بيان
الآيات - كما ترى - غير عادمة الارتباط بما تقدمها من الآيات فإن آيات السورة آخذة من قوله تعالى: و اعبدوا الله و لا تشركوا به شيئا، كأنها مسوقة لترغيب الناس في الإنفاق في سبيل الله، و إقامة صلب طبقات المجتمع و أرباب الحوائج من المؤمنين و ذم الذين يصدون الناس عن القيام بهذا المشروع الواجب، ثم الحث على إطاعة الله و إطاعة الرسول و أولي الأمر، و قطع منابت الاختلاف و التجنب عن التشاجر و التنازع، و إرجاعه إلى الله و رسوله لو اتفق، و التحرز عن النفاق، و لزوم التسليم لأوامر الله و رسوله و هكذا إلى أن تنتهي إلى الآيات النادبة إلى الجهاد المبينة لحكمه أو الآمرة بالنفر في سبيل الله، فجميع هذه الآيات مجهزة للمؤمنين للجهاد في سبيل الله، و منظمة لنظام أمورهم في داخلهم، و ربما تخللها آية أو آيتان بمنزلة الاعتراض في الكلام لا يخل باتصال الكلام كما تقدم الإيماء إليه في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة و أنتم سكارى: - الآية 43 من السورة.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» لما فرغ من الندب إلى عبادة الله وحده لا شريك له و بث الإحسان بين طبقات المؤمنين و ذم من يعيب هذا الطريق المحمود أو صد عنه صدودا عاد إلى أصل المقصود بلسان آخر يتفرع عليه فروع أخر، بها يستحكم أساس المجتمع الإسلامي و هو التحضيض و الترغيب في أخذهم بالائتلاف و الاتفاق، و رفع كل تنازع واقع بالرد إلى الله و رسوله.
و لا ينبغي أن يرتاب في أن قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، جملة سيقت تمهيدا و توطئة للأمر برد الأمر إلى الله و رسوله عند ظهور التنازع، و إن كان مضمون الجملة أساس جميع الشرائع و الأحكام الإلهية.
فإن ذلك ظاهر تفريع قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، ثم العود بعد العود إلى هذا المعنى بقوله: أ لم تر إلى الذين يزعمون إلخ، و قوله: و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله إلخ، و قوله: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم إلخ.
و لا ينبغي أن يرتاب في أن الله سبحانه لا يريد بإطاعته إلا إطاعته في ما يوحيه إلينا من طريق رسوله من المعارف و الشرائع، و أما رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فله حيثيتان: إحداهما: حيثية التشريع بما يوحيه إليه ربه من غير كتاب، و هو ما يبينه للناس من تفاصيل ما يشتمل على إجماله الكتاب و ما يتعلق و يرتبط بها كما قال تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: - النحل 44، و الثانية: ما يراه من صواب الرأي و هو الذي يرتبط بولايته الحكومة و القضاء قال تعالى: لتحكم بين الناس بما أراك الله: - النساء 105، و هذا هو الرأي الذي كان يحكم به على ظواهر قوانين القضاء بين الناس، و هو الذي كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحكم به في عزائم الأمور، و كان الله سبحانه أمره في اتخاذ الرأي بالمشاورة فقال: «و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله -: آل عمران 159، فأشركهم به في المشاورة و وحده في العزم.
إذا عرفت هذا علمت أن لإطاعة الرسول معنى و لإطاعة الله سبحانه معنى آخر و إن كان إطاعة الرسول إطاعة لله بالحقيقة لأن الله هو المشرع لوجوب إطاعته كما قال: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله» فعلى الناس أن يطيعوا الرسول فيما يبينه بالوحي، و فيما يراه من الرأي.
و هذا المعنى و الله أعلم هو الموجب لتكرار الأمر بالطاعة في قوله: و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، لا ما ذكره المفسرون: أن التكرار للتأكيد فإن القصد لو كان متعلقا بالتأكيد كان ترك التكرار كما لو قيل: و أطيعوا الله و الرسول أدل عليه و أقرب منه فإنه كان يفيد أن إطاعة الرسول عين إطاعة الله سبحانه و أن الإطاعتين واحدة، و ما كل تكرار يفيد التأكيد.
و أما أولوا الأمر فهم - كائنين من كانوا - لا نصيب لهم من الوحي، و إنما شأنهم الرأي الذي يستصوبونه فلهم افتراض الطاعة نظير ما للرسول في رأيهم و قولهم، و لذلك لما ذكر وجوب الرد و التسليم عند المشاجرة لم يذكرهم بل خص الله و الرسول فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر، و ذلك أن المخاطبين بهذا الرد هم المؤمنون المخاطبون بقوله في صدر الآية: يا أيها الذين آمنوا، و التنازع تنازعهم بلا ريب، و لا يجوز أن يفرض تنازعهم مع أولي الأمر مع افتراض طاعتهم بل هذا التنازع هو ما يقع بين المؤمنين أنفسهم، و ليس في أمر الرأي بل من حيث حكم الله في القضية المتنازع فيها بقرينة الآيات التالية الذامة لمن يرجع إلى حكم الطاغوت دون حكم الله و رسوله، و هذا الحكم يجب الرجوع فيه إلى أحكام الدين المبينة المقررة في الكتاب و السنة، و الكتاب و السنة حجتان قاطعتان في الأمر لمن يسعه فهم الحكم منهما، و قول أولي الأمر في أن الكتاب و السنة يحكمان بكذا أيضا حجة قاطعة فإن الآية تقرر افتراض الطاعة من غير أي قيد أو شرط، و الجميع راجع بالآخرة إلى الكتاب و السنة.
و من هنا يظهر أن ليس لأولي الأمر هؤلاء - كائنين من كانوا - أن يضعوا حكما جديدا، و لا أن ينسخوا حكما ثابتا في الكتاب و السنة، و إلا لم يكن لوجوب إرجاع موارد التنازع إلى الكتاب و السنة و الرد إلى الله و الرسول معنى على ما يدل عليه قوله: و ما كان لمؤمن و لا مؤمنة إذا قضى الله و رسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم و من يعص الله و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا: - الأحزاب 36، فقضاء الله هو التشريع و قضاء رسوله إما ذلك و إما الأعم، و إنما الذي لهم أن يروا رأيهم في موارد نفوذ الولاية، و أن يكشفوا عن حكم الله و رسوله في القضايا و الموضوعات العامة.
و بالجملة لما لم يكن لأولي الأمر هؤلاء خيرة في الشرائع، و لا عندهم إلا ما لله و رسوله من الحكم أعني الكتاب و السنة لم يذكرهم الله سبحانه ثانيا عند ذكر الرد بقوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول، فلله تعالى إطاعة واحدة، و للرسول و أولي الأمر إطاعة واحدة، و لذلك قال: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.
و لا ينبغي أن يرتاب في أن هذه الإطاعة المأمور بها في قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول، إطاعة مطلقة غير مشروطة بشرط، و لا مقيدة بقيد و هو الدليل على أن الرسول لا يأمر بشيء، و لا ينهى عن شيء يخالف حكم الله في الواقعة و إلا كان فرض طاعته تناقضا منه تعالى و تقدس و لا يتم ذلك إلا بعصمة فيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و هذا الكلام بعينه جار في أولي الأمر غير أن وجود قوة العصمة في الرسول لما قامت عليه الحجج من جهة العقل و النقل في حد نفسه من غير جهة هذه الآية دون أولي الأمر ظاهرا أمكن أن يتوهم متوهم أن أولي الأمر هؤلاء لا يجب فيهم العصمة و لا يتوقف عليها الآية في استقامة معناها.
بيان ذلك أن الذي تقرره الآية حكم مجعول لمصلحة الأمة يحفظ به مجتمع المسلمين من تسرب الخلاف و التشتت فيهم و شق عصاهم فلا يزيد على الولاية المعهودة بين الأمم و المجتمعات، تعطي للواحد من الإنسان افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، و هم يعلمون أنه ربما يعصي و ربما يغلط في حكمه، لكن إذا علم بمخالفته القانون في حكمه لا يطاع فيه، و ينبه فيما أخطأ، و فيما يحتمل خطؤه ينفذ حكمه و إن كان مخطئا في الواقع و لا يبالي بخطئه فإن مصلحة حفظ وحدة المجتمع و التحرز من تشتت الكلمة مصلحة يتدارك بها أمثال هذه الأغلاط و الاشتباهات.
و هذا حال أولي الأمر الواقع في الآية في افتراض طاعتهم فرض الله طاعتهم، على المؤمنين فإن أمروا بما يخالف الكتاب و السنة فلا يجوز ذلك منهم و لا ينفذ حكمهم لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و قد روى هذا المعنى الفريقان و به يقيد إطلاق الآية، و أما الخطأ و الغلط فإن علم به رد إلى الحق و هو حكم الكتاب و السنة، و إن احتمل خطؤه نفذ فيه حكمه كما فيما علم عدم خطإه، و لا بأس بوجوب القبول و افتراض الطاعة فيما يخالف الواقع هذا النوع لأن مصلحة حفظ الوحدة في الأمة و بقاء السؤدد و الأبهة تتدارك بها هذه المخالفة، و يعود إلى مثل ما تقرر في أصول الفقه من حجية الطرق الظاهرية مع بقاء الأحكام الواقعية على حالها، و عند مخالفة مؤداها للواقع تتدارك المفسدة اللازمة بمصلحة الطريق.
