بيان
آيات متعرضة لحال أهل الكتاب، و تفصيل لمظالمهم و خياناتهم في دين الله، و أوضح ما تنطبق على اليهود، و هي ذات سياق واحد متصل، و الآية الأخيرة: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» الآية، و إن ذكر بعضهم أنها مكية، و استثناها في آيتين من سورة النساء المدنية، و هي هذه الآية، و قوله تعالى: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية: «النساء: 176» على ما في المجمع لكن الآية ظاهرة الارتباط بما قبلها من الآيات، و كذا آية الاستفتاء فإنها في الإرث، و قد شرع في المدينة.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب» الآية، قد تقدم في الكلام على الآيات 36 42 أنها مرتبطة بعض الارتباط بهذه الآيات، و قد سمعت القول في نزول تلك الآيات في حق اليهود.
و بالجملة يلوح من هذه الآيات أن اليهود كانوا يلقون إلى المؤمنين المودة و يظهرون لهم النصح فيفتنونهم بذلك، و يأمرونهم بالبخل و الإمساك عن الإنفاق ليمنعوا بذلك سعيهم عن النجاح، و جدهم في التقدم و التعالي، و هذا لازم كون تلك الآيات نازلة في حق اليهود أو في حق من كان يسار اليهود و يصادقهم ثم تنحرف عن الحق بتحريفهم، و يميل إلى حيث يميلونه فيبخل ثم يأمر بالبخل.
و هذا هو الذي يستفاد من قوله: و يريدون أن تضلوا السبيل و الله أعلم بأعدائكم إلى آخر الآية.
فمعنى الآيتين - و الله أعلم - أن ما نبينه لكم تصديق ما بيناه لكم من حال الممسك عن الإنفاق في سبيل الله بالاختيال و الفخر و البخل و الرئاء إنك ترى اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب أي حظا منه لا جميعه كما يدعون لأنفسهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يريدون أن تضلوا السبيل فإنهم و إن لقوكم ببشر الوجه، و ظهروا لكم في زي الصلاح، و اتصلوا بكم اتصال الأولياء الناصرين فذكروا لكم ما ربما استحسنته طباعكم، و استصوبته قلوبكم لكنهم ما يريدون إلا ضلالكم عن السبيل كما اختاروا لأنفسهم الضلالة، و الله أعلم منكم بأعدائكم، و هم أعداؤكم فلا يغرنكم ظاهر ما تشاهدون من حالهم فإياكم أن تطيعوا أمرهم أو تصغوا إلى أقوالهم المزوقة و إلقاءاتهم المزخرفة و أنتم تقدرون أنهم أولياؤكم و أنصاركم، فأنتم لا تحتاجون إلى ولايتهم الكاذبة، و نصرتهم المرجوة و كفى بالله وليا، و كفى بالله نصيرا، فأي حاجة مع ولايته و نصرته إلى ولايتهم و نصرتهم.
قوله تعالى: «من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه» إلى قوله: «في الدين» «من» في قوله: من الذين، بيانيه، و هو بيان لقوله في الآية السابقة: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، أو لقوله: بأعدائكم، و ربما قيل: إن قوله: من الذين هادوا خبر لمبتدإ محذوف و هو الموصوف المحذوف لقوله يحرفون الكلم، و التقدير: من الذين هادوا قوم يحرفون، أو من الذين هادوا من يحرفون، قالوا: و حذف الموصوف شائع كقول ذي الرمة: فظلوا و منهم دمعه سابق له.
و آخر يشني دمعة العين بالمهل.
يريد: و منهم قوم دمعه أو و منهم من دمعه و قد وصف الله تعالى هذه الطائفة بتحريف الكلم عن مواضعه، و ذلك إما بتغيير مواضع الألفاظ بالتقديم و التأخير و الإسقاط و الزيادة كما ينسب إلى التوراة الموجودة، و إما بتفسير ما ورد عن موسى (عليه السلام) في التوراة و عن سائر الأنبياء بغير ما قصد منه من المعنى الحق كما أولوا ما ورد في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من بشارات التوراة، و من قبل أولوا ما ورد في المسيح (عليه السلام) من البشارة، و قالوا: إن الموعود لم يجىء بعد، و هم ينتظرون قدومه إلى اليوم.
و من الممكن أن يكون المراد بتحريف الكلم عن مواضعه ما سيذكره تعالى بقوله: و يقولون سمعنا و عصينا، فتكون هذه الجمل معطوفة على قوله: يحرفون، و يكون المراد حينئذ من تحريف الكلم عن مواضعه استعمال القول بوضعه في غير المحل الذي ينبغي أن يوضع فيه، فقول القائل: سمعنا من حقه أن يوضع في موضع الطاعة فيقال: سمعنا و أطعنا لا أن يقال: سمعنا و عصينا، أو يوضع: سمعنا موضع التهكم و الاستهزاء، و كذا قول القائل: اسمع ينبغي أن يقال فيه: اسمع أسمعك الله لا أن يقال: اسمع غير مسمع أي لا أسمعك الله و راعنا، و هو يفيد في لغة اليهود معنى اسمع غير مسمع.
و قوله: «ليا بألسنتهم و طعنا في الدين» أصل اللي الفتل أي يميلون بألسنتهم فيظهرون الباطل من كلامهم في صورة الحق، و الإزراء و الإهانة في صور التأدب و الاحترام فإن المؤمنين كانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين ما كانوا يكلمونه بقولهم: راعنا يا رسول الله، و معناه: أنظرنا و اسمع منا حتى نوفي غرضنا من كلامنا، فاغتنمت اليهود ذلك فكانوا يخاطبون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقولهم: راعنا و هم يريدون به ما عندهم من المعنى المستهجن غير الحري بمقامه (صلى الله عليه وآله وسلم) فذموا به في هذه الآية، و هو قوله تعالى: «يحرفون الكلم عن مواضعه» ثم فسره بقوله: «و يقولون سمعنا و عصينا و اسمع غير مسمع» ثم عطف عليه كعطف التفسير قوله: «و راعنا» ثم ذكر أن هذا الفعال المذموم منهم لي بالألسن، و طعن في الدين فقال: «ليا بألسنتهم و طعنا في الدين» و المصدران في موضع الحال و التقدير: لاوين بألسنتهم، و طاعنين في الدين.
قوله تعالى: «و لو أنهم قالوا سمعنا و أطعنا لكان خيرا لهم و أقوم» كون هذا القول منهم و هو مشتمل على أدب الدين، و الخضوع للحق خيرا و أقوم مما قالوه مع اشتماله على اللي و الطعن المذمومين و لا خير فيه و لا قوام مبني على مقايسة الأثر الحق الذي في هذا الكلام الحق على ما يظنونه من الأثر في كلامهم و إن لم يكن له ذلك بحسب الحقيقة، فالمقايسة بين الأثر الحق و بين الأثر المظنون حقا، و المعنى: أنهم لو قالوا: سمعنا و أطعنا، لكان فيه من الخير و القوام أكثر مما يقدرون في أنفسهم لهذا اللي و الطعن فالكلام يجري مجرى قوله تعالى: و إذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها و تركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة و الله خير الرازقين: - الجمعة: 11.
