بيان
الآيات متصلة بما قبلها، و هي جميعا ذات سياق واحد، و هذه الآيات تشتمل على الاستشهاد بأمر طائفة أخرى من المؤمنين ضعفاء الإيمان و فيها عظة و تذكير بفناء الدنيا، و بقاء نعم الآخرة، و بيان لحقيقة قرآنية في خصوص الحسنات و السيئات.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين قيل لهم - - إلى قوله - أو أشد خشية» كف الأيدي كناية عن الإمساك عن القتال لكون القتل الذي يقع فيه من عمل الأيدي، و هذا الكلام يدل على أن المؤمنين كانوا في ابتداء أمرهم يشق عليهم ما يشاهدونه من تعدي الكفار و بغيهم عليهم فيصعب عليهم أن يصبروا على ذلك و لا يقابلوه بسل السيوف فأمرهم الله بالكف عن ذلك، و إقامة شعائر الدين من صلاة و زكاة ليشتد عظم الدين و يقوم صلبه فيأذن الله لهم في جهاد أعدائه، و لو لا ذلك لانفسخ هيكل الدين، و انهدمت أركانه، و تلاشت أجزاؤه.
ففي الآيات لومهم على أنهم هم الذين كانوا يستعجلون في قتال الكفار، و لا يصبرون على الإمساك و تحمل الأذى حين لم يكن لهم من العدة و القوة ما يكفيهم للقاء عدوهم فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون العدو و هم ناس مثلهم كخشية الله أو أشد خشية.
قوله تعالى: «و قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال:، ظاهره أنه عطف على قوله إذا فريق منهم»، و خاصة بالنظر إلى تغيير السياق من الفعل المضارع يخشون الناس إلى الماضي قالوا فالقائل بهذا القول هم الذين كانوا يتوقعون للقتال، و يستصعبون الصبر فأمروا بكف أيديهم.
و من الجائز أن يكون قولهم «ربنا لم كتبت علينا القتال لو لا أخرتنا إلى أجل قريب» محكيا عن لسان حالهم كما من الجائز أن يكونوا قائلين ذلك بلسانهم الظاهر فإن القرآن يستعمل من هذه العنايات كل نوع.
و توصيف الأجل الذي هو أجل الموت حتف الأنف بالقريب ليس المراد به أن يسألوا التخلص عن القتل، و العيش زمانا يسيرا بل ذلك تلويح منهم بأنهم لو عاشوا من غير قتل حتى يموتوا حتف أنفهم لم يكن ذلك إلا عيشا يسيرا و أجلا قريبا فما لله - سبحانه - لا يرضى لهم أن يعيشوا هذه العيشة اليسيرة حتى يبتليهم بالقتل، و يعجل لهم الموت؟ و هذا الكلام صادر منهم لتعلق نفوسهم بهذه الحياة الدنيا التي هي في تعليم القرآن متاع قليل يتمتع به ثم ينقضي سريعا و يعفى أثره، و دونه الحياة الآخرة التي هي الحياة الباقية الحقيقية فهي خير، و لذلك أجيب عنهم بقوله «قل» إلخ.
قوله تعالى: «قل متاع الدنيا قليل» إلخ أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب هؤلاء الضعفاء بما يوضح لهم خطأ رأيهم في ترجيح العيش الدنيوي اليسير على كرامة الجهاد و القتل في سبيل الله تعالى، و محصله أنهم ينبغي أن يكونوا متقين في إيمانهم، و الحياة الدنيا هي متاع يتمتع به قليل إذا قيس إلى الآخرة، و الآخرة خير لمن اتقى فينبغي لهم أن يختاروا الآخرة التي هي خير على متاع الدنيا القليل لأنهم مؤمنون و على صراط التقوى، و لا يبقى لهم إلا أن يخافوا أن يحيف الله عليهم و يظلمهم فيختاروا لذلك ما بأيديهم من المتاع على ما يوعدون من الخير، و ليس لهم ذلك فإن الله لا يظلمهم فتيلا.
و قد ظهر بهذا البيان أن قوله.
«لمن اتقى» من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للدلالة على سبب الحكم، و دعوى انطباقه على المورد، و التقدير - و الله أعلم -: و الآخرة خير لكم لأنكم ينبغي أن تكونوا لإيمانكم أهل تقوى، و التقوى سبب للفوز بخير الآخرة فقوله «لمن اتقى» كالكناية التي فيها تعريض.
