بيان
الآية غير عادمة الارتباط بما قبلها فإن فيما قبلها ذكرا من المعاصي الكبيرة.
قوله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه» - إلى قوله: - «سيئاتكم» الاجتناب أصله من الجنب و هو الجارحة بني منها الفعل على الاستعارة، فإن الإنسان إذا أراد شيئا استقبله بوجهه و مقاديم بدنه، و إذا أعرض عنه و تركه وليه بجنبه فاجتنبه، فالاجتناب هو الترك، قال الراغب: و هو أبلغ من الترك، انتهى، و ليس إلا لأنه مبني على الاستعارة، و من هذا الباب الجانب و الجنيبة و الأجنبي.
و التكفير من الكفر و هو الستر و قد شاع استعماله في القرآن في العفو عن السيئات و الكبائر جمع كبيرة وصف وضع موضع الموصوف كالمعاصي و نحوها، و الكبر معنى إضافي لا يتحقق إلا بالقياس إلى صغر، و من هنا كان المستفاد من قوله: كبائر ما تنهون عنه أن هناك من المعاصي المنهي عنها ما هي صغيرة، فيتبين من الآية: أولا: أن المعاصي قسمان: صغيرة و كبيرة، و ثانيا: أن السيئات في الآية هي الصغائر لما فيها من دلالة المقابلة على ذلك.
نعم العصيان و التمرد كيفما كان كبير و أمر عظيم بالنظر إلى ضعف المخلوق المربوب في جنب الله عظم سلطانه غير أن القياس في هذا الاعتبار إنما هو بين الإنسان و ربه لا بين معصية و معصية فلا منافاة بين كون كل معصية كبيرة باعتبار و بين كون بعض المعاصي صغيرة باعتبار آخر.
و كبر المعصية إنما يتحقق بأهمية النهي عنها إذا قيس إلى النهي المتعلق بغيرها و لا يخلو قوله تعالى: ما تنهون عنه، من إشعار أو دلالة على ذلك، و الدليل على أهمية النهي تشديد الخطاب بإصرار فيه أو تهديد بعذاب من النار و نحو ذلك.
قوله تعالى: «و ندخلكم مدخلا كريما» المدخل بضم الميم و فتح الخاء اسم مكان و المراد منه الجنة أو مقام القرب من الله سبحانه و إن كان مرجعهما واحدا.
كلام في الكبائر و الصغائر و تكفير السيئات
لا ريب في دلالة قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم، الآية على انقسام المعاصي إلى كبائر و صغائر سميت في الآية بالسيئات، و نظيرها في الدلالة قوله تعالى: و وضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه و يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها الآية: «الكهف: 49»، إذ إشفاقهم مما في الكتاب يدل على أن المراد بالصغيرة و الكبيرة صغائر الذنوب و كبائرها.
و أما السيئة فهي بحسب ما تعطيه مادة اللفظ و هيئته هي الحادثة أو العمل الذي يحمل المساءة، و لذلك ربما يطلق لفظها على الأمور و المصائب التي يسوء الإنسان وقوعها كقوله تعالى: و ما أصابك من سيئة فمن نفسك الآية: «النساء: 79»، و قوله تعالى: و يستعجلونك بالسيئة الآية: «الرعد: 6»، و ربما أطلق على نتائج المعاصي و آثارها الخارجية الدنيوية و الأخروية كقوله تعالى: فأصابهم سيئات ما عملوا، الآية: «النحل: 34»، و قوله تعالى: سيصيبهم سيئات ما كسبوا: «الزمر: 51»، و هذا بحسب الحقيقة يرجع إلى المعنى السابق، و ربما أطلق على نفس المعصية كقوله تعالى: و جزاء سيئة سيئة مثلها الآية: «الشورى: 40»، و السيئة بمعنى المعصية ربما أطلقت على مطلق المعاصي أعم من الصغائر و الكبائر كقوله تعالى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم ساء ما يحكمون: «الجاثية: 21»، إلى غير ذلك من الآيات.
و ربما أطلقت على الصغائر خاصة كقوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية، إذ مع فرض اجتناب الكبائر لا تبقى للسيئات إلا الصغائر.
و بالجملة دلالة الآية على انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب القياس الدائر بين المعاصي أنفسها مما لا ينبغي أن يرتاب فيه.