و بالجملة طاعة أولي الأمر مفترضة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و الخطأ فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن أخطئوا ردوا إلى الكتاب و السنة إن علم منهم ذلك، و نفذ حكمهم فيما لم يعلم ذلك، و لا بأس بإنفاذ ما يخالف حكم الله في الواقع دون الظاهر رعاية لمصلحة الإسلام و المسلمين، و حفظا لوحدة الكلمة.
و أنت بالتأمل فيما قدمناه من البيان تعرف سقوط هذه الشبهة من أصلها، و ذلك أن هذا التقريب من الممكن أن نساعده في تقييد إطلاق الآية في صورة الفسق بما ذكر من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» و ما يؤدي هذا المعنى من الآيات القرآنية كقوله: إن الله لا يأمر بالفحشاء: «الأعراف: 28»، و ما في هذا المعنى من الآيات.
و كذا من الممكن بل الواقع أن يجعل شرعا نظير هذه الحجية الظاهرية المذكورة كفرض طاعة أمراء السرايا الذين كان ينصبهم عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كذا الحكام الذين كان يوليهم على البلاد كمكة و اليمن أو يخلفهم بالمدينة إذا خرج إلى غزاة، و كحجية قول المجتهد على مقلده و هكذا لكنه لا يوجب تقيد الآية فكون مسألة من المسائل صحيحة في نفسه أمر و كونها مدلولا عليها بظاهر آية قرآنية أمر آخر.
فالآية تدل على افتراض طاعة أولي الأمر هؤلاء، و لم تقيده بقيد و لا شرط، و ليس في الآيات القرآنية ما يقيد الآية في مدلولها حتى يعود معنى قوله «و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» إلى مثل قولنا: و أطيعوا أولي الأمر منكم فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا بخطئهم فإن أمروكم بمعصية فلا طاعة عليكم، و إن علمتم خطأهم فقوموهم بالرد إلى الكتاب و السنة فما هذا معنى قوله: و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.
مع أن الله سبحانه أبان ما هو أوضح من هذا القيد فيما هو دون هذه الطاعة المفترضة كقوله في الوالدين: و وصينا الإنسان بوالديه حسنا و إن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما الآية: «العنكبوت: 8» فما باله لم يظهر شيئا من هذه القيود في آية تشتمل على أس أساس الدين، و إليها تنتهي عامة أعراق السعادة الإنسانية.
على أن الآية جمع فيها بين الرسول و أولي الأمر، و ذكر لهما معا طاعة واحدة فقال: و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم، و لا يجوز على الرسول أن يأمر بمعصية أو يغلط في حكم فلو جاز شيء من ذلك على أولي الأمر لم يسع إلا أن يذكر القيد الوارد عليهم فلا مناص من أخذ الآية مطلقة من غير أي تقييد، و لازمه اعتبار العصمة في جانب أولي الأمر كما اعتبر في جانب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير فرق.
ثم إن المراد بالأمر في أولي الأمر هو الشأن الراجع إلى دين المؤمنين المخاطبين بهذا الخطاب أو دنياهم على ما يؤيده قوله تعالى: و شاورهم في الأمر: «آل عمران: 159»، و قوله في مدح المتقين: و أمرهم شورى بينهم: «الشورى: 38»، و إن كان من الجائز بوجه أن يراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه بعيد.
و قد قيد بقوله: «منكم» و ظاهره كونه ظرفا مستقرا أي أولي الأمر كائنين منكم و هو نظير قوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم: «الجمعة: 2»، و قوله في دعوة إبراهيم: ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم: «البقرة: 129»، و قوله: رسلا منكم يقصون عليكم آياتي: «الأعراف: 35»، و بهذا يندفع ما ذكره بعضهم: أن تقييد أولي الأمر بقوله: «منكم» يدل على أن الواحد منهم إنسان عادي مثلنا و هم منا و نحن مؤمنون من غير مزية عصمة إلهية.
ثم إن أولي الأمر لما كان اسم جمع يدل على كثرة جمعية في هؤلاء المسمين بأولي الأمر فهذا لا شك فيه لكن يحتمل في بادىء النظر أن يكونوا آحادا يلي الأمر و يتلبس بافتراض الطاعة واحد منهم بعد الواحد فينسب افتراض الطاعة إلى جميعهم بحسب اللفظ، و الأخذ بجامع المعنى، كقولنا: صل فرائضك و أطع سادتك و كبراء قومك.
و من عجيب الكلام ما ذكره الرازي: أن هذا المعنى يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر، و قد غفل عن أن هذا استعمال شائع في اللغة، و القرآن مليء به كقوله تعالى: فلا تطع المكذبين: «القلم: 8»، و قوله: فلا تطع الكافرين: «الفرقان: 52»، و قوله: إنا أطعنا سادتنا و كبراءنا: «الأحزاب: 67»، و قوله: و لا تطيعوا أمر المسرفين: «الشعراء: 151»، و قوله: حافظوا على الصلوات: «البقرة: 238»، و قوله: و اخفض جناحك للمؤمنين: «الحجر: 88»، إلى غير ذلك من الموارد المختلفة بالإثبات و النفي، و الإخبار و الإنشاء.
و الذي هو خلاف الظاهر من حمل الجمع على المفرد هو أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاده لا أن يوقع حكم على الجمع بحيث ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد الآحاد، كقولنا: أكرم علماء بلدك أي أكرم هذا العالم، و أكرم ذاك العالم، و هكذا.
و يحتمل أيضا أن يكون المراد بأولي الأمر - هؤلاء الذين هم متعلق افتراض الطاعة - الجمع من حيث هو جمع أي الهيئة الحاصلة من عدة معدودة كل واحد منهم من أولي الأمر، و هو أن يكون صاحب نفوذ في الناس، و ذا تأثير في أمورهم كرؤساء الجنود و السرايا و العلماء و أولياء الدولة، و سراة القوم، بل كما ذكره في المنار هم أهل الحل و العقد الذين تثق بهم الأمة من العلماء و الرؤساء في الجيش و المصالح العامة كالتجارة و الصناعات و الزراعة و كذا رؤساء العمال و الأحزاب، و مديرو الجرائد المحترمة، و رؤساء تحريرها! فهذا معنى كون أولي الأمر هم أهل الحل و العقد، و هم الهيئة الاجتماعية من وجوه الأمة لكن الشأن في تطبيق مضمون تمام الآية على هذا الاحتمال.
الآية دالة - كما عرفت - على عصمة أولي الأمر و قد اضطر إلى قبول ذلك القائلون بهذا المعنى من المفسرين.
فهل المتصف بهذه العصمة أفراد هذه الهيئة فيكون كل واحد واحد منهم معصوما فالجميع معصوم إذ ليس المجموع إلا الآحاد؟ لكن من البديهي أن لم يمر بهذه الأمة يوم يجتمع فيه جماعة من أهل الحل و العقد كلهم معصومون على إنفاذ أمر من أمور الأمة و من المحال أن يأمر الله بشيء لا مصداق له في الخارج، أو أن هذه العصمة - و هي صفة حقيقية - قائمة بتلك الهيئة قيام الصفة بموصوفها و إن كانت الأجزاء و الأفراد غير معصومين بل يجوز عليهم من الشرك و المعصية ما يجوز على سائر أفراد الناس فالرأي الذي يراه الفرد يجوز فيه الخطأ و أن يكون داعيا إلى الضلال و المعصية بخلاف ما إذا رأته الهيئة المذكورة لعصمتها؟ و هذا أيضا محال و كيف يتصور اتصاف موضوع اعتباري بصفة حقيقية أعني اتصاف الهيئة الاجتماعية بالعصمة.
أو أن عصمة هذه الهيئة ليست وصفا لأفرادها و لا لنفس الهيئة بل حقيقته أن الله يصون هذه الهيئة أن تأمر بمعصية أو ترى رأيا فتخطىء فيه، كما أن الخبر المتواتر مصون عن الكذب، و مع ذلك ليست هذه العصمة بوصف لكل واحد من المخبرين و لا للهيئة الاجتماعية بل حقيقته أن العادة جارية على امتناع الكذب فيه، و بعبارة أخرى هو تعالى يصون الخبر الذي هذا شأنه عن وقوع الخطإ فيه و تسرب الكذب عليه، فيكون رأي أولي الأمر مما لا يقع فيه الخطأ البتة و إن لم يكن آحادهم و لا هيئتهم متصفة بصفة زائدة بل هو كالخبر المتواتر مصون عن الكذب و الخطإ و ليكن هذا معنى العصمة في أولي الأمر، و الآية لا تدل على أزيد من أن رأيهم غير خابط بل مصيب يوافق الكتاب و السنة، و هو من عناية الله على الأمة، و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تجتمع أمتي على خطإ.