قوله تعالى: «أين ما تكونوا يدرككم الموت و لو كنتم في بروج مشيدة» البروج جمع برج و هو البناء المعمول على الحصون، و يستحكم بنيانه ما قدر عليه لدفع العدو به و عنه، و أصل معناه الظهور، و منه التبرج بالزينة و نحوها، و التشييد الرفع، و أصله من الشيد و هو الجص لأنه يحكم البناء و يرفعه و يزينه فالبروج المشيدة الأبنية المحكمة المرتفعة التي على الحصون يأوي إليها الإنسان من كل عدو قادم.
و الكلام موضوع على التمثيل بذكر بعض ما يتقى به المكروه، و جعله مثلا لكل ركن شديد تتقى به المكاره، و محصل المعنى: أن الموت أمر لا يفوتكم إدراكه، و لو لجأتم منه إلى أي ملجإ محكم متين فلا ينبغي لكم أن تتوهموا أنكم لو لم تشهدوا القتال و لم يكتب لكم كنتم في مأمن من الموت، و فاته إدراككم فإن أجل الله لآت.
قوله تعالى: «و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله» إلى آخر الآية جملتان أخريان من هفواتهم حكاهما الله تعالى عنهم، و أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم عنهما ببيان حقيقة الأمر فيما يصيب الإنسان من حسنة و سيئة.
و اتصال السياق يقضي بكون الضعفاء المتقدم ذكرهم من المؤمنين هم القائلون ذلك قالوا ذلك بلسان حالهم أو مقالهم، و لا بدع في ذلك فإن موسى أيضا جبه بمثل هذا المقال كما حكى الله سبحانه ذلك بقوله «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه ألا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الأعراف: 131 و هو مأثور عن سائر الأمم في خصوص أنبيائهم، و هذه الأمة في معاملتهم نبيهم لا يقصرون عن سائر الأمم، و قد قال تعالى: «تشابهت قلوبهم»: البقرة: 118 و هم مع ذلك أشبه الأمم ببني إسرائيل، و قد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنهم لا يدخلون جحر ضب إلا دخلتموه» و قد تقدم نقل الروايات في ذلك من طرق الفريقين.
و قد تمحل في الآيات أكثر المفسرين بجعلها نازلة في خصوص اليهود أو المنافقين أو الجميع من اليهود و المنافقين، و أنت ترى أن السياق يدفعه.
و كيف كان فالآية تشهد بسياقها على أن المراد بالحسنة و السيئة ما يمكن أن يسند إلى الله سبحانه، و قد أسندوا قسما منه إلى الله تعالى و هو الحسنة، و قسما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو السيئة فهذه الحسنات و السيئات هي الحوادث التي كانت تستقبلهم بعد ما أتاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخذ في ترفيع مباني الدين و نشر دعوته و صيته بالجهاد، فهي الفتح و الظفر و الغنيمة فيما غلبوا فيه من الحروب و المغازي، و القتل و الجرح و البلوى في غير ذلك، و إسنادهم السيئات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في معنى التطير به أو نسبة ضعف الرأي و رداءة التدبير إليه.
فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يجيبهم بقوله «قل كل من عند الله» فإنها حوادث و نوازل ينظمها ناظم النظام الكوني، و هو الله وحده لا شريك له إذ الأشياء إنما تنقاد في وجودها و بقائها و جميع ما يستقبلها من الحوادث له تعالى لا غير.
على ما يعطيه تعليم القرآن.
ثم استفهم استفهام متعجب من جمود فهمهم و خمود فطنتهم من فقه هذه الحقيقة و فهمها فقال: «فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا».: «قوله تعالى ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك»، لما ذكر أنهم لا يكادون يفقهون حديثا ثم أراد بيان حقيقة الأمر، صرف الخطاب عنهم لسقوط فهمهم، و وجه وجه الكلام إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بين حقيقة ما يصيبه من حسنة أو سيئة لذاك الشأن، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه خصوصية في هذه الحقيقة التي هي من الأحكام الوجودية الدائرة بين جميع الموجودات، و لا أقل بين جميع الأفراد من الإنسان من مؤمن أو كافر، أو صالح أو طالح، و نبي أو من دونه.