و كذا لا ريب أن الآية في مقام الامتنان، و هي تقرع أسماع المؤمنين بعناية لطيفة إلهية أنهم إن اجتنبوا البعض من المعاصي كفر عنهم البعض الآخر، فليس إغراء على ارتكاب المعاصي الصغار، فإن ذلك لا معنى له لأن الآية تدعو إلى ترك الكبائر بلا شك، و ارتكاب الصغيرة من جهة أنها صغيرة لا يعبأ بها و يتهاون في أمرها يعود مصداقا من مصاديق الطغيان و الاستهانة بأمر الله سبحانه، و هذا من أكبر الكبائر بل الآية تعد تكفير السيئات من جهة أنها سيئات لا يخلو الإنسان المخلوق على الضعف المبني على الجهالة من ارتكابها بغلبة الجهل و الهوى عليه، فمساق هذه الآية مساق الآية الداعية إلى التوبة التي تعد غفران الذنوب كقوله تعالى: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم الآية: «الزمر: 54» فكما لا يصح أن يقال هناك: أن الآية تغري إلى المعصية بفتح باب التوبة و تطييب النفوس بذلك فكذا هاهنا بل أمثال هذه الخطابات إحياء للقلوب الآيسة بالرجاء.
و من هنا يعلم أن الآية لا تمنع عن معرفة الكبائر بمعنى أن يكون المراد بها اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر و الابتلاء بارتكابها فإن ذلك معنى بعيد عن مساق الآية بل المستفاد من الآية أن المخاطبين هم يعرفون الكبائر و يميزون هؤلاء الموبقات من النهي المتعلق بها، و لا أقل من أن يقال: إن الآية تدعو إلى معرفة الكبائر حتى يهتم المكلفون في الاتقاء منها كل الاهتمام من غير تهاون في جنب غيرها فإن ذلك التهاون كما عرفت إحدى الكبائر الموبقة.
و ذلك أن الإنسان إذا عرف الكبائر و ميزها و شخصها عرف أنها حرمات لا يغمض من هتكها بالتكفير إلا عن ندامة قاطعة و توبة نصوح و نفس هذا العلم مما يوجب تنبه الإنسان و انصرافه عن ارتكابها.
و أما الشفاعة فإنها و إن كانت حقة إلا أنك قد عرفت فيما تقدم من مباحثها أنها لا تنفع من استهان بأمر الله سبحانه و استهزأ بالتوبة و الندامة.
و اقتراف المعصية بالاعتماد على الشفاعة تساهل و تهاون في أمر الله سبحانه و هو من الكبائر الموبقة القاطعة لسبيل الشفاعة قطعا.
و من هنا يتضح معنى ما تقدم أن كبر المعصية إنما يعلم من شدة النهي الواقع عنها بإصرار أو تهديد بالعذاب كما تقدم.
و مما تقدم من الكلام يظهر حال سائر ما قيل في معنى الكبائر، و هي كثيرة: منها ما قيل: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه في الآخرة عقابا و وضع له في الدنيا حدا.
و فيه أن الإصرار على الصغيرة كبيرة لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار.
رواه الفريقان مع عدم وضع حد فيه شرعا، و كذا ولاية الكفار و أكل الربا مع أنهما من كبائر ما نهي عنه في القرآن.
و منها قول بعضهم: إن الكبيرة كل ما أوعد الله عليه بالنار في القرآن، و ربما أضاف إليه بعضهم السنة.
و فيه أنه لا دليل على انعكاسه كليا.
و منها قول بعضهم: إنها كل ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به قال به إمام الحرمين و استحسنه الرازي.
و فيه أنه عنوان الطغيان و الاعتداء و هي إحدى الكبائر و هناك ذنوب كبيرة موبقة و إن لم تقترف بهذا العنوان كأكل مال اليتيم و زنا المحارم و قتل النفس المؤمنة من غير حق.
و منها قول بعضهم: إن الكبيرة ما حرمت لنفسها لا لعارض، و هذا كالمقابل للقول السابق.
و فيه أن الطغيان و الاستهانة و نحو ذلك من أكبر الكبائر و هي عناوين طارية، و بطروها على معصية و عروضها لها تصير من الكبائر الموبقة.
و منها قول بعضهم: إن الكبائر ما اشتملت عليه آيات سورة النساء من أول السورة إلى تمام ثلاثين آية، و كان المراد أن قوله: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه الآية إشارة إلى المعاصي المبينة في الآيات السابقة عليه كقطيعة الرحم و أكل مال اليتيم و الزنا و نحو ذلك.
