بيان
في الآيات موعظتهم بالإرجاع إلى آثار الأمم الماضين و قصصهم للنظر و الاعتبار فلينظروا فيها و ليعتبروا بها و يعلموا أن الله سبحانه لا تعجزه قوة الأقوياء و استكبار المستكبرين و مكر الماكرين و تذكر منها من باب الأنموذج طرفا من قصص موسى و فرعون و فيها قصة مؤمن آل فرعون.
قوله تعالى: «أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا» إلى آخر الآية الاستفهام إنكاري، و الواقي اسم فاعل من الوقاية بمعنى حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره.
و المعنى: أ و لم يسيروا هؤلاء الذين أرسلناك إليهم «في الأرض فينظروا» نظر تفكر و اعتبار «كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم» من الأمم الدارجة المكذبين لرسلهم «كانوا هم أشد منهم قوة» أي قدرة و تمكنا و سلطة «و آثارا» كالمدائن الحصينة و القلاع المنيعة و القصور العالية المشيدة «في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم» و أهلكهم بأعمالهم «و ما كان لهم من الله من واق» يقيهم و حافظ يحفظهم.
قوله تعالى: «ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات» إلخ الإشارة بذلك إلى الأخذ الإلهي، و المراد بالبينات الآيات الواضحات، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين» لعل المراد بالآيات الخوارق المعجزة التي أرسل بها كالعصا و اليد و غيرهما و بالسلطان المبين السلطة الإلهية القاهرة التي أيد بها فمنعت فرعون أن يقتله و يطفىء نوره، و قيل: المراد بالآيات الحجج و الدلالات و بالسلطان معجزاته من العصا و اليد و غيرهما، و قيل: غير ذلك.
قوله تعالى: «إلى فرعون و هامان و قارون فقالوا ساحر كذاب» فرعون جبار القبط و مليكهم، و هامان وزيره و قارون من طغاة بني إسرائيل ذو الخزائن المليئة؟ و إنما اختص الثلاثة من بين الأمتين بالذكر لكونهم أصولا ينتهي إليهم كل فساد و فتنة فيهما.
قوله تعالى: «فلما جاءهم بالحق من عندنا قالوا اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه» إلخ مقايسة بين ما جاءهم به موسى و دعاهم إليه و بين ما قابلوه به من كيدهم فقد جاءهم بالحق و كان من الواجب أن يقبلوه لأنه حق و كان ما جاء به من عند الله و كان من الواجب أن يقبلوه و لا يردوه فقابلوه بالكيد و قالوا ما قالوا لئلا يؤمن به أحد لكن الله أضل كيدهم فلم يصب المؤمنين معه.
و يشعر السياق أن من القائلين بهذا القول قارون و هو من بني إسرائيل و لا ضير فيه لأن الحكم بقتل الأبناء و استحياء النساء كان قبل الدعوة صادرا في حق بني إسرائيل عامة و هذا الحكم في حق المؤمنين منهم خاصة فلعل قارون وافقهم عليه لعداوته و بغضه موسى و المؤمنين من قومه.
و في قوله: «الذين آمنوا معه» و لم يقل: آمنوا به إشارة إلى مظاهرتهم موسى في دعوته.
قوله تعالى: «و قال فرعون ذروني أقتل موسى و ليدع ربه» إلخ «ذروني» أي اتركوني، خطاب يخاطب به ملأه، و فيه دلالة على أنه كان هناك قوم يشيرون عليه أن لا يقتل موسى و يكف عنه كما يشير إليه قوله تعالى: «قالوا أرجه و أخاه:» الشعراء: - 36.
و قوله: «و ليدع ربه» كلمة قالها كبرا و عتوا يقول: اتركوني أقتله و ليدع ربه فلينجه من يدي و ليخلصه من القتل إن قدر.
و قوله: «إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد» تعليل لما عزم عليه من القتل و قد ذكر أنه يخافه عليهم من جهة دينهم و من جهة دنياهم، أما من جهة دينهم - و هو عبادة الأصنام - فأن يبدله و يضع موضعه عبادة الله وحده، و أما من جهة دنياهم فكأن يعظم أمره و يتقوى جانبه و يكثر متبعوه فيتظاهروا بالتمرد و المخالفة فيئول الأمر إلى المشاجرة و القتال و انسلاب الأمن.