قوله تعالى: «و لكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا» تأييس للسامعين من أن تقول اليهود سمعنا و أطعنا فإنه كلمة إيمان و هؤلاء ملعونون لا يوفقون للإيمان، و لذلك قيل: لو أنهم قالوا، الدال على التمني المشعر بالاستحالة.
و الظاهر أن الباء في قوله: «بكفرهم» للسببية دون الآية، فإن الكفر يمكن أن يزاح بالإيمان فهو لا يوجب بما هو كفر لعنة تمنع عن الإيمان منعا قاطعا لكنهم لما كفروا و سيشرح الله تعالى في آخر السورة حال كفرهم لعنهم الله بسبب ذلك لعنا ألزم الكفر عليهم إلزاما لا يؤمنون بذلك إلا قليلا فافهم ذلك.
و أما قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا فقد قيل: إن «قليلا» حال، و التقدير: إلا و هم قليل أي لا يؤمنون إلا في حال هم قليل، و ربما قيل: إن «قليلا» صفة لموصوف محذوف، و التقدير: فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و هذا الوجه كسابقه لا بأس به لكن يجب أن يزاد فيه أن اتصاف الإيمان بالقلة إنما هو من قبيل الوصف بحال المتعلق أي إيمانا المؤمن به قليل.
و أما ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به قليل الإيمان في مقابل كامله، و ذكر أن المعنى: فلا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به إذ لا يصلح عمل صاحبه، و لا يزكي نفسه، و لا يرقي عقله فقد أخطأ، فإن الإيمان إنما يتصف بالمستقر و المستودع، و الكامل و الناقص في درجات و مراتب مختلفة، و أما القلة و تقابلها الكثرة فلا يتصف بهما، و خاصة في مثل القرآن الذي هو أبلغ الكلام.
على أن المراد بالإيمان المذكور في الآية إما حقيقة الإيمان القلبي في مقابل النفاق أو صورة الإيمان التي ربما يطلق عليها الإسلام، و اعتباره على أي معنى من معانيه، و الاعتناء به في الإسلام مما لا ريب فيه، و الآيات القرآنية ناصة فيه، قال تعالى: و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا: «النساء: 94»، مع أن الذي يستثني الله تعالى منه قوله: و لكن لعنهم الله بكفرهم، كان يكفي فيه أقل درجات الإيمان أو الإسلام الظاهري بحفظهم الظاهر بقولهم: سمعنا و أطعنا كسائر المسلمين.
و الذي أوقعه في هذا الخطإ ما توهمه أن لعنه تعالى إياهم بكفرهم لا يجوز أن يتخلف عن التأثير بإيمان بعضهم فقدر أن القلة وصف الإيمان و هي ما لا يعتد به من الإيمان حتى يستقيم قوله: «لعنهم الله بكفرهم»، و قد غفل عن أن هذه الخطابات و ما تشتمل عليه من صفات الذم و المؤاخذات و التوبيخات كل ذلك متوجهة إلى المجتمعات من حيث الاجتماع، فالذي لحقه اللعن و الغضب و المؤاخذات العامة الأخرى إنما هو المجتمع اليهودي من حيث إنه مجتمع مكون فلا يؤمنون و لا يسعدون و لا يفلحون، و هو كذلك إلى هذا اليوم و هم على ذلك إلى يوم القيامة.
و أما الاستثناء فإنما هو بالنسبة إلى الأفراد، و خروج بعض الأفراد من الحكم المحتوم على المجتمع ليس نقضا لذلك الحكم، و المحوج إلى هذا الاستثناء أن الأفراد بوجه هم المجتمع فقوله: «فلا يؤمنون» حيث نفي فيه الإيمان عن الأفراد - و إن كان ذلك نفيا عنهم من حيث جهة الاجتماع - و كان يمكن فيه أن يتوهم أن الحكم شامل لكل واحد واحد منهم بحيث لا يتخلص منه أحد استثني فقيل: إلا قليلا فالآية تجري مجرى قوله تعالى: و لو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم: - النساء: 66.
قوله تعالى: «يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا» إلخ الطمس محو أثر الشيء، و الوجه ما يستقبلك من الشيء و يظهر منه، و هو من الإنسان الجانب المقدم الظاهر من الرأس و ما يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور المعنوية كما يستعمل في الأمور الحسية، و الأدبار جمع دبر بضمتين و هو القفا، و المراد بأصحاب السبت قوم من اليهود كانوا يعدون في السبت فلعنهم الله و مسخهم، قال تعالى: و اسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا و يوم لا يسبتون لا تأتيهم: - الأعراف: 163، و قال تعالى: و لقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعلناها نكالا لما بين يديها و ما خلفها: - البقرة: 66.
و قد كانت الآيات السابقة - كما عرفت - متعرضة لحال اليهود أو لحال طائفة من اليهود، و انجر القول إلى أنهم بإزاء ما خانوا الله و رسوله، و أفسدوا صالح دينهم ابتلوا بلعنة من الله لحق جمعهم، و سلبهم التوفيق للإيمان إلا قليلا فعم الخطاب لجميع أهل الكتاب - على ما يفيده قوله: يا أيها الذين أوتوا الكتاب - و دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزله مصدقا لما معهم، و أوعدهم بالسخط الذي يلحقهم لو تمردوا و استكبروا من غير عذر من طمس أو لعن يتبعانهم إتباعا لا ريب فيه.
و ذلك ما ذكره بقوله: من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها، فطمس الوجوه محو هذه الوجوه التي يتوجه بها البشر نحو مقاصدها الحيوية مما فيه سعادة الإنسان المترقبة و المرجوة لكن لا المحو الذي يوجب فناء الوجوه و زوالها و بطلان آثارها بل محوا يوجب ارتداد تلك الوجوه على أدبارها فهي تقصد مقاصدها على الفطرة التي فطر عليها لكن لما كانت منصوبة إلى الأقفية و مردودة على الأدبار لا تقصد إلا ما خلفته وراءها، و لا تمشي إليه إلا القهقرى.
و هذا الإنسان - و هو بالطبع و الفطرة متوجه نحو ما يراه خيرا و سعادة لنفسه - كلما توجه إلى ما يراه خيرا لنفسه، و صلاحا لدينه أو لدنياه لم ينل إلا شرا و فسادا، و كلما بالغ في التقدم زاد في التأخر، و ليس يفلح أبدا.
و أما لعنهم كلعن أصحاب السبت فظاهره المسخ على ما تقدم من آيات أصحاب السبت التي تخبر عن مسخهم قردة.
و على هذا فلفظة «أو» في قوله: أو نلعنهم، على ظاهرها من إفادة الترديد، و الفرق بين الوعيدين أن الأول أعني الطمس يوجب تغيير مقاصد المغضوب عليهم من غير تغيير الخلقة إلا في بعض كيفياتها، و الثاني أعني اللعن كلعن أصحاب السبت يوجب تغيير المقصد بتغيير الخلقة الإنسانية إلى خلقة حيوانية كالقردة.
فهؤلاء إن تمردوا عن الامتثال - و سوف يتمردون على ما تفيده خاتمة الآية - كان لهم إحدى سخطتين: إما طمس الوجوه، و أما اللعن كلعن أصحاب السبت لكن الآية تدل على أن هذه السخطة لا تعمهم جميعهم حيث قال.