أما الرواية فهي أجنبية عن المورد فإنها إن صحت فإنما تنفي اجتماع الأمة على خطإ، و لا تنفي اجتماع أهل الحل و العقد منهم على خطإ، و للأمة معنى و لأهل الحل و العقد معنى آخر، و لا دليل على إرادة معنى الثاني من لفظ الأول، و كذا لا تنفي الخطأ عن اجتماع الأمة بل تنفي الاجتماع على خطإ، و بينهما فرق.
و يعود معنى الرواية إلى أن الخطأ في مسألة من المسائل لا يستوعب الأمة بل يكون دائما فيهم من هو على الحق: إما كلهم أو بعضهم و لو معصوم واحد، فيوافق ما دل من الآيات و الروايات على أن دين الإسلام و ملة الحق لا يرتفع من الأرض بل هو باق إلى يوم القيامة، قال تعالى: فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين: «الأنعام: 89» و قوله: و جعلها كلمة باقية في عقبه: «الزخرف: 28» و قوله: إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون: «الحجر: 9» و قوله: و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه: «فصلت: 42» إلى غير ذلك من الآيات.
و ليس يختص هذا بأمة محمد بل الصحيح من الروايات تدل على خلافه، و هي الروايات الواردة من طرق شتى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الدالة على افتراق اليهود على إحدى و سبعين فرقة و النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة كلهم هالك إلا واحدة، و قد نقلنا الرواية في المبحث الروائي الموضوع في ذيل قوله تعالى: و اعتصموا بحبل الله جميعا: «آل عمران: 103».
و بالجملة لا كلام على متن الرواية إن صح سندها فإنها أجنبية عن مورد الكلام، و إنما الكلام في معنى عصمة أهل الحل و العقد من الأمة لو كان هو المراد بقوله: و أولي الأمر منكم.
ما هو العامل الموجب لعصمة أهل الحل و العقد من المسلمين فيما يرونه من الرأي؟ هذه العصابة التي شأنها الحل و العقد في الأمور غير مختصة بالأمة المسلمة بل كل أمة من الأمم العظام بل الأمم الصغيرة بل القبائل و العشائر لا تفقد عدة من أفرادها لهم مكانة في مجتمعهم ذات قوة و تأثير في الأمور العامة، و أنت إذا فحصت التاريخ في الحوادث الماضية و ما في عصرنا من الأمم و الأجيال وجدت موارد كثيرة اجتمعت أهل الحل و العقد منهم في مهام الأمور و عزائمها على رأي استصوبوه ثم عقبوه بالعمل، فربما أصابوا و ربما أخطئوا، فالخطأ و إن كان في الآراء الفردية أكثر منه في الآراء الاجتماعية لكن الآراء الاجتماعية ليست بحيث لا تقبل الخطأ أصلا فهذا التاريخ و هذه المشاهدة يشهدان منه على مصاديق و موارد كثيرة جدا: فلو كان الرأي الاجتماعي من أهل الحل و العقد في الإسلام مصونا عن الخطإ فإنما هو بعامل ليس من سنخ العوامل العادية بل عامل من سنخ العوامل المعجزة الخارقة للعادة، و يكون حينئذ كرامة باهرة تختص بها هذه الأمة تقيم صلبهم، و تحفظ حماهم و تقيهم من كل شر يدب في جماعتهم و وحدتهم و بالآخرة سببا معجزا إلهيا يتلو القرآن الكريم، و يعيش ما عاش القرآن، نسبته إلى حياة الأمة العملية نسبة القرآن إلى حياتهم العلمية فكان من اللازم أن يبين القرآن حدوده و سعة دائرته، و يمتن الله به كما أمتن بالقرآن و بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يبين لهذه العصابة وظيفتهم الاجتماعية كما بين لنبيه ذلك، و أن يوصي به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمته، و لا سيما أصحابه الكرام و هم الذين صاروا بعده أهلا للحل و العقد، و تقلدوا ولاية أمور الأمة، و أن يبين أن هذه العصابة المسماة بأولي الأمر ما حقيقتها، و ما حدها و ما سعة دائرة عملها، و هل يتشكل هيئة حاكمة واحدة على جميع المسلمين في الأمور العامة لجميع الأمة الإسلامية؟ أو تنعقد في كل جمعية إسلامية جمعية أولي الأمر فيحكم في نفوسهم و أعراضهم و أموالهم؟.
و لكان من اللازم أن يهتم به المسلمون و لا سيما الصحابة فيسألوا عنه و يبحثوا فيه، و قد سألوا عن أشياء لا قدر لها بالنسبة إلى هذه المهمة كالأهلة، و ما ذا ينفقون، و الأنفال قال تعالى: «يسألونك عن الأهلة» و «و يسألونك ما ذا ينفقون» و «يسألونك عن الأنفال» فما بالهم لم يسألوا؟ أو أنهم سألوا ثم لعبت به الأيدي فخفي علينا؟ فليس الأمر مما يخالف هوى أكثرية الأمة الجارية على هذه الطريقة حتى يقضوا عليه بالإعراض فالترك حتى ينسى.
و لكان من الواجب أن يحتج به في الاختلافات و الفتن الواقعة بعد ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينا بعد حين، فما لهذه الحقيقة لا توجد لها عين و لا أثر في احتجاجاتهم و مناظراتهم، و قد ضبطها النقلة بكلماتها و حروفها، و لا توجد في خطاب و لا كتاب؟ و لم تظهر بين قدماء المفسرين من الصحابة و التابعين حتى ذهب إليه شرذمة من المتأخرين: الرازي و بعض من بعده!.
حتى أن الرازي أورد على هذا الوجه بعد ذكره: بأنه مخالف للإجماع المركب فإن الأقوال في معنى أولي الأمر لا تجاوز أربعة: الخلفاء الراشدون، و أمراء السرايا، و العلماء و الأئمة المعصومون، فالقول الخامس خرق للإجماع، ثم أجاب بأنه في الحقيقة راجع إلى القول الثالث فأفسد على نفسه ما كان أصلحه فهذا كله يقضي بأن الأمر لم يكن بهذه المثابة، و لم يفهم منه أنه عطية شريفة و موهبة عزيزة من معجزات الإسلام و كراماته الخارقة لأهل الحل و العقد من المسلمين.
أو يقال: إن هذه العصمة لا تنتهي إلى عامل خارق للعادة بل الإسلام بنى تربيته العامة على أصول دقيقة تنتج هذه النتيجة: أن أهل الحل و العقد من الأمة لا يغلطون فيما اجتمعوا عليه، و لا يعرضهم الخطأ فيما رأوه.
و هذا الاحتمال مع كونه باطلا من جهة منافاته للناموس العام و هو أن إدراك الكل هو مجموع إدراكات الأبعاض، و إذا جاز الخطأ على كل واحد واحد جاز على الكل يرد عليه أن رأي أولي الأمر بهذا المعنى لو اعتمد في صحته و عصمته على مثل هذا العامل غير المغلوب لم يتخلف عن أثره فإلى أين تنتهي هذه الأباطيل و الفسادات التي ملأت العالم الإسلامي؟.
و كم من منتدى إسلامي بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتمع فيه أهل الحل و العقد من المسلمين على ما اجتمعوا عليه ثم سلكوا طريقا يهديهم إليه رأيهم فلم يزيدوا إلا ضلالا و لم يزد إسعادهم المسلمين إلا شقاء و لم يمكث الاجتماع الديني بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن عاد إلى إمبراطورية ظالمة حاطمة! فليبحث الباحث الناقد في الفتن الناشئة منذ قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما استتبعته من دماء مسفوكة، و أعراض مهتوكة، و أموال منهوبة، و أحكام عطلت و حدود أبطلت! ثم ليبحث في منشئها و محتدها، و أصولها و أعراقها هل تنتهي الأسباب العاملة فيها إلا إلى ما رأته أهل الحل و العقد من الأمة ثم حملوا ما رأوه على أكتاف الناس؟.
فهذا حال هذا الركن الركين الذي يعتمد عليه بناية الدين أعني رأي أهل الحل و العقد لو كان هو المراد بأولي الأمر المعصومين في رأيهم.