قوله تعالى: «و قال موسى إني عذت بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» مقابلة منه (عليه السلام) لتهديد فرعون إياه بالقتل و استعاذة منه بربه، و قوله: «عذت بربي و ربكم» فيه مقابلة منه أيضا لفرعون في قوله: «و ليدع ربه» حيث خص ربوبيته تعالى بموسى فأشار موسى بقوله: «عذت بربي و ربكم» إلى أنه تعالى ربهم كما هو ربه نافذ حكمه فيهم كما هو نافذ فيه فله أن يقي عائذه من شرهم و قد وقى.
و من هنا يظهر أن الخطاب في قوله: «و ربكم» لفرعون و من معه دون قومه من بني إسرائيل.
و قوله: «من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب» يشير به إلى فرعون و كل من يشاركه في صفتي التكبر و عدم الإيمان بيوم الحساب و لا يؤمن ممن اجتمعت فيه الصفتان شر أصلا.
قوله تعالى: «و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه» إلى آخر الآية.
ظاهر السياق أن «من آل فرعون» صفة رجل و «يكتم إيمانه» صفة أخرى فكان الرجل من القبط من خاصة فرعون و هم لا يعلمون بإيمانه لكتمانه إياهم ذلك تقية.
و قيل: قوله: «من آل فرعون» مفعول ثان لقوله: «يكتم» قدم عليه، و الغالب فيه و إن كان التعدي إلى المفعول الثاني بنفسه كما في قوله: «و لا يكتمون الله حديثا:» النساء: - 42 لكنه قد يتعدى إليه بمن كما صرح به في المصباح،.
و فيه أن السياق يأباه فلا نكتة ظاهرة تقتضي تقدم المفعول الثاني على الفعل من حصر و نحوه.
على أن الرجل يكرر نداء فرعون و قومه بلفظة «يا قوم» و لو لم يكن منهم لم يكن له ذلك.
و قوله: «أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله و قد جاءكم بالبينات من ربكم» إنكار لعزمهم على قتله، و في قوله: «من ربكم» دليل على أن في البينات التي جاء بها دلالة على أن الله ربهم أيضا كما اتخذه ربا فقتله قتل رجل جاء بالحق من ربهم.
و قوله: «و إن يك كاذبا فعليه كذبه» قيل: إن ذكره هذا التقدير تلطف منه لا أنه كان شاكا في صدقه.
و قوله: «و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم» فيه تنزل في المخاصمة بالاكتفاء على أيسر التقادير و أقلها كأنه يقول: و إن يك صادقا يصبكم ما وعدكم من أنواع العذاب و لا أقل من إصابة بعض ما يعدكم مع أن لازم صدقه إصابة جميع ما وعد.
و قوله: «إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب» تعليل للتقدير الثاني فقط و المعنى إن يك كاذبا كفاه كذبه و إن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم لأنكم حينئذ مسرفون متعدون طوركم كذابون في نفي ربوبية ربكم و اتخاذ أرباب من دونه و الله لا يهدي من هو مسرف كذاب، و أما على تقدير كذبه فلا ربوبية لمن اتخذه ربا حتى يهديه أو لا يهديه.
و من هنا يظهر أن ما ذكره بعضهم من كون الجملة تعليلا للتقديرين جميعا متعلقة بكلتا الجملتين غير مستقيم.
قوله تعالى: «يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا» ظهورهم غلبتهم و علوهم في الأرض، و الأرض أرض مصر، و بأس الله أخذه و عذابه و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: يا قوم لكم الملك حال كونهم غالبين عالين في أرض مصر على من دونكم من بني إسرائيل فمن ينصرنا من أخذ الله و عذابه كما يعدنا به موسى إن جاءنا؟ و قد أدخل نفسه فيهم على تقدير مجيء البأس ليكون أبلغ في النصح و أوقع في قلوبهم أنه يريد لهم من العافية ما يريده لنفسه.
قوله تعالى: «قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد» أي طريق الصواب المطابقة للواقع يريد أنه على يقين مما يهدي إليه قومه من الطريق و هي مع كونها معلومة له مطابقة للواقع، و هذا كان تمويها منه و تجلدا.
قوله تعالى: «و قال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب - إلى قوله - للعباد» المراد بالذي آمن هو مؤمن آل فرعون، و لا يعبأ بما قيل: إنه موسى لقوة كلامه، و المراد بالأحزاب الأمم المذكورون في الآية التالية قوم نوح و عاد و ثمود و الذين من بعدهم، و قوله: «مثل دأب قوم نوح» بيان للمثل السابق و الدأب هو العادة.
و المعنى: يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأقوام الماضين مثل العادة الجارية من العذاب عليهم واحدا بعد واحد لكفرهم و تكذيبهم الرسل، أو مثل جزاء عادتهم الدائمة من الكفر و التكذيب و ما الله يريد ظلما للعباد.