«وجوها» فأتى بالجمع المنكر، و لو كان المراد هو الجميع لم ينكر، و لتنكير الوجوه و عدم تعيينه نكتة أخرى هي أن المقام لما كان مقام الإيعاد و التهديد، و هو إيعاد للجماعة بشر لا يحلق إلا ببعضهم كان إبهام الأفراد الذين يقع عليهم السخط الإلهي أوقع في الإنذار و التخويف لأن وصفهم على إبهامه يقبل الانطباق على كل واحد واحد من القوم فلا يأمن أحدهم أن يمسه هذا العذاب البئيس، و هذه الصناعة شائعة في اللسان في مقام التهديد و التخويف.
و في قوله تعالى: أو نلعنهم، حيث أرجع فيه ضمير «هم» الموضوع لأولي العقل إلى قوله: «وجوها» كما هو الظاهر تلويحا أو تصريحا بأن المراد بالوجوه الأشخاص من حيث استقبالهم مقاصدهم، و بذلك يضعف احتمال أن يكون المراد بطمس الوجوه و ردها على أدبارها تحويل وجوه الأبدان إلى الأقفية كما قال به بعضهم، و يقوى بذلك احتمال أن المراد من تحويل الوجوه إلى الأدبار تحويل النفوس من حال استقامة الفكر، و إدراك الواقعيات على واقعيتها إلى حال الاعوجاج و الانحطاط الفكري بحيث لا يشاهد حقا إلا أعرض عنه و اشمأز منه، و لا باطلا إلا مال إليه و تولع به.
و هذا نوع من التصرف الإلهي مقتا و نقمة نظير ما يدل عليه قوله تعالى: و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة و نذرهم في طغيانهم يعمهون: «الأنعام: 110».
فتبين مما مر أن المراد بطمس الوجوه في الآية نوع تصرف إلهي في النفوس يوجب تغيير طباعها من مطاوعة الحق و تجنب الباطل إلى اتباع الباطل و الاحتراز عن الحق في باب الإيمان بالله و آياته كما يؤيده صدر الآية: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس إلخ، و كذا تبين أن المراد باللعن المذكور فيها المسخ.
و ربما قيل: إن المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى أقفيتهم و يكون ذلك في آخر الزمان أو يوم القيامة، و فيه: أن قوله: «أو نلعنهم» ينافي ذلك كما تقدم بيانه.
و ربما قيل: إن المراد بالطمس الخذلان الدنيوي فلا يزالون على ذلة و نكبة لا يقصدون غاية ذات سعادة إلا بدلها الله عليهم سرابا لا خير فيه، و فيه: أنه و إن كان لا يبعد كل البعد لكن صدر الآية - كما تقدم - ينافيه.
و ربما قيل: إن المراد به إجلاؤهم و ردهم ثانيا إلى حيث خرجوا منه، و قد أخرجوا من الحجاز إلى أرض الشام و فلسطين، و قد جاءوا منهما، و فيه أن صدر الآية بسياقه يؤيد غير ذلك كما عرفته.
نعم من الممكن أن يقال: إن المراد به تقليب أفئدتهم، و طمس وجوه باطنهم من الحق إلى نحو الباطل فلا يفلحون بالإيمان بالله و آياته، ثم إن الدين الحق لما كان هو الصراط الذي لا ينجح إنسان في سعادة حياته الدنيا إلا بركوبه و الاستواء عليه، و ليس للناكب عنه إلا الوقوع في كانون الفساد، و السقوط في مهابط الهلاك، قال تعالى: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا: «الروم: 41»، و قال تعالى: و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض، و لكن كذبوا فأخذناهم: «الأعراف: 96» و لازم هذه الحقيقة أن طمس الوجوه عن المعارف الحقة الدينية طمس لها عن حقائق سعادة الحياة الدنيا بجميع أقسامها فالمحروم من سعادة الدين محروم من سعادة الدنيا من استقرار الحال و تمهد الأمن و سؤدد الاستقلال و الملك، و كل ما يطيب به العيش، و يدر به ضرع العمل اللهم إلا على قدر ما نسرب المواد الدينية في مجتمعهم و على هذا فلا بأس بالجمع بين الوجوه المذكورة جلها أو كلها.
قوله تعالى: «و كان أمر الله مفعولا» إشارة إلى أن الأمر لا محالة واقع، و قد وقع على ما ذكره الله في كتابه من لعنهم و إنزال السخط عليهم، و إلقاء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، و غير ذلك في آيات كثيرة.
قوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء» ظاهر السياق أن الآية في مقام التعليل للحكم المذكور في الآية السابقة أعني قوله: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس إلخ، فيعود المعنى إلى مثل قولنا: فإنكم إن لم تؤمنوا به كنتم بذلك مشركين، و الله لا يغفر أن يشرك به فيحل عليكم غضبه و عقوبته فيطمس وجوهكم بردها على أدبارها أو يلعنكم فنتيجة عدم المغفرة هذه ترتب آثار الشرك الدنيوية من طمس أو لعن عليه.
و هذا هو الفرق بين مضمون هذه الآية، و قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و من يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا: «النساء: 116»، فإن هذه الآية آية 48، تهدد بآثار الشرك الدنيوية، و تلك آية 116، تهدد بآثاره الأخروية، و ذلك بحسب الانطباق على المورد و إن كانتا بحسب الإطلاق كلتاهما شاملتين لجميع الآثار.
و مغفرته سبحانه و عدم مغفرته لا يقع شيء منهما وقوعا جزافيا بل على وفق الحكمة، و هو العزيز الحكيم، فأما عدم مغفرته للشرك فإن الخلقة إنما تثبت على ما فيها من الرحمة على أساس العبودية و الربوبية، قال تعالى: و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون: «الذاريات: 56»، و لا عبودية مع شرك، و أما مغفرته لسائر المعاصي و الذنوب التي دون الشرك فلشفاعة من جعل له الشفاعة من الأنبياء و الأولياء و الملائكة و الأعمال الصالحة على ما مر تفصيله في بحث الشفاعة في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و أما التوبة فالآية غير متعرضة لشأنها من حيث خصوص مورد الآية لأن موردها عدم الإيمان و لا توبة معه، على أن التوبة يغفر معها جميع الذنوب حتى الشرك، قال تعالى: قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم و أنيبوا إلى ربكم: «الزمر: 54».
و المراد بالشرك في الآية ما يعم الكفر لا محالة فإن الكافر أيضا لا يغفر له البتة و إن لم يصدق عليه المشرك بعنوان التسمية بناء على أن أهل الكتاب لا يسمون في القرآن مشركين و إن كان كفرهم بالقرآن و بما جاء به النبي شركا منهم أشركوا به راجع تفسير آية 221 من البقرة، و إذا لم يؤمن أهل الكتاب بما نزل الله مصدقا لما معهم فقد كفروا به، و أشركوا ما في أيديهم بالله سبحانه فإنه شيء لا يريده الله على الصفة التي أخذوه بها فالمؤمن بموسى (عليه السلام) إذا كفر بالمسيح (عليه السلام) فقد كفر بالله و أشرك به موسى، و لعل ما ذكرناه هو النكتة لقوله تعالى: أن يشرك به دون أن يقول: المشرك أو المشركين.
