بيان
آيات محكمة تعد محرمات النكاح و ما أحل من نكاح النساء، و الآية السابقة عليها المبينة لحرمة نكاح ما نكح الآباء و إن كانت بحسب المضمون من جملتها إلا أن ظاهر سياقها لما كان من تتمة السياق السابق أوردناها في جملة الآيات السابقة مع كونها بحسب المعنى ملحقة بها. و بالجملة جملة الآيات متضمنة لبيان كل محرم نكاحي من غير تخصيص أو تقييد، و هو الظاهر من قوله تعالى بعد تعداد المحرمات: و أحل لكم ما وراء ذلكم الآية، و لذلك لم يختلف أهل العلم في الاستدلال بالآية على حرمة بنت الابن و البنت و أم الأب أو الأم و كذا على حرمة زوجة الجد بقوله تعالى: و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم الآية، و به يستفاد نظر القرآن في تشخيص الأبناء و البنات بحسب التشريع على ما سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم و أخواتكم و عماتكم و خالاتكم و بنات الأخ و بنات الأخت» هؤلاء هن المحرمات بحسب النسب و هي سبعة أصناف، و الأم من اتصل إليها نسب الإنسان بالولادة كمن ولدته من غير واسطة أو بواسطة، كوالدة الأب أو الأم فصاعدة، و البنت من اتصل نسبها بالإنسان بسبب ولادتها منه كالمولودة من صلبه بلا واسطة، و كبنت الابن و البنت فنازلة و الأخت من اتصل نسبها بالإنسان من جهة ولادتهما معا من الأب أو الأم أو منهما جميعا بلا واسطة، و العمة أخت الأب و كذا أخت الجد من جهة الأب أو الأم، و الخالة أخت الأم، و كذا أخت الجدة من جهة الأب أو الأم.
و المراد بتحريم الأمهات و ما يتلوها من الأصناف حرمة نكاحهن على ما يفيده الإطلاق من مناسبة الحكم و الموضوع، كما في قوله تعالى: حرمت عليكم الميتة و الدم: «المائدة: 3» أي أكلهما، و قوله تعالى: فإنها محرمة عليهم: «المائدة: 26» أي سكنى الأرض، و هذا مجاز عقلي شائع، هذا.
و لكنه لا يلائم ما سيأتي من قوله تعالى: «إلا ما ملكت أيمانكم» فإنه استثناء من الوطء دون علقة النكاح على ما سيجيء، و كذا قوله تعالى: أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين على ما سيجيء، فالحق أن المقدر هو ما يفيد معنى الوطء دون علقة النكاح، و إنما لم يصرح تأدبا و صونا للسان على ما هو دأب كلامه تعالى.
و اختصاص الخطاب بالرجال دون أن يقال: حرم عليهن أبناؤهن «إلخ»، أو يقال مثلا: لا نكاح بين المرأة و ولدها «إلخ»، لما أن الطلب و الخطبة بحسب الطبع إنما يقع من جانب الرجال فحسب.
و توجيه الخطاب إلى الجمع مع تعليق الحرمة بالجمع كالأمهات و البنات «إلخ»، تفيد الاستغراق في التوزيع، أي حرمت على كل رجل منكم أمه و بنته، إذ لا معنى لتحريم المجموع على المجموع، و لا لتحريم كل أم و بنت لكل رجل مثلا على كل رجل لأوله إلى تحريم أصل النكاح، فمآل الآية إلى أن كل رجل يحرم عليه نكاح أمه و بنته و أخته «إلخ».
قوله تعالى: «و أمهاتكم اللاتي أرضعنكم و أخواتكم من الرضاعة» شروع في بيان المحرمات بالسبب، و هي سبع ست منها ما في هذه الآية، و سابعتها ما يتضمنه قوله: و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء الآية.
و الآية بسياقها تدل على جعل الأمومة و البنوة بين المرأة و من أرضعته و كذا الإخوة بين الرجل و أخته من الرضاعة حيث أرسل الكلام فيها إرسال المسلم فالرضاعة تكون الروابط النسبية بحسب التشريع، و هذا مما يختص بالشريعة الإسلامية على ما ستجيء الإشارة إليه.
و قد صح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رواه الفريقان أنه قال: إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب و لازمه أن تنتشر الحرمة بالرضاع فيما يحاذي محرمات النسب من الأصناف، و هي الأم و البنت و الأخت و العمة و الخالة و بنت الأخ و بنت الأخت، سبعة أصناف.
و أما ما به يتحقق الرضاع و ما له في نشره الحرمة من الشرائط من حيث الكم و الكيف و المدة و ما يلحق بها من الأحكام فهو مما يتبين في الفقه، و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب، و أما قوله: و أخواتكم من الرضاعة فالمراد به الأخوات الملحقة بالرجل من جهة إرضاع أمه إياها بلبن أبيه و هكذا.
قوله تعالى: «و أمهات نسائكم» سواء كانت النساء أي الأزواج مدخولا بهن أو غير مدخول بهن فإن النساء إذا أضيفت إلى الرجال دلت على مطلق الأزواج، و الدليل على ذلك التقييد الآتي في قوله تعالى: من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن الآية.
قوله تعالى: «و ربائبكم اللاتي في حجوركم» إلى قوله: «فلا جناح عليكم» الربائب جمع الربيبة و هي بنت زوجة الرجل من غيره لأن تدبير أمر من مع المرأة من الولد إلى زوجها فهو الذي يربها و يربيها في العادة الغالبة و إن لم يكن كذلك دائما.
و كذلك كون الربيبة في حجر الزوج أمر مبني على الغالب و إن لم يجر الأمر عليه دائما، و لذلك قيل: إن قوله: اللاتي في حجوركم قيد مبني على الغالب فالربيبة محرمة سواء كانت في حجر زوج أمها أو لم يكن، فالقيد توضيحي لا احترازي.
و من الممكن أن يقال: إن قوله: اللاتي في حجوركم، إشارة إلى ما يستفاد من حكمة تشريع الحرمة في محرمات النسب و السبب على ما سيجيء البحث عنه، و هو الاختلاط الواقع المستقر بين الرجل و بين هؤلاء الأصناف من النساء و المصاحبة الغالبة بين هؤلاء في المنازل و البيوت فلو لا حكم الحرمة المؤبدة لم يمكن الاحتراز من وقوع الفحشاء بمجرد تحريم الزنا على ما سيجيء بيانه.
فيكون قوله: «اللاتي في حجوركم» مشيرا إلى أن الربائب لكونهن غالبا في حجوركم و في صحابتكم تشارك سائر الأصناف في الاشتمال على ملاك التحريم و حكمته.
و كيفما كان ليس قوله: اللاتي في حجوركم قيدا احترازيا يتقيد به التحريم حتى تحل الربيبة لرابها إذا لم تكن في حجره كالبنت الكبيرة يتزوج الرجل بأمها، و الدليل على ذلك المفهوم المصرح به في قوله تعالى: «فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم» حيث ذكر فيه ارتفاع قيد الدخول لكون الدخول دخيلا في التحريم، و لو كان الكون في الحجور مثله لكان من اللازم ذكره، و هو ظاهر.
و قوله: فلا جناح عليكم أي في أن تنكحوهن حذف إيثارا للاختصار لدلالة السياق عليه.
قوله تعالى: «و حلائل أبنائكم الذين من أصلابكم» الحلائل جمع حليلة قال في المجمع: و الحلائل جمع الحليلة، و هي بمعنى محللة مشتقة من الحلال و الذكر حليل، و جمعه أحلة كعزيز و أعزة سميا بذلك لأن كل واحدة منهما يحل له مباشرة صاحبه، و قيل هو من الحلول لأن كل واحد منهما يحال صاحبه أي يحل معه في الفراش، انتهى.
و المراد بالأبناء من اتصل بالإنسان بولادة سواء كان ذلك بلا واسطة أو بواسطة ابن أو بنت، و تقييده بقوله: «الذين من أصلابكم» احتراز عن حليلة من يدعى ابنا بالتبني دون الولادة.
قوله تعالى: «و أن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف» المراد به بيان تحريم نكاح أخت الزوجة ما دامت الزوجة حية باقية تحت حبالة الزوجية فهو أوجز عبارة و أحسنها في تأدية المراد، و إطلاق الكلام ينصرف إلى الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد، فلا مانع من أن ينكح الرجل إحدى الأختين ثم يتزوج بالأخرى بعد طلاق الأولي أو موتها و من الدليل عليه السيرة القطعية بين المسلمين المتصلة بزمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما قوله: «إلا ما قد سلف» فهو كنظيره المتقدم في قوله: «و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف» ناظر إلى ما كان معمولا به بين عرب الجاهلية من الجمع بين الأختين، و المراد به بيان العفو عما سلف من عملهم بالجمع بين الأختين قبل نزول هذه الآية دون ما لو كان شيء من ذلك في زمان النزول بنكاح سابق فإن الآية تدل على منعه لأنه جمع بين الأختين بالفعل كما يدل عليه أيضا ما تقدم نقله من أسباب نزول قوله: «و لا تنكحوا ما نكح آباؤكم» الآية حيث فرق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد نزول الآية بين الأبناء و بين نساء آبائهم مع كون النكاح قبل نزول الآية.
و رفع التحريم - و هو الجواز - عن نكاح سالف لا يبتلى به بالفعل، و العفو عنه من حيث نفس العمل المنقضي و إن كان لغوا لا أثر له لكنه لا يخلو عن الفائدة من حيث آثار العمل الباقية بعده كطهارة المولد و اعتبار القرابة مع الاستيلاد و نحو ذلك.
و بعبارة أخرى لا معنى لتوجيه الحرمة أو الإباحة إلى نكاح سابق قد جمع بين الأختين إذا ماتتا مثلا أو ماتت إحداهما أو حل الطلاق بهما أو بإحداهما لكن يصح رفع الإلغاء و التحريم عن مثل هذا النكاح باعتبار ما استتبعه من الأولاد من حيث الحكم بطهارة مولدهم، و وجود القرابة بينهم و بين آبائهم المولدين لهم و سائر قرابات الآباء، المؤثر ذلك في الإرث و النكاح و غير ذلك.
و على هذا فقوله: «إلا ما قد سلف» استثناء من الحكم باعتبار آثاره الشرعية لا باعتبار أصل تعلقه بعمل قد انقضى قبل التشريع و من هنا يظهر أن الاستثناء متصل لا منقطع كما ذكره المفسرون.
و يمكن أن يرجع الاستثناء إلى جميع الفقرات المذكورة في الآية من غير أن يختص بقوله: «و أن تجمعوا بين الأختين» فإن العرب و إن كانت لا ترتكب من هذه المحرمات إلا الجمع بين الأختين، و لم تكن تقترف نكاح الأمهات و البنات و سائر ما ذكرت في الآية إلا أن هناك أمما كانت تنكح أقسام المحارم كالفرس و الروم و سائر الأمم المتمدنة و غير المتمدنة يوم نزول الآيات على اختلافهم فيه، و الإسلام يعتبر صحة نكاح الأمم غير المسلمة الدائر بينهم على مذاهبهم فيحكم بطهارة مولدهم، و يعتبر صحة قرابتهم بعد الدخول في دين الحق، هذا، لكن الوجه الأول أظهر.
قوله تعالى: «إن الله كان غفورا رحيما» تعليل راجع إلى الاستثناء، و هو من الموارد التي تعلقت فيها المغفرة بآثار الأعمال في الخارج دون الذنوب و المعاصي.
قوله تعالى: «و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم» المحصنات بفتح الصاد اسم مفعول من الإحصان و هو المنع، و منه الحصن الحصين أي المنيع يقال: أحصنت المرأة إذا عفت فحفظت نفسها و امتنعت عن الفجور، قال تعالى: التي أحصنت فرجها: «التحريم: 12» أي عفت و يقال: أحصنت المرأة - بالبناء للفاعل و المفعول - إذا تزوجت فأحصن زوجها أو التزوج إياها من غير زوجها، و يقال: أحصنت المرأة إذا كانت حرة فمنعها ذلك من أن يمتلك الغير بضعها أو منعها ذلك من الزنا لأن ذلك كان فاشيا في الإماء.
و الظاهر أن المراد بالمحصنات في الآية هو المعنى الثاني أي المتزوجات دون الأول و الثالث لأن الممنوع المحرم في غير الأصناف الأربعة عشر المعدودة في الآيتين هو نكاح المزوجات فحسب فلا منع من غيرها من النساء سواء كانت عفيفة أو غيرها، و سواء كانت حرة أو مملوكة فلا وجه لأن يراد بالمحصنات في الآية العفائف مع عدم اختصاص حكم المنع بالعفائف ثم يرتكب تقييد الآية بالتزويج، أو حمل اللفظ على إرادة الحرائر مع كون الحكم في الإماء أيضا مثلهن ثم ارتكاب التقييد بالتزويج فإن ذلك أمر لا يرتضيه الطبع السليم.
فالمراد بالمحصنات من النساء المزوجات و هي التي تحت حبالة التزويج، و هو عطف على موضع أمهاتكم، و المعنى: و حرمت عليكم كل مزوجة من النساء ما دامت مزوجة ذات بعل.
و على هذا يكون قوله: «إلا ما ملكت أيمانكم» رفعا لحكم المنع عن محصنات الإماء على ما ورد في السنة أن لمولى الأمة المزوجة أن يحول بين مملوكته و زوجها ثم ينالها عن استبراء ثم يردها إلى زوجها.
و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بقوله: «إلا ما ملكت أيمانكم» إلا ما ملكت أيمانكم بالنكاح أو بملك الرقبة من العفائف فالمراد بالملك ملك الاستمتاع و التسلط على المباشرة ففيه أولا أنه يتوقف على أن يراد بالمحصنات العفائف دون المزوجات و قد عرفت ما فيه، و ثانيا أن المعهود من القرآن إطلاق هذه العبارة على غير هذا المعنى، و هو ملك الرقبة دون التسلط على الانتفاع و نحوه.
و كذا ما ذكره بعض آخر أن المراد بما ملكته الأيمان الجواري المسبيات إذا كن ذوات أزواج من الكفار، و أيد ذلك بما روي عن أبي سعيد الخدري: أن الآية نزلت في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين، و كانت لهن أزواج في دار الحرب فلما نزلت نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن و لا غير الحبالى حتى يستبرأن.
و فيه مضافا إلى ضعف الرواية أن ذلك تخصيص للآية من غير مخصص، فالمصير إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى: «كتاب الله عليكم» أي الزموا حكم الله المكتوب المقضي عليكم و قد ذكر المفسرون أن قوله: «كتاب الله عليكم» منصوب مفعولا مطلقا لفعل مقدر، و التقدير: كتب الله كتابا عليكم ثم حذف الفعل و أضيف المصدر إلى فاعله و أقيم مقامه، و لم يأخذوا لفظ عليكم اسم فعل لما ذكره النحويون أنه ضعيف العمل لا يتقدم معموله عليه، هذا.
قوله تعالى: «و أحل لكم ما وراء ذلكم» ظاهر التعبير بما الظاهرة في غير أولي العقل، و كذا الإشارة بذلكم الدال على المفرد المذكر، و كذا قوله بعده: أن تبتغوا بأموالكم، أن يكون المراد بالموصول و اسم الإشارة هو المقدر في قوله: حرمت عليكم أمهاتكم، المتعلق به التحريم من الوطء و النيل أو ما هو من هذا القبيل، و المعنى: و أحل لكم من نيلهن ما هو غير ما ذكر لكم، و هو النيل بالنكاح في غير من عد من الأصناف الخمسة عشر أو بملك اليمين، و حينئذ يستقيم بدلية قوله: أن تبتغوا بأموالكم، من قوله: و أحل لكم ما وراء ذلكم كل الاستقامة.