و فيه أنه ينافي إطلاق الآية.
و منها قول بعضهم و ينسب إلى ابن عباس: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة، و لعله لكون مخالفته تعالى أمرا عظيما، و فيه أنك قد عرفت أن انقسام المعصية إلى الكبيرة و الصغيرة إنما هو بقياس بعضها إلى بعض، و هذا الذي ذكره مبني على قياس حال الإنسان في مخالفته - و هو عبد - إلى الله سبحانه - و هو رب كل شيء - و من الممكن أن يميل إلى هذا القول بعضهم بتوهم كون الإضافة في قوله تعالى: كبائر ما تنهون عنه، بيانية لكنه فاسد لرجوع معنى الآية حينئذ إلى قولنا: إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفر عنكم سيئاتكم و لا سيئة مع اجتناب المعاصي، و إن أريد تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية اختصت الآية بأشخاص من حضر عند النزول، و هو خلاف ظاهر الآية من العموم، و لو عمت الآية عاد المعنى إلى أنكم إن عزمتم على اجتناب جميع المعاصي و اجتنبتموها كفرنا عنكم سيئاتكم السابقة عليه، و هذا أمر نادر شاذ المصداق أو عديمه لا يحمل عليه عموم الآية لأن نوع الإنسان لا يخلو عن السيئة و اللمم إلا من عصمه الله بعصمته فافهم ذلك.
و منها: أن الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه، و الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه، نسب إلى المعتزلة و فيه أن ذلك أمر لا يدل عليه هذه الآية و لا غيرها من آيات القرآن، نعم من الثابت بالقرآن وجود الحبط في بعض المعاصي في الجملة لا في جميعها سواء كان على وفق ما ذكروه أو لا على وفقه، و قد مر البحث عن معنى الحبط مستوفى في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قالوا أيضا: يجب تكفير السيئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر و لا تحسن المؤاخذة عليها، و هذا أيضا أمر لا تدل الآية عليه البتة.
و منها: أن الكبر و الصغر اعتباران يعرضان لكل معصية، فالمعصية التي يقترفها الإنسان استهانة بأمر الربوبية و استهزاء أو عدم مبالاة به كبيرة، و هي بعينها لو اقترفت من جهة استشاطة غضب أو غلبة جبن أو ثورة شهوة كانت صغيرة مغفورة بشرط اجتناب الكبائر.
و لما كان هذه العناوين الطارية المذكورة يجمعها العناد و الاعتداء على الله أمكن أن يلخص الكلام بأن كل واحدة من المعاصي المنهي عنها في الدين إن أتي بها عنادا و اعتداء فهي كبيرة و إلا فهي صغيرة مغفورة بشرط اجتناب العناد و الاعتداء.
قال بعضهم: إن في كل سيئة و في كل نهي خاطب الله به كبيرة أو كبائر و صغيرة أو صغائر، و أكبر الكبائر في كل ذنب عدم المبالاة بالنهي و الأمر و احترام التكليف، و منه الإصرار فإن المصر على الذنب لا يكون محترما و لا مباليا بالأمر و النهي فالله تعالى يقول: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه أي الكبائر التي يتضمنها كل شيء تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم أي نكفر عنكم صغيره فلا نؤاخذكم عليه.
و فيه: أن استلزام اقتران كل معصية مقترفة بما يوجب كونها طغيانا و استعلاء على الله سبحانه صيرورتها معصية كبيرة لا يوجب كون الكبر دائرا مدار هذا الاعتبار حتى لا يكون بعض المعاصي كبيرة في نفسها مع عدم عروض شيء من هذه العناوين عليه، فإن زنا المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و قتل النفس المحرمة ظلما بالنسبة إلى الضرب كبيرتان عرض لهما عارض من العناوين أم لم يعرض، نعم كلما عرض شيء من هذه العناوين المهلكة اشتد النهي بحسبه و كبرت المعصية و عظم الذنب فما الزنا عن هوى النفس و غلبة الشهوة و الجهالة كالزنا بالاستباحة.
على أن هذا المعنى أن تجتنبوا في كل معصية كبائرها نكفر عنكم صغائرها معنى رديء لا يحتمله قوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية بحسب ما لها من السياق على ما لا يخفى لكل من استأنس قليل استيناس بأساليب الكلام.