و قوله تعالى: «لمن يشاء» تقييد للكلام لدفع توهم أن لأحد من الناس تأثيرا فيه تعالى يوجب به عليه المغفرة فيحكم عليه تعالى حاكم أو يقهره قاهر، و تعليق الأمور الثابتة في القرآن على المشيئة كثير و الوجه في كلها أو جلها دفع ما ذكرناه من التوهم كقوله تعالى: خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ: «هود: 108».
على أن من الحكمة ألا يغفر لكل مذنب ذنبه و إلا لغا الأمر و النهي، و بطل التشريع، و فسد أمر التربية الإلهية، و إليه الإشارة بقوله: لمن يشاء، و من هنا يظهر أن كل واحد من المعاصي لا بد أن لا يغفر بعض أفراده و إلا لغا النهي عنه، و هذا لا ينافي عموم لسان آيات أسباب المغفرة فإن الكلام في الوقوع دون الوعد على وجه الإطلاق، و من المعاصي ما يصدر عمن لا يغفر له بشرك و نحوه.
فمعنى الآية أنه تعالى لا يغفر الشرك من كافر و لا مشرك، و يغفر سائر الذنوب دون الشرك بشفاعة شافع من عباده أو عمل صالح، و ليس هو تعالى مقهورا أن يغفر كل ذنب من هذه الذنوب لكل مذنب بل له أن يغفر و له أن لا يغفر، كل ذلك لحكمة.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين يزكون أنفسهم» قال الراغب: أصل الزكاة النمو الحاصل من بركة الله تعالى - إلى أن قال -: و تزكية الإنسان نفسه ضربان: أحدهما: بالفعل و هو محمود، و إليه قصد بقوله: قد أفلح من تزكى، و الثاني بالقول كتزكيته لعدل غيره، و ذلك مذموم أن يفعل الإنسان بنفسه، و قد نهى الله تعالى عنه فقال: لا تزكوا أنفسكم، و نهيه عن ذلك تأديب لقبح مدح الإنسان نفسه عقلا و شرعا، و لهذا قيل لحكيم: ما الذي لا يحسن و إن كان حقا؟ فقال: مدح الرجل نفسه، انتهى كلامه.
و لما كانت الآية في ضمن الآيات المسرودة للتعرض لحال أهل الكتاب كان الظاهر أن هؤلاء المزكين لأنفسهم هم أهل الكتاب أو بعضهم، و لم يوصفوا بأهل الكتاب لأن العلماء بالله و آياته لا ينبغي لهم أن يتلبسوا بأمثال هذه الرذائل فالإصرار عليها انسلاخ عن الكتاب و علمه.
و يؤيده ما حكاه الله تعالى عن اليهود من قولهم: نحن أبناء الله و أحباؤه: «المائدة: 18»، و قولهم: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة: «البقرة: 80» و زعمهم الولاية كما في قوله تعالى: قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس: «الجمعة: 6»، فالآية تكني عن اليهود، و فيها استشهاد لما تقدم ذكره في الآيات السابقة من استكبارهم عن الخضوع للحق و اتباعه، و الإيمان بآيات الله سبحانه، و استقرار اللعن الإلهي فيهم، و أن ذلك من لوازم إعجابهم بأنفسهم و تزكيتهم لها.
قوله تعالى: «بل الله يزكي من يشاء و لا يظلمون فتيلا» إضراب عن تزكيتهم لأنفسهم، و رد لهم فيما زكوه، و بيان أن ذلك من شئون الربوبية يختص به تعالى فإن الإنسان و إن أمكن أن يتصف بفضائل، و يتلبس بأنواع الشرف و السؤدد المعنوي غير أن اعتناءه بذلك و اعتماده عليه لا يتم إلا بإعطائه لنفسه استغناء و استقلالا و هو في معنى دعوى الألوهية و الشركة مع رب العالمين، و أين الإنسان الفقير الذي لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و الاستغناء عن الله سبحانه في خير أو فضيلة؟ و الإنسان في نفسه و في جميع شئون نفسه، و الخير الذي يزعم أنه يملكه، و جميع أسباب ذلك الخير، مملوك لله سبحانه محضا من غير استثناء، فما ذا يبقى للإنسان؟.
و هذا الغرور و الإعجاب الذي يبعث الإنسان إلى تزكية نفسه هو العجب الذي هو من أمهات الرذائل، ثم لا يلبث هذا الإنسان المغرور المعتمد على نفسه دون أن يمس غيره فيتولد من رذيلته هذه رذيلة أخرى، و هي رذيلة التكبر و يتم تكبره في صورة الاستعلاء على غيره من عباد الله فيستعبد به عباد الله سبحانه، و يجري به كل ظلم و بغي بغير حق و هتك محارم الله و بسط السلطة على دماء الناس و أعراضهم و أموالهم.
و هذا كله إذا كان الوصف وصفا فرديا و أما إذا تعدى الفرد و صار خلقا اجتماعيا و سيرة قومية فهو الخطر الذي فيه هلاك النوع و فساد الأرض، و هو الذي يحكيه تعالى عن اليهود إذ قالوا: ليس علينا في الأميين سبيل: «آل عمران: 75».
فما كان لبشر أن يذكر لنفسه من الفضيلة ما يمدحها به سواء كان صادقا فيما يقول أو كاذبا لأنه لا يملك ذلك لنفسه لكن الله سبحانه لما كان هو المالك لما ملكه، و المعطي الفضل لمن يشاء و كيف يشاء كان له أن يزكي من شاء تزكية عملية بإعطاء الفضل و إفاضة النعمة، و أن يزكي من يشاء تزكية قولية يذكره بما يمتدح به، و يشرفه بصفات الكمال كقوله في آدم و نوح: إن الله اصطفى آدم و نوحا: «آل عمران: 33»، و قوله في إبراهيم و إدريس: إنه كان صديقا نبيا: «مريم: 41، 56»، و قوله في يعقوب: و إنه لذو علم لما علمناه: «يوسف: 68»، و قوله في يوسف: إنه من عبادنا المخلصين: «يوسف: 24»، و قوله في حق موسى: إنه كان مخلصا و كان رسولا نبيا: «مريم: 51»، و قوله في حق عيسى: وجيها في الدنيا و الآخرة و من المقربين: «آل عمران: 45»، و قوله في سليمان و أيوب: نعم العبد إنه أواب: «ص: 30، 44»، و قوله في محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): إن وليي الله الذي نزل الكتاب و هو يتولى الصالحين: «الأعراف: 196»، و قوله: و إنك لعلى خلق عظيم: «القلم: 4»، و كذا قوله تعالى في حق عدة من الأنبياء ذكرهم في سور الأنعام و مريم و الأنبياء و الصافات و ص و غيرها.
و بالجملة فالتزكية لله سبحانه حق لا يشاركه فيه غيره إذ لا يصدر عن غيره إلا من ظلم و إلى ظلم، و لا يصدر عنه تعالى إلا حقا و عدلا يقدر بقدره لا يفرط و لا يفرط، و لذا ذيل قوله: بل الله يزكي من يشاء بقوله - و هو في معنى التعليل -: و لا يظلمون فتيلا.
