه بالعبودية و المسكنة إلى رجوع من ربه إليه بالتوفيق و الإعانة، و هو توبة الله سبحانه لعبده المتقدمة على توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: ثم تاب عليهم ليتوبوا: - التوبة: 118، و كذلك الرجوع إلى الله سبحانه يحتاج إلى قبوله بمغفرة الذنوب و تطهيره من القذارات و ألواث البعد، و هذه هي التوبة الثانية من الله سبحانه المتأخرة عن توبة العبد إلى ربه كما قال تعالى: فأولئك يتوب الله عليهم الآية.
و إذا تأملت حق التأمل وجدت أن التعدد في توبة الله سبحانه إنما عرض لها من حيث قياسها إلى توبة العبد، و إلا فهي توبة واحدة هي رجوع الله سبحانه إلى عبده بالرحمة، و يكون ذلك عند توبة العبد رجوعا إليه قبلها و بعدها، و ربما كان مع عدم توبة من العبد كما تقدم استفادة ذلك من قوله: و لا الذين يموتون و هم كفار، و أن قبول الشفاعة في حق العبد المذنب يوم القيامة من مصاديق التوبة و من هذا الباب قوله تعالى: «و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما».
و كذلك القرب و البعد لما كانا نسبيين أمكن أن يتحقق البعد في مقام القرب بنسبة بعض مواقفه و مراحله إلى بعض، و يصدق حينئذ معنى التوبة على رجوع بعض المقربين من عباد الله الصالحين من موقفه الذي هو فيه إلى موقف أرفع منه و أقرب إلى ربه، كما يشهد به ما يحكيه تعالى من توبة الأنبياء و هم معصومون بنص كلامه كقوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه: - البقرة: 37، و قوله تعالى: و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت و إسماعيل - إلى قوله -: و تب علينا إنك أنت التواب الرحيم: - البقرة: 128، و قوله تعالى: حكاية عن موسى (عليه السلام): سبحانك تبت إليك و أنا أول المؤمنين: - الأعراف: 143، و قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): فاصبر إن وعد الله حق و استغفر لذنبك و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار: - المؤمن: 55، و قوله تعالى: لقد تاب الله على النبي و المهاجرين و الأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة: - التوبة: 117.
و هذه التوبة العامة من الله سبحانه هي التي يدل عليها إطلاق آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله تعالى: غافر الذنب و قابل التوب: - المؤمن: 3، و قوله تعالى: يقبل التوبة عن عباده: - الشورى: 25، إلى غير ذلك.
فتلخص مما مر أولا أن نشر الرحمة من الله سبحانه على عبده لمغفرة ذنوبه، و إزالة ظلمة المعاصي عن قلبه - سواء في ذلك الشرك و ما دونه - توبة منه تعالى لعبده و أن رجوع العبد إلى ربه لمغفرة ذنوبه و إزالة معاصيه - سواء في ذلك الشرك و غيره - توبة منه إلى ربه.
و يتبين به أن من الواجب في الدعوة الحقة أن تعتني بأمر المعاصي كما تعتني بأصل الشرك، و تندب إلى مطلق التوبة الشامل للتوبة عن الشرك و التوبة عن المعاصي.
و ثانيا: أن التوبة من الله سبحانه لعبده أعم من المبتدئة و اللاحقة فضل منه كسائر النعم التي يتنعم بها خلقه من غير إلزام و إيجاب يرد عليه تعالى من غيره، و ليس معنى وجوب قبول التوبة عليه تعالى عقلا إلا ما يدل عليه أمثال قوله تعالى: و قابل التوب: «غافر: 3» و قوله: و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون: «النور: 31» و قوله: إن الله يحب التوابين الآية: «البقرة: 222» و قوله: «فأولئك يتوب الله عليهم» الآية من الآيات المتضمنة لتوصيفه تعالى بقبول التوبة، و النادبة إلى التوبة، الداعية إلى الاستغفار و الإنابة و غيرها المشتملة على وعد القبول بالمطابقة أو الالتزام، و الله سبحانه لا يخلف الميعاد.
و من هنا يظهر أن الله سبحانه غير مجبور في قبول التوبة بل له الملك من غير استثناء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد فله أن يقبل ما يقبل من التوبة على ما وعد و يرد ما يرد منها كما هو ظاهر قوله تعالى: إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم: «آل عمران: 90» و يمكن أن يكون من هذا الباب قوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا: «النساء: 137».
و من عجيب ما قيل في هذا الباب قول بعضهم في قوله تعالى في قصة غرق فرعون و توبته، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل و أنا من المسلمين الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين: «يونس: 91».