فالحسنات و هي الأمور التي يستحسنها الإنسان بالطبع كالعافية و النعمة و الأمن و الرفاهية كل ذلك من الله سبحانه، و السيئات و هي الأمور التي تسوء الإنسان كالمرض و الذلة و المسكنة و الفتنة كل ذلك يعود إلى الإنسان لا إليه سبحانه فالآية قريبة مضمونا من قوله تعالى «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم و أن الله سميع عليم:» الأنفال: 53 و لا ينافي ذلك رجوع جميع الحسنات و السيئات بنظر كلي آخر إليه تعالى كما سيجيء بيانه.
قوله تعالى: «و أرسلناك للناس رسولا»، أي لا سمة لك من عندنا إلا أنك رسول وظيفتك البلاغ، و شأنك الرسالة لا شأن لك سواها و ليس لك من الأمر شيء حتى تؤثر في ميمنة أو مشأمة، أو تجر إلى الناس السيئات، و تدفع عنهم الحسنات، و فيه رد تعريضي لقول أولئك المتطيرين في السيئات «هذه من عندك» تشؤما به (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أيد ذلك بقوله «و كفى بالله شهيدا». قوله تعالى: «من يطع الرسول فقد أطاع الله»، استئناف فيه تأكيد و تثبيت لقوله في الآية السابقة «و أرسلناك للناس رسولا»، و بمنزلة التعليل لحكمه أي ما أنت إلا رسولا منا من يطعك بما أنت رسول فقد أطاع الله، و من تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا.
و من هنا يظهر أن قوله «من يطع الرسول»، من قبيل وضع الصفة موضع الموصوف للإشعار بعلة الحكم نظير ما تقدم في قوله «و الآخرة خير لمن اتقى و لا تظلمون فتيلا» و على هذا فالسياق جار على استقامته من غير التفات من الخطاب في قوله «و أرسلناك»، إلى الغيبة في قوله «من يطع الرسول»، ثم إلى الخطاب في قوله «فما أرسلناك».
كلام في استناد الحسنات و السيئات إليه تعالى
يشبه أن يكون الإنسان أول ما تنبه على معنى الحسن تنبه عليه من مشاهدة الجمال في أبناء نوعه الذي هو اعتدال الخلقة، و تناسب نسب الأعضاء و خاصة في الوجه ثم في سائر الأمور المحسوسة من الطبيعيات و يرجع بالآخرة إلى موافقة الشيء لما يقصد من نوعه طبعا.
فحسن وجه الإنسان كون كل من العين و الحاجب و الأذن و الأنف و الفم و غيرها على حال أو صفة ينبغي أن يركب في نفسه عليها، و كذا نسبة بعضها إلى بعض، و حينئذ تنجذب النفس و يميل الطبع إليه، و يسمى كون الشيء على خلاف هذا الوصف بالسوء و المساءة و القبح على اختلاف الاعتبارات الملحوظة فالمساءة معنى عدمي كما أن الحسن معنى وجودي.
ثم عمم ذلك إلى الأفعال و المعاني الاعتبارية و العناوين المقصودة في ظرف الاجتماع من حيث ملاءمتها لغرض الاجتماع و هو سعادة الحياة الإنسانية أو التمتع من الحياة، و عدم ملاءمتها فالعدل حسن، و الإحسان إلى مستحقه حسن، و التعليم و التربية و النصح و ما أشبه ذلك في مواردها حسنات، و الظلم و العدوان و ما أشبه ذلك سيئات قبيحة لملاءمة القبيل الأول لسعادة الإنسان أو لتمتعه التام في ظرف اجتماعه و عدم ملاءمة القبيل الثاني لذلك، و هذا القسم من الحسن و ما يقابله تابع للفعل الذي يتصف به من حيث ملاءمته لغرض الاجتماع فمن الأفعال ما حسنه دائمي ثابت إذا كان ملاءمته لغاية الاجتماع و غرضه كذلك كالعدل، و منها ما قبحه كذلك كالظلم.
و من الأفعال ما يختلف حاله بحسب الأحوال و الأوقات و الأمكنة أو المجتمعات فالضحك و الدعابة حسن عند الخلان لا عند الأعاظم، و في محافل السرور دون المأتم، و دون المساجد و المعابد، و الزنا و شرب الخمر حسن عند الغربيين دون المسلمين.