و منها: ما يتراءى من ظاهر كلام الغزالي على ما نقل عنه من الجمع بين الأقوال و هو أن بين المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كبيرة و صغيرة كزنا المحصنة من المحارم بالنسبة إلى النظر إلى الأجنبية و إن كانت بعض المعاصي يكبر بانطباق بعض العناوين المهلكة الموبقة عليه كالإصرار على الصغائر، فبذلك تصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن.
فبهذا يظهر أن المعاصي تنقسم إلى صغيرة و كبيرة بحسب قياس البعض إلى البعض بالنظر إلى نفس العمل و جرم الفعل، ثم هي مع ذلك تنقسم إلى القسمين بالنظر إلى أثر الذنب و وباله في إحباطه للثواب بغلبته عليه أو نقصه منه إذا لم يغلبه فيزول الذنب بزوال مقدار يعادله من الثواب فإن لكل طاعة تأثيرا حسنا في النفس يوجب رفعه مقامها و تخلصها من قذارة البعد و ظلمة الجهل كما أن لكل معصية تأثيرا سيئا فيها يوجب خلاف ذلك من انحطاط محلها و سقوطها في هاوية البعد و ظلمة الجهل.
فإذا اقترف الإنسان شيئا من المعاصي و قد هيأ لنفسه شيئا من النور و الصفاء بالطاعة فلا بد من أن يتصادم ظلمة المعصية و نور الطاعة فإن غلبت ظلمة المعصية و وبال الذنب نور الطاعة و ظهرت عليه أحبطته، و هذه هي المعصية الكبيرة، و إن غلبت الطاعة بما لها من النور و الصفاء أزالت ظلمة الجهل و قذارة الذنب ببطلان مقدار يعادل ظلمة الذنب من نور الطاعة، و يبقى الباقي من نورها و صفائها تتنور و تصفو به النفس، و هذا معنى التحابط، و هو بعينه معنى غفران الذنوب الصغيرة و تكفير السيئات، و هذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة.
و أما تكافؤ السيئة و الحسنة بما لهما من العقاب و الثواب فهو و إن كان مما يحتمله العقل في بادي النظر، و لازمه صحة فرض إنسان أعزل لا طاعة له و لا معصية، و لا نور لنفسه و لا ظلمة لكن يبطله قوله تعالى: «فريق في الجنة و فريق في السعير».
انتهى ملخصا.
و قد رده الرازي بأنه يبتنى على أصول المعتزلة الباطلة عندنا، و شدد النكير على الرازي في المنار قائلا: و إذا كان هذا يعني انقسام المعصية إلى الصغيرة و الكبيرة في نفسها صريحا في القرآن فهل يعقل أن يصح عن ابن عباس إنكاره؟ لا بل روى عبد الرزاق عنه أنه قيل له: هل الكبائر سبع؟ فقال: هي إلى السبعين أقرب، و روى ابن جبير: أنه قال: هي إلى السبعمائة أقرب، و إنما عزي القول بإنكار تقسيم الذنوب إلى صغائر و كبائر إلى الأشعرية.
و كأن القائلين بذلك منهم أرادوا أن يخالفوا به المعتزلة و لو بالتأويل كما يعلم من كلام ابن فورك فإنه صحح كلام الأشعرية و قال: معاصي الله كلها كبائر، و إنما يقال لبعضها: صغيرة و كبيرة بإضافة، و قالت المعتزلة: الذنوب على ضربين: صغائر و كبائر، و هذا ليس بصحيح انتهى، و أول الآية تأويلا بعيدا.
و هل يئول الآيات و الأحاديث لأجل أن يخالف المعتزلة و لو فيما أصابوا فيه؟ لا يبعد ذلك فإن التعصب للمذاهب هو الذي صرف كثيرا من العلماء الأزكياء عن إفادة أنفسهم و أمتهم بفطنتهم، و جعل كتبهم فتنة للمسلمين اشتغلوا بالجدل فيها عن حقيقة الدين، و سترى ما ينقله الرازي عن الغزالي، و يرده لأجل ذلك، و أين الرازي من الغزالي، و أين معاوية من علي.
انتهى.
و يشير في آخر كلامه إلى ما نقلناه عن الغزالي و الرازي.
و كيف كان فما ذكره الغزالي و إن كان وجيها في الجملة لكنه لا يخلو عن خلل من جهات.