و قد تبين مما مر أن تزكيته تعالى و إن كانت مطلقة تشمل التزكية العملية و التزكية القولية لكنها تنطبق بحسب مورد الكلام على التزكية القولية.
قوله تعالى: «و لا يظلمون فتيلا» الفتيل فعيل بمعنى المفعول من الفتل و هو اللي قيل: المراد به ما يكون في شق النواة، و قيل: هو ما في بطن النواة، و قد ورد في روايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أنه النقطة التي على النواة، و النقير ما في ظهرها، و القطمير قشرها، و قيل: هو ما فتلته بين إصبعيك من الوسخ، و كيف كان هو كناية عن الشيء الحقير الذي لا يعتد به.
و قد بان بالآية الشريفة أمران: أحدهما: أن ليس لصاحب الفضل أن يعجبه فضله و يمدح نفسه بل هو مما يختص به تعالى فإن ظاهر الآية أن الله يختص به أن يزكي كل من جاز أن يتلبس بالتزكية فليس لغير صاحب الفضل أيضا أن يزكيه إلا بما زكاه الله به، و ينتج ذلك أن الفضائل هي التي مدحها الله و زكاها فلا قدر لفضل لا يعرفه الدين و لا يسميه فضلا، و لا يستلزم ذلك أن تبطل آثار الفضائل عند الناس فلا يعرفوا لصاحب الفضل فضله، و لا يعظموا قدره بل هي شعائر الله و علائمه، و قد قال تعالى: و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب: «الحج: 2» 3، فعلى الجاهل أن يخضع للعالم و يعرف له قدره فإنه من اتباع الحق و قد قال تعالى: هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون: «الزمر: 9»، و إن لم يكن للعالم أن يتبجح بعلمه و يمدح نفسه، و الأمر في جميع الفضائل الحقيقية الإنسانية على هذا الحال.
و ثانيهما: أن ما ذكره بعض باحثينا، و اتبعوا في ذلك ما ذكره المغاربة أن من الفضائل الإنسانية الاعتماد بالنفس أمر لا يعرفه الدين، و لا يوافق مذاق القرآن، و الذي يراه القرآن في ذلك هو الاعتماد بالله و التعزز بالله قال تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل: «آل عمران: 173»، و قال: إن القوة لله جميعا: «البقرة: 165»، و قال: إن العزة لله جميعا: «يونس: 65»، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: «انظر كيف يفترون على الله الكذب»، إلخ فتزكيتهم أنفسهم ببنوة الله و حبه و ولايته و نحو ذلك افتراء على الله إذ لم يجعل الله لهم ذلك، على أن أصل التزكية افتراء و إن كانت عن صدق فإنه - كما تقدم بيانه - إسناد شريك إلى الله و ليس له في ملكه شريك قال تعالى: و لم يكن له شريك في الملك: «الإسراء: 111».
و قوله: و كفى به إثما مبينا أي لو لم يكن في التزكية إلا أنه افتراء على الله لكفى في كونه إثما مبينا، و التعبير بالإثم و هو الفعل المذموم الذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و يبطئها - هو المناسب لهذه المعصية لكونه من إشراك الشرك و فروعه، يمنع نزول الرحمة، و كذا في شرك الكفر الذي يمنع المغفرة كما وقع في الآية السابقة: و من يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما بعد قوله: إن الله لا يغفر أن يشرك به.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت و الطاغوت»، الجبت و الجبس كل ما لا خير فيه، و قيل: و كل ما يعبد من دون الله سبحانه، و الطاغوت مصدر في الأصل كالطغيان يستعمل كثيرا بمعنى الفاعل، و قيل: هو كل معبود من دون الله، و الآية تكشف عن وقوع واقعة قضى فيها بعض أهل الكتاب للذين كفروا على الذين آمنوا بأن سبيل المشركين أهدى من سبيل المؤمنين، و ليس عند المؤمنين إلا دين التوحيد المنزل في القرآن المصدق لما عندهم، و لا عند المشركين إلا الإيمان بالجبت و الطاغوت فهذا القضاء اعتراف منهم بأن للمشركين نصيبا من الحق، و هو الإيمان بالجبت و الطاغوت الذي نسبه الله تعالى إليهم ثم لعنهم الله بقوله: أولئك الذين لعنهم الله الآية.
و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول أن مشركي مكة طلبوا من أهل الكتاب أن يحكموا بينهم و بين المؤمنين فيما ينتحلونه من الدين فقضوا لهم على المؤمنين، و سيأتي الرواية في ذلك في البحث الروائي الآتي.
و قد ذكر كونهم ذوي نصيب من الكتاب ليكون أوقع في وقوع الذم و اللوم عليهم فإن إيمان علماء الكتاب بالجبت و الطاغوت و قد بين لهم الكتاب أمرهما أشنع و أفظع.
قوله تعالى: «أم لهم نصيب من الملك» إلى قوله: «نقيرا» النقير فعيل بمعنى المفعول و هو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره، و قد مر له معنى آخر في قوله: و لا يظلمون فتيلا الآية.
و قد ذكروا أن «أم» في قوله: أم لهم نصيب من الملك، منقطعة و المعنى: بل أ لهم نصيب من الملك، و الاستفهام إنكاري أي ليس لهم ذلك.
و قد جوز بعضهم أن تكون «أم» متصلة، و قال: إن التقدير: أ هم أولى بالنبوة أم لهم نصيب من الملك؟ و رد بأن حذف الهمزة إنما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن، و الظاهر أن أم متصلة و أن الشق المحذوف ما يدل عليه الآية السابقة: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية، و التقدير: أ لهم كل ما حكموا به من حكم أم لهم نصيب من الملك أم يحسدون الناس؟ و على هذا تستقيم الشقوق و تترتب، و يتصل الكلام في سوقه.
و المراد بالملك هو السلطنة على الأمور المادية و المعنوية فيشمل ملك النبوة و الولاية و الهداية و ملك الرقاب و الثروة، و ذلك أنه هو الظاهر من سياق الجمل السابقة و اللاحقة فإن الآية السابقة تومىء إلى دعواهم أنهم يملكون القضاء و الحكم على المؤمنين، و هو مسانخ للملك على الفضائل المعنوية و ذيل الآية: «فإذا لا يؤتون الناس نقيرا» يدل على ملك الماديات أو ما يشمل ذلك فالمراد به الأعم من ملك الماديات و المعنويات.
فيئول معنى الآية إلى نحو قولنا: أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على نبيه بالنبوة و الولاية و الهداية و نحوه، و لو كان لهم ذلك لم يؤتوا الناس أقل القليل الذي لا يعتد به لبخلهم و سوء سريرتهم، فالآية قريبة المضمون من قوله تعالى: قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق: - الإسراء: 100.
قوله تعالى: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» و هذا آخر الشقوق الثلاثة المذكورة، و وجه الكلام إلى اليهود جوابا عن قضائهم على المؤمنين بأن دين المشركين أهدى من دينهم.