و لا تصغ إلى قول من يقول: إن الحسن و القبح مختلفان متغيران مطلقا من غير ثبات و لا دوام و لا كلية، و يستدل على ذلك في مثل العدل و الظلم بأن ما هو عدل عند أمة بإجراء أمور من مقررات اجتماعية غير ما هو عدل عند أمة أخرى بإنفاذ مقررات أخرى اجتماعية فلا يستقر معنى العدل على شيء معين فالجلد للزاني عدل في الإسلام و ليس كذلك عند الغربيين، و هكذا.
و ذلك أن هؤلاء قد اختلط عليهم الأمر، و اشتبه المفهوم عندهم بالمصداق، و لا كلام لنا مع من هذا مبلغ فهمه.
و الإنسان على حسب تحول العوامل المؤثرة في الاجتماعات يرضى بتغيير جميع أحكامه الاجتماعية دفعة أو تدريجا و لا يرضى قط بأن يسلب عنه وصف العدل، و يسمى ظالما، و لا بأن يجد ظلما لظالم إلا مع الاعتذار عنه، و للكلام ذيل طويل يخرجنا الاشتغال به عن ما هو أهم منه.
ثم عمم معنى الحسن و القبح لسائر الحوادث الخارجية التي تستقبل الإنسان مدى حياته على حسب تأثير مختلف العوامل و هي الحوادث الفردية أو الاجتماعية التي منها ما يوافق آمال الإنسان، و يلائم سعادته في حياته الفردية أو الاجتماعية من عافية أو صحة أو رخاء، و تسمى حسنات، و منها ما ينافي ذلك كالبلايا و المحن من فقر أو مرض أو ذلة أو إسارة و نحو ذلك، و تسمى سيئات.
فقد ظهر مما تقدم أن الحسنة و السيئة يتصف بهما الأمور أو الأفعال من جهة إضافتها إلى كمال نوع أو سعادة فرد أو غير ذلك فالحسن و القبح وصفان إضافيان، و إن كانت الإضافة في بعض الموارد ثابتة لازمة، و في بعضها متغيرة كبذل المال الذي هو حسن بالنسبة إلى مستحقه و سيىء بالنسبة إلى غير المستحق.
و أن الحسن أمر ثبوتي دائما و المساءة و القبح معنى عدمي و هو فقدان الأمر صفة الملاءمة و الموافقة المذكورة، و إلا فمتن الشيء أو الفعل مع قطع النظر عن الموافقة و عدم الموافقة المذكورين واحد من غير تفاوت فيه أصلا.
فالزلزلة و السيل الهادم إذا حلا ساحة قوم كانا نعمتين حسنتين لأعدائهم و هما نازلتان سيئتان عليهم أنفسهم، و كل بلاء عام في نظر الدين سراء إذا نزل بالكفار المفسدين في الأرض أو الفجار العتاة، و هو بعينه ضراء إذا نزل بالأمة المؤمنة الصالحة.
و أكل الطعام حسن مباح إذا كان من مال آكله مثلا، و هو بعينه سيئة محرمة إذا كان من مال الغير من غير رضا منه لفقدانه امتثال النهي الوارد عن أكل مال الغير بغير رضاه، أو امتثال الأمر الوارد بالاقتصار على ما أحل الله، و المباشرة بين الرجل و المرأة حسنة مباحة إذا كان عن ازدواج مثلا، و سيئة محرمة إذا كان سفاحا من غير نكاح لفقدانه موافقة التكليف الإلهي فالحسنات عناوين وجودية في الأمور و الأفعال، و السيئات عناوين عدمية فيهما، و متن الشيء المتصف بالحسن و السوء واحد.
و الذي يراه القرآن الشريف أن كل ما يقع عليه اسم الشيء ما خلا الله - عز اسمه - مخلوق لله قال تعالى: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62 و قال تعالى: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان: 2. و الآيتان تثبتان الخلقة في كل شيء، ثم قال تعالى: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة: 7 فأثبت الحسن لكل مخلوق، و هو حسن لازم للخلقة غير منفك عنها يدور مدارها.
فكل شيء له حظ من الحسن على قدر حظه من الخلقة و الوجود، و التأمل في معنى الحسن على ما تقدم يوضح ذلك مزيد إيضاح فإن الحسن موافقة الشيء و ملاءمته للغرض المطلوب و الغاية المقصودة منه، و أجزاء الوجود و أبعاض هذا النظام الكوني متلائمة متوافقة، و حاشا رب العالمين أن يخلق ما تتنافى أجزاؤه، و يبطل بعضه بعضا فيخل بالغرض المطلوب، أو يعجزه تعالى أو يبطل ما أراده من هذا النظام العجيب الذي يبهت العقل و يحير الفكرة.