قال ما محصله: أن الآية لا تدل على رد توبته، و ليس في القرآن أيضا ما يدل على هلاكه الأبدي، و أنه من المستبعد عند من يتأمل سعة رحمة الله و سبقتها غضبه أن يجوز عليه تعالى أنه يرد من التجأ إلى باب رحمته و كرامته متذللا مستكينا بالخيبة و اليأس، و الواحد منا إذا أخذ بالأخلاق الإنسانية الفطرية من الكرم و الجود و الرحمة ليرحم أمثال هذا الإنسان النادم حقيقة على ما قدم من سوء الفعال فكيف بمن هو أرحم الراحمين و أكرم الأكرمين و غياث المستغيثين.
و هو مدفوع بقوله تعالى: «و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن» الآية، و قد تقدم أن الندامة حينئذ ندم كاذب يسوق الإنسان إلى إظهاره مشاهدته وبال الذنب و نزول البلاء.
و لو كان كل ندم توبة و كل توبة مقبولة لدفع ذلك قوله تعالى حكاية لحال المجرمين يوم القيامة: و أسروا الندامة لما رأوا العذاب: «سبأ: 33» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الحاكية لندمهم على ما فعلوا و سؤالهم الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا، و الرد عليهم بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه و إنهم لكاذبون.
و إياك أن تتوهم أن الذي سلكه القرآن الكريم من تحليل التوبة على ما تقدم توضيحه تحليل ذهني لا عبرة به في سوق الحقائق، و ذلك أن البحث في باب السعادة و الشقاء و الصلاح و الطلاح الإنسانيين لا ينتج غير ذلك فإنا إذا اعتبرنا حال الإنسان العادي في المجتمع على ما نراه من تأثير التعليم و التربية في الإنسان وجدناه خاليا في نفسه عن الصلاح و الطلاح الاجتماعيين قابلا للأمرين جميعا ثم إذا أراد أن يتحلى بحلية الصلاح، و يتلبس بلباس التقوى الاجتماعي لم يمكن له ذلك إلا بتوافق الأسباب على خروجه من الحال الذي فيه، و ذلك يحاذي التوبة الأولى من الله سبحانه في باب السعادة المعنوية ثم انتزاعه و انصراف نفسه عما هو فيه من رثاث الحال و قيد التثبط و الإهمال و هو توبة بمنزلة التوبة من العبد فيما نحن فيه ثم زوال هيئة الفساد و وصف الرذالة المستولية على قلبه حتى يستقر فيه وصف الكمال و نور الصلاح فإن القلب لا يسع الصلاح و الطلاح معا، و هذا يحاذي قبول التوبة و المغفرة فيما نحن فيه و كذلك يجري في مرحلة الصلاح الاجتماعي الذي يسير فيه الإنسان بفطرته جميع ما اعتبره الدين في باب التوبة من الأحكام و الآثار جريا على الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
و ثالثا: أن التوبة كما يستفاد من مجموع ما تقدم من الآيات المنقولة و غيرها إنما هي حقيقة ذات تأثير في النفس الإنسانية من حيث إصلاحها و إعدادها للصلاح الإنساني الذي فيه سعادة دنياه و آخرته و بعبارة أخرى التوبة إنما تنفع - إذا نفعت - في إزالة السيئات النفسانية التي تجر إلى الإنسان كل شقاء في حياته الأولى و الأخرى و تمنعه من الاستقرار على أريكة السعادة، و أما الأحكام الشرعية و القوانين الدينية فهي بحالها لا ترتفع عنه بتوبة كما لا ترتفع عنه بمعصية.
نعم ربما ارتبط بعض الأحكام بها فارتفعت بالتوبة بحسب مصالح الجعل، و هذا غير كون التوبة رافعة لحكم من الأحكام قال تعالى: و اللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا و أصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما: «النساء: 16»، و قال تعالى: إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزي في الدنيا و لهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم، فاعلموا أن الله غفور رحيم: «المائدة: 34» إلى غير ذلك.
و رابعا: أن الملاك الذي شرعت لأجله التوبة على ما تبين مما تقدم هو التخلص من هلاك الذنب و بوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح و مقدمة الفوز بالسعادة كما يشير إليه قوله تعالى: و توبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون: «النور: 31»، و من فوائدها مضافة إلى ذلك أن فيها حفظا لروح الرجاء من الانخماد و الركود فإن الإنسان لا يستقيم سيره الحيوي إلا بالخوف و الرجاء المتعادلين حتى يندفع عما يضره و ينجذب إلى ما ينفعه، و لو لا ذلك لهلك، قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم: «الزمر: 54»، و لا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط من الروح الفعالة و جد في العزيمة و السعي ما لم تخسر صفقته في متجر الحياة، و إذا بدا له ما يخسر عمله و يخيب سعيه و يبطل أمنيته استولى عليه اليأس و انسلت به أركان عمله و ربما انصرف بوجهه عن مسيره آيسا من النجاح خائبا من الفوز و الفلاح، و التوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءه، و يحيي به قلبه و قد أشرف على الهلكة و الردى.