فلا مناص على القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل و العقد من أن نقول بجواز خطئهم و إنهم على حد سائر الناس يصيبون و يخطئون غير أنهم لما كانوا عصابة فاضلة خبيرة بالأمور مدربين مجربين يقل خطؤهم جدا، و أن الأمر بوجوب طاعتهم مع كونهم ربما يغلطون و يخطئون من باب المسامحة في موارد الخطإ نظرا إلى المصلحة الغالبة في مداخلتهم فلو حكموا بما يغاير حكم الكتاب و السنة، و يطابق ما شخصوه من مصلحة الأمة بتفسير حكم من أحكام الدين بغير ما كان يفسر سابقا أو تغيير حكم بما يوافق صلاح الوقت أو طبع الأمة أو وضع حاضر الدنيا كان هو المتبع، و هو الذي يرتضيه الدين لأنه لا يريد إلا سعادة المجتمع و رقيه في اجتماعه كما هو الظاهر المتراءى من سير الحكومات الإسلامية في صدر الإسلام و من دونهم فلم يمنع حكم من الأحكام الدائرة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يقض على سيرة من سيره و سننه إلا علل ذلك بأن الحكم السابق يزاحم حقا من حقوق الأمة، و أن صلاح حال الأمة في إنفاذ حكم جديد يصلح شأنهم، أو سن سنة حديثة توافق آمالهم في سعادة الحياة، و قد صرح بعض الباحثين أن الخليفة له أن يعمل بما يخالف صريح الدين حفظا لصلاح الأمة.
و على هذا فيكون حال الملة الإسلامية حال سائر المجتمعات الفاضلة المدنية في أن فيها جمعية منتخبة تحكم على قوانين المجتمع على حسب ما تراه و تشاهده من مقتضيات الأحوال، و موجبات الأوضاع.
و هذا الوجه أو القول - كما ترى - قول من يرى أن الدين سنة اجتماعية سبكت في قالب الدين، و ظهرت في صورته فهو محكوم بما يحكم على متون الاجتماعات البشرية و هياكلها بالتطور في أطوار الكمال التدريجي، و مثال عال لا ينطبق إلا على حياة الإنسان الذي كان يعيش في عصر النبوة و ما يقاربه.
فهي حلقة متقضية من حلق هذه السلسلة المسماة بالمجتمع الإنساني لا ينبغي أن يبحث عنها اليوم إلا كما يبحث علماء طبقات الأرض الجيولوجيا عن السلع المستخرجة من تحت أطباق الأرض.
و الذي يذهب إلى مثل هذا القول لا كلام لنا معه في هذه الآية: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم الآية، فإن القول يبتني على أصل مؤثر في جميع الأصول و السنن المأثورة من الدين من معارف أصلية و نواميس أخلاقية و أحكام فرعية و لو حمل على هذا ما وقع من الصحابة في زمن النبي و في مرض موته ثم الاختلافات التي صدرت منهم و ما وقع من تصرف الخلفاء في بعض الأحكام و بعض سير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم في زمن معاوية و من تلاه من الأمويين ثم العباسيين ثم الذين يلونهم و الجميع أمور متشابهة أنتج نتيجة باهتة.
و من أعجب الكلام المتعلق بهذه الآية ما ذكره بعض المؤلفين أن قوله تعالى: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» لا يدل على شيء مما ذكره المفسرون على اختلاف أقوالهم.
أما أولا فلأن فرض طاعة أولي الأمر كائنين من كانوا لا يدل على فضل و مزية لهم على غيرهم أصلا كما أن طاعة الجبابرة و الظلام واجبة علينا في حال الاضطرار اتقاء من شرهم، و لن يكونوا بذلك أفضل منا عند الله سبحانه.
و أما ثانيا فلأن الحكم المذكور في الآية لا يزيد على سائر الأحكام التي تتوقف فعليتها على تحقق موضوعاتها نظير وجوب الإنفاق على الفقير و حرمة إعانة الظالم فليس يجب علينا أن نوجد فقيرا حتى ننفق عليه أو ظالما حتى لا نعينه.
و الوجهان اللذان ذكرهما ظاهرا الفساد، مضافا إلى أن هذا القائل قدر أن المراد بأولي الأمر في الآية الحكام و السلاطين و قد تبين فساد هذا الاحتمال.
أما الوجه الأول فلأنه غفل عن أن القرآن مملوء من النهي عن طاعة الظالمين و المسرفين و الكافرين، و من المحال أن يأمر الله مع ذلك بطاعتهم ثم يزيد على ذلك فيقرن طاعتهم بطاعة نفسه و رسوله، و لو فرض كون هذه الطاعة طاعة تقية لعبر عنها بإذن و نحو ذلك كما قال تعالى: إلا أن تتقوا منهم تقاة: «آل عمران: 28»، لا بالأمر بطاعتهم صريحا حتى يستلزم كل محذور شنيع.
و أما الوجه الثاني فهو مبني على الوجه الأول من معنى الآية أما لو فرض افتراض طاعتهم لكونهم ذا شأن في الدين كانوا معصومين لما تقدم تفصيلا، و محال أن يأمر الله بطاعة من لا مصداق له، أو له مصداق اتفاقي في آية تتضمن أس أساس المصالح الدينية و حكما لا يستقيم بدونه حال المجتمع الإسلامي أصلا، و قد عرفت أن الحاجة إلى أولي الأمر عين الحاجة إلى الرسول و هي الحاجة إلى ولاية أمر الأمة و قد تكلمنا فيه في بحث المحكم و المتشابة.
و لنرجع إلى أول الكلام في الآية: ظهر لك من جميع ما قدمناه أن لا معنى لحمل قوله تعالى: «و أولي الأمر منكم» على جماعة المجمعين من أهل الحل و العقد، و هي الهيئة الاجتماعية بأي معنى من المعاني فسرناه فليس إلا أن المراد بأولي الأمر آحاد من الأمة معصومون في أقوالهم مفترض طاعتهم فتحتاج معرفتهم إلى تنصيص من جانب الله سبحانه من كلامه أو بلسان نبيه فينطبق على ما روي من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم هم.
و أما ما قيل: إن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أو أمراء السرايا أو العلماء المتبعون في أقوالهم و آرائهم فيدفع ذلك كله أولا: أن الآية تدل على عصمتهم و لا عصمة في هؤلاء الطبقات بلا إشكال إلا ما تعتقده طائفة من المسلمين في حق علي (عليه السلام)، و ثانيا: أن كلا من الأقوال الثلاث قول من غير دليل يدل عليه.
و أما ما أورد على كون المراد به أئمة أهل البيت المعصومين (عليهم السلام): أولا: إن ذلك يحتاج إلى تعريف صريح من الله و رسوله، و لو كان ذلك لم يختلف في أمرهم اثنان بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه: أن ذلك منصوص عليه في الكتاب و السنة كآية الولاية و آية التطهير و غير ذلك، و سيأتي بسط الكلام فيها، و كحديث السفينة: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، و من تخلف عنها غرق» و حديث الثقلين: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» و قد مر في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب، و كأحاديث أولي الأمر المروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و سيجيء بعضها في البحث الروائي التالي.
و ثانيا: أن طاعتهم مشروطة بمعرفتهم فإنها من دون معرفتهم تكليف بما لا يطاق و إذا كانت مشروطة فالآية تدفعه لأنها مطلقة.
و فيه: أن الإشكال منقلب على المستشكل فإن الطاعة مشروطة بالمعرفة مطلقا، و إنما الفرق أن أهل الحل و العقد يعرف مصداقهم على قوله من عند أنفسنا من غير حاجة إلى بيان من الله و رسوله، و الإمام المعصوم يحتاج معرفته إلى معرف يعرفه، و لا فرق بين الشرط و الشرط في منافاته الآية.
على أن المعرفة و إن عدت شرطا لكنها ليست من قبيل سائر الشروط فإنها راجعة إلى تحقق بلوغ التكليف فلا تكليف من غير معرفة به و بموضوعه و متعلقه، و ليست راجعة إلى التكليف و المكلف به، و لو كانت المعرفة في عداد سائر الشرائط كالاستطاعة في الحج، و وجدان الماء في الوضوء مثلا لم يوجد تكليف مطلق أبدا إذ لا معنى لتوجه التكليف إلى مكلف سواء علم به أو لم يعلم.
و ثالثا: أنا في زماننا هذا عاجزون عن الوصول إلى الإمام المعصوم و تعلم العلم و الدين منه، فلا يكون هو الذي فرض الله طاعته على الأمة إذ لا سبيل إليه.
و فيه: أن ذلك مستند إلى نفس الأمة في سوء فعالها و خيانتها على نفسها لا إلى الله و رسوله فالتكليف غير مرتفع كما لو قتلت الأمة نبيها ثم اعتذرت أنها لا تقدر على طاعته، على أن الإشكال مقلوب عليه فإنا لا نقدر اليوم على أمة واحدة في الإسلام ينفذ فيها ما استصوبته لها أهل الحل و العقد منها.
و رابعا: أن الله تعالى يقول: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول»، و لو كان المراد من أولي الأمر الإمام المعصوم لوجب أن يقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الإمام.
و فيه: أن جوابه تقدم فيما مر من البيان، و المراد بالرد الرد إلى الإمام بالتقريب الذي تقدم.