و قد قال تعالى: «هو الله الواحد القهار»: الزمر: 4 و قال تعالى: «و هو القاهر فوق عباده»: الأنعام: - 18 و قال تعالى «و ما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات و لا في الأرض إنه كان عليما قديرا»: فاطر: 44 فهو تعالى لا يقهره شيء و لا يعجزه شيء في ما يريده من خلقه و يشاؤه في عباده.
فكل نعمة حسنة في الوجود منسوبة إليه تعالى، و كذلك كل نازلة سيئة إلا أنها في نفسها أي بحسب أصل النسبة الدائرة بين موجودات المخلوقة منسوبة إليه تعالى و إن كانت بحسب نسبة أخرى سيئة، و هذا هو الذي يفيده قوله تعالى: «و إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله و إن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا»: النساء: - 78 و قوله فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه و إن تصبهم سيئة يطيروا بموسى و من معه ألا إنما طائرهم عند الله و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الأعراف: 131 إلى غير ذلك من الآيات.
و أما جهة السيئة فالقرآن الكريم يسندها في الإنسان إلى نفس الإنسان بقوله تعالى في هذه السورة: «ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك:» الآية النساء: 79 و قوله تعالى «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: الشورى: 30 و قوله تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»:» الرعد: 11، و قوله تعالى «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»: الأنفال: 53 و غيرها من الآيات.
و توضيح ذلك أن الآيات السابقة كما عرفت تجعل هذه النوازل السيئة كالحسنات أمورا حسنة في خلقتها فلا يبقى لكونها سيئة إلا أنها لا تلائم طباع بعض الأشياء التي تتضرر بها فيرجع الأمر بالآخرة إلى أن الله لم يجد لهذه الأشياء المبتلاة المتضررة بما تطلبه و تشتاق إليه بحسب طباعها، فإمساك الجود هذا هو الذي يعد بلية سيئة بالنسبة إلى هذه الأشياء المتضررة كما يوضحه كل الإيضاح قوله تعالى: «ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده و هو العزيز الحكيم»: فاطر: 2.
ثم بين تعالى أن إمساك الجود عما أمسك عنه أو الزيادة و النقيصة في إفاضة رحمته إنما يتبع أو يوافق مقدار ما يسعه ظرفه، و ما يمكنه أن يستوفيه من ذلك، قال تعالى فيما ضربه من المثل: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها»: الرعد: 17 و قال: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21 فهو تعالى إنما يعطي على قدر ما يستحقه الشيء و على ما يعلم من حاله، قال: «ألا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير»: الملك: 14.
و من المعلوم أن النعمة و النقمة و البلاء و الرخاء بالنسبة إلى كل شيء ما يناسب خصوص حاله كما يبينه قوله تعالى: «و لكل وجهة هو موليها»: البقرة: 148 فإنما يولي كل شيء و يطلب وجهته الخاصة به و غايته التي تناسب حاله.
و من هنا يمكنك أن تحدس أن السراء و الضراء و النعمة و البلاء بالنسبة إلى هذا الإنسان الذي يعيش في ظرف الاختيار في تعليم القرآن أمور مرتبطة باختياره فإنه واقع في صراط ينتهي به بحسن السلوك و عدمه إلى سعادته و شقائه كل ذلك من سنخ ما لاختياره فيه مدخل.
و القرآن الكريم يصدق هذا الحدس، قال تعالى: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»: الأنفال: 53 فلما في أنفسهم من النيات الطاهرة و الأعمال الصالحة دخل في النعمة التي خصوا بها فإذا غيروا غير الله بإمساك رحمته و قال: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: الشورى -: 30 فلأعمالهم تأثير في ما ينزل بهم من النوازل و يصيبهم من المصائب، و الله يعفو عن كثير منها.
و قال تعالى: «ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك»: الآية النساء: 79.