الأولى: أن ما ذكره من انقسام المعاصي إلى الصغائر و الكبائر بحسب تحابط الثواب و العقاب لا ينطبق دائما على ما ذكره من الانقسام بحسب نفس المعاصي و متون الذنوب في أول كلامه فإن غالب المعاصي الكبيرة المسلمة في نفسها يمكن أن يصادف في فاعله ثوابا كبيرا يغلب عليها و كذا يمكن أن تفرض معصية صغيرة تصادف من الثواب الباقي في النفس ما هو أصغر منها و أنقص، و بذلك يختلف الصغيرة و الكبيرة بحسب التقسيمين فمن المعاصي ما هي صغيرة على التقسيم الأول كبيرة بحسب التقسيم الثاني، و منها ما هي بالعكس فلا تطابق كليا بين التقسيمين.
و الثانية: أن التصادم بين آثار المعاصي و الطاعات و إن كان ثابتا في الجملة لكنه مما لم يثبت كليا من طريق الظواهر الدينية من الكتاب و السنة أبدا.
و أي دليل من طريق الكتاب و السنة يدل على تحقق التزايل و التحابط بنحو الكلية بين عقاب المعاصي و ثواب الطاعات؟.
و الذي أجرى تفصيل البحث فيه من الحالات الشريفة النورية النفسانية و الحالات الأخرى الخسيسة الظلمانية كذلك أيضا، فإنها و إن كانت تتصادم بحسب الغالب و تتزايل و تتفانى لكن ذلك ليس على وجه كلي دائمي بل ربما يثبت كل من الفضيلة و الرذيلة في مقامها و تتصالح على البقاء، و تقتسم النفس كأن شيئا منها للفضيلة خاصة، و شيئا منها للرذيلة خاصة، فترى الرجل المسلم مثلا يأكل الربا و لا يلوي عن ابتلاع أموال الناس، و لا يصغي إلى استغاثة المطلوب المستأصل المظلوم، و يجتهد في الصلوات المفروضة، و يبالغ في خضوعه و خشوعه، أو أنه لا يبالي في إهراق الدماء و هتك الأعراض و الإفساد في الأرض و يخلص لله أي إخلاص في أمور من الطاعات و القربات، و هذا هو الذي يسميه علماء النفس اليوم بازدواج الشخصية بعد تعددها و تنازعها، و هو أن تتنازع الميول المختلفة النفسانية و تثور بعضها على بعض بالتزاحم و التعارض، و لا يزال الإنسان في تعب داخلي من ذلك حتى تستقر الملكتان فتزدوجان و تتصالحان و يغيب كل عند ظهور الأخرى و انتهاضها و إمساكها على فريستها كما عرفت من المثال المذكور آنفا.
و الثالثة: أن لازم ما ذكره أن يلغو اعتبار الاجتناب في تكفير السيئات فإن من لا يأتي بالكبائر لا لأنه يكف نفسه عنها مع القدرة و التمايل النفساني عليها بل لعدم قدرته عليها و عدم استطاعته منها فإن سيئاته تنحبط بالطاعات لغلبة ثوابه على الفرض على ما له من العقاب و هو تكفير السيئات فلا يبقى لاعتبار اجتناب الكبائر وجه مرضي.
قال الغزالي في الإحياء: اجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة و الإرادة كمن يتمكن من امرأة و من مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع فيقتصر على نظر أو لمس فإن مجاهدة نفسه بالكف عن الوقاع أشد تأثيرا في تنوير قلبه من إقدامه على النظر في إظلامه فهذا معنى تكفيره، فإن كان عنينا أو لم يكن امتناعه إلا بالضرورة للعجز أو كان قادرا و لكن امتنع لخوف أمر الآخرة فهذا لا يصلح للتكفير أصلا، و كل من لا يشتهي الخمر بطبعه و لو أبيح له لما شربه فاجتنابه لا يكفر عنه الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي و الأوتار نعم من يشتهي الخمر و سماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر و يطلقها في السماع فمجاهدته النفس بالكف ربما يمحو عن قلبه الظلمة التي ارتفعت إليه من معصية السماع فكل هذه أحكام أخروية، انتهى.
و قال أيضا في محل آخر: كل ظلمة ارتفعت إلى القلب لا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، و المتضادات هي المتناسبات فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها لكي تضادها فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة و البرودة و هذا التدريج و التحقيق من التلطف في طريقة المحو، فالرجاء فيه أصدق و الثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات و إن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو، انتهى كلامه.