و خامسا: أن القائلين بالإمام المعصوم يقولون: إن فائدة اتباعه إنقاذ الأمة من ظلمة الخلاف، و ضرر التنازع و التفرق و ظاهر الآية يبين حكم التنازع مع وجود أولي الأمر، و طاعة الأمة لهم كأن يختلف أولو الأمر في حكم بعض النوازل و الوقائع، و الخلاف و التنازع مع وجود الإمام المعصوم غير جائز عند القائلين به لأنه عندهم مثل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فلا يكون لهذا الزيادة فائدة على رأيهم.
و فيه: أن جوابه ظاهر مما تقدم أيضا فإن التنازع المذكور في الآية إنما هو تنازع المؤمنين في أحكام الكتاب و السنة دون أحكام الولاية الصادرة عن الإمام في الوقائع و الحوادث، و قد تقدم أن لا حكم إلا لله و رسوله فإن تمكن المتنازعون من فهم الحكم من الكتاب و السنة كان لهم أن يستنبطوه منهما، أو يسألوا الإمام عنه و هو معصوم في فهمه، و إن لم يتمكنوا من ذلك كان عليهم أن يسألوا عنه الإمام، و ذلك نظير ما كان لمن يعاصر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا يتفقهون فيما يتمكنون منه أو يسألون عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يسألونه فيما لا يتمكنون من فهمه بالاستنباط.
فحكم أولي الأمر في الطاعة حكم الرسول على ما يدل عليه الآية، و حكم التنازع هو الذي ذكره في الآية سواء في ذلك حضور الرسول كما يدل عليه الآيات التالية، و غيبته كما يدل عليه الأمر في الآية بإطلاقه، فالرد إلى الله و الرسول المذكور في الآية مختص بصورة تنازع المؤمنين كما يدل عليه قوله: تنازعتم، و لم يقل: فإن تنازع أولو الأمر، و لا قال: فإن تنازعوا، و الرد إلى الله و الرسول عند حضور الرسول هو سؤال الرسول عن حكم المسألة أو استنباطه من الكتاب و السنة للمتمكن منه، و عند غيبته أن يسأل الإمام عنه أو الاستنباط كما تقدم بيانه، فلا يكون قوله: فإن تنازعتم في شيء «إلخ» زائدا من الكلام مستغنى عنه كما ادعاه المستشكل.
فقد تبين من جميع ما تقدم: أن المراد بأولي الأمر في الآية رجال من الأمة حكم الواحد منهم في العصمة و افتراض الطاعة حكم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هذا مع ذلك لا ينافي عموم مفهوم لفظ أولي الأمر بحسب اللغة، و إرادته من اللفظ فإن قصد مفهوم من المفاهيم من اللفظ شيء و إرادة المصداق الذي ينطبق عليه المفهوم شيء آخر، و ذلك كما أن مفهوم الرسول معنى عام كلي و هو المراد من اللفظ في الآية لكن المصداق المقصود هو الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول» إلى آخر الآية تفريع على الحصر المستفاد من المورد فإن قوله: أطيعوا الله «إلخ» حيث أوجب طاعة الله و رسوله، و هذه الطاعة إنما هي في المواد الدينية التي تتكفل رفع كل اختلاف مفروض، و كل حاجة ممكنة لم يبق مورد تمس الحاجة الرجوع إلى غير الله و رسوله، و كان معنى الكلام: أطيعوا الله، و لا تطيعوا الطاغوت، و هو ما ذكرناه من الحصر.
و توجه الخطاب إلى المؤمنين كاشف عن أن المراد بالتنازع هو تنازعهم بينهم لا تنازع مفروض بينهم و بين أولي الأمر، و لا تنازع مفروض بين أولي الأمر فإن الأول أعني التنازع بينهم و بين أولي الأمر لا يلائم افتراض طاعة أولي الأمر عليهم، و كذا الثاني أعني التنازع بين أولي الأمر فإن افتراض الطاعة لا يلائم التنازع الذي أحد طرفيه على الباطل، على أنه لا يناسب كون الخطاب متوجها إلى المؤمنين في قوله: فإن تنازعتم في شيء فردوه.
و لفظ الشيء و إن كان يعم كل حكم و أمر من الله و رسوله و أولي الأمر كائنا ما كان لكن قوله بعد ذلك: فردوه إلى الله و الرسول يدل على أن المفروض هو النزاع في شيء ليس لأولي الأمر الاستقلال و الاستبداد فيه من أوامرهم في دائرة ولايتهم كأمرهم بنفر أو حرب أو صلح أو غير ذلك، إذ لا معنى لإيجاب الرد إلى الله و الرسول في هذه الموارد مع فرض طاعتهم فيها.
فالآية تدل على وجوب الرد في نفس الأحكام الدينية التي ليس لأحد أن يحكم فيها بإنفاذ أو نسخ إلا الله و رسوله، و الآية كالصريح في أنه ليس لأحد أن يتصرف في حكم ديني شرعه الله و رسوله، و أولو الأمر و من دونهم في ذلك سواء.
و قوله: إن كنتم تؤمنون بالله، تشديد في الحكم و إشارة إلى أن مخالفته إنما تنتشىء من فساد في مرحلة الإيمان فالحكم يرتبط به ارتباطا فالمخالفة تكشف عن التظاهر بصفة الإيمان بالله و رسوله، و استبطان للكفر، و هو النفاق كما يدل عليه الآيات التالية.
و قوله: ذلك خير و أحسن تأويلا أي الرد عند التنازع أو إطاعة الله و رسوله و أولي الأمر، و التأويل هو المصلحة الواقعية التي تنشأ منها الحكم ثم تترتب على العمل و قد تقدم البحث عن معناه في ذيل قوله تعالى: و ابتغاء تأويله و ما يعلم تأويله إلا الله الآية: «آل عمران: 7» في الجزء الثالث من الكتاب.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك» إلى آخر الآية الزعم هو الاعتقاد بكذا سواء طابق الواقع أم لا، بخلاف العلم فإنه الاعتقاد المطابق للواقع، و لكون الزعم يستعمل في الاعتقاد في موارد لا يطابق الواقع ربما يظن أن عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه و ليس كذلك، و الطاغوت مصدر بمعنى الطغيان كالرهبوت و الجبروت و الملكوت غير أنه ربما يطلق و يراد به اسم الفاعل مبالغة يقال: طغى الماء إذا تعدى ظرفه لوفوره و كثرته، و كان استعماله في الإنسان أولا على نحو الاستعارة ثم ابتذل فلحق بالحقيقة و هو خروج الإنسان عن طوره الذي حده له العقل أو الشرع، فالطاغوت هو الظالم الجبار، و المتمرد عن وظائف عبودية الله استعلاء عليه تعالى و هكذا، و إليه يعود ما قيل: إن الطاغوت كل معبود من دون الله.
و قوله: بما أنزل إليك و ما أنزل من قبلك، بمنزلة أن يقال: بما أنزل الله على رسله، و لم يقل: آمنوا بك و بالذين من قبلك لأن الكلام في وجوب الرد إلى كتاب الله و حكمه و بذلك يظهر أن المراد بقوله: «و قد أمروا أن يكفروا به» الأمر في الكتب السماوية و الوحي النازل على الأنبياء: محمد و من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قوله: أ لم تر إلخ، الكلام بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: ما وجه ذكر قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول «إلخ» فقيل: أ لم تر إلى تخلفهم من الطاعة حيث يريدون التحاكم إلى الطاغوت؟ و الاستفهام للتأسف و المعنى: من الأسف ما رأيته أن بعض الناس، و هم معتقدون أنهم مؤمنون بما أنزل إليك من الكتاب و إلى سائر الأنبياء و الكتب السماوية إنما أنزلت لتحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، و قد بينه الله تعالى لهم بقوله: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه: «البقرة: 213» يتحاكمون عند التنازع إلى الطاغوت و هم أهل الطغيان و المتمردون عن دين الله المتعدون على الحق، و قد أمروا في هذه الكتب أن يكفروا بالطاغوت، و كفى في منع التحاكم إليهم أنه إلغاء لكتب الله و إبطال لشرائعه.
و في قوله «و يريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا، دلالة على أن تحاكمهم إنما هو بإلقاء الشيطان و إغوائه، و الوجهة فيه الضلال البعيد.
قوله تعالى: «و إذا قيل لهم تعالوا» إلى آخر الآية، تعالوا بحسب الأصل أمر من التعالي و هو الارتفاع، و صد عنه يصد صدودا أي أعرض، و قوله: إلى ما أنزل الله و إلى الرسول، بمنزلة أن يقال: إلى حكم الله و من يحكم به، و في قوله: يصدون عنك، إنما خص الرسول بالإعراض مع أن الذي دعوا إليه هو الكتاب و الرسول معا لا الرسول وحده لأن الأسف إنما هو من فعل الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل الله فهم ليسوا بكافرين حتى يتجاهروا بالإعراض عن كتاب الله بل منافقون بالحقيقة يتظاهرون بالإيمان بما أنزل الله لكنهم يعرضون عن رسوله.
و من هنا يظهر أن الفرق بين الله و رسوله بتسليم حكم الله و التوقف في حكم الرسول نفاق البتة.
