بيان
آيات سبع فيها حث على الإحسان و الإنفاق في سبيل الله و وعد جميل عليه، و ذم على تركه إما بالبخل أو بالإنفاق مراءاة للناس.
قوله تعالى: «و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا» هذا هو التوحيد غير أن المراد به التوحيد العملي، و هو إتيان الأعمال الحسنة - و منها الإحسان الذي هو مورد الكلام - طلبا لمرضاة الله و ابتغاء لثواب الآخرة دون اتباع الهوى و الشرك به.
و الدليل على ذلك أنه تعالى عقب هذا الكلام أعني قوله: و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، و علله بقوله: إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا، و ذكر أنه البخيل بماله و المنفق لرئاء الناس، فهم الذين يشركون بالله و لا يعبدونه وحده، ثم قال: و ما ذا عليهم لو آمنوا بالله و اليوم الآخر و أنفقوا، و ظهر بذلك أن شركهم عدم إيمانهم باليوم الآخر، و قال تعالى: و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب: «ص: 26» فبين أن الضلال باتباع الهوى - و كل شرك ضلال - إنما هو بنسيان يوم الحساب، ثم قال: أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم: «الجاثية: 23» فبين أن اتباع الهوى عبادة له و شرك به.
فتبين بذلك كله أن التوحيد العملي أن يعمل الإنسان ابتغاء مثوبة الله و هو على ذكر من يوم الحساب الذي فيه ظهور المثوبات و العقوبات، و أن الشرك في العمل أن ينسى اليوم الآخر - و لو آمن به لم ينسه - و أن يعمل عمله لا لطلب مثوبة بل لما يزينه له هواه من التعلق بالمال أو حمد الناس و نحو ذلك، فقد أشخص هذا الإنسان هواه تجاه ربه، و أشرك به.
فالمراد بعبادة الله و الإخلاص له فيها أن يكون طلبا لمرضاته، و ابتغاء لمثوبته لا لاتباع الهوى.
قوله تعالى: «و بالوالدين إحسانا» إلى قوله: «أيمانكم» الظاهر أن قوله: إحسانا مفعول مطلق لفعل مقدر، تقديره: و أحسنوا بالوالدين إحسانا، و الإحسان يتعدى بالباء و إلى معا يقال: أحسنت به و أحسنت إليه، و قوله: و بذي القربى، هو و ما بعده معطوف على الوالدين، و ذو القربى القرابة، و قوله: و الجار ذي القربى و الجار الجنب قرينة المقابلة في الوصف تعطي أن يكون المراد بالجار ذي القربى الجار القريب دارا، و بالجار الجنب - و هو الأجنبي - الجار البعيد دارا، و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): تحديد الجوار بأربعين ذراعا،: و في رواية: أربعون دارا، و لعل الروايتين ناظرتان إلى الجار ذي القربى و الجار الجنب.
و قوله: و الصاحب بالجنب هو الذي يصاحبك ملازما لجنبك، و هو بمفهومه يعم مصاحب السفر من رفقة الطريق و مصاحب الحضر و المنزل و غيرهم، و قوله: و ابن السبيل هو الذي لا يعرف من حاله إلا أنه سالك سبيل كأنه ليس له من ينتسب إليه إلا السبيل فهو ابنه، و أما كونه فقيرا ذا مسكنة عادما لزاد أو راحلة فكأنه خارج من مفهوم اللفظ، و قوله: و ما ملكت أيمانكم المراد به العبيد و الإماء بقرينة عده في عداد من يحسن إليهم، و قد كثر التعبير عنهم بما ملكته الأيمان دون من ملكته.
قوله تعالى: «إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا» المختال التائه المتبختر المسخر لخياله، و منه الخيل للفرس لأنه يتبختر في مشيته، و الفخور كثير الفخر، و الوصفان أعني الاختيال و كثرة الفخر من لوازم التعلق بالمال و الجاه، و الإفراط في حبهما، و لذلك لم يكن الله ليحب المختال الفخور لتعلق قلبه بغيره تعالى، و ما ذكره تعالى في تفسيره بقوله: الذين يبخلون إلخ و قوله: و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس إلخ يبين كون الطائفتين معروضتين للخيلاء و الفخر: فالطائفة الأولى متعلقة القلب بالمال، و الثانية بالجاه و إن كان بين الجاه و المال تلازم في الجملة.