و المراد بالناس على ما يدل عليه هذا السياق هم الذين آمنوا، و بما آتاهم الله من فضله هو النبوة و الكتاب و المعارف الدينية، غير أن ذيل الآية: فقد آتينا آل إبراهيم «إلخ»، يدل على أن هذا الذي أطلق عليه الناس من آل إبراهيم، فالمراد بالناس حينئذ هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ما انبسط على غيره من هذا الفضل المذكور في الآية فهو من طريقه و ببركاته العالية، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم الآية: - آل عمران: 33»، إن آل إبراهيم هو النبي و آله.
و إطلاق الناس على المفرد لا ضير فيه فإنه على نحو الكناية كقولك لمن يتعرض لك و يؤذيك: لا تتعرض للناس، و ما لك و للناس؟ تريد نفسك أي لا تتعرض لي.
قوله تعالى: «فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة» الجملة إيئاس لهم في حسدهم، و قطع لرجائهم زوال هذه النعمة، و انقطاع هذا الفضل بأن الله قد أعطى آل إبراهيم من فضله ما أعطى، و آتاهم من رحمته ما آتى فليموتوا بغيظهم فلن ينفعهم الحسد شيئا.
و من هنا يظهر أن المراد بآل إبراهيم إما النبي و آله من أولاد إسماعيل أو مطلق آل إبراهيم من أولاد إسماعيل و إسحاق حتى يشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو المحسود عند اليهود بالحقيقة، و ليس المراد بآل إبراهيم بني إسرائيل من نسل إبراهيم فإن الكلام على هذا التقدير يعود تقريرا لليهود في حسدهم النبي أو المؤمنين لمكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم فيفسد معنى الجملة كما لا يخفى.
و قد ظهر أيضا كما تقدمت الإشارة إليه أن هذه الجملة: فقد آتينا آل إبراهيم «إلخ» تدل على أن الناس المحسودين هم من آل إبراهيم، فيتأيد به أن المراد بالناس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أما المؤمنون به فليسوا جميعا من ذرية إبراهيم، و لا كرامة لذريته من المؤمنين على غيرهم حتى يحمل الكلام عليهم، و لا يوجب مجرد الإيمان و اتباع ملة إبراهيم تسمية المتبعين بأنهم آل إبراهيم، و كذا قوله تعالى: «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا الآية: «آل عمران: 68» لا يوجب تسمية الذين آمنوا بآل إبراهيم لمكان الأولوية فإن في الآية ذكرا من الذين اتبعوا إبراهيم، و ليسوا يسمون آل إبراهيم قطعا، فالمراد بآل إبراهيم النبي أو هو و آله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إسماعيل جده و من في حذوه.
قوله تعالى: «و آتيناهم ملكا عظيما» قد تقدم أن مقتضى السياق أن يكون المراد بالملك ما يعم الملك المعنوي الذي منه النبوة و الولاية الحقيقية على هداية الناس و إرشادهم و يؤيده أن الله سبحانه لا يستعظم الملك الدنيوي لو لم ينته إلى فضيلة معنوية و منقبة دينية، و يؤيد ذلك أيضا أن الله سبحانه لم يعد فيما عده من الفضل في حق آل إبراهيم النبوة و الولاية إذ قال: فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة، فيقوى أن يكون النبوة و الولاية مندرجتين في إطلاق قوله: و آتيناهم ملكا عظيما.
قوله تعالى: «فمنهم من آمن به و منهم من صد عنه» الصد الصرف و قد قوبل الإيمان بالصد لأن اليهود ما كانوا ليقنعوا على مجرد عدم الإيمان بما أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن يبذلوا مبلغ جهدهم في صد الناس عن سبيل الله و الإيمان بما نزله من الكتاب، و ربما كان الصد بمعنى الإعراض و حينئذ يتم التقابل من غير عناية زائدة.
قوله تعالى: «و كفى بجهنم سعيرا» تهديد لهم بسعير جهنم في مقابل ما صدوا عن الإيمان بالكتاب و سعروا نار الفتنة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الذين آمنوا معه.
ثم بين تعالى كفاية جهنم في أمرهم بقوله: إن الذين كفروا بآياتنا إلى آخر الآية و هو بيان في صورة التعليل، ثم عقبه بقوله: و الذين آمنوا و علموا الصالحات إلى آخر الآية ليتبين الفرق بين الطائفتين: من آمن به، و من صد عنه، و يظهر أنهما في قطبين متخالفين من سعادة الحياة الأخرى و شقائها: دخول الجنات و ظلها الظليل، و إحاطة سعير جهنم و الاصطلاء بالنار - أعاذنا الله - و معنى الآيتين واضح.
قوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم» إلخ الفقرة الثانية من الآية: «و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل» ظاهره الارتباط بالآيات السابقة عليها فإن البيان الإلهي فيها يدور حول حكم اليهود للمشركين بأنهم أهدى سبيلا من المؤمنين، و قد وصفهم الله تعالى في أول بيانه بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب و الذي في الكتاب هو تبيين آيات الله و المعارف الإلهية، و هي أمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبين للناس، و لا تكتم عن أهله.
و هذا الذي ذكر من القرائن يؤيد أن يكون المراد بالأمانات ما يعم الأمانات المالية و غيرها من المعنويات كالعلوم و المعارف الحقة التي من حقها أن يبلغها حاملوها أهلها من الناس.
و بالجملة لما خانت اليهود الأمانات الإلهية المودعة عندهم من العلم بمعارف التوحيد و آيات نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فكتموها و لم يظهروها في واجب وقتها، ثم لم يقنعوا بذلك حتى جاروا في الحكم بين المؤمنين و المشركين فحكموا للوثنية على التوحيد فآل أمرهم فيه إلى اللعن الإلهي و جر ذلك إياهم إلى عذاب السعير فلما كان من أمرهم ما كان، غير سبحانه سياق الكلام من التكلم إلى الغيبة فأمر الناس بتأدية الأمانات إلى أهلها، و بالعدل في الحكم فقال: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها و إذا حكمتم بين الناس «إلخ».
و الذي وسعنا به معنى تأدية الأمانات و العدل في الحكم هو الذي يقضي به السياق على ما عرفت، فلا يرد عليه أنه عدول عن ظاهر لفظ الأمانة و الحكم فإن المتبادر في مرحلة التشريع من مضمون الآية وجوب رد الأمانة المالية إلى صاحبها، و عدل القاضي و هو الحكم في مورد القضاء الشرعي، و ذلك أن التشريع المطلق لا يتقيد بما يتقيد به موضوعات الأحكام الفرعية في الفقه بل القرآن مثلا يبين وجوب رد الأمانة على الإطلاق، و وجوب العدل في الحكم على الإطلاق فما كان من ذلك راجعا إلى الفقه من الأمانة المالية و القضاء في المرافعات راجعه فيه الفقه، و ما كان غير ذلك استفاد منه فن أصول المعارف، و هكذا.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود إذا كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لوى لسانه، و قال: أرعنا سمعك يا محمد حتى نفهمك، ثم طعن في الإسلام و عابه فأنزل الله فيه: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة إلى قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب الآية قال: نزلت في مالك بن الصيف، و رفاعة بن زيد بن التابوت من بني قينقاع.