و إياك أن تظن أن الله سبحانه حين أوحى هذه الآية إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) نسي الحقيقة الباهرة التي أبانها بقوله: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62 و قوله: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: السجدة: 7 فعد كل شيء مخلوقا لنفسه حسنا في نفسه و قد قال: «و ما كان ربك نسيا»: مريم: 64 و قال: «لا يضل ربي و لا ينسى»: طه: 52 فمعنى قوله «ما أصابك من حسنة» الآية أن ما أصابك من حسنة - و كل ما أصابك حسنة - فمن الله، و ما أصابك من سيئة فهي سيئة بالنسبة إليك حيث لا يلائم ما تقصده و تشتهيه و إن كانت في نفسها حسنة فإنما جرتها إليك نفسك باختيارها السيىء، و استدعتها كذلك من الله فالله أجل من أن يبدأك بشر أو ضر.
و الآية كما تقدم و إن كانت خصت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالخطاب لكن المعنى عام للجميع، و بعبارة أخرى هذه الآية كالآيتين الأخريين «ذلك بأن الله لم يك مغيرا» الآية «و ما أصابكم من مصيبة» الآية متكفلة للخطاب الاجتماعي كتكفلها للخطاب الفردي.
فإن للمجتمع الإنساني كينونة إنسانية و إرادة و اختيارا غير ما للفرد من ذلك.
فالمجتمع ذو كينونة يستهلك فيها الماضون و الغابرون من أفراده، و يؤاخذ متأخروهم بسيئات المتقدمين، و الأموات بسيئات الأحياء، و الفرد غير المقدم بذنب المقترفين للذنوب و هكذا، و ليس يصح ذلك في الفرد بحسب حكمه في نفسه أبدا، و قد تقدم شطر من هذا الكلام في بحث أحكام الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصيب في غزوة أحد في وجهه و ثناياه، و أصيب المسلمون بما أصيبوا، و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي معصوم إن أسند ما أصيب به إلى مجتمعه و قد خالفوا أمر الله و رسوله كان ذلك مصيبة سيئة أصابته بما كسبت أيدي مجتمعة و هو فيهم، و إن أسند إلى شخصه الشريف كان ذلك محنة إلهية أصابته في سبيل الله، و في طريق دعوته الطاهرة إلى الله على بصيرة فإنما هي نعمة رافعة للدرجات.
و كذا كل ما أصاب قوما من السيئات إنما تستند إلى أعمالهم على ما يراه القرآن و لا يرى إلا الحق، و أما ما أصابهم من الحسنات فمن الله سبحانه.
نعم هاهنا آيات أخر ربما نسبت إليهم الحسنات بعض النسبة كقوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء»: الأعراف: 96 و قوله: «و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون»: السجدة: 24 و قوله: «و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين»: الأنبياء: 86 و الآيات في هذا المعنى كثيرة جدا.
إلا إن الله سبحانه يذكر في كلامه أن شيئا من خلقه لا يقدر على شيء مما يقصده من الغاية، و لا يهتدي إلى خير إلا بإقدار الله و هدايته قال تعالى: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50 و قال تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا»: النور: 21 و يتبين بهاتين الآيتين و ما تقدم معنى آخر لكون الحسنات لله عز اسمه، و هو أن الإنسان لا يملك حسنة إلا بتمليك من الله و إيصال منه فالحسنات كلها لله و السيئات للإنسان، و به يظهر معنى قوله تعالى «ما أصابك من حسنة فمن الله و ما أصابك من سيئة فمن نفسك» الآية.
فلله سبحانه الحسنات بما أن كل حسن مخلوق له، و الخلق و الحسن لا ينفكان، و له الحسنات بما أنها خيرات، و بيده الخير لا يملكه غيره إلا بتمليكه، و لا ينسب إليه شيء من السيئات فإن السيئة من حيث إنها سيئة غير مخلوقة و شأنه الخلق، و إنما السيئة فقدان الإنسان مثلا رحمة من لدنه تعالى أمسك عنها بما قدمته أيدي الناس، و أما الحسنة و السيئة بمعنى الطاعة و المعصية فقد تقدم الكلام في نسبتهما إلى الله سبحانه في الكلام على قوله تعالى «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا»: البقرة: 26 في الجزء الأول من هذا الكتاب.
و أنت لو راجعت التفاسير في هذا المقام، وجدت من شتات القول و مختلف الآراء و الأهواء و أقسام الإشكالات ما يبهتك، و أرجو أن يكون فيما ذكرناه كفاية للمتدبر في كلامه تعالى، و عليك في هذا البحث بتفكيك جهات البحث بعضها عن بعض، و تفهم ما يتعارفه القرآن من معنى الحسنة و السيئة، و النعمة و النقمة، و الفرق بين شخصية المجتمع و الفرد حتى يتضح لك مغزى الكلام.