و من هنا يظهر سقوط ما ربما يتوهم أن في تشريع التوبة و الدعوة إليها إغراء بالمعصية، و تحريصا على ترك الطاعة، فإن الإنسان إذا أيقن أن الله يقبل توبته إذا اقترف أي معصية من المعاصي لم يخلف ذلك في نفسه أثرا، دون أن تزيد جرأته على هتك حرمات الله و الانغمار في لجج المعاصي و الذنوب، فيدق باب كل معصية قاصدا أن يذنب ثم يتوب.
وجه سقوطه: أن التوبة إنما شرعت مضافا إلى توقف التحلي بالكرامات على غفران الذنوب: للتحفظ على صفة الرجاء و تأثيره حسن أثره، و أما ما ذكر من استلزامه أن يقصد الإنسان كل معصية بنية أن يعصي ثم يتوب، فقد فاته أن التوبة بهذا النعت لا يتحقق معها حقيقة التوبة فإنها انقلاع عن المعصية، و لا انقلاع في هذا الذي يأتي به، و الدليل عليه أنه كان عازما على ذلك قبل المعصية و مع المعصية و بعد المعصية، و لا معنى للندامة أعني التوبة قبل تحقق الفعل بل مجموع الفعل و التوبة في أمثال هذه المعاصي مأخوذ فعلا واحدا مقصودا بقصد واحد مكرا و خديعة يخدع بها رب العالمين، و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله.
و خامسا: أن المعصية و هي الموقف السوء من الإنسان ذو أثر سيىء في حياته لا يتاب منها و لا يرجع عنها إلا مع العلم و الإيقان بمساءتها، و لا ينفك ذلك عن الندم على وقوعها أولا، و الندم تأثر خاص باطني من فعل السيىء.
و يتوقف على استقرار هذا، الرجوع ببعض الأفعال الصالحة المنافية لتلك السيئة الدالة على الرجوع و التوبة ثانيا.
و إلى هذا يرجع جميع ما اعتبر شرعا من آداب التوبة كالندم و الاستغفار و التلبس بالعمل الصالح، و الانقلاع عن المعصية إلى غير ذلك مما وردت به الأخبار، و تعرض له كتب الأخلاق.
و سادسا: أن التوبة و هي الرجوع الاختياري عن السيئة إلى الطاعة و العبودية إنما تتحقق في ظرف الاختيار و هو الحياة الدنيا التي هي مستوى الاختيار، و أما فيما لا اختيار للعبد هناك في انتخاب كل من طريقي الصلاح و الطلاح و السعادة و الشقاوة فلا مسرح للتوبة فيه، و قد تقدم ما يتضح به ذلك.
و من هذا الباب التوبة فيما يتعلق بحقوق الناس فإنها إنما تصلح ما يتعلق بحقوق الله سبحانه، و أما ما يتعلق من السيئة بحقوق الناس مما يحتاج في زواله إلى رضاهم فلا يتدارك بها البتة لأن الله سبحانه احترم الناس بحقوق جعلها لهم في أموالهم و أعراضهم و نفوسهم، و عد التعدي إلى أحدهم في شيء من ذلك ظلما و عدوانا، و حاشاه أن يسلبهم شيئا مما جعله لهم من غير جرم صدر منهم، فيأتي هو نفسه بما ينهى عنه و يظلمهم بذلك، و قد قال عز من قائل: إن الله لا يظلم الناس شيئا: «يونس: 44».
إلا أن الإسلام و هو التوبة من الشرك يمحو كل سيئة سابقة و تبعة ماضية متعلقة بالفروع كما يدل عليه قوله (عليه السلام): الإسلام يجب ما قبله، و به تفسر الآيات المطلقة الدالة على غفران السيئات جميعا كقوله تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم و أسلموا له: - الزمر: 54.
و من هذا الباب أيضا توبة من سن سنة سيئة أو أضل الناس عن سبيل الحق و قد وردت أخبار أن عليه مثل أوزار من عمل بها أو ضل عن الحق فإن حقيقة الرجوع لا تتحقق في أمثال هذه الموارد لأن العاصي أحدث فيها حدثا له آثار يبقى ببقائها، و لا يتمكن من إزالتها كما في الموارد التي لا تتجاوز المعصية ما بينه و بين ربه عز اسمه.