و فيه، أخرج ابن إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤساء من أحبار اليهود منهم عبد الله بن سوريا، و كعب بن أسد فقال لهم: يا معشر اليهود اتقوا الله و أسلموا فوالله إنكم لتعلمون إن الذي جئتكم به لحق فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد فأنزل الله فيهم: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا الآية.
أقول: ظاهر الآيات الشريفة على ما تقدم في البيان السابق و إن كان نزولها في اليهود من أهل الكتاب إلا أن ما نقلناه من سبب النزول لا يزيد على أنه حكم تطبيقي كغالب نظائره من الأخبار الحاكية لأسباب النزول، و الله أعلم.
و في تفسير البرهان، عن النعماني بإسناده عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في حديث طويل يصف فيه خروج السفياني، و فيه قال: و ينزل أمير جيش السفياني البيداء فينادي مناد من السماء: يا بيداء أبيدي بالقوم فيخسف بهم فلا يفلت منهم إلا ثلاثة نفر يحول الله وجوههم إلى أقفيتهم، و هم من كلب، و فيهم نزلت هذه الآية: يا أيها الذين أوتوا الكتاب - آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم - من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها الآية: أقول: و رواه عن المفيد أيضا بإسناده عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في نظير الخبر في قصة السفياني.
و في الفقيه، بإسناده عن ثوير عن أبيه: أن عليا (عليه السلام) قال: ما في القرآن آية أحب إلي من قوله عز و جل: إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء: أقول: و رواه في الدر المنثور عن الفريابي و الترمذي و حسنه عن علي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر قال لما نزلت: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم الآية فقام رجل فقال: و الشرك يا نبي الله؟ فكره ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن الله لا يغفر أن يشرك به الآية.
و فيه، أخرج ابن المنذر عن أبي مجاز قال: لما نزلت هذه الآية: يا عبادي الذين أسرفوا الآية قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على المنبر فتلاها على الناس فقام إليه رجل فقال: و الشرك بالله؟ فسكت مرتين أو ثلاثا فنزلت هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء فأثبتت هذه في الزمر، و أثبتت هذه في النساء.
أقول: و قد عرفت فيما تقدم أن آية الزمر ظاهرة بحسب ما تتعقبه من الآيات في المغفرة بالتوبة، و لا ريب أن التوبة يغفر معها كل ذنب حتى الشرك، و أن آية النساء موردها غير مورد التوبة فلا تنافي بين الآيتين مضمونا حتى تكون إحداهما ناسخة أو مخصصة للأخرى.
و في المجمع، عن الكلبي: في الآية: نزلت في المشركين وحشي و أصحابه، و ذلك أنه لما قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكة ندم على صنيعه هو و أصحابه فكتبوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا قد ندمنا على الذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلا أنا سمعناك تقول و أنت بمكة: و الذين لا يدعون مع الله إلها آخر - و لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق - و لا يزنون الآيتان، و قد دعونا مع الله إلها آخر، و قتلنا النفس التي حرم الله، و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك فنزلت الآية: إلا من تاب و آمن و عمل عملا صالحا الآيتين فبعث بهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى وحشي و أصحابه، فلما قرأهما كتبوا إليه: أن هذا شرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية فنزلت: إن الله لا يغفر الآية فبعث بها إليهم فقرءوها فبعثوا إليه: أنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزلت: يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم - لا تقنطوا من رحمة الله - إن الله يغفر الذنوب جميعا فبعث بها إليهم فلما قرءوها دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقبل منهم، ثم قال لوحشي أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلما أخبره قال: ويحك غيب شخصك عني فلحق وحشي: بعد ذلك بالشام، و كان بها إلى أن مات: أقول: و قد ذكر هذه الرواية الرازي في تفسيره عن ابن عباس و التأمل في موارد هذه الآيات التي تذكر الرواية أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يراجع بها وحشيا لا يدع للمتأمل شكا في أن الرواية موضوعة قد أراد واضعها أن يقدر أن وحشيا و أصحابه مغفور لهم و إن ارتكبوا من المعاصي كل كبيرة و صغيرة فقد التقط آيات كثيرة من مواضع مختلفة من القرآن فالاستثناء من موضع، و المستثنى من موضع مع أن كلا منها واقعة في محل محفوفة بأطراف لها معها ارتباط و اتصال، و للمجموع سياق لا يحتمل التقطيع و التفصيل فقطعها ثم رتبها و نضدها نضدا يناسب هذه المراجعة العجيبة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين وحشي.
و لقد أجاد بعض المفسرين حيث قال بعد الإشارة إلى الرواية: كأنهم يثبتون أن الله سبحانه كان يداعب وحشيا.
فواضع الرواية لم يرد إلا أن يشرف وحشيا بمغفرة محتومة مختومة لا يضره معها أي ذنب أذنب و أي فظيعة أتى بها، و عقب ذلك ارتفاع المجازاة على المعاصي، و لازمه ارتفاع التكاليف عن البشر على ما يراه النصرانية بل أشنع فإنهم إنما رفعوا التكاليف بتفدية مثل عيسى المسيح، و هذا يرفعه اتباعا لهوى وحشي.
و وحشي هذا هو عبد لابن مطعم قتل حمزة بأحد ثم لحق مكة ثم أسلم بعد أخذ الطائف، و قال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): غيب شخصك عني فلحق بالشام و سكن حمصا و اشتغل في عهد عمر بالكتابة في الديوان، ثم أخرج منه لكونه يدمن الخمر، و قد جلد لذلك غير مرة، ثم مات في خلافة عثمان، قتله الخمر على ما روي.
روى ابن عبد البر في الاستيعاب بإسناده عن ابن إسحاق عن عبد الله بن الفضل عن سليمان بن يسار عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت أنا و عبد الله بن عدي بن الخيار فمررنا بحمص و بها وحشي، فقلنا: لو أتيناه و سألناه عن قتله حمزة كيف قتله، فلقينا رجلا و نحن نسأل عنه فقال: إنه رجل قد غلبت عليه الخمر فإن تجداه صاحيا تجداه رجلا عربيا يحدثكما ما شئتما من حديث، و إن تجداه على غير ذلك فانصرفا عنه، قال: فأقبلنا حتى انتهينا إليه، الحديث، و فيه ذكر كيفية قتله حمزة يوم أحد.
و في المجمع، روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال: كنا على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا بأنه من أهل النار حتى نزلت الآية فأمسكنا عن الشهادات.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر من طريق المعتمر بن سليمان عن سليمان بن عتبة البارقي قال: حدثنا إسماعيل بن ثوبان قال: شهدت في المسجد قبل الداء الأعظم فسمعتهم يقولون: من قتل مؤمنا إلى آخر الآية فقال المهاجرون و الأنصار: قد أوجب له النار فلما نزلت: إن الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء قالوا: ما شاء الله، يصنع الله ما يشاء.