و كان من طبع الكلام أن يشتغل بذكر أعمالهما من البخل و الكتمان و غيرهما لكن بدأ بالوصفين ليدل على السبب في عدم الحب كما لا يخفى.
قوله تعالى: «الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل» الآية أمرهم الناس بالبخل إنما هو بسيرتهم الفاسدة و عملهم به سواء أمروا به لفظا أو سكتوا فإن هذه الطائفة لكونهم أولي ثروة و مال يتقرب إليهم الناس و يخضعون لهم لما في طباع الناس من الطمع ففعلهم آمر و زاجر كقولهم، و أما كتمانهم ما آتاهم الله من فضله فهو تظاهرهم بظاهر الفاقد المعدم للمال لتأذيهم من سؤال الناس ما في أيديهم، و خوفهم على أنفسهم لو منعوا و خشيتهم من توجه النفوس إلى أموالهم، و المراد بالكافرين الساترون لنعمة الله التي أنعم بها، و منه الكافر المعروف لستره على الحق بإنكاره.
قوله تعالى: «و الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس»، إلخ أي لمراءاتهم، و في الآية دلالة على أن الرئاء في الإنفاق - أو هو مطلقا - شرك بالله كاشف عن عدم الإيمان به لاعتماد المرائي على نفوس الناس و استحسانهم فعله، و شرك من جهة العمل لأن المرائي لا يريد بعمله ثواب الآخرة، و إنما يريد ما يرجوه من نتائج إنفاقه في الدنيا، و على أن المرائي قرين الشيطان و ساء قرينا.
قوله تعالى: «و ما ذا عليهم لو آمنوا» الآية، استفهام للتأسف أو التعجب، و في الآية دلالة على أن الاستنكاف عن الإنفاق في سبيل الله ناش من فقدان التلبس بالإيمان بالله و باليوم الآخر حقيقة و إن تلبس به ظاهرا.
و قوله: «و كان الله بهم عليما» تمهيد لما في الآية التالية من البيان، و الأمس لهذه الجملة بحسب المعنى أن تكون حالا.
قوله تعالى: «إن الله لا يظلم مثقال ذرة» الآية.
المثقال هو الزنة، و الذرة هو الصغير من النمل الأحمر، أو هو الواحد من الهباء المبثوث في الهواء الذي لا يكاد يرى صغرا.
و قوله: مثقال ذرة نائب مناب المفعول المطلق أي لا يظلم ظلما يعدل مثقال ذرة وزنا.
و قوله: و إن تك حسنة، قرىء برفع حسنة و بنصبها فعلى تقدير الرفع كان تامة، و على تقدير النصب تقديره: و إن تكن المثقال المذكور حسنة يضاعفها، و تأنيث الضمير في قوله: إن تك إما من جهة تأنيث الخبر أو لكسب المثقال التأنيث بالإضافة إلى ذرة.
و السياق يفيد أن تكون الآية بمنزلة التعليل للاستفهام السابق، و التقدير: و من الأسف عليهم أن لم يؤمنوا و لم ينفقوا فإنهم لو آمنوا و أنفقوا و الله عليم بهم لم يكن الله ليظلمهم في مثقال ذرة أنفقوها بالإهمال و ترك الجزاء، و إن تك حسنة يضاعفها.
و الله أعلم.
قوله تعالى: «فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد» الآية.
قد تقدم بعض الكلام في معنى الشهادة على الأعمال في تفسير قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس: «البقرة: 143» من الجزء الأول من هذا الكتاب، و سيجيء بعض آخر في محله المناسب له.
قوله تعالى: «يومئذ يود الذين كفروا و عصوا الرسول» الآية.
نسبة المعصية إلى الرسول يشهد أن المراد بها معصية أوامره (صلى الله عليه وآله وسلم) الصادرة عن مقام ولايته لا معصية الله تعالى في أحكام الشريعة، و قوله: لو تسوى بهم الأرض كناية عن الموت بمعنى بطلان الوجود نظير قوله تعالى: و يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا: «النبأ: 40».