و سابعا: أن التوبة و إن كانت تمحو ما تمحوه من السيئات كما يدل عليه قوله تعالى: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف و أمره إلى الله: - البقرة: 275. على ما تقدم من البيان في الجزء الثاني من هذا الكتاب، بل ظاهر قوله تعالى: إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات و كان الله غفورا رحيما و من تاب و عمل عملا صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا: - الفرقان: 71، و خاصة بملاحظة الآية الثانية أن التوبة بنفسها أو بضميمة الإيمان و العمل الصالح توجب تبدل السيئات حسنات إلا أن اتقاء السيئة أفضل من اقترافها ثم إمحائها بالتوبة فإن الله سبحانه أوضح في كتابه أن المعاصي كيفما كانت إنما تنتهي إلى وساوس شيطانية نوع انتهاء ثم عبر عن المخلصين المعصومين عن زلة المعاصي و عثرة السيئات بما لا يعادله كل مدح ورد في غيرهم قال تعالى: قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان الآيات: - الحجر: 42، و قال تعالى حكاية عن إبليس أيضا في القصة: و لا تجد أكثرهم شاكرين: - الأعراف: 17.
فهؤلاء من الناس مختصون بمقام العبودية التشريفية اختصاصا لا يشاركهم فيه غيرهم من الصالحين التائبين.
بحث روائي
في الفقيه، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في آخر خطبة خطبها: من تاب قبل موته بسنة تاب الله عليه، ثم قال: إن السنة لكثيرة و من تاب قبل موته بشهر تاب الله عليه، ثم قال: و إن الشهر لكثير و من تاب قبل موته بيوم تاب الله عليه، ثم قال: و إن اليوم لكثير و من تاب قبل موته بساعة تاب الله عليه، ثم قال: و إن الساعة لكثيرة من تاب و قد بلغت نفسه هذه و أهوى بيده إلى حلقه تاب الله عليه.
: و سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل «و ليست التوبة للذين يعملون السيئات - حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن» قال: ذلك إذا عاين أمر الآخرة.
أقول: الرواية الأولى رواها في الكافي مسندا عن الصادق (عليه السلام)، و هي مروية من طرق أهل السنة و في معناها روايات أخر.
و الرواية الثانية تفسر الآية و تفسر الروايات الواردة في عدم قبول التوبة عند حضور الموت بأن المراد من حضور الموت العلم به و مشاهدة آيات الآخرة و لا توبة عندئذ، و أما الجاهل بالأمر فلا مانع من قبول توبته، و نظيرها بعض ما يأتي من الروايات.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إذا بلغت النفس هذه - و أهوى بيده إلى حنجرته لم يكن للعالم توبة، و كانت للجاهل توبة.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري في التاريخ و الحاكم و ابن مردويه عن أبي ذر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله يقبل توبة عبده أو يغفر لعبده ما لم يقع الحجاب، قيل و ما وقوع الحجاب؟ قال: تخرج النفس و هي مشركة.
و فيه، أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: و عزتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح فقال الله تبارك و تعالى: و عزتي لا أحول بينه و بين التوبة ما دام الروح فيه.
و في الكافي، عن علي الأحمسي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: و الله ما ينجو من الذنوب إلا من أقر بها، قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام): كفى بالندم توبة.
و فيه، بطريقين عن ابن وهب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله تعالى فستر عليه فقلت: و كيف يستر عليه؟ قال، ينسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ثم يوحي الله إلى جوارحه و إلى بقاع الأرض: أن اكتمي عليه ذنوبه فيلقى الله حين يلقاه و ليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب.
و فيه، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أما و الله إنها ليست إلا لأهل الإيمان. قلت: فإن عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة؟ فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر الله منه و يتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ قلت: فإن فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب و يستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد الله تعالى عليه بالمغفرة، و إن الله غفور رحيم يقبل التوبة، و يعفو عن السيئات فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة الله.
و في تفسير العياشي، عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: و إني لغفار لمن تاب و آمن و عمل صالحا ثم اهتدى قال: لهذه الآية تفسير يدل على ذلك التفسير أن الله لا يقبل من عبد عملا إلا لمن لقيه بالوفاء منه بذلك التفسير، و ما اشترط فيه على المؤمنين و قال: إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة يعني كل ذنب عمله العبد و إن كان به عالما فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربه، و قد قال في ذلك يحكي قول يوسف لإخوته «هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون» فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية الله.
أقول: و الرواية لا تخلو عن اضطراب في المتن و الظاهر أن المراد بالصدر أن العمل إنما يقبل إذا وفى به العبد و لم ينقضه فالتوبة إنما تقبل إذا كانت زاجرة ناهية على الذنب و لو حينا.
و قوله: و قال: إنما التوبة «إلخ» كلام مستأنف أراد به بيان أن قوله: «بجهالة» قيد توضيحي، و أن في مطلق المعصية جهالة على أحد التفسيرين السابقين في ما تقدم، و قد روي هذا الذيل في المجمع أيضا عنه (عليه السلام).
|