أقول: و روي ما يقرب من الروايتين عن ابن عمر بغير واحد من الطرق، و هذه الروايات لا تخلو من شيء فلا نظن بعامة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجهلوا أن هذه الآية: إن الله لا يغفر أن يشرك به لا تزيد في مضمونها على آيات الشفاعة شيئا كما تقدم بيانه، أو أن يغفلوا عن أن معظم آيات الشفاعة مكية كقوله تعالى في سورة الزخرف: و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون: «الزخرف: 86»، و مثلها آيات الشفاعة الواقعة في سورة يونس، و الأنبياء، و طه، و سبأ، و النجم، و المدثر كلها آيات مكية تثبت الشفاعة على ما مر بيانه، و هي عامة لجميع الذنوب و مقيدة في جانب المشفوع له بالدين المرضي و هو التوحيد و نفي الشريك و في جانب الله تعالى بالمشيئة، فمحصل مفادها شمول المغفرة لجميع الذنوب إلا الشرك على مشيئة من الله، و هذا بعينه مفاد هذه الآية: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء».
و أما الآيات التي توعد قاتل النفس المحترمة بغير حق.
و آكل الربا، و قاطع الرحم بجزاء النار الخالد كقوله تعالى: و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها الآية: «النساء: 93»، و قوله في الربا: و من عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون: «البقرة: 275»، و قوله في قاطع الرحم: أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار: «الرعد: 25»، و غير ذلك من الآيات فهذه الآيات إنما توعد بالشر و تنبىء عن جزاء النار، و أما كونه جزاء محتوما لا يقبل التغيير و الارتفاع فلا صراحة لها فيه.
و بالجملة لا يترجح آية «إن الله لا يغفر» على آيات الشفاعة بأمر زائد في مضمونها يمهد لهم ما ذكروه.
فليس يسعهم أن يفهموا من آيات الكبائر تحتم النار حتى يجوز لهم الشهادة على مرتكبها بالنار، و لا يسعهم أن يفهموا من آية المغفرة إن الله لا يغفر أن يشرك به إلخ أمرا ليس يفتهم من آيات الشفاعة حتى يوجب لهم القول بنسخها أو تخصيصها أو تقييدها آيات الكبائر.
و يومىء إلى ذلك ما ورد في بعض هذه الروايات، و هو ما رواه في الدر المنثور، عن ابن الضريس و أبي يعلى و ابن المنذر و ابن عدي بسند صحيح عن ابن عمر قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله لا يغفر أن يشرك به - و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء، و قال: إني ادخرت دعوتي شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا ثم نطقنا بعد و رجونا.
فظاهر الرواية أن الذي فهموه من آية المغفرة فهموا مثله من حديث الشفاعة لكن يبقى عليه سؤال آخر، و هو أنه ما بالهم فهموا جواز مغفرة الكبائر من حديث الشفاعة، و لم يكونوا يفهمونه من آيات الشفاعة المكية على كثرتها و دلالتها و طول العهد؟ ما أدري!.
و في الدر المنثور، في قوله: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله: سبيلا: أخرج البيهقي في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله قال: لما كان من أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان اعتزل كعب بن الأشرف و لحق بمكة و كان بها، و قال: لا أعين عليه و لا أقاتله، فقيل له بمكة: يا كعب أ ديننا خير أم دين محمد و أصحابه؟ قال: دينكم خير و أقدم، و دين محمد حديث، فنزلت فيه: أ لم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب الآية.
أقول: و في سبب نزول الآية روايات على وجوه مختلفة أسلمها ما أوردناه غير أن الجميع تشترك في أصل القصة و هو أن بعضا من اليهود حكموا لقريش على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن دينهم خير من دينه.
و في تفسير البرهان، في قوله تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله الآية: عن الشيخ في أماليه، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله قال: نحن الناس.
و في الكافي، بإسناده عن بريد عن الباقر (عليه السلام) في حديث: «أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» نحن الناس المحسودون، الحديث.
أقول: و هذا المعنى مروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مستفيضا بطرق كثيرة مودعة في جوامع الشيعة كالكافي، و التهذيب، و المعاني، و البصائر، و تفسيري القمي و العياشي، و غيرها.
و في معناها من طرق أهل السنة ما عن ابن المغازلي يرفعه إلى محمد بن علي الباقر (عليهما السلام) في قوله تعالى»: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله» قال: نحن الناس و الله.
و ما في الدر المنثور، عن ابن المنذر و الطبراني من طريق عطاء عن ابن عباس: في قوله: «أم يحسدون الناس» قال: نحن الناس دون الناس:، و قد روي فيه أيضا تفسير الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن عكرمة و مجاهد و مقاتل و أبي مالك، و قد مر فيما قدمناه من البيان: أن الظاهر كون المراد بالناس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أهل بيته ملحقون به.
و في تفسير العياشي، عن حمران عن الباقر (عليه السلام) «فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب» قال: النبوة، «و الحكمة» قال: الفهم و القضاء، «و ملكا عظيما» قال: الطاعة.
أقول: المراد بالطاعة الطاعة المفترضة على ما ورد في سائر الأحاديث، و الأخبار في هذه المعاني أيضا كثيرة، و في بعضها تفسير الطاعة المفترضة بالإمامة و الخلافة كما في الكافي بإسناده عن بريد عن الباقر (عليه السلام).
و في تفسير القمي، في قوله تعالى: إن الذين كفروا بآياتنا الآية قال: الآيات أمير المؤمنين و الأئمة (عليهم السلام).
أقول: و هو من الجري.
و في مجالس الشيخ، بإسناده عن حفص بن غياث القاضي قال: كنت عند سيد الجعافرة جعفر بن محمد (عليهما السلام) لما قدمه المنصور فأتاه ابن أبي العوجاء و كان ملحدا فقال: ما تقول في هذه الآية: «كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب»؟ هب هذه الجلود عصت فعذبت فما بال الغير؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحك هي هي و هي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أ رأيت لو أن رجلا عمد إلى لبنة فكسرها ثم صب عليها الماء و جبلها ثم ردها إلى هيئتها الأولى أ لم تكن هي هي و هي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك: أقول: و رواه في الإحتجاج، أيضا عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام)، و القمي في تفسيره مرسلا: و يعود حقيقة الجواب إلى أن وحدة المادة محفوظة بوحدة الصورة فبدن الإنسان كأجزاء بدنه باق على وحدته ما دام الإنسان هو الإنسان و إن تغير البدن بأي تغير حدث فيه.
و في الفقيه، قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز و جل لهم فيها أزواج مطهرة قال: الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن.
و في تفسير البرهان، في قوله تعالى: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات الآية: عن محمد بن إبراهيم النعماني بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها - و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل فقال: أمر الله الإمام أن يؤدي الأمانة إلى الإمام الذي بعده، ليس له أن يزويها عنه، أ لا تسمع قوله: «و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل - إن الله نعما يعظكم به» هم الحكام يا زرارة، أنه خاطب بها الحكام: أقول: و صدر الحديث مروي بطرق كثيرة عنهم (عليهم السلام)، و ذيله يدل على أنه من باب الجري، و أن الآية نازلة في مطلق الحكم و إعطاء ذي الحق حقه فينطبق على مثل ما تقدم سابقا.
و في معناه ما في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و الفريابي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله و أن يؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوا و أن يجيبوا إذا دعوا
|