و قد ورد عن المفسرين في هذه الجملة من الآية تفاسير عجيبة كقول بعضهم: إن معنى قوله: «و أحل لكم ما وراء ذلكم»: أحل لكم ما وراء ذات المحارم من أقاربكم، و قول بعض آخر: إن المراد: أحل لكم ما دون الخمس و هي الأربع فما دونها أن تبتغوا بأموالكم على وجه النكاح، و قول بعض آخر: إن المعنى أحل لكم ما وراء ذلكم مما ملكت أيمانكم، و قول بعض آخر: معناها أحل لكم ما وراء ذات المحارم و الزيادة على الأربع أن تبتغوا بأموالكم نكاحا أو ملك يمين.
و هذه وجوه سخيفة لا دليل على شيء منها من قبل اللفظ في الآية، على أنها تشترك في حمل لفظة ما في الآية على أولي العقل، و لا موجب له كما عرفت آنفا، على أن الآية في مقام بيان المحرم من نيل النساء من حيث أصناف النساء لا من حيث عدد الأزواج فلا وجه لتحميل إرادة العدد على الآية، فالحق أن الجملة في مقام بيان جواز نيل النساء فيما سوى الأصناف المعدودة منهن في الآيتين السابقتين بالنكاح أو بملك اليمين.
قوله تعالى: «أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين» بدل أو عطف بيان من قوله: «ما وراء ذلكم» يتبين به الطريق المشروع في نيل النساء و مباشرتهن، و ذلك أن الذي يشمله قوله: «و أحل لكم ما وراء ذلكم» من المصداق ثلاثة: النكاح و ملك اليمين و السفاح و هو الزنا فبين بقوله: «أن تبتغوا بأموالكم» إلخ، المنع عن السفاح و قصر الحل في النكاح و ملك اليمين ثم اعتبر الابتغاء بالأموال و هو في النكاح المهر و الأجرة - ركن من أركانه - و في ملك اليمين الثمن - و هو الطريق الغالب في تملك الإماء - فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا: أحل لكم فيما سوى الأصناف المعدودة أن تطلبوا مباشرة النساء و نيلهن بإنفاق أموالكم في أجرة المنكوحات من النساء نكاحا من غير سفاح أو إنفاقها في ثمن الجواري و الإماء.
و من هنا يظهر أن المراد بالإحصان في قوله: «محصنين غير مسافحين» إحصان العفة دون إحصان التزوج و إحصان الحرية فإن المراد بابتغاء الأموال في الآية أعم مما يتعلق بالنكاح أو بملك اليمين و لا دليل على قصرها في النكاح حتى يحمل الإحصان على إحصان التزوج، و ليس المراد بإحصان العفة الاحتراز عن مباشرة النساء حتى ينافي المورد بل ما يقابل السفاح أعني التعدي إلى الفحشاء بأي وجه كان بقصر النفس في ما أحل الله، و كفها عما حرم الله من الطرق العادية في التمتع المباشري الذي أودع النزوع إليه في جبلة الإنسان و فطرته.
و بما قدمناه يظهر فساد ما ذكره بعضهم: أن قوله «أن تبتغوا بأموالكم»، بتقدير لام الغاية أو ما يؤدي معناها، و التقدير لتبتغوا، أو إرادة أن تبتغوا.
و ذلك أن مضمون قوله: أن تبتغوا، بوجه عين ما أريد بقوله: «ما وراء ذلكم» لا أنه أمر مترتب عليه مقصود لأجله، و هو ظاهر.
و كذا ما يظهر من كلام بعضهم: أن المراد بالمسافحة مطلق سفح الماء و صبه من غير أن يقصد به الغاية التي وضع الله سبحانه هذه الداعية الشهوية الفطرية في الإنسان لأجلها، و هي غرض تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، و بالمقابلة يكون الإحصان هو الازدواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد و التناسل، هذا.
و إني لست أرى هذا القائل إلا أنه اختلط عليه طريق البحث فخلط البحث في ملاك الحكم المسمى بحكمة التشريع بالبحث عن نفس الحكم فلزمه ما لا يسعه الالتزام به من اللوازم.
و أحد البحثين و هو البحث عن الملاك عقلي، و الآخر و هو البحث عن الحكم الشرعي و ما له من الموضوع و المتعلق و الشرائط و الموانع لفظي يتبع في السعة و الضيق البيان اللفظي من الشارع، و إنا لا نشك أن جميع الأحكام المشرعة تتبع مصالح و ملاكات حقيقية، و حكم النكاح الذي هو أيضا أحدها يتبع في تشريعه مصلحة واقعية و ملاكا حقيقيا، و هو التوالد و التناسل، و نعلم أن نظام الصنع و الإيجاد أراد من النوع الإنساني البقاء النوعي ببقاء الأفراد ما شاء الله، ثم احتيل إلى هذا الغرض بتجهيز البنية الإنسانية بجهاز التناسل الذي يفصل أجزاء منه فيربيه و يكونه إنسانا جديدا يخلف الإنسان القديم فتمتد به سلسلة النوع من غير انقطاع، و احتيل إلى تسخير هذا الجهاز للعمل و الإنتاج بإيداع القوة الشهوانية التي يحن بها أحد القبيلين - الذكر و الأنثى - من الأفراد إلى الآخر، و ينجذب بها كل إلى صاحبه بالوقوع عليه و النيل، ثم كمل ذلك بالعقل الذي يمنع من إفساد هذا السبيل الذي يندب إليه نظام الخلقة.
و في عين أن نظام الخلقة بالغ أمره و واجد غرضه الذي هو بقاء النوع لسنا نجد أفراد هذه الاتصالات المباشرية بين الذكر و الأنثى و لا أصنافها موصلة إلى غرض الخلقة دائما بل إنما هي مقدمة غالبية، فليس كل ازدواج مؤديا إلى ظهور الولد، و لا كل عمل تناسلي كذلك، و لا كل ميل إلى هذا العمل يؤثر هذا الأثر، و لا كل رجل أو كل امرأة، و لا كل ازدواج يهدي هداية اضطرارية إلى الذواق فالاستيلاد، فالجميع أمور غالبية.
فالتجهز التكويني يدعو الإنسان إلى الازدواج طلبا للنسل من طريق الشهوة، و العقل المودوع فيه يضيف إلى ذلك التحرز و حفظ النفس عن الفحشاء المفسد لسعادة العيش، الهادم لأساس البيوت، القاطع للنسل.
و هذه المصلحة المركبة أعني مصلحة الاستيلاد و الأمن من دبيب الفحشاء هي الملاك الغالبي الذي بني عليه تشريع النكاح في الإسلام غير أن الأغلبية من أحكام الملاك، و أما الأحكام المشرعة لموضوعاتها فهي لا تقبل إلا الدوام.
فليس من الجائز أن يقال: إن النكاح أو المباشرة يتبعان في جوازهما الغرض و الملاك المذكور وجودا و عدما فلا يجوز نكاح إلا بنية التوالد، و لا يجوز نكاح العقيم و لا نكاح العجوز التي لا ترى الحمرة، و لا يجوز نكاح الصغيرة، و لا يجوز نكاح الزاني و لا يجوز مباشرة الحامل، و لا مباشرة من غير إنزال، و لا نكاح من غير تأسيس بيت، و لا يجوز... و لا يجوز... بل النكاح سنة مشروعة بين قبيلي الذكر و الأنثى لها أحكام دائمية، و قد أريد بهذه السنة المشروعة حفظ مصلحة عامة غالبية كما عرفت فلا معنى لجعل سنة مشروعة تابعة لتحقق الملاك وجودا و عدما، و المنع عما لا يتحقق به الملاك من أفراده أو أحكامه.
قوله تعالى: «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة» كان الضمير في قوله: «به» راجع إلى ما يدل عليه قوله: و أحل لكم ما وراء ذلكم «و هو النيل أو ما يؤدي معناه، فيكون «ما» للتوقيت، و قوله «منهن» متعلقا بقوله: «استمتعتم» و المعنى: مهما استمتعتم بالنيل منهن فآتوهن أجورهن فريضة.
و يمكن أن يكون ما موصولة، و استمتعتم صلة لها، و ضمير به راجعا إلى الموصول و قوله «منهن» بيانا للموصول، و المعنى: و من استمتعتم به من النساء «إلخ».
و الجملة أعني قوله: فما استمتعتم «إلخ» تفريع لما تقدمها من الكلام - لمكان الفاء - تفريع البعض على الكل أو تفريع الجزئي على الكلي بلا شك فإن ما تقدم من الكلام أعني قوله «أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين» كما تقدم بيانه شامل لما في النكاح و ملك اليمين، فتفريع قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن عليه يكون من تفريع الجزء على الكل أو تفريع بعض الأقسام الجزئية على المقسم الكلي.
و هذا النوع من التفريع كثير الورود في كلامه تعالى كقوله عز من قائل: أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر الآية: «البقرة: 184» و قوله: فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج الآية: «البقرة: 196» و قوله لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله الآية: «البقرة: 256» إلى غير ذلك.
و المراد بالاستمتاع المذكور في الآية نكاح المتعة بلا شك فإن الآية مدنية نازلة في سورة النساء في النصف الأول من عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الهجرة على ما يشهد به معظم آياتها، و هذا النكاح أعني نكاح المتعة كانت دائرة بينهم معمولة عندهم في هذه البرهة من الزمان من غير شك - و قد أطبقت الأخبار على تسلم ذلك - سواء كان الإسلام هو المشرع لذلك أو لم يكن فأصل وجوده بينهم بمرأى من النبي و مسمع منه لا شك فيه، و كان اسمه هذا الاسم و لا يعبر عنه إلا بهذا اللفظ فلا مناص من كون قوله: «فما استمتعتم به منهن» محمولا عليه مفهوما منه هذا المعنى كما أن سائر السنن و العادات و الرسوم الدائرة بينهم في عهد النزول بأسمائها المعروفة المعهودة كلما نزلت آية متعرضة لحكم متعلق بشيء من تلك الأسماء بإمضاء أو رد أو أمر أو نهي لم يكن بد من حمل الأسماء الواردة فيها على معانيها المسماة بها من غير أن تحمل على معانيها اللغوية الأصلية.
و ذلك كالحج و البيع و الربا و الربح و الغنيمة و سائر ما هو من هذا القبيل فلم يمكن لأحد أن يدعي أن المراد بحج البيت قصده، و هكذا، و كذلك ما أتى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الموضوعات الشرعية ثم شاع الاستعمال حتى عرفت بأساميها الشرعية كالصلاة و الصوم و الزكاة و حج التمتع و غير ذلك لا مجال بعد تحقق التسمية لحمل ألفاظها الواقعة في القرآن الكريم على معانيها اللغوية الأصلية بعد تحقق الحقيقة الشرعية أو المتشرعية فيها.
فمن المتعين أن يحمل الاستمتاع المذكور في الآية على نكاح المتعة لدورانه بهذا الاسم عندهم يوم نزول الآية سواء قلنا بنسخ نكاح المتعة بعد ذلك بكتاب أو سنة أو لم نقل فإنما هو أمر آخر.
و جملة الأمر أن المفهوم من الآية حكم نكاح المتعة، و هو المنقول عن القدماء من مفسري الصحابة و التابعين كابن عباس و ابن مسعود و أبي بن كعب و قتادة و مجاهد و السدي و ابن جبير و الحسن و غيرهم، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و منه يظهر فساد ما ذكره بعضهم في تفسير الآية أن المراد بالاستمتاع هو النكاح فإن إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع منها هذا، و ربما ذكر بعضهم أن السين و التاء في استمتعتم للتأكيد، و المعنى: تمتعتم.
و ذلك لأن تداول نكاح المتعة بهذا الاسم و معروفيته بينهم لا يدع مجالا لخطور هذا المعنى اللغوي بذهن المستمعين.
على أن هذا المعنى على تقدير صحته و انطباق معنى الطلب على المورد أو كون استمتعتم بمعنى تمتعتم، لا يلائم الجزاء المترتب عليه أعني قوله: «فآتوهن أجورهن»، فإن المهر يجب بمجرد العقد، و لا يتوقف على نفس التمتع و لا على طلب التمتع الصادق على الخطبة و إجراء العقد و الملاعبة و المباشرة و غير ذلك، بل يجب نصفه بالعقد و نصفه الآخر بالدخول.
على أن الآيات النازلة قبل هذه الآية قد استوفت بيان وجوب إيتاء المهر على جميع تقاديره، فلا وجه لتكرار بيان الوجوب، و ذلك كقوله تعالى: و آتوا النساء صدقاتهن نحلة الآية: «النساء 4»، و قوله تعالى: و إن أردتم استبدال زوج مكان زوج و آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا، الآيتان: «النساء: 20»، و قوله تعالى لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة و متعوهن على الموسع قدره و على المقتر قدره - إلى أن قال -: و إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن و قد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الآيتان: «البقرة: 237».
و ما احتمله بعضهم أن الآية أعني قوله: «فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة» مسوقة للتأكيد يرد عليه أن سياق ما نقل من الآيات و خاصة سياق ذيل قوله: «و إن أردتم استبدال» الآيتين أشد و آكد لحنا من هذه الآية فلا وجه لكون هذه مؤكدة لتلك.
و أما النسخ فقد قيل: إن الآية منسوخة بآية المؤمنون: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: «المؤمنون: 7»، و قيل منسوخة بآية العدة: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن: «الطلاق: 1»، و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء الآية: «البقرة: 228»، حيث إن انفصال الزوجين إنما هو بطلاق و عدة و ليسا في نكاح المتعة، و قيل: منسوخة بآيات الميراث: و لكم نصف ما ترك أزواجكم الآية: «النساء: 12»، حيث لا إرث في نكاح المتعة، و قيل منسوخة بآية التحريم: «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم» الآية، فإنها في النكاح، و قيل: منسوخة بآية العدد: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع الآية: «النساء: 3»، و قيل: منسوخة بالسنة نسخها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام خيبر، و قيل: عام الفتح، و قيل: في حجة الوداع، و قيل: أبيحت متعة النساء ثم حرمت مرتين أو ثلاثا، و آخر ما وقع و استقر عليه من الحكم الحرمة.
أما النسخ بآية المؤمنون، ففيه أنها لا تصلح للنسخ، فإنها مكية و آية المتعة مدنية، و لا تصلح المكية لنسخ المدنية، على أن عدم كون المتعة نكاحا و المتمتع بها زوجة ممنوع، و ناهيك في ذلك ما وقع في الأخبار النبوية، و في كلمات السلف من الصحابة و التابعين من تسميتها نكاحا، و الإشكال عليه بلزوم التوارث و الطلاق و غير ذلك سيأتي الجواب عنه.
و أما النسخ بسائر الآيات كآية الميراث و آية الطلاق و آية العدد ففيه أن النسبة بينها و بين آية المتعة ليست نسبة الناسخ و المنسوخ، بل نسبة العام و المخصص أو المطلق و المقيد، فإن آية الميراث مثلا تعم الأزواج جميعا من كل دائم و منقطع و السنة تخصصها بإخراج بعض أفرادها، و هو المنقطع من تحت عمومها، و كذلك القول في آية الطلاق و آية العدد، و هو ظاهر، و لعل القول بالنسخ ناش من عدم التمييز بين النسبتين.
نعم ذهب بعض الأصوليين فيما إذا ورد خاص ثم عقبه عام يخالفه في الإثبات و النفي إلى أن العام ناسخ للخاص.
لكن هذا مع ضعفه على ما بين في محله غير منطبق على مورد الكلام، و ذلك لوقوع آيات الطلاق و هي العام في سورة البقرة، و هي أول سورة مدنية نزلت قبل سورة النساء المشتملة على آية المتعة، و كذلك آية العدد واقعة في سورة النساء متقدمة على آية المتعة، و كذلك آية الميراث واقعة قبل آية المتعة في سياق واحد متصل في سورة واحدة فالخاص أعني آية المتعة متأخر عن العام على أي حال.