قوله تعالى: «فكيف إذا أصابتهم مصيبة» إلخ إيذان بأن هذا الإعراض و الانصراف عن حكم الله و رسوله، و الإقبال إلى غيره و هو حكم الطاغوت سيعقب مصيبة تصيبهم لا سبب لها إلا هذا الإعراض عن حكم الله و رسوله، و التحاكم إلى الطاغوت، و قوله: ثم جاءوك يحلفون بالله، اه حكاية لمعذرتهم أنهم ما كانوا يريدون بركونهم إلى حكم الطاغوت سوء، و المعنى - و الله أعلم -: فإذا كان حالهم هذا الحال كيف صنيعهم إذا أصابهم بفعالهم هذا وباله السيىء ثم جاءوك يحلفون بالله قائلين ما أردنا بالتحاكم إلى غير الكتاب و الرسول إلا الإحسان و التوفيق و قطع المشاجرة بين الخصوم.
قوله تعالى: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم» إلخ تكذيب لقولهم فيما اعتذروا به، و لم يذكر حال ما في قلوبهم، و أنه ضمير فاسد لدلالة قوله: «فأعرض عنهم و عظهم» على ذلك إذ لو كان ما في قلوبهم غير فاسد كان قولهم صدقا و حقا و لا يؤمر بالإعراض عمن يقول الحق و يصدق في قوله.
و قوله: و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي قولا يبلغ في أنفسهم ما تريد أن يقفوا عليه و يفقهوه من مفاسد هذا الصنيع، و أنه نفاق لو ظهر نزل بهم الويل من سخط الله تعالى.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»، رد مطلق لجميع ما تقدمت حكايته من هؤلاء المنافقين من التحاكم إلى الطاغوت، و الإعراض عن الرسول، و الحلف و الاعتذار بالإحسان و التوفيق.
فكل ذلك مخالفة للرسول بوجه سواء كانت مصاحبة لعذر يعتذر به أم لا، و قد أوجب الله طاعته من غير قيد و شرط فإنه لم يرسله إلا ليطاع بإذن الله، و ليس لأحد أن يتخيل أن المتبع من الطاعة طاعة الله، و إنما الرسول بشر ممن خلق إنما يطاع لحيازة الصلاح فإذا أحرز صلاح من دون طاعته فلا بأس بالاستبداد في إحرازه، و ترك الرسول في جانب، و إلا كان إشراكا بالله، و عبادة لرسوله معه، و ربما كان يلوح ذلك في أمور يكلمون فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول قائلهم له إذا عزم عليهم في مهمة: أ بأمر من الله أم منك؟.
فذكر الله سبحانه أن وجوب طاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وجوب مطلق، و ليست إلا طاعة الله فإنها بإذنه نظير ما يفيده قوله تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله الآية: «النساء: 80».
ثم ذكر أنهم لو رجعوا إلى الله و رسوله بالتوبة حين ما خالفوا الرسول بالإعراض لكان خيرا لهم من أن يحلفوا بالله، و يلفقوا أعذارا غير موجهة لا تنفع و لا ترضي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن الله سبحانه يخبره بحقيقة الأمر، و ذلك قوله: و لو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك إلى آخر الآية.
قوله تعالى: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك إلخ، الشجر - بسكون الجيم - و الشجور: الاختلاط يقال: شجر شجرا و شجورا أي اختلط، و منه التشاجر و المشاجرة كأن الدعاوي أو الأقوال اختلط بعضها مع بعض، و منه قيل للشجر: شجر لاختلاط غصونها بعضها مع بعض، و الحرج الضيق.
و ظاهر السياق في بدء النظر أنه رد لزعم المنافقين أنهم آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع تحاكمهم إلى الطاغوت فالمعنى: فليس كما يزعمون أنهم يؤمنون مع تحاكمهم إلى الطاغوت بل لا يؤمنون حتى يحكموك «إلخ».
لكن شمول حكم الغاية أعني قوله: حتى يحكموك «إلخ» لغير المنافقين، و كذا قوله بعد ذلك: «و لو أنا كتبنا عليهم» إلى قوله: «ما فعلوه إلا قليل منهم» يؤيد أن الرد لا يختص بالمنافقين بل يعمهم و غيرهم من جهة أن ظاهر حالهم أنهم يزعمون أن مجرد تصديق ما أنزل من عند الله بما يتضمنه من المعارف و الأحكام إيمان بالله و رسوله و بما جاء به من عند ربه حقيقة، و ليس كذلك بل الإيمان تسليم تام باطنا و ظاهرا فكيف يتأتى لمؤمن حقا أن لا يسلم للرسول حكما في الظاهر بأن يعرض عنه و يخالفه، أو في باطن نفسه بأن يتحرج عن حكم الرسول إذا خالف هوى نفسه، و قد قال الله تعالى لرسوله: لتحكم بين الناس بما أراك الله: «النساء: 105».
فلو تحرج متحرج بما قضى به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمن حكم الله تحرج لأنه الذي شرفه بافتراض الطاعة و نفوذ الحكم.
و إذا كانوا سلموا حكم الرسول، و لم يتحرج قلوبهم منه كانوا مسلمين لحكم الله قطعا سواء في ذلك حكمه التشريعي و التكويني، و هذا موقف من مواقف الإيمان يتلبس فيه المؤمن بعدة من صفات الفضيلة أوضحها: التسليم لأمر الله، و يسقط فيه التحرج و الاعتراض و الرد من لسان المؤمن و قلبه، و قد أطلق في الآية التسليم إطلاقا.
و من هنا يظهر أن قوله: فلا و ربك إلى آخر الآية، و إن كان مقصورا على التسليم لحكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب اللفظ لأن مورد الآيات هو تحاكمهم إلى غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مع وجوب رجوعهم إليه إلا أن المعنى عام لحكم الله و رسوله جميعا، و لحكم التشريع و التكوين جميعا كما عرفت.
بل المعنى يعم الحكم بمعنى قضاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كل سيرة سار بها أو عمل عمل به لأن الأثر مشترك فكل ما ينسب بوجه إلى الله و رسوله بأي نحو كان لا يتأتى لمؤمن بالله حق إيمانه أن يرده أو يعترض عليه أو يمله أو يسوءه بوجه من وجوه المساءة فكل ذلك شرك على مراتبه، و قد قال تعالى: و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون: «يوسف: 106».
قوله تعالى: «و لو أنا كتبنا عليهم» إلى قوله: «ما فعلوه إلا قليل منهم» قد تقدم في قوله: و لكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا: «آية: 46 من السورة» إن هذا التركيب يدل على أن الحكم للهيئة الاجتماعية من الأفراد و هو المجتمع، و أن الاستثناء لدفع توهم استغراق الحكم و استيعابه لجميع الأفراد، و لذلك كان هذا الاستثناء أشبه بالمنفصل منه بالمتصل أو هو برزخ بين الاستثنائين: المتصل و المنفصل لكونه ذا جنبتين.
على هذا فقوله «ما فعلوه إلا قليل منهم» وارد مورد الإخبار عن حال الجملة المجتمعة أنهم لا يمتثلون الأحكام و التكاليف الحرجية الشاقة التي تماس ما يتعلق به قلوبهم تعلق الحب الشديد كنفوسهم و ديارهم، و استثناء القليل لدفع التوهم.
فالمعنى: و لو أنا كتبنا أي فرضنا عليهم قتل أنفسهم و الخروج من ديارهم و أوطانهم المألوفة لهم ما فعلوه أي لم يمتثلوا أمرنا، ثم لما استشعر أن قوله: ما فعلوه يوهم أن ليس فيهم من هو مؤمن حقا مسلم لحكم الله حقيقة دفع ذلك باستثناء القليل منهم، و لم يكن يشمله الحكم حقيقة لأن الإخبار عن حال المجتمع من حيث إنه مجتمع و لم تكن الأفراد داخلة فيه إلا بتبع الجملة.
و من هنا يظهر أن المراد قتل الجملة الجملة و خروج الجملة و جلاؤهم من جملة ديارهم كالبلدة و القرية دون قتل كل واحد نفسه، و خروجه من داره كما في قوله تعالى: فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم: «البقرة: 54»، فإن المقصود بالخطاب هو الجماعة دون الأفراد.
قوله تعالى: «و لو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم و أشد تثبيتا» في تبديل الكتابة في قوله: و لو أنا كتبنا عليهم، بالوعظ في قوله: ما يوعظون به إشارة إلى أن هذه الأحكام الظاهرة في صورة الأمر و الفرض ليست إلا إشارات إلى ما فيه صلاحهم و سعادتهم فهي في الحقيقة مواعظ و نصائح يراد بها خيرهم و صلاحهم.
و قوله: لكان خيرا لهم أي في جميع ما يتعلق بهم من أولاهم و أخراهم، و ذلك أن خير الآخرة لا ينفك من خير الدنيا بل يستتبعه، و قوله: «و أشد تثبيتا» أي لنفوسهم و قلوبهم بالإيمان لأن الكلام فيه، قال تعالى: يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت الآية: «إبراهيم: 27».