و قوله: «و لا يكتمون الله حديثا» ظاهر السياق أنه معطوف على موضع قوله: يود الذين كفروا و فائدته الدلالة بوجه على ما يعلل به تمنيهم الموت، و هو أنهم بارزون يومئذ لله لا يخفى عليه منهم شيء لظهور حالهم عليه تعالى بحضور أعمالهم، و شهادة أعضائهم و شهادة الأنبياء و الملائكة و غيرهم عليهم، و الله من ورائهم محيط فيودون عند ذلك أن لو لم يكونوا و ليس لهم أن يكتموه تعالى حديثا مع ما يشاهدون من ظهور مساوي أعمالهم و قبائح أفعالهم.
و أما قوله تعالى: يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم: «المجادلة: 18» فسيجيء إن شاء الله تعالى أن ذلك إنما هو لإيجاب ملكة الكذب التي حصلوها في الدنيا لا للإخفاء و كتمان الحديث يوم لا يخفى على الله منهم شيء.
بحث روائي
في تفسير العياشي، في قوله تعالى: و بالوالدين إحسانا الآية: عن سلام الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) و أبان بن تغلب عن أبي عبد الله (عليه السلام): نزلت في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و في علي (عليه السلام).
ثم قال: و روي مثل ذلك في حديث ابن جبلة. قال: قال: و روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا و علي أبوا هذه الأمة.
أقول: و قال البحراني في تفسير البرهان، بعد نقل الحديث: قلت: و روى ذلك صاحب الفائق.
و روى العياشي هذا المعنى عن أبي بصير عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و رواه ابن شهرآشوب عن أبان عن أبي جعفر (عليه السلام).
و الذي تعرض له الخبر هو من بطن القرآن بالمعنى الذي بحثنا عنه في مبحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من هذا الكتاب، إذ الأب أو الوالد هو المبدأ الإنساني لوجود الإنسان و المربي له، فمعلم الإنسان و مربيه للكمال أبوه فمثل النبي و الولي عليهما أفضل الصلاة أحق أن يكون أبا للمؤمن المهتدي به، المقتبس من أنوار علومه و معارفه من الأب الجسماني الذي لا شأن له إلا المبدئية و التربية في الجسم فالنبي و الولي أبوان، و الآيات القرآنية التي توصي الولد بوالديه تشملهما بحسب الباطن و إن كانت بحسب ظاهرها لا تعدو الأبوين الجسمانيين.
و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي صالح عن أبي العباس في قول الله: و الجار ذي القربى و الجار الجنب قال: الذي ليس بينك و بينه قرابة، و الصاحب بالجنب قال: الصاحب في السفر.
أقول: قوله: الذي ليس بينك، تفسير الجار ذي القربى و الجنب معا و إن أمكن رجوعه إلى الجار الجنب فقط، و قوله: الصاحب في السفر لعله من قبيل ذكر بعض المصاديق.
و فيه، عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن جده قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في خطبة يصف هول يوم القيامة: ختم على الأفواه فلا تكلم، و تكلمت الأيدي، و شهدت الأرجل، و أنطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا.
و اعلم، أن الأخبار كثيرة من طرق أهل السنة في أن الآيات نازلة في حق اليهود، و هي و إن كان يؤيدها ما ينتهي إليه ذيل الآيات من التعرض لحال أهل الكتاب من اليهود في بخلهم و ولعهم بجمع المال و ادخاره و كذا وسوستهم للمؤمنين و ترغيبهم على الكف عن الإنفاق في سبيل الله و تفتينهم إياهم و إخزائهم لهم، و إفساد الأمر على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الأخبار المذكورة مع ذلك أشبه بالتطبيق النظري منها بنقل السبب في النزول كما هو الغالب في الأخبار الناقلة لأسباب النزول، و لذلك تركنا نقلها على كثرتها.
و اعلم أيضا أن الأخبار الواردة عن النبي و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إحسان الوالدين و ذي القربى و اليتامى و غيرهم من الطوائف المذكورة في الآية فوق حد الإحصاء على معروفيتها و شهرتها، و هو الموجب للإغماض عن إيرادها هاهنا على أن لكل منها وحده مواقع خاصة في القرآن، ذكر ما يخصها من الأخبار هناك أنسب.
|