و أما النسخ بآية العدة فبطلانه أوضح فإن حكم العدة جار في المنقطعة كالدائمة و إن اختلفتا مدة فيئول إلى التخصيص أيضا دون النسخ.
و أما النسخ بآية التحريم فهو من أعجب ما قيل في هذا المقام أما أولا فلأن مجموع الكلام الدال على التحريم و الدال على حكم نكاح المتعة كلام واحد مسرود متسق الأجزاء متصل الأبعاض فكيف يمكن تصور تقدم ما يدل على المتعة ثم نسخ ما في صدر الكلام لذيله؟، و أما ثانيا فلأن الآية غير صريحة و لا ظاهرة في النهي عن الزوجية غير الدائمة بوجه من الوجوه، و إنما هي في مقام بيان أصناف النساء المحرمة على الرجال ثم بيان جواز نيل غيرها بنكاح أو بملك يمين، و نكاح المتعة نكاح على ما تقدم، فلا نسبة بين الأمرين بالمباينة حتى يئول إلى النسخ.
نعم ربما قيل: إن قوله تعالى: «و أحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين» حيث قيد حلية النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا إحصان في النكاح المنقطع - و لذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا لعدم كونه محصنا - يدفع كون المتعة مراده بالآية.
لكن يرد عليه ما تقدم أن المراد بالإحصان في قوله «محصنين غير مسافحين» هو إحصان العفة دون إحصان التزوج لكون الكلام بعينه شاملا لملك اليمين كشموله النكاح، و لو سلم أن المراد بالإحصان هو إحصان التزوج عاد الأمر إلى تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع المحصن بحسب السنة دون الكتاب فإن حكم الرجم غير مذكور في الكتاب من أصله.
و أما النسخ بالسنة ففيه - مضافا إلى بطلان هذا القسم من النسخ من أصله لكونه مخالفا للأخبار المتواترة الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب و طرح ما خالفه، و الرجوع إلى الكتاب - ما سيأتي في البحث الروائي.
قوله تعالى: «و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات «، الطول الغنى و الزيادة في القدرة، و كلا المعنيين يلائمان الآية، و المراد بالمحصنات الحرائر بقرينة مقابلته بالفتيات، و هذا بعينه يشهد على أن ليس المراد بها العفائف، و إلا لم تقابل بالفتيات بل بها و بغير العفائف، و ليس المراد بها ذوات الأزواج إذ لا يقع عليها العقد و لا المسلمات و إلا لاستغنى عن التقييد بالمؤمنات.
و المراد بقوله «فمما ملكت أيمانكم» ما ملكته أيمان المؤمنين غير من يريد الازدواج و إلا فتزوج الإنسان بملك يمين نفسه باطل غير مشروع، و قد نسب ملك اليمين إلى المؤمنين و فيهم المريد للتزوج بعد الجميع واحدا غير مختلف لاتحادهم في الدين، و اتحاد مصالحهم و منافعهم كأنهم شخص واحد.
و في تقييد المحصنات و كذا الفتيات بالمؤمنات إشارة إلى عدم جواز تزوج غير المؤمنات من كتابية و مشركة، و لهذا الكلام تتمة ستمر بك إن شاء الله العزيز في أوائل سورة المائدة.
و محصل معنى الآية أن من لم يقدر منكم على أن ينكح الحرائر المؤمنات لعدم قدرته على تحمل أثقال المهر و النفقة فله أن ينكح من الفتيات المؤمنات من غير أن يتحرج من فقدان القدرة على الحرائر، و يعرض نفسه على خطرات الفحشاء و معترض الشقاء.
فالمراد بهذا النكاح هو النكاح الدائم، و الآية في سياق التنزل أي إن لم يمكنكم كذا فيمكنكم كذا، و إنما قصر الكلام في صورة التنزل على بعض أفراد المنزل عنه أعني على النكاح الدائم الذي هو بعض أفراد النكاح الجائز لكون النكاح الدائم هو المتعارف المتعين بالطبع في نظر الإنسان المريد تأسيس البيت و إيجاد النسل و تخليف الولد، و نكاح المتعة تسهيل ديني خفف الله به عن عباده لمصلحة سد طريق الفحشاء، و قطع منابت الفساد.
و سوق الكلام على الجهة الغالبة أو المعروفة السابقة إلى الذهن و خاصة في مقام تشريع الأحكام و القوانين كثير شائع في القرآن الكريم كقوله تعالى: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، و من كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: «البقرة: 185»، مع أن العذر لا ينحصر في المرض و السفر، و قوله تعالى: و إن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا: «النساء: 43»، و الأعذار و قيود الكلام كما ترى مبنية على الغالب المعروف، إلى غير ذلك من الآيات.
هذا على ما ذكروه من حمل الآية على النكاح الدائم، و لا يوجب ذلك من حيث اشتماله على معنى التنزل و التوسعة اختصاص الآية السابقة بالنكاح الدائم، و كون قوله: فما استمتعتم به منهن، غير مسوق لبيان حكم نكاح المتعة كما توهمه بعضهم، لأن هذا التنزل و التوسعة واقع بطرفيه المنزل عنه و المنزل إليه في نفس هذه الآية أعني قوله: فمن لم يستطع منكم طولا «إلخ».
على أن الآية بلفظها لا تأبى عن الحمل على مطلق النكاح الشامل للدائم و المنقطع كما سيتضح بالكلام على بقية فقراتها.
قوله تعالى: «و الله أعلم بإيمانكم بعضكم من بعض» لما كان الإيمان المأخوذ في متعلق الحكم أمرا قلبيا لا سبيل إلى العلم بحقيقته بحسب الأسباب، و ربما أوهم تعليقا بالمتعذر أو المتعسر، و أوجب تحرج المكلفين منه، بين تعالى أنه هو العالم بإيمان عباده المؤمنين و هو كناية عن أنهم إنما كلفوا الجري على الأسباب الظاهرية الدالة على الإيمان كالشهادتين و الدخول في جماعة المسلمين و الإتيان بالوظائف العامة الدينية، فظاهر الإيمان هو الملاك دون باطنه.
و في هداية هؤلاء المكلفين غير المستطيعين إلى الازدواج بالإماء نقص و قصور آخر في الوقوع موقع التأثير و القبول، و هو أن عامة الناس يرون لطبقة المملوكين من العبيد و الإماء هوانا في الأمر و خسة في الشأن و نوع ذلة و انكسار فيوجب ذلك انقباضهم و جماح نفوسهم من الاختلاط بهم و المعاشرة معهم و خاصة بالازدواج الذي هو اشتراك حيوي و امتزاج باللحم و الدم.
فأشار سبحانه بقوله: «بعضكم من بعض» إلى حقيقة صريحة يندفع بالتأمل فيها هذا التوهم الفاسد فالرقيق إنسان كما أن الحر إنسان لا يتميزان في ما به يصير الإنسان واجدا لشئون الإنسانية، و إنما يفترقان بسلسلة من أحكام موضوعة يستقيم بها المجتمع الإنساني في إنتاجه سعادة الناس، و لا عبرة بهذه التميزات عند الله، و الذي به العبرة هو التقوى الذي به الكرامة عند الله، فلا ينبغي للمؤمنين أن ينفعلوا عن أمثال هذه الخطرات الوهمية التي تبعدهم عن حقائق المعارف المتضمنة سعادتهم و فلاحهم، فإن الخروج عن مستوى الطريق المستقيم، و إن كان حقيرا في بادي أمره لكنه لا يزال يبعد الإنسان من صراط الهداية حتى يورده أودية الهلكة.
و من هنا يظهر أن الترتيب الواقع في صدر الآية في صورة الاشتراط و التنزل، أعني قوله: «و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم»، إنما هو جرى في الكلام على مجرى الطبع و العادة، و ليس إلزاما للمؤمنين على الترتيب بمعنى أن يتوقف جواز نكاح الأمة على فقدان الاستطاعة على نكاح الحرة بل لكون الناس بحسب طباعهم سالكين هذا المسلك خاطبهم أن لو لم يقدروا على نكاح الحرائر فلهم أن يقدموا على نكاح الفتيات من غير انقباض، و نبه مع ذلك على أن الحر و الرق من نوع واحد بعض أفراده يرجع إلى بعض.
و من هنا يظهر أيضا فساد ما ذكره بعضهم في قوله تعالى في ذيل الآية: «و أن تصبروا خير لكم» أن المعنى و صبركم عن نكاح الإماء مع العفة خير لكم من نكاحهن لما فيه من الذل و المهانة و الابتذال، هذا، فإن قوله: «بعضكم من بعض» ينافي ذلك قطعا.
قوله تعالى: «فانكحوهن بإذن أهلهن» إلى قوله: «أخدان» المراد بالمحصنات العفائف فإن ذوات البعولة لا يقع عليهن نكاح، و المراد بالمسافحات ما يقابل متخذات الأخدان، الأخدان جمع خدن بكسر الخاء و هو الصديق، يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و الجمع، و إنما أتى به بصيغة الجمع للدلالة على الكثرة نصا، فمن يأخذ صديقا للفحشاء لا يقنع بالواحد و الاثنين فيه لأن النفس لا تقف على حد إذا أطيعت فيما تهواه.
و بالنظر إلى هذه المقابلة قال من قال: إن المراد بالسفاح الزنا جهرا و باتخاذ الخدن الزنا سرا، و قد كان اتخاذ الخدن متداولا عند العرب حتى عند الأحرار و الحرائر لا يعاب به مع ذمهم زنا العلن لغير الإماء.
فقوله «فانكحوهن بإذن أهلهن» إرشاد إلى نكاح الفتيات مشروطا بأن يكون بإذن مواليهن فإن زمام أمرهن إنما هو بيد الموالي لا غير، و إنما عبر عنهم بقوله «أهلهن» جريا على ما يقتضيه قوله قبل: «بعضكم من بعض» فالفتاة واحدة من أهل بيت مولاها و مولاها أهلها.
و المراد بإتيانهن أجورهن بالمعروف توفيتهن مهور نكاحهن و إتيان الأجور إياهن إعطاؤها مواليهن، و قد أرشد إلى الإعطاء بالمعروف عن غير بخس و مماطلة و إيذاء.
قوله تعالى: «فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب» قرىء أحصن بضم الهمزة بالبناء للمفعول و بفتح الهمزة بالبناء للفاعل، و هو الأرجح.
الإحصان في الآية إن كان هو إحصان الازدواج كان أخذه في الشرط المجرد كون مورد الكلام في ما تقدم ازدواجهن، و ذلك أن الأمة تعذب نصف عذاب الحرة إذا زنت سواء كانت محصنة بالازدواج أو لا من غير أن يؤثر الإحصان فيها شيئا زائدا.
و أما إذا كان إحصان الإسلام كما قيل - و يؤيده قراءة فتح الهمزة - تم المعنى من غير مئونة زائدة، و كان عليهن إذا زنين نصف عذاب الحرائر سواء كن ذوات بعولة أو لا.
و المراد بالعذاب هو الجلد دون الرجم لأن الرجم لا يقبل الانتصاف و هو الشاهد على أن المراد بالمحصنات الحرائر غير ذوات الأزواج المذكورة في صدر الآية.
و اللام للعهد فمعنى الآية بالجملة أن الفتيات المؤمنات إذا أتين بفاحشة و هو الزنا فعليهن نصف حد المحصنات غير ذوات الأزواج، و هو جلد خمسين سوطا.
و من الممكن أن يكون المراد بالإحصان إحصان العفة، و تقريره أن الجواري يومئذ لم يكن لهن الاشتغال بكل ما تهواه أنفسهن من الأعمال بما لهن من اتباع أوامر مواليهن و خاصة في الفاحشة و الفجور و كانت الفاحشة فيهن - لو اتفقت - بأمر من مواليهن في سبيل الاستغلال بهن و الاستدرار من عرضهن كما يشعر به النهي الوارد في قوله تعالى: و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: «النور: 33» فالتماسهن الفجور و اشتغالهن بالفحشاء باتخاذها عادة و مكسبا كان فيما كان بأمر مواليهن من دون أن يسع لهن الاستنكاف و التمرد، و إذا لم يكرههن الموالي على الفجور فالمؤمنات منهن على ظاهر تقوى الإسلام، و عفة الإيمان، و حينئذ إن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب، و هو قوله تعالى: فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة «إلخ».
و من هنا يظهر أن لا مفهوم لهذه الشرطية على هذا المعنى و ذلك أنهن إذا لم يحصن و لم يعففن كن مكرهات من قبل مواليهن مؤتمرات لأمرهم كما لا مفهوم لقوله تعالى: و لا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا: «النور: - 33» حيث إنهن إن لم يردن التحصن لم يكن موضوع لإكراههن من قبل الموالي لرضاهن بذلك فافهم.
قوله تعالى: «ذلك لمن خشي العنت منكم» العنت الجهد و الشدة و الهلاك، و كان المراد به الزنا الذي هو نتيجة وقوع الإنسان في مشقة الشبق و جهد شهوة النكاح و فيه هلاك الإنسان.
و الإشارة على ما قيل: إلى نكاح الجواري المذكور في الآية، و عليه فمعنى قوله «و أن تصبروا خير لكم» أن تصبروا عن نكاح الإماء أو عن الزنا خير لكم.
و يمكن أن يكون ذلك إشارة إلى وجوب نكاح الإماء أو وجوب مطلق النكاح لو استفيد شيء منهما من سابق سياق الآية و الله أعلم.
و كيف كان فكون الصبر خيرا إن كان المراد هو الصبر عن نكاح الإماء إنما هو لما فيه من حقوق مواليهن و في أولادهن على ما فصل في الفقه، و إن كان المراد الصبر عن الزنا إنما هو لما في الصبر من تهذيب النفس و تهيئة ملكة التقوى فيها بترك اتباع هواها في الزنا من غير ازدواج أو معه، و الله غفور رحيم يمحو بمغفرته آثار خطرات السوء عن نفوس المتقين من عباده و يرحمهم برحمته.
قوله تعالى: «يريد الله ليبين لكم» إلى آخر الآية، بيان و إشارة إلى غاية تشريع ما سبق من الأحكام في الآيات الثلاث و المصالح التي تترتب عليها إذا عمل بها فقوله: يريد الله ليبين لكم أي أحكام دينه مما فيه صلاح دنياكم و عقباكم، و ما في ذلك من المعارف و الحكم و على هذا فمعمول قوله: يبين محذوف للدلالة على فخامة أمره و عظم شأنه، و يمكن أن يكون قوله: يبين لكم، و قوله: و يهديكم متنازعين في قوله، سنن الذين.
قوله تعالى: «و يهديكم سنن الذين من قبلكم» أي طرق حياة السابقين من الأنبياء و الأمم الصالحة، الجارين في الحياة الدنيا على مرضاة الله، الحائزين به سعادة الدنيا و الآخرة، و المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة لا سننهم بتفاصيلها و جميع خصوصياتها فلا يرد عليه أن من أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها كازدواج الإخوة بالأخوات في سنة آدم، و الجمع بين الأختين: في سنة يعقوب (عليه السلام)، و قد جمع (عليه السلام) بين الأختين ليا أم يهودا و راحيل أم يوسف على ما في بعض الأخبار، هذا.
و هنا معنى آخر قيل به، و هو أن المراد الهداية إلى سنن جميع السابقين سواء كانوا على الحق أو على الباطل، يعني أنا بينا لكم جميع السنن السابقة من حق و باطل لتكونوا على بصيرة فتأخذوا بالحق منها و تدعوا الباطل.