و كلامه كما ترى يدل على أن المحبط للسيئات هو الاجتناب الذي هو الكف مع أنه غير لازم على هذا القول.
و الكلام الجامع الذي يمكن أن يقال في المقام مستظهرا بالآيات الكريمة هو أن الحسنات و السيئات متحابطة في الجملة غير أن تأثير كل سيئة في كل حسنة و بالعكس بنحو النقص منه أو إفنائه مما لا دليل عليه، و يدل عليه اعتبار حال الأخلاق و الحالات النفسانية التي هي نعم العون في فهم هذه الحقائق القرآنية في باب الثواب و العقاب.
و أما الكبائر و الصغائر من المعاصي فظاهر الآية كما عرفت هو أن المعاصي بقياس بعضها إلى بعض كقتل النفس المحترمة ظلما بالقياس إلى النظر إلى الأجنبية و شرب الخمر بالاستحلال بالقياس إلى شربها بهوى النفس بعضها كبيرة و بعضها صغيرة من غير ظهور ارتباط ذلك بمسألة الإحباط و التكفير بالكلية.
ثم إن الآية ظاهرة في أن الله سبحانه يعد لمن اجتنب الكبائر أن يكفر عنه سيئاته جميعا ما تقدم منها و ما تأخر على ما هو ظاهر إطلاق الآية، و من المعلوم أن الظاهر من هذا الاجتناب أن يأتي كل مؤمن بما يمكنه من اجتناب الكبائر و ما يصدق في مورده الاجتناب من الكبائر لا أن يجتنب كل كبيرة بالكف عنها فإن الملتفت أدنى التفات إلى سلسلة الكبائر لا يرتاب في أنه لا يتحقق في الوجود من يميل إلى جميعها و يقدر عليها عامة أو يندر ندرة ملحقة بالعدم، و تنزيل الآية هذه المنزلة لا يرتضيها الطبع المستقيم.
فالمراد أن من اجتنب ما يقدر عليه من الكبائر و تتوق نفسه إليه منها و هي الكبائر التي يمكنه أن يجتنبها كفر الله سيئاته سواء جانسها أو لم يجانسها.
و أما إن هذا التكفير للاجتناب بأن يكون الاجتناب في نفسه طاعة مكفرة للسيئات كما أن التوبة كذلك أو أن الإنسان إذا لم يقترف الكبائر خلي ما بينه و بين الصغائر و الطاعات الحسنة فالحسنات يكفرن سيئاته، و قد قال الله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات: «هود: 114»، ظاهر الآية إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية أن للاجتناب دخلا في التكفير، و إلا كان الأنسب بيان أن الطاعات يكفرن السيئات كما في قوله: إن الحسنات الآية، أو إن الله سبحانه يغفر الصغائر مهما كانت من غير حاجة إلى سرد الكلام جملة شرطية.
و الدليل على كبر المعصية هو شدة النهي الوارد عنها أو الإيعاد عليها بالنار أو ما يقرب من ذلك سواء كان ذلك في كتاب أو سنة من غير دليل على الحصر.
بحث روائي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): الكبائر، التي أوجب الله عليها النار.
و في الفقيه، و تفسير العياشي، عن الباقر (عليه السلام): في الكبائر قال: كل ما أوعد الله عليها النار.
و في ثواب الأعمال، عن الصادق (عليه السلام): من اجتنب ما أوعد الله عليه النار إذا كان مؤمنا كفر الله عنه سيئاته و يدخله مدخلا كريما، و الكبائر السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرب بعد الهجرة، و قذف المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف.
أقول: و الروايات من طرق الشيعة و أهل السنة في عد الكبائر كثيرة سيمر بك بعضها و قد عد الشرك بالله فيما نذكر منها إحدى الكبائر السبع إلا في هذه الرواية و لعله (عليه السلام) أخرجه من بينها لكونه أكبر الكبائر و يشير إليه قوله: إذا كان مؤمنا.
