بيان
قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: يسألونك عن الخمر و الميسر: «البقرة: 219»، أن الآيات المتعرضة لأمر الخمر خمس طوائف، و إن ضم هذه الآيات بعضها إلى بعض يفيد أن هذه الآية: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا» الآية نزلت بعد قوله تعالى: تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا: «النحل: 67»، و قوله: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم: «الأعراف: 33»، و قبل قوله تعالى: يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما: «البقرة: 219»، و قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه: «المائدة: 90»، و هذه آخر الآيات نزولا.
و يمكن بوجه أن يتصور الترتيب على خلاف هذا الذي ذكرناه فتكون النازلة أولا آية النحل ثم الأعراف ثم البقرة ثم النساء ثم المائدة فيكون ما يفيده هذا الترتيب من قصة النهي القطعي عن شرب الخمر على خلاف ما يفيده الترتيب السابق فيكون ما في سورة الأعراف نهيا من غير تفسير ثم الذي في سورة البقرة نهيا باتا لكن المسلمين كانوا يتعللون في الاجتناب حتى نهوا عنها نهيا جازما في حال الصلاة في سورة النساء، ثم نهيا مطلقا في جميع الحالات في سورة المائدة و لعلك إن تدبرت في مضامين الآيات رجحت الترتيب السابق على هذا الترتيب، و لم تجوز بعد النهي الصريح الذي في آية البقرة النهي الذي في آية النساء المختص بحال الصلاة فهذه الآية قبل آية البقرة، إلا أن نقول إن النهي عن الصلاة في حال السكر كناية عن الصلاة كسلان كما ورد في بعض الروايات الآتية.
و أما وقوع الآية بين ما تقدمها و ما تأخر عنها من الآيات فهي كالمتخللة المعترضة إلا أن هاهنا احتمالا ربما صحح هذا النحو من التخلل و الاعتراض - و هو غير عزيز في القرآن - و هو جواز أن تتنزل عدة من الآيات ذات سياق واحد متصل منسجم تدريجا في خلال أيام ثم تمس الحاجة إلى نزول آية أو آيات و لما تمت الآيات النازلة على سياق واحد فتقع الآية بين الآيات كالمعترضة المتخللة و ليست بأجنبية بحسب الحقيقة و إنما هي كالكلام بين الكلام لرفع توهم لازم الدفع، أو مس حاجة إلى إيراده نظير قوله تعالى: بل الإنسان على نفسه بصيرة و لو ألقى معاذيره لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه و قرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه كلا بل تحبون العاجلة الآيات: «القيامة: 20»، انظر إلى موضع قوله: لا تحرك إلى قوله: «بيانه».
و على هذا فلا حاجة إلى التكلف في بيان وجه ارتباط الآية بما قبلها، و ارتباط ما بعدها بها، على أن القرآن إنما نزل نجوما، و لا موجب لهذا الارتباط إلا في السور النازلة دفعة أو الآيات الواضحة الاتصال الكاشف ذلك عن الارتباط بينها.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا» إلى قوله: «ما تقولون» المراد بالصلاة المسجد، و الدليل عليه قوله: و لا جنبا إلا عابري سبيل، و المقتضي لهذا التجوز قوله حتى تعلموا ما تقولون إذ لو قيل: لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى لم يستقم تعليله بقوله: «حتى تعلموا ما تقولون» أو أفاد التعليل معنى آخر غير مقصود مع أن المقصود إفادة أنكم في حال الصلاة تواجهون مقام العظمة و الكبرياء و تخاطبون رب العالمين فلا يصلح لكم أن تسكروا و تبطلوا عقولكم برجس الخمر فلا تعلموا ما تقولون، و هذا المعنى كما ترى - يناسب النهي عن اقتراب الصلاة لكن الصلاة لما كانت أكثر ما تقع تقع في المسجد جماعة - على السنة - و كان من القصد أن تذكر أحكام الجنب في دخوله المسجد أوجز في المقال و سبك الكلام على ما ترى.
و على هذا فقوله: حتى تعلموا ما تقولون في مقام التعليل للنهي عن شرب الخمر بحيث يبقى سكرها إلى حال دخول الصلاة أي نهيناكم عنه لغاية أن تعلموا ما تقولون و ليس غاية للحكم بمعنى أن لا تقربوا إلى أن تعلموا ما تقولون فإذا علمتم ما تقولون فلا بأس.
قوله تعالى: «و لا جنبا إلا عابري سبيل» إلى آخر الآية سيأتي الكلام في الآية في تفسير قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة: «المائدة: 6».
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضل عن أبي الحسن (عليه السلام) في قول الله: «لا تقربوا الصلاة - و أنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون» قال: هذا قبل أن تحرم الخمر.
أقول: ينبغي أن تحمل الرواية على أن المراد بتحريم الخمر توضيح تحريمها، و إلا فهي مخالفة للكتاب فإن آية الأعراف تحرم الخمر بعنوان أنه إثم صريحا، و آية البقرة تصرح بأن في الخمر إثما كبيرا فقد حرمت الخمر في مكة قبل الهجرة لكون سورة الأعراف مكية و لم يختلف أحد في أن هذه الآية آية النساء مدنية، و مثل هذه الرواية عدة روايات من طرق أهل السنة تصرح بكون الآية نازلة قبل تحريم الخمر، و يمكن أن تكون الرواية ناظرة إلى كون المراد بالآية عن الصلاة كسلان.
و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لا تقم إلى الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا فإنها من خلل النفاق فإن الله نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى يعني من النوم.
أقول: قوله: فإنها من خلل النفاق استفاد (عليه السلام) ذلك من قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا، فالمتمرد عن هذا الخطاب منافق غير مؤمن، و قوله: يعني من النوم يحتمل أن يكون من كلام الراوي و يحتمل أن يكون من كلامه (عليه السلام) و يكون تفسيرا للآية من قبيل بطن القرآن، و يمكن أن يكون من الظهر.
و قد وردت روايات أخر في تفسيره بالنوم رواها العياشي في تفسيره عن الحلبي في روايتين، و الكليني في الكافي بإسناده عن زيد الشحام عن الصادق (عليه السلام)، و بإسناده عن زرارة عن الباقر (عليه السلام)، و روى هذا المعنى أيضا البخاري في صحيحه عن أنس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
|