و هذا معنى لا بأس به غير أن الهداية في القرآن غير مستعملة في هذا المعنى، و إنما استعمل فيما استعمل في الإيصال إلى الحق أو إرادة الحق كقوله: إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء: «القصص: 56» و قوله: إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا: «الإنسان: 3» و الأوفق بمذاق القرآن أن يعبر عن أمثال هذه المعاني بلفظ التبيين و القصص و نحو ذلك.
نعم لو جعل قوله يبين و قوله: و يهديكم متنازعين في قوله: «سنن الذين من قبلكم» و قوله: و يتوب عليكم أيضا راجعا إليه، و آل المعنى إلى أن الله يبين لكم سنن الذين من قبلكم، و يهديكم إلى الحق منها، و يتوب عليكم فيما ابتليتم به من باطلها كان له وجه فإن الآيات السابقة فيها ذكر من سنن السابقين و الحق و الباطل منها، و التوبة على ما قد سلف من السنن الباطلة.
قوله تعالى: «و يتوب عليكم و الله عليم حكيم» التوبة المذكورة هو رجوعه إلى عبده بالنعمة و الرحمة، و تشريع الشريعة، و بيان الحقيقة، و الهداية إلى طريق الاستقامة كل ذلك توبة منه سبحانه كما أن قبول توبة العبد و رفع آثار المعصية توبة.
و تذييل الكلام بقوله: و الله عليم حكيم ليكون راجعا إلى جميع فقرات الآية، و لو كان المراد رجوعه إلى آخر الفقرات لكان الأنسب ظاهرا أن يقال: و الله غفور رحيم.
قوله تعالى: «و الله يريد أن يتوب عليكم و يريد الذين» إلخ، كان تكرار ذكر توبته للمؤمنين للدلالة على أن قوله: «و يريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما» إنما يقابل من الفقرات الثلاث في الآية السابقة الفقرة الأخيرة فقط، إذ لو ضم قوله: و يريد الذين «إلخ» إلى الآية السابقة من غير تكرار قوله: و الله يريد «إلخ» أفاد المقابلة في معنى جميع الفقرات و لغا المعنى قطعا.
و المراد بالميل العظيم هتك هذه الحدود الإلهية المذكورة في الآيات بإتيان المحارم، و إلغاء تأثير الأنساب و الأسباب، و استباحة الزنا و المنع عن الأخذ بما سنة الله من السنة القويمة.
قوله تعالى: «يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا» كون الإنسان ضعيفا لما ركب الله فيه القوى الشهوية التي لا تزال تنازعه في ما تتعلق به من المشتهيات، و تبعثه إلى غشيانها فمن الله عليهم بتشريع حلية ما تنكسر به سورة شهوتهم بتجويز النكاح بما يرتفع به غائلة الحرج حيث قال: «و أحل لكم ما وراء ذلكم» و هو النكاح و ملك اليمين فهداهم بذلك سنن الذين من قبلهم، و زادهم تخفيفا منه لهم لتشريع نكاح المتعة إذ ليس معه كلفة النكاح و ما يستتبعه من أثقال الوظائف من صداق و نفقة و غير ذلك.
و ربما قيل: إن المراد به إباحة نكاح الإماء عند الضرورة تخفيفا.
و فيه: أن نكاح الإماء عند الضرورة كان معمولا به بينهم قبل الإسلام على كراهة و ذم، و الذي ابتدعته هذه الآيات هو التسبب إلى نفي هذه الكراهة و النفرة ببيان أن الأمة كالحرة إنسان لا تفاوت بينهما، و أن الرقية لا توجب سقوط صاحبها عن لياقة المصاحبة و المعاشرة.
و ظاهر الآيات - بما لا ينكر - أن الخطاب فيها متوجه إلى المؤمنين من هذه الأمة فالتخفيف المذكور في الآية تخفيف على هذه الأمة، و المراد به ما ذكرناه.
و على هذا فتعليل التخفيف بقوله: «و خلق الإنسان ضعيفا» مع كونه وصفا مشتركا بين جميع الأمم - هذه الأمة و الذين من قبلهم - و كون التخفيف مخصوصا بهذه الأمة إنما هو من قبيل ذكر المقتضي العام و السكوت عما يتم به في تأثيره فكأنه قيل: إنا خففنا عنكم لكون الضعف العام في نوع الإنسان سببا مقتضيا للتخفيف لو لا المانع لكن لم تزل الموانع تمنع عن فعلية التخفيف و انبساط الرحمة في سائر الأمم حتى وصلت النوبة إليكم فعمتكم الرحمة، و ظهرت فيكم آثاره فبرز حكم السبب المذكور و شرع فيكم حكم التخفيف و قد حرمت الأمم السابقة من ذلك كما يدل عليه قوله: ربنا و لا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا: «البقرة: 286»، و قوله: هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج: «الحج: 78».
و من هنا يظهر أن النكتة في هذا التعليل العام بيان ظهور تمام النعم الإنسانية في هذه الأمة.
بحث روائي
عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب، و عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): الرضاع لحمة كلحمة النسب.
و في الدر المنثور، أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة قالت: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هن فيما يقرأ من القرآن.
أقول: و روي فيه عنها ما يقرب منه بطرق أخرى، و هي من روايات التحريف مطروحة بمخالفة الكتاب.
و فيه أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و البيهقي في سننه من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالإبنة أو لم يدخل، و إذا تزوج الأم فلم يدخل بها ثم طلقها فإن شاء تزوج الابنة.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و هو مذهبهم و هو المستفاد من الكتاب كما مر في البيان المتقدم و قد روي من طرق أهل السنة عن علي (عليه السلام): أن أم الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت، و أنها بمنزلة الربيبة، و أن الربيبة إذا لم تكن في حجر زوج أمها لم يحرم عليه نكاحها، و هذه أمور يدفعها المروي عنهم (عليهم السلام) من طرق الشيعة.
و في الكافي، بإسناده عن منصور بن حازم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوج بأمها؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا، فقلت جعلت فداك ما تفتخر الشيعة إلا بقضاء علي (عليه السلام) في هذا في المشيخة التي أفتاه ابن مسعود أنه لا بأس به بذلك. ثم أتى عليا (عليه السلام) فسأله فقال له علي (عليه السلام): من أين يأخذها؟ فقال من قول الله عز و جل: و ربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن - فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم، فقال علي (عليه السلام): إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) للرجل: أما تسمع ما يروي هذا عن علي (عليه السلام)؟. فلما قمت ندمت و قلت: أي شيء صنعت؟ يقول: قد فعله رجل منا و لم ير به بأسا، و أقول أنا: قضى علي (عليه السلام) فيها! فلقيته بعد ذلك و قلت: جعلت فداك مسألة الرجل إنما كان الذي قلت كان زلة مني فما تقول فيها؟ فقال: يا شيخ تخبرني أن عليا (عليه السلام) قضى فيها، و تسألني ما تقول فيها؟.
أقول: و قصة قضائه (عليه السلام) في فتوى ابن مسعود على ما رواه في الدر المنثور، عن سنن البيهقي و غيره: أن رجلا من بني شمخ تزوج امرأة و لم يدخل بها ثم رأى أمها فأعجبته فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم يتزوج أمها ففعل و ولدت له أولادا، ثم أتى ابن مسعود المدينة فقيل له لا تصلح فلما رجع إلى الكوفة قال للرجل: أنها عليك حرام ففارقها.
لكن لم ينسب القول فيه إلى علي (عليه السلام) بل ذكر: أنه سأل عنه أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في لفظ: أنه سأل عنه عمر و في بعض الروايات: فأخبر أنه ليس كما قال، و أن الشرط في الربائب.
و في الإستبصار، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه: أن عليا (عليه السلام) كان يقول: الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي دخلتم بهن في الحجور و غير الحجور سواء، و الأمهات مبهمات دخل بالبنات أم لم يدخل، فحرموا و أبهموا ما أبهم الله.
أقول: و قد عزي إليه (عليه السلام) في بعض الروايات من طرق أهل السنة اشتراط الحجور في حرمة الربائب لكن الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تدفعه، و هو الموافق لما يستفاد من الآية كما تقدم.
و المبهمات من البهمة و هي كون الشيء ذا لون واحد لا يختلط به لون آخر و لا يختلف في لونه سمي به من طبقات النساء المحرمة من كانت حرمة نكاحها مرسلة غير مشروطة، و هي الأمهات و البنات و الأخوات و العمات و الخالات و بنات الأخ و بنات الأخت و ما كان من الرضاعة، و أمهات النساء، و حلائل الأبناء.
و فيه، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل تكون له الجارية فيصيب منها، أ له أن ينكح ابنتها؟ قال: لا هي كما قال الله تعالى: و ربائبكم اللاتي في حجوركم.
و في تفسير العياشي، عن أبي عون قال سمعت أبا صالح الحنفي قال: قال علي (عليه السلام) ذات يوم: سلوني، فقال ابن الكوا أخبرني عن بنت الأخت من الرضاعة، و عن المملوكتين الأختين، فقال: إنك لذاهب في التيه سل عما يعنيك أو ينفعك، فقال ابن الكوا إنما نسألك عما لا نعلم و أما ما نعلم فلا نسألك عنه، ثم قال: أما الأختان المملوكتان أحلتهما آية و حرمتهما آية، و لا أحله و لا أحرمه، و لا أفعله أنا و لا واحد من أهل بيتي.
و في التهذيب، بإسناده عن معمر بن يحيى بن سالم قال: سألنا أبا جعفر (عليه السلام) عما يروي الناس عن أمير المؤمنين (عليه السلام) عن أشياء لم يكن يأمر بها و لا ينهى إلا نفسه و ولده فقلت: كيف يكون ذلك؟ قال: قد أحلتها آية و حرمتها آية أخرى، فقلنا: الأول أن يكون إحداهما نسخت الأخرى أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال: قد بين لهم إذ نهى نفسه و ولده، قلنا: ما منعه أن يبين ذلك للناس؟ قال: خشي أن لا يطاع، فلو أن أمير المؤمنين ثبتت قدماه أقام كتاب الله كله و الحق كله.
أقول: و الرواية المنقولة عنه (عليه السلام) هي التي نقلت عنه (عليه السلام) من طرق أهل السنة كما رواه في الدر المنثور، عن البيهقي و غيره عن علي بن أبي طالب قال في الأختين المملوكتين، أحلتهما آية، و حرمتهما آية، و لا آمر و لا أنهى، و لا أحل و لا أحرم، و لا أفعله أنا و لا أهل بيتي.
و روي فيه، أيضا عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا سأله (عليه السلام) عن ذلك فقال: لو كان إلي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا.
و في التهذيب، بإسناده عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إذا كانت عند الإنسان الأختان المملوكتان فنكح إحداهما ثم بدا له في الثانية فليس ينبغي له أن ينكح الأخرى حتى تخرج الأولى من ملكه يهبها أو يبيعها، فإن وهبها لولده يجزيه.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قوله عز و جل: و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال: هو أن يأمر الرجل عبده و تحته أمته فيقول له: اعتزل امرأتك و لا تقربها ثم يحبسها عنه حتى تحيض ثم يمسها فإذا حاضت بعد مسه إياها ردها عليه بغير نكاح.
و في تفسير العياشي، عن ابن مسكان عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله: و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم قال: هن ذوات الأزواج إلا ما ملكت أيمانكم إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت، فقلت أ رأيت إن زوج غير غلامه؟ قال ليس له أن ينزع حتى تباع، فإن باعها صار بضعها في يد غيره فإن شاء المشتري فرق، و إن شاء أقر.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه و ابن ماجة عن فيروز الديلمي: أنه أدركه الإسلام و تحته أختان، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): طلق أيتهما شئت.
و فيه، أخرج ابن عبد البر في الإستذكار عن إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية و ولدت لي أولادا ثم رغبت في الأخرى فما أصنع؟ قال: تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى. ثم قال: إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد أو قال: إلا الأربع، و يحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب: أقول: و رواه بطرق أخر غير هذا الطريق عنه.
و في صحيحي البخاري و مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يجمع بين المرأة و عمتها، و لا بين المرأة و خالتها.
أقول: و هذا المعنى مروي بغير الطريقين من طرق أهل السنة، لكن المروي من طرق أئمة أهل البيت خلاف ذلك، و الكتاب يساعده.
و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و الفريابي و ابن أبي شيبة و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطحاوي و ابن حيان و البيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم و أصابوا لهم سبايا فكأن ناسا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تحرجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله في ذلك: «و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم» يقول: إلا ما أفاء الله عليكم، فاستحللنا بذلك فروجهن: أقول: و روي ذلك عن الطبراني عن ابن عباس.
و فيه، أخرج عبد بن حميد عن عكرمة: أن هذه الآية التي في سورة النساء: «و المحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم» نزلت في امرأة يقال لها معاذة، و كانت تحت شيخ من بني سدوس يقال له: شجاع بن الحارث، و كان معها ضرة لها قد ولدت لشجاع أولادا رجالا، و أن شجاعا انطلق يمير أهله من هجر، فمر بمعاذة ابن عم لها فقالت له: احملني إلى أهلي فإنه ليس عند هذا الشيخ خير، فاحتملها فانطلق بها فوافق ذلك جيئة الشيخ، فانطلق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله و أفضل العرب، إني خرجت أبغيها الطعام في رجب، فتولت و ألطت بالذنب، و هي شر غالب لمن غلب، رأت غلاما واركا على قتب، لها و له أرب، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): علي علي، فإن كان الرجل كشف بها ثوبا فارجموها، و إلا فردوا إلى الشيخ امرأته، فانطلق مالك بن شجاع و ابن ضرتها فطلبها فجاء بها، و نزلت بيتها. أقول: و قد مر مرارا أن أمثال هذه الأسباب المروية للنزول و خاصة فيما كانت متعلقة بأبعاض الآيات و أجزائها تطبيقات من الرواة و ليست بأسباب حقيقية.
في الفقيه، سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: و المحصنات من النساء قال: هن ذوات الأزواج، فقيل: و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، قال هن العفائف: أقول: و رواه العياشي أيضا عنه (عليه السلام).
و في المجمع، في قوله تعالى: و من لم يستطع منكم طولا أي من لم يجد منكم غنى قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام): و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا ينبغي أن يتزوج الحر المملوكة اليوم، إنما كان ذلك حيث قال الله عز و جل: و من لم يستطع منكم طولا، و الطول المهر، و مهر الحرة اليوم مهر الأمة أو أقل.
أقول: الغنى أحد مصاديق الطول كما تقدم، و الرواية لا تدل على أزيد من الكراهة.
و في التهذيب، بإسناده عن أبي العباس البقباق قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): يتزوج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنا، إن الله تعالى يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن.
و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألت الرضا (عليه السلام) يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال: نعم إن الله عز و جل يقول: فانكحوهن بإذن أهلهن.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قول الله في الإماء «فإذا أحصن» ما إحصانهن؟ قال: يدخل بهن، قلت: فإن لم يدخل بهن ما عليهن حد؟ قال: بلى.
و فيه، عن حريز قال: سألته عن المحصن فقال: الذي عنده ما يغنيه.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في العبيد و الإماء إذا زنا أحدهم أن يجلد خمسين جلدة إن كان مسلما أو كافرا أو نصرانيا، و لا يرجم و لا ينفى.
و فيه، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن عبد مملوك قذف حرا قال: يجلد ثمانين، هذا من حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عز و جل فإنه يضرب نصف الحد. قلت: الذي من حقوق الله عز و جل ما هو؟ قال: إذا زنا أو شرب خمرا، فهذا من الحقوق التي يضرب عليها نصف الحد.
و في التهذيب، بإسناده عن بريد العجلي عن أبي جعفر (عليه السلام): في الأمة تزني قال: تجلد نصف الحد كان لها زوج أو لم يكن.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: المسافحات المعلنات بالزنا المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد، قال: كان أهل الجاهلية يحرمون ما ظهر من الزنا و يستحلون ما خفي، يقولون: أما ما ظهر منه فهو لؤم، و أما ما خفي فلا بأس بذلك، فأنزل الله: و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن.