و في المجمع،: روى عبد العظيم بن عبد الله الحسني عن أبي جعفر محمد بن علي عن أبيه علي بن موسى الرضا عن موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، فلما سلم و جلس تلا هذه الآية: الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش ثم أمسك، فقال أبو عبد الله: ما أسكتك؟ قال: أحب أن أعرف الكبائر من كتاب الله، قال: نعم يا عمرو أكبر الكبائر الشرك بالله لقول الله عز و جل: إن الله لا يغفر أن يشرك به، و قال: من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار، و بعده اليأس من روح الله لأن الله يقول: و لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ثم الأمن من مكر الله لأن الله يقول: و لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون، و منها عقوق الوالدين لأن الله تعالى جعل العاق جبارا شقيا في قوله: و برا بوالدتي و لم يجعلني جبارا شقيا، و منها قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق لأنه يقول: و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية، و قذف المحصنات لأن الله يقول: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات - لعنوا في الدنيا و الآخرة و لهم عذاب عظيم، و أكل مال اليتيم لقوله: الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية، و الفرار من الزحف لأن الله يقول: و من يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة - فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير، و أكل الربا لأن الله يقول: الذين يأكلون الربا لا يقومون - إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و يقول: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله، و السحر لأن الله يقول: و لقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق، و الزنا لأن الله يقول: و من يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة - و يخلد فيه مهانا، و اليمين الغموس لأن الله يقول: إن الذين يشترون بعهد الله و أيمانهم ثمنا قليلا - أولئك لا خلاق لهم في الآخرة الآية، و الغلول قال الله: و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة، و منع الزكاة المفروضة لأن الله يقول: يوم يحمى عليها في نار جهنم - فتكوى بها جباههم و جنوبهم و ظهورهم الآية، و شهادة الزور و كتمان الشهادة لأن الله يقول: و من يكتمها فإنه آثم قلبه، و شرب الخمر لأن الله عدل بها عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمدا و شيئا مما فرض الله تعالى لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: من ترك الصلاة متعمدا فقد برىء من ذمة الله و ذمة رسوله، و نقض العهد و قطيعة الرحم لأن الله يقول: أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار. قال: فخرج عمرو بن عبيد له صراخ من بكائه و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم.
أقول: و قد روي من طرق أهل السنة ما يقرب منه عن ابن عباس، و يتبين بالرواية أمران.
الأول: أن الكبيرة من المعاصي ما اشتد النهي عنها إما بالإصرار و البلوغ في النهي أو بالإيعاد بالنار، من الكتاب أو السنة كما يظهر من موارد استدلاله (عليه السلام)، و منه يظهر معنى ما مر في حديث الكافي،: أن الكبيرة ما أوجب الله عليها النار، و ما مر في حديث الفقيه، و تفسير العياشي،: أن الكبيرة ما أوعد الله عليها النار، فالمراد بإيجابها و إيعادها أعم من التصريح و التلويح في كلام الله أو حديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أظن أن ما نقل في ذلك عن ابن عباس أيضا كذلك فمراده بالإيعاد بالنار أعم من التصريح و التلويح في قرآن أو حديث، و يشهد بذلك ما في تفسير الطبري، عن ابن عباس قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، و يتبين بذلك أن ما نقل عنه أيضا في تفسير الطبري، و غيره: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة ليس خلافا في معنى الكبيرة و إنما هو تكبير للمعاصي جميعا بقياس حقارة الإنسان إلى عظمة ربه كما مر.
و الثاني: أن حصر المعاصي الكبيرة في بعض ما تقدم و ما يأتي من الروايات، أو في ثمانية، أو في تسع كما في بعض الروايات النبوية المروية من طرق السنة، أو في عشرين كما في هذه الرواية أو في سبعين كما في روايات أخرى كل ذلك باعتبار اختلاف مراتب الكبر في المعصية كما يدل عليه ما في الرواية من قوله عند تعداد الكبائر: و أكبر الكبائر الشرك بالله.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: و ما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، و السحر، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم، و التولي يوم الزحف، و قذف المحصنات الغافلات المؤمنات.
و فيه، أخرج ابن حيان و ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده قال: كتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض و السنن و الديات، و بعث به مع عمرو بن حزم. قال: و كان في الكتاب أن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة إشراك بالله و قتل النفس المؤمنة بغير حق، و الفرار يوم الزحف، و عقوق الوالدين، و رمي المحصنة، و تعلم السحر، و أكل الربا، و أكل مال اليتيم.
و فيه، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، عن أنس: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ألا إن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، ثم تلا هذه الآية: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية.
|