قوله تعالى: «و يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد - إلى قوله - من هاد» يوم التناد يوم القيامة، و لعل تسميته بذلك لكون الظالمين فيه ينادي بعضهم بعضا و ينادون بالويل و الثبور على ما اعتادوا به في الدنيا.
و قيل: المراد بالتنادي المناداة التي تقع بين أصحاب الجنة و أصحاب النار على ما ذكره الله تعالى في سورة الأعراف، و هناك وجوه أخر ذكروها لا جدوى فيها.
و قوله: «يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم» المراد به يوم القيامة و لعل المراد أنهم يفرون في النار من شدة عذابها ليتخلصوا منها فردوا إليها كما قال تعالى: «كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق:» الحج: - 22.
و قوله: «و من يضلل الله فما له من هاد» بمنزلة التعليل لقوله: «ما لكم من الله من عاصم» أي تفرون مدبرين ما لكم من عاصم و لو كان لكان من جانب الله و ليس و ذلك لأن الله أضلهم و من يضلل الله فما له من هاد.
قوله تعالى: «و لقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات» إلى آخر الآية.
لما ذكر أن الله أضلهم و لا هادي لهم استشهد له بما عاملوا به يوسف (عليه السلام) في رسالته إليهم حيث شكوا في نبوته ما دام حيا ثم إذا مات قالوا: لا نبي بعده.
فالمعنى: و أقسم لقد جاءكم يوسف من قبل بالآيات البينات التي لا تدع ريبا في رسالته من الله فما زلتم في شك مما جاءكم به ما دام حيا حتى إذا هلك و مات قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا فناقضتم أنفسكم و لم تبالوا.
ثم أكده - و هو في معنى التعليل - بقوله: «كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب».
قوله تعالى: «الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم» إلخ وصف لكل مسرف مرتاب فإن من تعدى طوره بالإعراض عن الحق و اتباع الهوى و استقر في نفسه الارتياب فكان لا يستقر على علم و لا يطمئن إلى حجة تهديه إلى الحق جادل في آيات الله بغير برهان إذا خالفت مقتضى هواه.
و قوله: «كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار» يفيد أن قلوبهم مطبوع عليها فلا يفقهون حجة و لا يركنون إلى برهان.
قوله تعالى: «و قال فرعون يا هامان ابن لي صرحا - إلى قوله - في تباب» أمر منه لوزيره هامان أن يبني له بناء يتوصل به إلى الاطلاع إلى إله موسى و لعله أصدر هذا الأمر أثناء محاجة الذي آمن و بعد الانصراف عن قتل موسى و لذلك وقع ذكره بين مواعظ الذي آمن و احتجاجاته.
و الصرح - على ما في المجمع، - البناء الظاهر الذي لا يخفى على عين الناظر و إن بعد، و الأسباب جمع سبب و هو ما تتوصل به إلى ما يبتعد عنك.
و قوله: «لعلي أبلغ الأسباب» في معنى التعليل لأمره ببناء الصرح، و المعنى آمرك ببنائه لأني أرجو أن أبلغ بالصعود عليه الأسباب ثم فسر الأسباب بقوله: «أسباب السموات» و فرع عليه قوله: «فأطلع إلى إله موسى» كأنه يقول: إن الإله الذي يدعوه و يدعو إليه موسى ليس في الأرض إذ لا إله فيها غيري فلعله في السماء فابن لي صرحا لعلي أبلغ بالصعود عليه الأسباب السماوية الكاشفة عن خبايا السماء فأطلع من جهتها إلى إله موسى و إني لأظنه كاذبا.
و قيل: إن مراده أن يبني له رصدا يرصد فيه الأوضاع السماوية لعله يعثر فيها على ما يستدل به على وجود إله موسى بعد اليأس عن الظفر عليه بالوسائل الأرضية و هو حسن، و على أي حال لا يستقيم ما ذكره على شيء من مذاهب الوثنية فلعله كان منه تمويها على الناس أو جهلا منه و ما هو من الظالمين ببعيد.
و قوله: «و كذلك زين لفرعون سوء عمله و صد عن السبيل» مفاد السياق أنه في معنى إعطاء الضابط لما واجه به فرعون الحق الذي كان يدعوه إليه موسى فقد زين الشيطان له قبيح عمله فرآه حسنا و صده عن سبيل الرشاد فرأى انصداده عنها ركوبا عليها فجادل في آيات الله بالباطل و أتى بمثل هذه الأعمال القبيحة و المكائد السفيهة لإدحاض الحق.
و لذلك ختمت الآية بقوله: «و ما كيد فرعون إلا في تباب» أي هلاك و انقطاع.