أقول: و الروايات فيما تقدم من المعاني كثيرة اقتصرنا منها على أنموذج يسير.
بحث آخر روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن المتعة، فقال: نزلت في القرآن: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة - و لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة.
و فيه، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: إنما نزلت: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة: أقول: و روى هذه القراءة العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام)، و رواها الجمهور بطرق عديدة عن أبي بن كعب و عبد الله بن عباس كما سيأتي: و لعل المراد بأمثال هذه الروايات الدلالة على المعنى المراد من الآية دون النزول اللفظي.
و فيه، بإسناده عن زرارة قال: جاء عبد الله بن عمير الليثي إلى أبي جعفر (عليه السلام) فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلها الله في كتابه و على لسان نبيه فهي حلال إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر مثلك يقول هذا و قد حرمها عمر و نهى عنها؟ فقال: و إن كان فعل. فقال: إني أعيذك بالله من ذلك أن تحل شيئا حرمه عمر. قال: فقال له: فأنت على قول صاحبك، و أنا على قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهلم ألاعنك أن القول ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أن الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد الله بن عمير فقال: أ يسرك أن نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمك يفعلن؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر (عليه السلام) حين ذكر نساءه و بنات عمه.
و فيه، بإسناده عن أبي مريم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المتعة نزل بها القرآن و جرت بها السنة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: سمعت أبا حنيفة يسأل أبا عبد الله (عليه السلام) عن المتعة. فقال: أي المتعتين تسأل؟ قال: سألتك عن متعة الحج فأنبئني عن متعة النساء أ حق هي؟ فقال: سبحان الله أ ما قرأت كتاب الله عز و جل: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة فقال: و الله كأنها آية لم أقرأها قط.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال جابر بن عبد الله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم غزوا معه فأحل لهم المتعة و لم يحرمها، و كان علي يقول: لو لا ما سبقني به ابن الخطاب يعني عمر ما زنى إلا شقي. و كان ابن عباس يقول: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة، و هؤلاء يكفرون بها، و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحلها و لم يحرمها.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في المتعة قال: نزلت هذه الآية: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة - و لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة. قال: لا بأس بأن تزيدها و تزيدك إذا انقطع الأجل فيما بينكما، يقول: استحللتك بأجل آخر برضى منها. و لا تحل لغيرك حتى تنقضي عدتها، و عدتها حيضتان.
و عن الشيباني، في قوله تعالى: «و لا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة»: عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: هو أن يزيدها في الأجرة، و تزيده في الأجل.
أقول: و الروايات في المعاني السابقة مستفيضة أو متواترة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و إنما أوردنا طرفا منها، و على من يريد الاطلاع عليها جميعا أن يراجع جوامع الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان متعة النساء في أول الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس معه من يصلح له ضيعته، و لا يحفظ متاعه فيتزوج المرأة إلى قدر ما يرى أنه يفرغ من حاجته فتنظر له متاعه، و تصلح له ضيعته، و كان يقرأ: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى» نسختها: محصنين غير مسافحين، و كان الإحصان بيد الرجل يمسك متى شاء، و يطلق متى شاء.
و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن أبي نضرة قال: قرأت على ابن عباس: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة، قال ابن عباس: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى، فقلت: ما نقرؤها كذلك فقال ابن عباس: و الله لأنزلها الله كذلك: أقول: و رواه في الدر المنثور، عنه و عن عبد بن حميد و ابن جرير و ابن الأنباري في المصاحف.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة قال: في قراءة أبي بن كعب: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى.
و في صحيح الترمذي، عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة في أول الإسلام كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه حتى إذا نزلت الآية: «إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم» قال ابن عباس فكل فرج سوى هذين فهو حرام.
أقول: و لازم الخبر أنها نسخت بمكة لأن الآية مكية.
و في مستدرك الحاكم، عن عبد الله بن أبي مليكة: سألت عائشة رضي الله عنها عن متعة النساء فقالت: بيني و بينكم كتاب الله. قال: و قرأت هذه الآية: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم - أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس من طريق عطاء عن ابن عباس: في قوله: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة قال: نسختها: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن و المطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء و اللائي يئسن من المحيض من نسائكم - إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر.
و فيه، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و النحاس و البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: نسخت آية الميراث المتعة.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و البيهقي عن ابن مسعود قال: المتعة منسوخة نسخها الطلاق و الصدقة و العدة و الميراث.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن علي قال: نسخ رمضان كل صوم، و نسخت الزكاة كل صدقة، و نسخ المتعة الطلاق و العدة و الميراث، و نسخت الضحية كل ذبيحة.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و أحمد و مسلم عن سبرة الجهني قال: أذن لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام فتح مكة في متعة النساء فخرجت أنا و رجل من قومي، و لي عليه فضل في الجمال، و هو قريب من الدمامة مع كل واحد منا برد، إما بردي فخلق، و إما برد ابن عمي فبرد جديد غض حتى إذا كنا بأعلى مكة تلقتنا فتاة مثل البكرة العنطنطة فقلنا: هل لك أن يستمتع منك أحدنا؟ قالت: و ما تبذلان؟ فنشر كل واحد منا برده فجعلت تنظر إلى الرجلين، فإذا رآها صاحبي قال: إن برد هذا خلق، و بردي جديد غض فتقول: و برد هذا لا بأس به، ثم استمتعت منها، فلم نخرج حتى حرمها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج مالك و عبد الرزاق و ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن متعة النساء يوم خيبر، و عن أكل لحوم الحمر الإنسية.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سلمة بن الأكوع قال رخص لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنها بعدها.
و في شرح ابن العربي، لصحيح الترمذي، عن إسماعيل عن أبيه عن الزهري: أن سبرة روى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عنها في حجة الوداع، خرجه أبو داود قال: و قد رواه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه: فذكر فيه: أنه كان في حجة الوداع بعد الإحلال، و أنه كان بأجل معلوم، و قد قال الحسن: إنها في عمرة القضاء.
و فيه، عن الزهري: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جمع المتعة في غزوة تبوك.
أقول: و الروايات كما ترى تختلف في تشخيص زمان نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بين قائلة أنه كان قبل الهجرة، و قائلة بأنه بعد الهجرة بنزول آيات النكاح و الطلاق و العدة و الميراث أو بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عام خيبر أو زمن عمرة القضاء أو عام أوطاس أو عام الفتح أو عام تبوك أو بعد حجة الوداع، و لذا حمل على تكرر النهي عنها مرات عديدة، و إن كلا من الروايات تحدث عن مرة منها لكن جلالة بعض رواتها كعلي و جابر و ابن مسعود مع ملازمتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و خبرتهم بالخطير و اليسير من سيرته تأبى أن يخفى عليهم نواهيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي عن علي قال: نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المتعة و إنما كانت لمن لم يجد فلما نزل النكاح و الطلاق و العدة و الميراث بين الزوج و المرأة نسخت.
و فيه، أخرج النحاس عن علي بن أبي طالب: أنه قال لابن عباس: إنك رجل تائه إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن المتعة.
و فيه، أخرج البيهقي عن أبي ذر قال: إنما أحلت لأصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المتعة ثلاثة أيام ثم نهى عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في صحيح البخاري، عن أبي جمرة قال: سئل ابن عباس عن متعة النساء فرخص فيها فقال له مولى له: إنما كان ذلك و في النساء قلة و الحال شديد، فقال ابن عباس نعم.
و في الدر المنثور، أخرج البيهقي عن عمر: أنه خطب فقال: ما بال رجال ينكحون هذه المتعة، و قد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها لا أوتي بأحد نكحها إلا رجمته.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سبرة قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما بين الركن و الباب و هو يقول: يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع ألا و إن الله حرمها إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها، و لا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: و الله ما كانت المتعة إلا ثلاثة أيام أذن لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها، ما كانت قبل ذلك و لا بعد.
و في تفسير الطبري، عن مجاهد: فما استمتعتم به منهن قال: يعني نكاح المتعة.
و فيه، عن السدي: في الآية قال: هذه المتعة، الرجل ينكح المرأة بشرط إلى أجل مسمى فإذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل، و هي منه بريئة، و عليها أن تستبرىء ما في رحمها، و ليس بينهما ميراث، ليس يرث واحد منهما صاحبه.
و في صحيحي البخاري و مسلم، و رواه في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: كنا نغزو مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس معنا نساؤنا، فقلنا: أ لا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك، و رخص لنا أن نتزوج المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن نافع: أن ابن عمر سئل عن المتعة فقال: حرام فقيل له: إن ابن عباس يفتي بها، قال فهلا ترمرم بها في زمان عمر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و الطبراني و البيهقي من طريق سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ما ذا صنعت؟ ذهب الركاب بفتياك، و قالت فيه الشعراء، قال: و ما قالوا: قلت: قالوا: أقول للشيخ لما طال مجلسه. يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس؟. هل لك في رخصة الأطراف آنسة. تكون مثواك حتى مصدر الناس؟. فقال: إنا لله و إنا إليه راجعون، لا و الله ما بهذا أفتيت، و لا هذا أردت، و لا أحللتها إلا للمضطر، و لا أحللت منها إلا ما أحل الله من الميتة و الدم و لحم الخنزير.
و فيه، أخرج ابن المنذر من طريق عمار مولى الشريد قال: سألت ابن عباس عن المتعة أ سفاح هي أم نكاح؟ فقال: لا سفاح و لا نكاح، قلت: فما هي؟ قال: هي المتعة كما قال الله، قلت: هل لها من عدة؟ قال: عدتها حيضة، قلت: هل يتوارثان قال: لا.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر، من طريق عطاء عن ابن عباس قال: يرحم الله عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من الله رحم بها أمة محمد، و لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي، قال: و هي التي في سورة النساء: فما استمتعتم به منهن إلى كذا و كذا من الأجل على كذا و كذا، قال: و ليس بينهما وراثة، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم، و إن تفرقا فنعم و ليس بينهما نكاح، و أخبر: أنه سمع ابن عباس: أنه يراها الآن حلالا.
و في تفسير الطبري، و رواه في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و أبي داود في ناسخه عن الحكم: أنه سئل عن هذه الآية أ منسوخة؟ قال: لا، و قال علي: لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي.
و في صحيح مسلم، عن جابر بن عبد الله قال: كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث: أقول: و نقل عن جامع الأصول، لابن الأثير و زاد المعاد لابن القيم و فتح الباري لابن حجر و كنز العمال،.
و في الدر المنثور، أخرج مالك و عبد الرزاق عن عروة بن الزبير أن خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب، فقالت: إن ربيعة بن أمية استمتع بامرأة مولدة فحملت منه، فخرج عمر بن الخطاب يجر رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة، و لو كنت تقدمت فيها لرجمت: أقول: و نقل عن الشافعي في كتاب الأم و البيهقي في السنن الكبرى.
و عن كنز العمال، عن سليمان بن يسار عن أم عبد الله ابنة أبي خيثمة: أن رجلا قدم من الشام فنزل عليها، فقال: إن العزبة قد اشتدت علي فابغيني امرأة أتمتع معها، قالت: فدللته على امرأة فشارطها و أشهدوا على ذلك عدولا، فمكث معها ما شاء الله أن يمكث، ثم إنه خرج فأخبر عن ذلك عمر بن الخطاب، فأرسل إلي فسألني أ حق ما حدثت؟ قلت: نعم قال: فإذا قدم فآذنيني، فلما قدم أخبرته فأرسل إليه فقال: ما حملك على الذي فعلته؟ قال: فعلته مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم لم ينهنا عنه حتى قبضه الله ثم مع أبي بكر فلم ينهنا عنه حتى قبضه الله، ثم معك فلم تحدث لنا فيه نهيا، فقال عمر: أما و الذي نفسي بيده لو كنت تقدمت في نهي لرجمتك، بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح.
و في صحيح مسلم، و مسند أحمد، عن عطاء: قدم جابر بن عبد الله معتمرا فجئناه في منزله فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة فقال: استمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر و عمر، و في لفظ أحمد: حتى إذا كان في آخر خلافة عمر رضي الله عنه.
و عن سنن البيهقي، عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن متعة النساء فقال: حرام أما إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لو أخذ فيها أحدا لرجمه بالحجارة.
و عن مرآة الزمان، لابن الجوزي: كان عمر رضي الله عنه يقول: و الله لا أوتي برجل أباح المتعة إلا رجمته.
و في بداية المجتهد، لابن رشد عن جابر بن عبد الله: تمتعنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر و نصفا من خلافة عمر ثم نهى عنها عمر الناس.
و في الإصابة، أخرج ابن الكلبي: أن سلمة بن أمية بن خلف الجمحي استمتع من سلمى مولاة حكيم بن أمية بن الأوقص الأسلمي فولدت له فجحد ولدها، فبلغ ذلك عمر فنهى عن المتعة.
و عن زاد المعاد، عن أيوب: قال عروة لابن عباس: أ لا تتقي الله ترخص في المتعة؟ فقال ابن عباس: سل أمك يا عرية فقال عروة: أما أبو بكر و عمر فلم يفعلا، فقال ابن عباس: و الله ما أراكم منتهين حتى يعذبكم الله، نحدثكم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تحدثونا عن أبي بكر و عمر.
أقول: و أم عروة أسماء بنت أبي بكر تمتع منها الزبير بن العوام فولدت له عبد الله بن الزبير، و عروة.
و في المحاضرات، للراغب: عير عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة فقال له: سل أمك كيف سطعت المجامر بينها و بين أبيك؟ فسألها فقالت: ما ولدتك إلا في المتعة.
و في صحيح مسلم، عن مسلم القري قال: سألت ابن عباس عن المتعة فرخص فيها، و كان ابن الزبير ينهى عنها، فقال: هذه أم ابن الزبير تحدث أن رسول الله رخص فيها فادخلوا عليها فاسألوها، قال: فدخلنا عليها فإذا امرأة ضخمة عمياء فقالت: قد رخص رسول الله فيها.
أقول: و شاهد الحال المحكي يشهد أن السؤال عنها كان في متعة النساء و تفسره الروايات الأخر أيضا.
و في صحيح مسلم، عن أبي نضرة قال: كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال: ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما: أقول: و رواه البيهقي في السنن، على ما نقل، و روي هذا المعنى في صحيح مسلم، في مواضع ثلاث بألفاظ مختلفة، و في بعضها قال جابر: فلما قام عمر قال: إن الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء، فأتموا الحج و العمرة كما أمر الله، و انتهوا عن نكاح هذه النساء، لا أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل إلا رجمته.
و روى هذا المعنى البيهقي في سننه و في أحكام القرآن، للجصاص و في كنز العمال، و في الدر المنثور، و في تفسير الرازي، و مسند الطيالسي، و في تفسير القرطبي، عن عمر: أنه قال في خطبة: متعتان كانتا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: متعة الحج و متعة النساء.
أقول: و خطبته هذه مما تسالم عليه أهل النقل، و أرسلوه إرسال المسلمات كما عن تفسير الرازي، و البيان و التبيين، و زاد المعاد، و أحكام القرآن، و الطبري، و ابن عساكر و غيرهم.
و عن المستبين، للطبري عن عمر: أنه قال: ثلاث كن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا محرمهن و معاقب عليهن: متعة الحج، و متعة النساء، و حي على خير العمل في الأذان.