قوله تعالى: «و إذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما» أي حين تثبتوا بالإيمان الثابت، و الكلام في إبهام قوله: «أجرا عظيما» كالكلام في إطلاق قوله: «لكان خيرا لهم».
قوله تعالى: «و لهديناهم صراطا مستقيما» قد مضى الكلام في معنى الصراط المستقيم في ذيل قوله: اهدنا الصراط المستقيم: «الحمد: 6» في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «و من يطع الله و الرسول» إلى قوله: «حسن أولئك رفيقا» جمع بين الله و الرسول في هذا الوعد الحسن مع كون الآيات السابقة متعرضة لإطاعة الرسول و التسليم لحكمه و قضائه، لتخلل ذكره تعالى بينها في قوله: و لو أنا كتبنا عليهم «إلخ» فالطاعة المفترضة طاعته تعالى و طاعة رسوله، و قد بدأ الكلام على هذا النحو في قوله: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول الآية.
و قوله: فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم، يدل على اللحوق دون الصيرورة فهؤلاء ملحقون بجماعة المنعم عليهم، و هم أصحاب الصراط المستقيم الذي لم ينسب في كلامه تعالى إلى غيره إلا إلى هذه الجماعة في قوله تعالى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم: «الحمد: 7»، و بالجملة فهم ملحقون بهم غير صائرين منهم كما لا يخلو قوله: «و حسن أولئك رفيقا» من تلويح إليه، و قد تقدم أن المراد بهذه النعمة هي الولاية.
و أما هؤلاء الطوائف الأربع أعني النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين فالنبيون هم أصحاب الوحي الذين عندهم نبأ الغيب، و لا خبرة لنا من حالهم بأزيد من ذلك إلا من حيث الآثار، و قد تقدم أن المراد بالشهداء شهداء الأعمال فيما يطلق من لفظ الشهيد في القرآن دون المستشهدين في معركة القتال، و أن المراد بالصالحين هم أهل اللياقة بنعم الله.
و أما الصديقون فالذي يدل عليه لفظه هو أنه مبالغة من الصدق، و من الصدق ما هو في القول، و منه ما هو في الفعل، و صدق الفعل هو مطابقته للقول لأنه حاك عن الاعتقاد فإذا صدق في حكايته كان حاكيا لما في الضمير من غير تخلف، و صدق القول مطابقته لما في الواقع، و حيث كان القول نفسه من الفعل بوجه كان الصادق في فعله لا يخبر إلا عما يعلم صدقه و أنه حق، ففي قوله الصدق الخبري و المخبري جميعا.
فالصديق الذي لا يكذب أصلا هو الذي لا يفعل إلا ما يراه حقا من غير اتباع لهوى النفس، و لا يقول إلا ما يرى أنه حق، و لا يرى شيئا إلا ما هو حق فهو يشاهد حقائق الأشياء، و يقول الحق، و يفعل الحق.
و على ذلك فيترتب المراتب فالنبيون و هم السادة، ثم الصديقون و هم شهداء الحقائق و الأعمال، و الشهداء و هم شهداء الأعمال، و الصالحون و هم المتهيئون للكرامة الإلهية.
و قوله تعالى: «و حسن أولئك رفيقا» أي من حيث الرفاقة فهو تمييز، قيل: و لذلك لم يجمع، و قيل: المعنى: حسن كل واحد منهم رفيقا، و هو حال نظير قوله: ثم نخرجكم طفلا: «الحج: 5 «.
قوله تعالى: «ذلك الفضل من الله و كفى بالله عليما» تقديم «ذلك» و إتيانه بصيغة الإشارة الدالة على البعيد و دخول اللام في الخبر يدل على تفخيم أمر هذا الفضل كأنه كل الفضل، و ختم الآية بالعلم لكون الكلام في درجات الإيمان التي لا سبيل إلى تشخيصها إلا العلم الإلهي.
و اعلم أن في هذه الآيات الشريفة موارد عديدة من الالتفات الكلامي متشابك بعضها مع بعض فقد أخذ المؤمنون في صدر الآيات مخاطبين ثم في قوله: «و لو أنا كتبنا عليهم» كما مر غائبين، و كذلك أخذ تعالى نفسه في مقام الغيبة في صدر الآيات في قوله: أطيعوا الله الآية، ثم في مقام المتكلم مع الغير في قوله: و ما أرسلنا من رسول الآية، ثم الغيبة في قوله: بإذن الله الآية، ثم المتكلم مع الغير في قوله: و لو أنا كتبنا الآية، ثم الغيبة في قوله: و من يطع الله و الرسول الآية.
و كذلك الرسول أخذ غائبا في صدر الآيات في قوله: و أطيعوا الرسول الآية، ثم مخاطبا في قوله: ذلك خير الآية، ثم غائبا في قوله: و استغفر لهم الرسول الآية، ثم مخاطبا في قوله: فلا و ربك الآية، ثم غائبا في قوله: و من يطع الله و الرسول الآية، ثم مخاطبا في قوله: و حسن أولئك الآية، فهذه عشر موارد من الالتفات الكلامي و النكات المختصة بكل مورد مورد ظاهرة للمتدبر.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاري: لما أنزل الله عز و جل على نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول - و أولي الأمر منكم «قلت: يا رسول الله عرفنا الله و رسوله فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): هم خلفائي يا جابر و أئمة المسلمين من بعدي: أولهم علي بن أبي طالب، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد بن علي المعروف في التوراة بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فأقرئه مني السلام، ثم الصادق جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر، ثم علي بن موسى، ثم محمد بن علي، ثم علي بن محمد، ثم الحسن بن علي، ثم سميي محمد و كنيي حجة الله في أرضه و بقيته في عباده ابن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض و مغاربها، ذاك الذي يغيب عن شيعته و أوليائه غيبة لا يثبت فيه على القول بإمامته إلا من امتحن الله قلبه للإيمان. قال جابر: فقلت له يا رسول الله فهل يقع لشيعته الانتفاع به في غيبته فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) إي و الذي بعثني بالنبوة إنهم يستضيئون بنوره، و ينتفعون بولايته في غيبته كانتفاع الناس بالشمس و إن تجلاها سحاب، يا جابر هذا من مكنون سر الله و مخزون علم الله فاكتمه إلا عن أهله.
أقول: و عن النعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي عن علي (عليه السلام) ما في معنى الرواية السابقة، و رواها علي بن إبراهيم بإسناده عن سليم عنه (عليه السلام)، و هناك روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة، و فيها ذكر إمامتهم بأسمائهم من أراد الوقوف عليها فعليه بالرجوع إلى كتاب ينابيع المودة و كتاب غاية المرام للبحراني و غيرهما.
و في تفسير العياشي، عن جابر الجعفي قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن هذه الآية: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» قال: الأوصياء.
أقول: و في تفسير العياشي، عن عمر بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) مثله و فيه: علي بن أبي طالب و الأوصياء من بعده.
و عن ابن شهرآشوب: سأل الحسن بن صالح عن الصادق (عليه السلام) عن ذلك فقال: الأئمة من أهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أقول: و روى مثله الصدوق عن أبي بصير عن الباقر (عليه السلام) و فيه: قال: الأئمة من ولد علي و فاطمة إلى أن تقوم الساعة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي مسروق عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت له: إنا نكلم أهل الكلام فنحتج عليهم بقول الله عز و جل: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» فيقولون: نزلت في المؤمنين، و نحتج عليهم بقول الله عز و جل: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى» فيقولون: نزلت في قربى المسلمين قال: فلم أدع شيئا مما حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: و كيف أصنع؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا و أطبه، قال: و صم و اغتسل و ابرز أنت و هو إلى الجبال فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه، و ابدأ بنفسك، و قل: اللهم رب السموات السبع و رب الأرضين السبع عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم إن كان أبو مسروق جحد حقا و ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم رد الدعوة عليه فقل: و إن جحد حقا و ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما. ثم قال لي: فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فوالله ما وجدت خلقا يجيبني إليه.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» قال: هي في علي و في الأئمة جعلهم الله مواضع الأنبياء غير أنهم لا يحلون شيئا و لا يحرمونه.
أقول: و الاستثناء في الرواية هو الذي قدمنا في ذيل الكلام على الآية أنها تدل على أن لا حكم تشريعا إلا لله و رسوله.
و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية قال: تلا أبو جعفر (عليه السلام): أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى أولي الأمر منكم. قال: كيف يأمر بطاعتهم و يرخص في منازعتهم إنما قال ذلك للمارقين الذين قيل لهم: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول.
أقول: الرواية لا تدل على أزيد من كون ما تلاه (عليه السلام) تفسير للآية و بيانا للمراد منها، و قد تقدم في البيان السابق توضيح دلالتها على ذلك، و ليس المراد هو القراءة كما ربما يستشعر من قوله: تلا أبو جعفر (عليه السلام).