بحث روائي
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا» الآية: أخرج النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه من طريق عكرمة عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف و أصحابا له أتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا نبي الله كنا في عز و نحن مشركون فلما آمنا صرنا أذلة فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله إلى المدينة أمره الله بالقتال فكفوا فأنزل الله: «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم» الآية.
و فيه:، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن قتادة في الآية قال: كان أناس من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم يومئذ بمكة قبل الهجرة، يسارعون إلى القتال فقالوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ذرنا نتخذ معاول فنقاتل بها المشركين، و ذكر لنا أن عبد الرحمن بن عوف كان فيمن قال ذلك، فنهاهم نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك قال: لم أومر بذلك، فلما كانت الهجرة و أمروا بالقتل كره القوم ذلك، و صنعوا فيه ما تسمعون قال الله تعالى، «قل متاع الدنيا قليل و الآخرة خير لمن اتقى و لا تظلمون فتيلا». و في تفسير العياشي، عن صفوان بن يحيى عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: قال: الله تعالى: يا ابن آدم، بمشيتي كنت أنت الذي تشاء و تقول، و بقوتي أديت إلي فريضتي، و بنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن الله، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذاك أني أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذاك أني لا أسأل عما أفعل، و هم يسألون.
أقول و قد تقدم نقل الرواية بلفظ آخر في الجزء الأول من هذا الكتاب في ذيل قوله تعالى «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا»: البقرة: 26 و تقدم البحث عنها هناك.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: ذكر عند أبي عبد الله (عليه السلام) البلاء و ما يخص الله به المؤمن، فقال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من أشد الناس بلاء في الدنيا،؟ فقال النبيون ثم الأمثل فالأمثل، و يبتلى المؤمن بعد على قدر إيمانه و حسن أعماله،: فمن صح إيمانه و حسن عمله اشتد بلاؤه، و من سخف إيمانه و ضعف عمله قل بلاؤه. أقول: و من الروايات المشهورة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر. و فيه، أيضا بعدة طرق عنهما (عليهما السلام): أن الله عز و جل إذا أحب عبدا غثه بالبلاء غثا. 1 و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام): إنما المؤمن بمنزلة كفة الميزان، كلما زيد في إيمانه زيد في بلائه. و فيه، أيضا عن الباقر (عليه السلام) قال: إن الله عز و جل ليتعاهد المؤمن بالبلاء، كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، و يحميه الدنيا كما يحمي الطبيب المريض. و فيه، أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا حاجة لله فيمن ليس له في ماله و بدنه نصيب. و في العلل، عن علي بن الحسين عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و لو كان المؤمن على جبل، لقيض الله عز و جل له من يؤذيه ليأجره على ذلك. و في كتاب التمحيص، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا تزال الهموم و الغموم بالمؤمن حتى لا تدع له ذنبا. و عنه (عليه السلام) قال: لا يمضي على المؤمن أربعون ليلة، إلا عرض له أمر يحزنه يذكر ربه. و في النهج، قال (عليه السلام): لو أحبني جبل لتهافت و قال (عليه السلام): من أحبنا أهل البيت فليستعد للبلاء جلبابا. أقول: قال ابن أبي الحديد في شرحه، قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: لا يحبك إلا مؤمن، و لا يبغضك إلا منافق» و قد ثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن البلوى أسرع إلى المؤمن من الماء إلى الحدور» هاتان المقدمتان يلزمهما نتيجة صادقة هي أنه لو أحبه جبل لتهافت انتهى.
و اعلم أن الأخبار في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيد ما قدمناه من البيان.
و في الدر المنثور،: أخرج ابن المنذر و الخطيب عن ابن عمر، قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفر من أصحابه، فقال: يا هؤلاء أ لستم تعلمون أني رسول الله إليكم، قالوا: بلى قال: أ لستم تعلمون أن الله أنزل في كتابه، أنه من أطاعني فقد أطاع الله،؟ قالوا: بلى نشهد أنه من أطاعك فقد أطاع الله، و أن من طاعته طاعتك، قال: فإن من طاعة الله أن تطيعوني، و إن من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم، و إن صلوا قعودا فصلوا قعدوا أجمعين.
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): و إن صلوا إلخ كناية عن وجوب كمال الاتباع.
|