و في تاريخ الطبري، عن عمران بن سوادة قال: صليت الصبح مع عمر فقرأ سبحان و سورة معها، ثم انصرف و قمت معه، فقال: أ حاجة؟ قلت: حاجة، قال: فالحق، قال: فلحقت فلما دخل أذن لي فإذا هو على سرير ليس فوقه شيء، فقلت: نصيحة، فقال: مرحبا بالناصح غدوا و عشيا، قلت، عابت أمتك أربعا، قال: فوضع رأس درته في ذقنه، و وضع أسفلها في فخذه، ثم قال: هات، قلت: ذكروا أنك حرمت العمرة في أشهر الحج و لم يفعل ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا أبو بكر رضي الله عنه، و هي حلال، قال: هي حلال؟ لو أنهم اعتمروا في أشهر الحج رأوها مجزية من حجهم فكانت قائبة قوب عامها فقرع حجهم، و هو بهاء من بهاء الله، و قد أصبت. قلت: و ذكروا أنك حرمت متعة النساء، و قد كانت رخصة من الله، نستمتع بقبضة و نفارق عن ثلاث، قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أحلها في زمان ضرورة ثم رجع الناس إلى السعة، ثم لم أعلم أحدا من المسلمين عمل بها و لا عاد إليها فالآن من شاء نكح بقبضة، و فارق عن ثلاث بطلاق. و قد أصبت. قال: قلت: و أعتقت الأمة إن وضعت ذا بطنها بغير عتاقة سيدها، قال: ألحقت حرمة بحرمة، و ما أردت إلا الخير، و أستغفر الله، قلت: و تشكو منك نهر الرعية، و عنف السياق، قال: فشرع الدرة ثم مسحها حتى أتى على آخرها، ثم قال: أنا زميل محمد و كان زامله في غزوة قرقرة الكدر فوالله إني لأرتع فأشبع، و أسقي فأروي، و أنهز اللفوث، و أزجر العروض، و أذب قدري، و أسوق خطوي، و أضم العنود، و ألحق القطوف، و أكثر الزجر، و أقل الضرب، و أشهر العصا، و أدفع باليد لو لا ذلك لأعذرت. قال: فبلغ ذلك معاوية فقال: كان و الله عالما برعيتهم: أقول: و نقله ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، عن ابن قتيبة.
هذه عدة من الروايات الواردة في أمر متعة النساء، و الناظر المتأمل الباحث يرى ما فيها من التباين و التضارب، و لا يتحصل للباحث في مضامينها غير أن عمر بن الخطاب أيام خلافته حرمها و نهى عنها لرأي رآه في قصص عمرو بن حريث، و ربيعة بن أمية بن خلف الجمحي، و أما حديث النسخ بالكتاب أو السنة فقد عرفت عدم رجوعه إلى محصل، على أن بعض الروايات يدفع البعض في جميع مضامينها إلا في أن عمر بن الخطاب هو الناهي عنها المجري للمنع، المقرر حرمة العمل و حد الرجم لمن فعل - هذا أولا -.
و أنها كانت سنة معمولا بها في زمن النبي في الجملة بتجويز منه (صلى الله عليه وآله وسلم): إما إمضاء و إما تأسيسا، و قد عمل بها من أصحابه من لا يتوهم في حقه السفاح كجابر بن عبد الله، و عبد الله بن مسعود، و الزبير بن العوام، و أسماء بنت أبي بكر، و قد ولدت بها عبد الله بن الزبير - و هذا ثانيا -.
و إن في الصحابة و التابعين من كان يرى إباحتها كابن مسعود و جابر و عمرو بن حريث و غيرهم، و مجاهد و السدي و سعيد بن جبير و غيرهم - و هذا ثالثا -.
و هذا الاختلاف الفاحش بين الروايات هو المفضي للعلماء من الجمهور بعد الخلاف فيها من حيث أصل الجواز و الحرمة أولا، إلى الخلاف في نحو حرمتها و كيفية منعها ثانيا و ذهابهم فيها إلى أقوال مختلفة عجيبة ربما أنهي إلى خمسة عشر قولا.
و إن للمسألة جهات من البحث لا يهمنا إلا الورود من بعضها، فهناك بحث كلامي دائر بين الطائفتين: أهل السنة و الشيعة، و بحث آخر فقهي فرعي ينظر فيها إلى حكم المسألة من حيث الجواز و الحرمة، و بحث آخر تفسيري من حيث النظر في قوله تعالى: فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة الآية: هل مفاده تشريع نكاح المتعة؟ و هل هو بعد الفراغ عن دلالته على ذلك منسوخ بشيء من الآيات كآية المؤمنون أو آيات النكاح و التحريم و الطلاق و العدة و الميراث؟ و هل هو منسوخ بسنة نبوية؟ و هل هو على تقدير تشريعه يشرع حكما ابتدائيا أو حكما إمضائيا؟ إلى غير ذلك.
و هذا النحو الثالث من البحث هو الذي نعقبه في هذا الكتاب، و قد تقدم خلاصة القول في ذلك فيما تقدم من البيان، و نزيده الآن توضيحا بإلفات النظر إلى بعض ما قيل في المقام على دلالة الآية على نكاح المتعة و تسنينها، ذلك بما ينافي ما مر في البيان المتقدم.
قال بعضهم بعد إصراره على أن الآية إنما سيقت لبيان إيفاء المهر في النكاح الدائم: و ذهبت الشيعة إلى أن المراد بالآية نكاح المتعة، و هو نكاح المرأة إلى أجل معين كيوم أو أسبوع أو شهر مثلا، و استدلوا على ذلك بقراءة شاذة رويت عن أبي و ابن مسعود و ابن عباس رضي الله عنهم، و بالأخبار و الآثار التي رويت في المتعة.
قال: فأما القراءة فهي شاذة لم تثبت قرآنا، و قد تقدم أن ما صحت فيه الرواية من مثل هذا آحادا فالزيادة فيه من قبيل التفسير، و هو فهم لصاحبه، و فهم الصحابي ليس حجة في الدين لا سيما إذا كان النظم و الأسلوب يأباه كما هنا، فإن المتمتع بالنكاح الموقت لا يقصد الإحصان دون المسافحة بل يكون قصده الأول المسافحة، فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه و منعها من التنقل في زمن الزنا، فإنه لا يكون فيه شيء ما من إحصان المرأة التي توجر نفسها كل طائفة من الزمن لرجل فتكون كما قيل: كرة حذفت بصوالجة.
فتلقاها رجل رجل.
أقول: أما قوله: إنهم استدلوا على ذلك بقراءة ابن مسعود و غيره فكل مراجع يراجع كلامهم يرى أنهم لم يستدلوا بها استدلالهم بحجة معتبرة قاطعة كيف و هم لا يرون حجية القراءات الشاذة حتى الشواذ المنقولة عن أئمتهم، فكيف يمكن أن يستدلوا بما لا يرونه حجة على من لا يراه حجة؟ فهل هذا إلا أضحوكة؟!.
بل إنما هو استدلال بقول من قرأ بها من الصحابة بما أنه قول منهم بكون المراد بالآية ذلك، سواء كان ذلك منهم قراءة مصطلحة، أو تفسيرا دالا على أنهم فهموا من لفظ الآية ذلك.
و ذلك ينفعهم من جهتين: إحداهما: أن عدة من الصحابة قالوا بما قال به هؤلاء المستدلون، و قد قال به - على ما نقل - جم غفير من صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و التابعين، و يمكن المراجع في الحصول على صحة ذلك أن يراجع مظانه.
و الثانية: أن الآية دالة على ذلك و يدل على ذلك قراءة هؤلاء من الصحابة كما يدل ما ورد عنهم في نسخ الآية أيضا أنهم تسلموا دلالتها على نكاح المتعة حتى رأوا نسخها أو رووا نسخها، و هي روايات كثيرة تقدمت عدة منها، فالشيعة يستفيدون من روايات النسخ كما يستفيدون من القراءة الشاذة المذكورة على حد سواء من دون أن يقولوا بحجية القراءة الشاذة كما لا يلزمهم القول بوقوع النسخ، و إنما يستفيدون من الجميع من جهة الدلالة على أن هؤلاء القراء و الرواة كانوا يرون دلالة الآية على نكاح المتعة.
و أما قوله: لا سيما إذا كان النظم و الأسلوب يأباه كما هنا، فكلامه يعطي أنه جعل المراد من المسافحة مجرد سفح الماء و صبه - أخذا بالأصل اللغوي المشتق منه - ثم جعله أمرا منوطا بالقصد، و لزمه أن الازدواج الموقت بقصد قضاء الشهوة و صب الماء سفاح لا نكاح، و قد غفل عن أن الأصل اللغوي في النكاح أيضا هو الوقاع، ففي لسان العرب: قال الأزهري: أصل النكاح في كلام العرب الوطء و لازم ما سلكه أن يكون النكاح أيضا سفاحا، و يختل به المقابلة بين النكاح و السفاح.
على أن لازم القول بأن قصد صب الماء يجعل الازدواج الموقت سفاحا أن يكون النكاح الدائم بقصد قضاء الشهوة و صب الماء سفاحا، و هل يرضى رجل مسلم أن يفتي بذلك؟ فإن قال: بين النكاح الدائم و المؤجل في ذلك فرق، فإن النكاح الدائم موضوع بطبعه على قصد الإحصان بالازدواج و إيجاد النسل، و تشكيل البيت بخلاف النكاح المؤجل.
فهذا منه مكابرة، فإن جميع ما يترتب على النكاح الدائم من الفوائد كصون النفس عن الزنا، و التوقي عن اختلال الأنساب، و إيجاد النسل و الولد، و تأسيس البيت يمكن أن يترتب على النكاح المؤجل، و يختص بأن فيه نوع تسهيل و تخفيف على هذه الأمة، يصون به نفسه من لا يقدر على النكاح الدائم لفقره أو لعدم قدرته على نفقة الزوجة، أو لغربة، أو لعوامل مختلفة أخر تمنعه عن النكاح الدائم.
و كذا كل ما يترتب على النكاح المؤجل - مما عده ملاكا للسفاح - كقصد صب الماء و قضاء الشهوة فإنه جائز الترتب على النكاح الدائم، و دعوى أن النكاح الدائم بالطبع موضوع للفوائد السابقة، و نكاح المتعة موضوع بالطبع لهذه المضار اللاحقة - على أن تكون مضارا - دعوى واضحة الفساد.
و إن قال: إن نكاح المتعة لما كان سفاحا كان زنا يقابل النكاح رد عليه: بأن السفاح الذي فسره بصب الماء أعم من الزنا، و ربما شمل النكاح الدائم و لا سيما إذا كان بقصد صب الماء.
و أما قوله: فإن كان هناك نوع ما من إحصان نفسه إلخ، فمن عجيب الكلام، و ليت شعري ما الفرق الفارق بين الرجل و المرأة في ذلك حتى يكون الرجل المتمتع يمكنه أن يحصن نفسه بنكاح المتعة من الزنا، و تكون المرأة لا يصح منها هذا القصد؟ و هل هذا إلا مجازفة.
و أما ما أنشده من الشعر في بحث حقيقي يتعرض لكشف حقيقة من الحقائق الدينية التي تتفرع عليها آثار هامة حيوية دنيوية و أخروية لا يستهان بها - سواء كان نكاح المتعة محرما أو مباحا -.
فما ذا ينفع الشعر و هو نسيج خيالي، الباطل أعرف عنده من الحق، و الغواية أمس به من الهداية.
و هلا أنشده في ذيل ما مر من الروايات، و لا سيما في ذيل قول عمر في رواية الطبري المتقدم: «فالآن من شاء نكح بقبضة و فارق عن ثلاث بطلاق».
و هل لهذا الطعن غرض يتوجه إليه إلا الله و رسوله في أصل تشريع هذا النوع من النكاح تأسيسا أو إمضاء و قد كان دائرا بين المسلمين في أول الإسلام بمرأى من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و مسمع بلا شك؟.
فإن قال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما أذن فيه لقيام الضرورة عليه من شمول الفقر و إكباب الفاقة على عامة المسلمين، و عروض الغزوات كما يظهر من بعض الروايات المتقدمة.
قلنا: مع فرض تداوله في أول الإسلام بين الناس و شهرته باسم نكاح المتعة و الاستمتاع لا مناص من الاعتراف بدلالة الآية على جوازه مع إطلاقها، و عدم صلاحية شيء من الآيات و الروايات على نسخها فالقول بارتفاع إباحته تأول في دلالة الآية من غير دليل.
سلمنا أن إباحته كانت بإذن من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمصلحة الضرورة لكنا نسأل أن هذه الضرورة هل كانت في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد و أعظم منها بعده، و لا سيما في زمن الراشدين، و قد كان يسير جيوش المسلمين إلى مشارق الأرض و مغاربها بالألوف بعد الألوف من الغزاة؟ و أي فرق بين أوائل خلافة عمر و أواخرها من حيث تحول هذه الضرورة من فقر و غزوة و اغتراب في الأرض و غير ذلك؟ و ما هو الفرق بين الضرورة و الضرورة؟.
و هل الضرورة المبيحة اليوم و في جو الإسلام الحاضر أشد و أعظم أو في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و النصف الأول من عهد الراشدين؟ و قد أظل الفقر العام على بلاد المسلمين، و قد مصت حكومات الاستعمار و الدول القاهرة المستعلية و الفراعنة من أولياء أمور المسلمين كل لبن في ضرعهم، و حصدوا الرطب من زرعهم و اليابس.
و قد ظهرت الشهوات في مظاهرها، و ازينت بأحسن زينتها و أجملها، و دعت إلى اقترافها بأبلغ دعوتها و لا يزال الأمر يشتد، و البلية تعم البلاد و النفوس، و شاعت الفحشاء بين طبقات الشبان من المتعلمين و الجنديين و عملة المعامل، و هم الذين يكونون المعظم من سواد الإنسانية، و نفوس المعمورة.
و لا يشك شاك و لن يشك في أن الضرورة الموقعة لهم في فحشاء الزنا و اللواط و كل انخلاع شهواني عمدتها العجز من تهيئة نفقة البيت، و المشاغل الموقتة المؤجلة المانعة من اتخاذ المنزل و النكاح الدائم بغربة أو خدمة أو دراسة و نحو ذلك.
فما بال هذه الضرورات تبيح في صدر الإسلام - و هي أقل و أهون عند القياس - نكاح المتعة لكنها لا تقوم للإباحة في غير ذلك العهد و قد أحاطت البلية و عظمت الفتنة؟.
ثم قال: ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا كقوله عز و جل في صفة المؤمنين: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: «المؤمنون: 7» أي المتجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حرمه عليهم، و هذه الآيات لا تعارض الآية التي نفسرها يعني قوله: فما استمتعتم به الآية، بل هي بمعناها فلا نسخ، و المرأة المتمتع بها ليست زوجة فيكون لها على الرجل مثل الذي عليها بالمعروف، كما قال الله تعالى: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها، فلا يعدونها من الأربع اللواتي يحل للرجل أن يجمع بينها مع عدم الخوف من الجور بل يجوزون للرجل أن يتمتع بالكثير من النساء، و لا يقولون برجم الزاني المتمتع إذ لا يعدونه محصنا، و ذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه قوله تعالى في المستمتعين: «محصنين غير مسافحين» و هذا تناقض صريح منهم.
و نقل عنهم بعض المفسرين: أن المرأة المتمتع بها ليس لها إرث و لا نفقة و لا طلاق و لا عدة، و الحاصل أن القرآن بعيد من هذا القول، و لا دليل في هذه الآية و لا شبه دليل عليه البتة.
أقول: أما قوله: ثم إنه ينافي ما تقرر في القرآن بمعنى هذا «إلخ»، محصله: أن آيات المؤمنون: و الذين هم لفروجهم حافظون الآيات تقصر الحل في الأزواج، و المتمتع بها ليست زوجة، فالآيات مانعة من حلية المتعة، أولا و مانعة من شمول قوله: فما استمتعتم به منهن الآية لها ثانيا.