و يدل على ذلك اختلاف اللفظ الموجود في الروايات كما في تفسير القمي، بإسناده عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت: «فإن تنازعتم في شيء فارجعوه إلى الله و إلى الرسول و إلى أولي الأمر منكم».
و ما في تفسير العياشي، عن بريد بن معاوية عن أبي جعفر (عليه السلام)» و هو رواية الكافي، السابقة و في الحديث: ثم قال للناس: «يا أيها الذين آمنوا» فجمع المؤمنين إلى يوم القيامة «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» إيانا عنى خاصة «فإن خفتم تنازعا في الأمر فارجعوا إلى الله و إلى الرسول و أولي الأمر منكم» هكذا نزلت، و كيف يأمرهم بطاعة أولي الأمر و يرخص لهم في منازعتهم إنما قيل ذلك للمأمورين الذين قيل لهم: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم.
و في تفسير العياشي،: في رواية أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: نزلت يعني آية أطيعوا الله، في علي بن أبي طالب (عليه السلام) قلت له: إن الناس يقولون لنا: فما منعه أن يسمي عليا و أهل بيته في كتابه؟ فقال أبو جعفر (عليه السلام): قولوا لهم: إن الله أنزل على رسوله الصلاة و لم يسم ثلاثا و لا أربعا حتى كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي فسر ذلك لهم و أنزل الحج و لم ينزل طوفوا أسبوعا حتى فسر ذلك لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الله أنزل: «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» تنزلت في علي و الحسن و الحسين (عليهما السلام)، و قال في علي من كنت مولاه فعلي مولاه، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أوصيكم بكتاب الله و أهل بيتي إني سألت الله أن لا يفرق بينهما حتى يوردهما علي الحوض فأعطاني ذلك، و قال: فلا تعلموهم فإنهم أعلم منكم، إنهم لن يخرجوكم من باب هدى، و لن يدخلوكم في باب ضلال، و لو سكت رسول الله و لم يبين أهلها لادعى آل عباس و آل عقيل و آل فلان، و لكن أنزل الله في كتابه: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت - و يطهركم تطهيرا» فكان علي و الحسن و الحسين و فاطمة (عليهما السلام) تأويل هذه الآية، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهما السلام) فأدخلهم تحت الكساء في بيت أم سلمة و قال: اللهم إن لكل نبي ثقلا و أهلا فهؤلاء ثقلي و أهلي، و قالت أم سلمة: أ لست من أهلك؟ قال: إنك إلى خير، و لكن هؤلاء ثقلي و أهلي، الحديث: أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عنه (عليه السلام) مثله مع اختلاف يسير في اللفظ.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير مجاهد: أنها نزلت في أمير المؤمنين حين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فقال: يا رسول الله أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال: يا أمير المؤمنين أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟ حين قال له: «اخلفني في قومي و أصلح» فقال الله: و أولي الأمر منكم. قال: علي بن أبي طالب ولاه الله أمر الأمة بعد محمد، و حين خلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة فأمر الله العباد بطاعته و ترك خلافه.
و فيه، عنه عن أبانة الفلكي: أنها نزلت حين شكا أبو بريدة من علي (عليه السلام)، الخبر.
و في العبقات، عن كتاب ينابيع المودة، للشيخ سليمان بن إبراهيم البلخي عن المناقب عن سليم بن قيس الهلالي عن علي في حديث قال: و أما أدنى ما يكون به العبد ضالا أن لا يعرف حجة الله تبارك و تعالى و شاهده على عباده، الذي أمر الله عباده بطاعته، و فرض ولايته. قال سليم: قلت: يا أمير المؤمنين صفهم لي، قال: الذين قرنهم الله بنفسه و نبيه فقال: «يا أيها الذين آمنوا - أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» فقلت له: جعلني الله فداك أوضح لي، فقال: الذين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في مواضع و في آخر خطبته يوم قبضه الله عز و جل إليه: إني تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي إن تمسكتم بهما كتاب الله عز و جل، و عترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض كهاتين و جمع بين مسبحتيه و لا أقول: كهاتين و جمع مسبحته و الوسطى فتمسكوا بهما و لا تقدموهم فتضلوا.
أقول: و الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في المعاني السابقة كثيرة جدا و قد اقتصرنا فيما نقلناه على إيراد نموذج من كل صنف منها، و على من يطلبها أن يراجع جوامع الحديث.
و أما الذي روي عن قدماء المفسرين فهي ثلاثة أقوال: الخلفاء الراشدون، و أمراء السرايا و العلماء، و ما نقل عن الضحاك أنهم أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو يرجع إلى القول الثالث فإن اللفظ المنقول منه: أنهم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم الدعاة الرواة، و ظاهره أنه تعليل بالعلم فيرجع إلى التفسير بالعلماء.
و اعلم أيضا أنه قد نقل في أسباب نزول هذه الآيات أمور كثيرة، و قصص مختلفة شتى لكن التأمل فيها لا يدع ريبا في أنها جميعا من قبيل التطبيق النظري من رواتها، و لذلك تركنا إيرادها لعدم الجدوى في نقلها، و إن شئت تصديق ذلك فعليك بالرجوع إلى الدر المنثور، و تفسير الطبري، و أشباههما.
و في محاسن البرقي، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله تعالى: فلا و ربك لا يؤمنون الآية، قال: التسليم، الرضا، و القنوع بقضائه.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الله الكاهلي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له، و أقاموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا الشيء صنعه الله و صنع رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم صنع هكذا و كذا، و لو صنع خلاف الذي صنع، أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما» ثم قال أبو عبد الله (عليه السلام): عليكم بالتسليم.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن يحيى الكاهلي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: و الله لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة، و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم صنع كذا و كذا؟ و وجدوا ذلك في أنفسهم لكانوا بذلك مشركين، ثم قرأ: فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم - ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى محمد و آل محمد و يسلموا تسليما.
أقول: و في معنى الروايتين روايات أخر، و الذي ذكره (عليه السلام) تعميم في الآية من جهة الملاك من جهتين: من جهة أن الحكم لا يفرق فيه بين أن يكون حكما تشريعيا أو تكوينيا، و من جهة أن الحاكم بالحكم لا يفرق فيه بين أن يكون هو الله أو رسوله.
و اعلم أن هناك روايات تطبق الآيات أعني قوله: فلا و ربك لا يؤمنون إلى آخر الآيات على ولاية علي (عليه السلام) أو على ولاية أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و هو من مصاديق التطبيق على المصاديق، فإن الله سبحانه و رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) مصاديق الآيات و هي جارية فيهم.
و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله ما أستطيع فراقك، و إني لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي و أقبل حتى أنظر إليك حبا لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة فأدخلت الجنة فرفعت في أعلى عليين فكيف لي بك يا نبي الله؟ فنزل: «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم - من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين - و حسن أولئك رفيقا» فدعا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرجل فقرأها عليه و بشره بذلك.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة أيضا رواه في الدر المنثور، عن الطبراني و ابن مردويه و أبي نعيم في الحلية و الضياء المقدسي في صفة الجنة و حسنه عن عائشة، و عن الطبراني و ابن مردويه من طريق الشعبي عن ابن عباس، و عن سعيد بن منصور و ابن المنذر عن الشعبي، و عن ابن جرير عن سعيد بن جبير.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن أنس بن مالك عمن سمى عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى: «و من يطع الله و الرسول - فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين» يعني محمدا و «الصديقين» يعني عليا و كان أول من صدق و «الشهداء» يعني عليا و جعفرا و حمزة و الحسن و الحسين (عليهما السلام).
أقول: و في هذا المعنى أخبار أخر.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: أعينونا بالورع فإنه من لقي الله بالورع كان له عند الله فرحا فإن الله عز و جل يقول: و من يطع الله و الرسول، و تلا الآية ثم قال: فمنا النبي و منا الصديق و منا الشهداء و الصالحون.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام): المؤمن مؤمنان: مؤمن وفى الله بشروطه التي اشترطها عليه فذلك مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و ذلك ممن يشفع و لا يشفع له، و ذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا و و لا أهوال الآخرة، و مؤمن زلت به قدم فذلك كخامة الزرع كيفما كفأته الريح انكفأ، و ذلك ممن يصيبه أهوال الدنيا و أهوال الآخرة و يشفع له، و هو على خير.
أقول: في الصحاح: الخامة: الغضة الرطبة من النبات انتهى، و يقال: كفأت فلانا فانكفأ أي صرفته فانصرف و رجع، و هو (عليه السلام) يشير في الحديث إلى ما تقدم في تفسير قوله: صراط الذين أنعمت عليهم: «الفاتحة: 7» أن المراد بالنعمة الولاية فينطبق على قوله تعالى: ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون: «يونس: 63» و لا سبيل لأهوال الحوادث إلى أولياء الله الذين ليس لهم إلا الله سبحانه.
|