فأما أن الآيات تحرم المتعة، فقد أغمض فيه عن كون الآيات مكية، و المتعة كانت دائرة بعد الهجرة في الجملة، فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يبيح ما حرمه القرآن بإجازته المتعة؟ و قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجة بنص القرآن فيعود ذلك إلى التناقض في نفس القرآن، أو أن إباحته كانت ناسخة لآيات الحرمة: «و الذين هم» الآيات، ثم منع عنها القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحييت بذلك الآيات بعد موتها، و استحكمت بعد نسخها؟ و هذا أمر لا يقول به، و لا قال به أحد من المسلمين، و لا يمكن أن يقال به.
و هذا في نفسه نعم الشاهد على أن المتمتع بها زوجة، و أن المتعة نكاح، و أن هذه الآيات تدل على كون التمتع تزوجا، و إلا لزم أن تنتسخ بترخيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالآيات حجة على جواز التمتع دون حرمته.
و بتقرير آخر: آيات المؤمنون و المعارج: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم الآيات، أقوى دلالة على حلية المتعة من سائر الآيات، فمن المتفق عليه بينهم أن هذه الآيات محكمة غير منسوخة و هي مكية، و من الضروري بحسب النقل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رخص في المتعة، و لو لا كون المتمتع بها زوجة كان الترخيص بالضرورة ناسخا للآيات و هي غير منسوخة، فالتمتع زوجية مشرعة فإذا تمت دلالة الآيات على تشريعه فما يدعى من نهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها فاسد أيضا لمنافاته الآيات، و استلزامه نسخها، و قد عرفت أنها غير منسوخة بالاتفاق.
و كيف كان فالمتمتع بها على خلاف ما ذكره زوجة و المتعة نكاح، و ناهيك في ذلك ما وقع فيما نقلناه من الروايات من تسميته في لسان الصحابة و التابعين بنكاح المتعة حتى في لسان عمر بن الخطاب في الروايات المشتملة على نهيه كرواية البيهقي عن عمر في خطبته، و رواية مسلم عن أبي نضرة، حتى ما وقع من لفظه في رواية كنز العمال عن سليمان بن يسار: «بينوا حتى يعرف النكاح من السفاح» فإن معناه أن المتعة نكاح لا يتبين من السفاح، و أنه يجب عليكم أن تبينوه منه فأتوا بنكاح يبين و يتميز منه، و الدليل على ذلك قوله: بينوا.
و بالجملة كون المتعة نكاحا و كون المتمتع بها زوجة في عرف القرآن و لسان السلف من الصحابة و من تلاهم من التابعين مما لا ينبغي الارتياب فيه، و إنما تعين اللفظان النكاح و التزويج في النكاح الدائم بعد نهي عمر، و انتساخ العمل به بين الناس فلم يبق مورد لصدق اللفظين إلا النكاح الدائم، فصار هو المتبادر من اللفظ إلى الذهن كسائر الحقائق المتشرعة.
و من هنا يظهر سقوط ما ذكره بعد ذلك فإن قوله: و قد نقل عن الشيعة أنفسهم أنهم لا يعطونها أحكام الزوجة و لوازمها «إلخ»، يسأل عنه فيه: ما هو المراد بالزوجة؟ أما الزوجة في عرف القرآن فإنهم يعطونها أحكامها من غير استثناء، و أما الزوجة في عرف المتشرعة - كما ذكر - المعروفة في الفقه فإنهم لا يعطونها أحكامها و لا محذور.
و أما قوله: و ذلك قطع منهم بأنه لا يصدق عليه أي على الزاني المتمتع قوله تعالى: «محصنين غير مسافحين» و هذا تناقض صريح منهم، ففيه أنا ذكرنا في ذيل الآية فيما تقدم أن ظاهرها من جهة شمولها ملك اليمين أن المراد بالإحصان إحصان التعفف دون الازدواج، و لو سلم أن المراد بالإحصان إحصان الازدواج فالآية شاملة لنكاح المتعة، و أما عدم رجم الزاني المتمتع مع أن الرجم ليس حكما قرآنيا فإنما هو لبيان أو لتخصيص من السنة كسائر أحكام الزوجية من الميراث و النفقة و الطلاق و العدد.
و توضيح ذلك أن آيات الأحكام إن كانت مسوقة على الإهمال لكونها واردة مورد أصل التشريع فما يطرأ عليها من القيود بيانات من غير تخصيص و لا تقييد، و إن كانت عمومات أو إطلاقات كانت البيانات الواردة في السنة مخصصات أو مقيدات من غير محذور التناقض و المرجع في ذلك علم أصول الفقه.
و هذه الآيات أعني آيات الإرث و الطلاق و النفقة كسائر الآيات لا تخلو من التخصيص و التقييد كالإرث و الطلاق في المرتدة و الطلاق عند ظهور العيوب المجوزة لفسخ العقد و النفقة عند النشوز فلتخصص بالمتعة، فالبيانات المخرجة للمتعة عن حكم الميراث و الطلاق و النفقة مخصصات أو مقيدات، و تعين ألفاظ التزويج و النكاح و الإحصان و نحو ذلك في الدوام من جهة الحقيقة المتشرعة دون الحقيقة الشرعية فلا محذور أصلا كما توهمه فإذا قال الفقيه مثلا: الزاني المحصن يجب رجمه، و لا رجم في الزاني المتمتع لعدم إحصانه فإنما ذلك لكونه يصطلح بالإحصان على دوام النكاح ذي الآثار الكذائية، و لا ينافي ذلك كون الإحصان في عرف القرآن موجودا في الدائمة و المنقطعة معا، و له في كل منهما آثار خاصة.
و أما نقله عن بعضهم أن الشيعة لا تقول في المتعة بالعدة ففرية بينة فهذه جوامع الشيعة، و هذه كتبهم الفقهية مملوءة بأن عدة المتمتع بها حيضتان، و قد تقدم بعض الروايات في ذلك بطرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ثم قال: و أما الأحاديث و الآثار المروية في ذلك فمجموعها يدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يرخص لأصحابه فيها في بعض الغزوات ثم نهاهم عنها ثم رخص فيها مرة أو مرتين ثم نهاهم عنها نهيا مؤبدا.
و أن الرخصة كانت للعلم بمشقة اجتناب الزنا مع البعد من نسائهم فكانت من قبيل ارتكاب أخف الضررين فإن الرجل إذا عقد على امرأة خلية نكاحا موقتا، و أقام معها ذلك الزمن الذي عينه فذلك أهون من تصديه للزنا بأية امرأة يمكنه أن يستميلها.
أقول: ما ذكره أن مجموع الروايات تدل على الترخيص في بعض الغزوات ثم النهي ثم الترخيص فيها مرة أو مرتين ثم النهي المؤبد لا ينطبق على ما تقدم من الروايات على ما فيها من التدافع و التطارد فعليك بالرجوع إليها و قد تقدم أكثرها حتى ترى أن مجموعها يكذب ما ذكره من وجه الجمع حرفا حرفا.
ثم قال: و يرى أهل السنة أن الرخصة في المتعة مرة أو مرتين يقرب من التدريج في منع الزنا منعا باتا كما وقع التدريج في تحريم الخمر، و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية، و لكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر.
أقول: أما قوله: إن الرخصة في المتعة نوع من التدرج في منع الزنا فمحصله أن المتعة كانت عندهم من أنواع الزنا، و قد كانت كسائر الزنا فاشية في الجاهلية فتدرج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المنع عن الزنا بالرفق ليقع موقع القبول من الناس فمنع عن غير المتعة من أقسامه، و أبقى زنا المتعة فرخص فيه ثم منع ثم رخص حتى تمكن من المنع البات فمنعه منعا مؤبدا.
و لعمري أنه من فضيح اللعب بالتشريعات الدينية الطاهرة التي لم يرد الله بها إلا تطهير هذه الأمة، و إتمام النعمة عليهم.
ففيه أولا: ما تقدم أن نسبة المنع ثم الترخيص ثم المنع ثم الترخيص في المتعة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع فرض دلالة آيات سورتي المعارج و المؤمنون: «و الذين هم لفروجهم حافظون» الآيات - و هي مكية - على حرمة المتعة على ما أصر عليه هذا القائل ليس إلا نسبة نسخ الآيات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالترخيص ثم نسخ هذا النسخ و أحكام الآيات ثم نسخ الآيات ثم إحكامها و هكذا، و هل هذا إلا نسبة اللعب بكتاب الله إليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ثانيا: أن الآيات الناهية عن الزنا في كتاب الله تعالى هي قوله في سورة الإسراء: و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا: «الإسراء: 32» و أي لسان أصرح من هذا اللسان، و الآية مكية واقعة بين آيات المناهي، و كذا قوله: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم - إلى أن قال: و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن: «الأنعام: 151»، كلمة الفواحش جمع محلى باللام واقعة في سياق النهي مفيدة لاستغراق النهي كل فاحشة و زنا، و الآية مكية، و كذا قوله: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن: - الأعراف: 33»، و الآية أيضا مكية، و كذا قوله: و الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون: - المؤمنون: 7، المعارج: 31، و السورتان مكيتان، و الآيات تحرم المتعة على قول هذا القائل كما تحرم سائر أقسام الزنا.
فهذه جل الآيات الناهية عن الزنا المحرمة للفاحشة، و جميعها مكية صريحة في التحريم فأين ما ذكره من التدرج في التحريم و المنع؟ أو أنه يقول - كما هو اللازم الصريح لقوله بدلالة آيات المؤمنون على الحرمة -: إن الله سبحانه حرمها تحريما باتا، ثم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدرج في المنع عملا بالرخصة بعد الرخصة مداهنة لمصلحة الإيقاع موقع القبول، و قد شدد الله تعالى على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الخلة بعينها، قال تعالى: و إن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره و إذا لاتخذوك خليلا و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذا لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا: «الإسراء: 75».
و ثالثا: أن هذا الترخيص المنسوب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بعد مرة إن كان ترخيصا من غير تشريع للحل، و الفرض كون المتعة زنا و فاحشة كان ذلك مخالفة صريحة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) لربه لو كان من عند نفسه، و هو معصوم بعصمة الله تعالى، و لو كان من عند ربه كان ذلك أمرا منه تعالى بالفحشاء، و قد رده تعالى بصريح قوله خطابا لنبيه: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء الآية: «الأعراف: 28».
و إن كان ترخيصا مع تشريع للحل لم تكن زنا و فاحشة فإنها سنة مشروعة محدودة بحدود محكمة لا تجامع الطبقات المحرمة كالنكاح الدائم و معها فريضة المهر كالنكاح الدائم، و العدة المانعة عن اختلاط المياه و اختلال الأنساب، و معها ضرورة حاجة الناس إليها فما معنى كونها فاحشة و ليست الفاحشة إلا العمل المنكر الذي يستقبحه المجتمع لخلاعته من الحدود و إخلاله بالمصلحة العامة و منعه عن القيام بحاجة المجتمع الضرورية في حياتهم.
و رابعا: أن القول بكون التمتع من أنواع الزنا الدائرة في الجاهلية اختلاق في التاريخ، و اصطناع لا يرجع إلى مدرك تاريخي، إذ لا عين منه في كتب التاريخ و لا أثر بل هو سنة مبتكرة إسلامية و تسهيل من الله تعالى على هذه الأمة لإقامة أودهم، و وقايتهم من انتشار الزنا و سائر الفواحش بينهم لو أنهم كانوا وفقوا لإقامة هذه السنة و إذا لم تكن الحكومات الإسلامية تغمض في أمر الزنا و سائر الفواحش هذا الإغماض الذي ألحقها تدريجا بالسنن القانونية، و امتلأت بها الدنيا فسادا و وبالا.
و أما قوله: «و كلتا الفاحشتين كانتا فاشيتين في الجاهلية، و لكن فشو الزنا كان في الإماء دون الحرائر» ظاهرة أن مراده بالفاحشتين الزنا و شرب الخمر، و هو كذلك إلا أن كون الزنا فاشيا في الإماء دون الحرائر مما لا أصل له يركن إليه فإن الشواهد التاريخية المختلفة المتفرقة تؤيد خلاف ذلك كالأشعار التي قيلت في ذلك، و قد تقدم في رواية ابن عباس أن أهل الجاهلية لم تكن ترى بالزنا بأسا إذا لم يكن علينا.
و يدل عليه أيضا مسألة الادعاء و التبني الدائر في الجاهلية فإن الادعاء لم يكن بينهم مجرد تسمية و نسبة بل كان ذلك أمرا دائرا بينهم يبتغي به أقوياؤهم تكثير العدة و القوة بالإلحاق، و يستندون فيه إلى زنا ارتكبوه مع الحرائر حتى ذوات الأزواج منهن، و أما الإماء فهم و لا سيما أقوياؤهم يعيبون الاختلاط بهن، و المعاشقة و المغازلة معهن، و إنما كانت شأن الإماء في ذلك أن مواليهن يقيمونهن ذلك المقام اكتسابا و استرباحا.
و من الدليل على ما ذكرناه ما ورد من قصص الإلحاق في السير و الآثار كقصة إلحاق معاوية بن أبي سفيان زياد بن أبيه لأبيه أبي سفيان، و ما شهد به شاهد الأمر عند ذلك، و غيرها من القصص المنقولة.
نعم ربما يستشهد على عدم فشو الزنا بين الحرائر في الجاهلية بقول هند للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عند البيعة: و هل الحرة تزني؟ لكن الرجوع إلى ديوان حسان، و التأمل فيما هجا به هندا بعد وقعتى بدر و أحد يرفع اللبس و يكشف ما هو حقيقة الأمر.
ثم قال بعد كلام له في تنقيح معنى الأحاديث، و رفعه التدافع الواقع بينها على زعمه: و العمدة عند أهل السنة في تحريمها وجوه: أولها: ما علمت من منافاتها لظاهر القرآن في أحكام النكاح و الطلاق و العدة إن لم نقل لنصوصه، و ثانيها: الأحاديث المصرحة بتحريمها تحريما مؤبدا إلى يوم القيامة - إلى أن قال -: و ثالثها: نهي عمر عنها و إشارته بتحريمها على المنبر، و إقرار الصحابة له على ذلك و قد علم أنهم ما كانوا يقرون على منكر، و أنهم كانوا يرجعونه إذا أخطأ.
ثم اختار أن تحريمه لها لم يكن عن اجتهاد منه، و إنما كان استنادا إلى التحريم الثابت بنهي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما يسند إليه التحريم من جهة أنه مبين للحرمة أو منفذ لها كما يقال: حرم الشافعي النبيذ و أحله أبو حنيفة.
أقول: أما الوجه الأول و الثاني فقد عرفت آنفا و في البيان المتقدم حقيقة القول فيهما بما لا مزيد عليه، و أما الوجه الثالث فتحريم عمر لها سواء كان ذلك باجتهاد منه أو باستناده إلى تحريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يدعيه هذا القائل، و سواء كان سكوت الصحابة عنه هيبة له و خوفا من تهديده، أو إقرارا له في تحريمه كما ذكره، أو لعدم وقوعه موقع قبول الناس منهم كما يدل عليه الروايات عن علي و جابر و ابن مسعود و ابن عباس فتحريمه و حلفه على رجم مستحلها و فاعلها لا يؤثر في دلالة الآية عليها، و عدم انثلام هذه الحلية بكتاب أو سنة فدلالة الآيات و أحكامها مما لا غبار عليه.
و قد أغرب بعض الكتاب حيث ذكر أن المتعة سنة جاهلية لم تدخل في الإسلام قط حتى يحتاج إلى إخراجها منه و في نسخها إلى كتاب أو سنة و ما كان يعرفها المسلمون و لا وقعت إلا في كتب الشيعة.
أقول: و هذا الكلام المبني على الصفح عما يدل عليه الكتاب و الحديث و الإجماع و التاريخ يتم به تحول الأقوال في هذه المسألة تحولها العجيب فقد كانت سنة قائمة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نهي عنها في عهد عمر و نفذ النهي عند عامة الناس، و وجه النهي بانتساخ آية الاستمتاع بآيات أخرى أو بنهي النبي عنها و خالف في ذلك عدة من الأصحاب و جم غفير ممن تبعهم من فقهاء الحجاز و اليمن و غيرهم حتى مثل ابن جريح من أئمة الحديث «و كان يبالغ في التمتع حتى تمتع بسبعين امرأة» و مثل مالك أحد أئمة الفقه الأربعة، هذا، ثم أعرض المتأخرون من أهل التفسير عن دلالة آية الاستمتاع على المتعة، و راموا تفسيرها بالنكاح الدائم، و ذكروا أن المتعة كانت سنة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم نسخت بالحديث، ثم راموا في هذه الأواخر أنها كانت من أنواع الزنا في الجاهلية رخص فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رخصة بعد رخصة ثم نهى عنها نهيا مؤبدا إلى يوم القيامة، ثم ذكر هذا القائل الأخير: أنها زنا جاهلي محض لا خبر عنها في الإسلام قط إلا ما وقع في كتب الشيعة، و الله أعلم بما يصير إليه حال المسألة في مستقبل الزمان.
بحث علمي
رابطة النسب - و هي الرابطة التي تربط الفرد من الإنسان بالفرد الآخر من جهة الولادة و جامع الرحم - هي في الأصل رابطة طبيعية تكوينية تكون الشعوب و القبائل، و تحمل الخصال المنبعثة عن الدم فتسريها حسب تسرية الدم، و هي المبدأ للآداب و الرسوم و السنن القومية بما تختلط و تمتزج بسائر الأسباب و العلل المؤثرة.
و للمجتمعات الإنسانية المترقية و غير المترقية نوع اعتناء بها في السنن و القوانين الاجتماعية في الجملة: في نكاح و إرث و غير ذلك، و هم مع ذلك لا يزالون يتصرفون في هذه الرابطة النسبية توسعة و تضييقا بحسب المصالح المنبعثة عن خصوصيات مجتمعهم كما سمعت في المباحث السابقة أن غالب الأمم السالفة كانوا لا يرون للمرأة قرابة رسما و كانوا يرون قرابة الدعي و بنوته، و كما أن الإسلام ينفي القرابة بين الكافر المحارب و المسلم، و يلحق الولد للفراش و غير ذلك.
و لما اعتبر الإسلام للنساء القرابة بما أعطاهن من الشركة التامة في الأموال، و الحرية التامة في الإرادة و العمل على ما سمعت في المباحث السابقة، و صار بذلك الابن و البنت في درجة واحدة من القرابة و الرحم الرسمي، و كذلك الأب و الأم، و الأخ و الأخت، و الجد و الجدة، و العم و العمة، و الخال و الخالة، صار عمود النسب الرسمي متنزلا من ناحية البنات كما كان يتنزل من ناحية البنين، فصار ابن البنت ابنا للإنسان كبنوة ابن الابن و هكذا ما نزل، و كذا صار بنت الابن و بنت البنت بنتين للإنسان على حد سواء، و على ذلك جرت الأحكام في المناكح و المواريث، و قد عرفت فيما تقدم أن آية التحريم «حرمت عليكم أمهاتكم و بناتكم» الآية دالة على ذلك.
و قد قصر السلف من باحثينا في هذه المسألة و أشباهها و هي مسألة اجتماعية و حقوقية فحسبوها مسألة لغوية يستراح فيها إلى قضاء اللغة، فاشتد النزاع بينهم فيما وضع له لفظ الابن مثلا، فمن معمم و من مخصص، و كل ذلك من الخطإ.
و قد ذكر بعضهم: أن الذي تعرفه اللغة من البنوة ما يجري من ناحية الابن، و أما ابن البنت و كل ما يجري من ناحيتها فللحوق هؤلاء بآبائهم لا بجدهم الأمي لا يعدهم العرب أبناء للإنسان، و أما قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للحسنين: ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا و غير ذلك فهذا الإطلاق إطلاق تشريفي، و أنشد في ذلك قول القائل: بنونا بنو أبنائنا و بناتنا.
بنوهن أبناء الرجال الأباعد.
و نظيره قول الآخر: و إنما أمهات الناس أوعية.
مستودعات و للأنساب آباء.
أقول: و قد اختلط عليه طريق البحث فحسبه بحثا لغويا زعم فيه أن العرب لو وضعت لفظ الابن لما يشمل ابن البنت تغيرت بذلك نتيجة البحث، و هو غفلة عن أن الآثار و الأحكام المترتبة في المجتمعات المختلفة البشرية على الأبوة و البنوة و نحوهما لا تتبع اللغات، و إنما تتبع نوع بنية المجتمع و السنن الدائرة فيها، و ربما تغيرت هذه الأحكام و الآثار بتغيير السنة الاجتماعية في المجتمع مع بقاء اللغة على حالها، و هذا يكشف عن كون البحث اجتماعيا أو عائدا إليه لا لفظيا لغويا.
و أما ما أنشد من الشعر فليس يسوى الشعر في سوق الحقائق شيئا - و ليس إلا زخرفة خيالية و تزويقا وهميا - حتى يستدل بكل ما تقوله شاعر لاغ و لا سيما فيما يداخله القرآن الذي هو قول فصل و ليس بالهزل.
و أما مسألة لحوق الأبناء بآبائهم دون الأجداد من جانب الأمهات فهي على أنها ليست مسألة لفظية لغوية ليست من فروع النسب حتى يستلزم لحوق الابن و البنت بالأب انقطاع نسبهما من جهة الأم، بل من فروع قيمومة الرجل على البيت من حيث الإنفاق، و تربية الأولاد و نحوها.
و بالجملة فالأم تنقل رابطة النسب إلى أولادها من ذكور أو إناث كما ينقلها الأب، و من آثاره البارزة في الإسلام الميراث و حرمة النكاح، نعم هناك أحكام و مسائل أخر لها ملاكات خاصة كلحوق الولد و النفقة و مسألة سهم أولي القربى من السادات و كل تتبع ملاكها الخاص بها.
بحث علمي آخر
النكاح و الازدواج من السنن الاجتماعية التي لم تزل دائرة في المجتمعات الإنسانية أي مجتمع كان على ما بيدنا من تاريخ هذا النوع إلى هذا اليوم، و هو في نفسه دليل على كونه سنة فطرية.
على أن من أقوى الدليل على ذلك كون الذكر و الأنثى مجهزين بحسب البنية الجسمانية بوسائل التناسل و التوالد كما ذكرناه مرارا، و الطائفتان الذكر و الأنثى في ابتغاء ذلك شرع سواء و إن زيدت الأنثى بجهاز الإرضاع و العواطف الفطرية الملائمة لتربية الأولاد.
ثم إن هناك غرائز إنسانية تنعطف إلى محبة الأولاد، و تقبل قضاء الطبيعة بكون الإنسان باقيا ببقاء نسله، و تذعن بكون المرأة سكنا للرجل و بالعكس، و تحترم أصل الوراثة بعد احترامها لأصل الملك و الاختصاص، و تحترم لزوم تأسيس البيت.
و المجتمعات التي تحترم هذه الأصول و الأحكام الفطرية في الجملة لا مناص لها من الإذعان بسنة النكاح على نحو الاختصاص بوجه بمعنى أن لا يختلط الرجال و النساء على نحو يبطل الأنساب و إن فرض التحفظ عن فساد الصحة العامة و قوة التوالد الذي يوجبه شيوع الزنا و الفحشاء.
هذه أصول معتبرة عند جميع الأمم الجارية على سنة النكاح في الجملة سواء خصوا الواحد بالواحد، أو جوزوا الكثير من النساء للواحد من الرجال أو بالعكس أو الكثير منهم للكثير منهن على اختلاف هذه السنن بين الأمم فإنهم مع ذلك يعتبرون النكاح بخاصته التي هي نوع ملازمة و مصاحبة بين الزوجين.
فالفحشاء و السفاح الذي يقطع النسل و يفسد الأنساب أول ما تبغضه الفطرة الإنسانية القاضية بالنكاح، و لا تزال ترى لهذه المباغضة آثارا بين الأمم المختلفة و المجتمعات المتنوعة حتى الأمم التي تعيش على الحرية التامة في الرجال و النساء في المواصلات و المخالطات الشهوية فإنهم متوحشون من هذه الخلاعات المسترسلة، و تراهم يعيشون بقوانين تحفظ لهم أحكام الأنساب بوجه.
و الإنسان مع إذعانه بسنة النكاح لا يتقيد فيه بحسب الطبع، و لا يحرم على نفسه ذا قرابة أو أجنبيا، و لا يجتنب الذكر من الإنسان أما و لا أختا و لا بنتا و لا غيرهن، و لا الأنثى منه أبا و لا أخا و لا ابنا بحسب الداعية الشهوية فالتاريخ و النقل يثبت نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و غيرهن في الأمم العظيمة الراقية و المنحطة، و الأخبار تحقق الزنا الفاشي في الملل المتمدنة اليوم بين الإخوة و الأخوات، و الآباء و البنات و غيرهن فطاغية الشهوة لا يقوم لها شيء، و ما كان بين هذه الأمم من اجتناب نكاح الأمهات و الأخوات و البنات و ما يلحق بهن فإنما هو سنة موروثة ربما انتهت إلى بعض الآداب و الرسوم القومية.
و إنك إذا قايست القوانين المشرعة في الإسلام لتنظيم أمر الازدواج بسائر القوانين و السنن الدائرة في الدنيا و تأملت فيها منصفا وجدتها أدق و أضمن لجميع شئون الاحتياط في حفظ الأنساب و سائر المصالح الإنسانية الفطرية، و جميع ما شرعه من الأحكام في أمر النكاح و ما يلحق به يرجع إلى حفظ الأنساب و سد سبيل الزنا.
فالذي روعي فيه مصلحة حفظ الأنساب من غير واسطة هو تحريم نكاح المحصنات من النساء، و بذلك يتم إلغاء ازدواج المرأة بأكثر من زوج واحد في زمان واحد فإن فيه فساد الأنساب كما أنه هو الملاك في وضع عدة الطلاق بتربص المرأة بنفسها ثلاثة قروء تحرزا من اختلاط المياه.
و أما سائر أصناف النساء المحرم نكاحها و هي أربعة عشر صنفا المعدودة في آيات التحريم فإن الملاك في تحريم نكاحهن سد باب الزنا فإن الإنسان - و هو في المجتمع المنزلي - أكثر ما يعاشر و يختلط و يسترسل و يديم في المصاحبة إنما هو مع هذه الأصناف الأربعة عشر، و دوام المصاحبة و مساس الاسترسال يوجب كمال توجه النفس و ركوز الفكر فيهن بما يهدي إلى تنبه الميول و العواطف الحيوانية و هيجان دواعي الشهوة، و بعثها الإنسان إلى ما يستلذه طبعه، و تتوق له نفسه، و من يحم حول الحمى أوشك أن يقع فيه.
فكان من الواجب أن لا يقتصر على مجرد تحريم الزنا في هذه الموارد فإن دوام المصاحبة، و تكرر هجوم الوساوس النفسانية و ورود الهم بعد الهم لا يدع للإنسان مجال التحفظ على نهي واحد من الزنا.
بل كان يجب أن تحرم هؤلاء تحريما مؤبدا، و تقع عليه التربية الدينية حتى يستقر في القلوب اليأس التام من بلوغهن و النيل منهن، و يميت ذلك تعلق الشهوة بهن و يقطع منبتها و يقلعها من أصلها، و هذا هو الذي نرى من كثير من المسلمين حتى في المتوغلين في الفحشاء المسترسلين في المنكرات منهم أنهم لا يخطر ببالهم الفحشاء بالمحارم، و هتك ستر الأمهات و البنات، و لو لا ذلك لم يكد يخلو بيت من البيوت من فاحشة الزنا و نحوه.
و هذا كما أن الإسلام سد باب الزنا في غير المحارم بإيجاب الحجاب، و المنع عن اختلاط الرجال بالنساء و النساء بالرجال، و لو لا ذلك لم ينجح النهي عن الزنا في الحجز بين الإنسان و بين هذا الفعال الشنيع فهناك أحد أمرين: إما أن يمنع الاختلاط كما في طائفة، و إما أن يستقر اليأس من النيل بالمرة بحرمة مؤبدة يتربى عليها الإنسان حتى يستوي على هذه العقيدة، لا يبصر مثاله فيما يبصر، و لا يسمعه فيما يسمع فلا يخطر بباله أبدا.
و تصديق ذلك ما نجده من حال الأمم الغربية فإن هؤلاء معاشر النصارى كانت ترى حرمة الزنا، و تعد تعدد الزوجات في تلو الزنا أباحت اختلاط النساء بالرجال فلم تلبث حتى فشا الفحشاء فيها فشوا لا يكاد يوجد في الألف منهم واحد يسلم من هذا الداء، و لا في ألف من رجالهم واحد يستيقن بكون من ينتسب إليه من أولاده من صلبه، ثم لم يمكث هذا الداء حتى سرى إلى الرجال مع محارمهم من الأخوات و البنات و الأمهات، ثم إلى ما بين الرجال و الغلمان ثم الشبان أنفسهم ثم... و ثم... آل الأمر إلى أن صارت هذه الطائفة التي ما خلقها الله سبحانه إلا سكنا للبشر، و نعمة يقيم بها صلب الإنسانية، و يطيب بها عيشة النوع مصيدة يصطاد بها في كل شأن سياسي و اقتصادي و اجتماعي و وسيلة للنيل إلى كل غرض يفسد حياة المجتمع و الفرد، و عادت الحياة الإنسانية أمنية تخيلية، و لعبا و لهوا بتمام معنى الكلمة، و قد اتسع الخرق على الراتق.
هذا هو الذي بنى عليه الإسلام مسألة تحريم المحرمات من المبهمات و غيرها في باب النكاح إلا المحصنات من النساء على ما عرفت.
و تأثير هذا الحكم في المنع عن فشو الزنا و تسربه في المجتمع المنزلي كتأثير حكم الحجاب في المنع عن ظهور الزنا و سريان الفساد في المجتمع المدني على ما عرفت.
و قد تقدم أن قوله تعالى: و ربائبكم اللاتي في حجوركم الآية، لا تخلو عن إشارة إلى هذه الحكمة، و يمكن أن تكون الإشارة إليه بقوله تعالى في آخر آيات التحريم: يريد الله أن يخفف عنكم و خلق الإنسان ضعيفا: «النساء: 28» فإن تحريم هذه الأصناف الأربعة عشر من الله سبحانه تحريما باتا يرفع عن كاهل الإنسان ثقل الصبر على هواهن و الميل إليهن و النيل منهن على إمكان من الأمر، و قد خلق الإنسان ضعيفا في قبال الميول النفسانية، و الدواعي الشهوانية، و قد قال تعالى: إن كيدكن عظيم: «يوسف: 28» فإن من أمر الصبر أن يعيش الإنسان مع واحدة أو أكثر من النساء الأجنبيات، و يصاحبهن في الخلوة و الجلوة، و يتصل بهن ليلا و نهارا و يمتلىء سمعه و بصره من لطيف إشاراتهن و حلو حركاتهن حينا بعد حين ثم يصبر على ما يوسوسه نفسه في أمرهن و لا يجيبها في ما تتوق إليه، و الحاجة إحدى الحاجتين الغذاء و النكاح، و ما سواهما فضل يعود إليهما، و كأنه هو الذي أشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «من تزوج أحرز نصف دينه فليتق الله في النصف الآخر».
|