قوله تعالى: «و قال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد» يدعوهم إلى اتباعه ليهديهم، و اتباعه اتباع موسى، و سبيل الرشاد السبيل التي في سلوكها إصابة الحق و الظفر بالسعادة، و الهداية بمعنى إراءة الطريق، و في قوله: «أهدكم سبيل الرشاد» تعريض لفرعون حيث قال: «و ما أهديكم إلا سبيل الرشاد» و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع و إن الآخرة هي دار القرار» هذا هو السناد الذي يستند إليه سلوك سبيل الرشاد و التدين بدين الحق لا غنى عنه بحال و هو الاعتقاد بأن للإنسان حياة خالدة مؤبدة هي الحياة الآخرة و أن هذه الحياة الدنيا متاع في الآخرة و مقدمة مقصودة لأجلها، و لذلك بدأ به في بيان سبيل الرشاد ثم ذكر السيئة و العمل الصالح.
قوله تعالى: «من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها» إلى آخر الآية.
أي إن الذي يصيبه و يعيش به في الآخرة يشاكل ما أتى به في هذه الحياة الدنيا التي هي متاع فيها فإنما الدنيا دار عمل و الآخرة دار جزاء.
من عمل في الدنيا سيئة ذات صفة المساءة فلا يجزى في الآخرة إلا مثلها مما يسوؤه و من عمل صالحا من ذكر أو أنثى من غير فرق بينهما في ذلك و الحال أنه مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب.
و فيه إشارة إلى المساواة بين الذكر و الأنثى في قبول العمل و تقييد العمل الصالح في تأثيره بالإيمان لكون العمل حبطا بدون الإيمان قال تعالى: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله:» المائدة: - 5 إلى غيرها من الآيات.
و قد جمع الدين الحق و هو سبيل الرشاد في أوجز بيان و هو أن للإنسان دار قرار يجزى فيها بما عمل في الدنيا من عمل سيىء أو صالح فليعمل صالحا و لا يعمل سيئا، و زاد بيانا إذ أفاد أنه إن عمل صالحا يرزق بغير حساب.
قوله تعالى: «و يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة و تدعونني إلى النار - إلى قوله - العزيز الغفار» كأنه لما دعاهم إلى التوحيد قابلوه بدعوته إلى عبادة آلهتهم أو قدرها لهم لما شاهد جدالهم بالباطل و إصرارهم على الشرك فنسب إليهم الدعوة بشهادة حالهم فأظهر العجب من مقابلتهم دعوته الحقة بدعوتهم الباطلة.
فقال: و يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة أي النجاة من النار و تدعونني إلى النار و قد كان يدعوهم إلى سبب النجاة و يدعونه إلى سبب دخول النار فجعل الدعوة إلى السببين دعوة إلى المسببين أو لأن الجزاء هو العمل بوجه.
ثم فسر ما دعوه إليه و ما دعاهم إليه فقال: تدعونني لأكفر أي إلى أن أكفر بالله و أشرك به ما ليس لي به علم أي أشرك به شيئا لا حجة لي على كونه شريكا فأفتري على الله بغير علم، و أنا أدعوكم إلى العزيز، الذي يغلب و لا يغلب الغفار لمن تاب إليه و آمن به أي أدعوكم إلى الإيمان به و الإسلام له.
قوله تعالى: «لا جرم إنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا و لا في الآخرة» إلخ لا جرم بمعنى حقا أو بمعنى لا بد، و مفاد الآية إقامة الحجة على عدم كون ما يدعون إليه إلها من طريق عدم الدعوة إليه و في ذلك تأييد لقوله في الآية السابقة «ما ليس لي به علم».
و المعنى: ثبت ثبوتا أن ما تدعونني إليه مما تسمونه شريكا له سبحانه ليس له دعوة في الدنيا إذ لم يعهد نبي أرسل إلى الناس من ناحيته ليدعوهم إلى عبادته، و لا في الآخرة إذ لا رجوع إليه فيها من أحد، و أما الذي أدعوكم إليه و هو الله سبحانه فإن له دعوة في الدنيا و هي التي تصداها أنبياؤه و رسله المبعوثون من عنده المؤيدون بالحجج و البينات، و في الآخرة و هي التي يتبعها رجوع الخلق إليه لفصل القضاء بينهم، قال تعالى: «يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده:» إسراء: - 52.
و من المعلوم كما قررناه في ذيل قوله تعالى: «هو الذي يريكم آياته» الآية: - 13 من السورة أن الربوبية لا تتم بدون دعوة في الدنيا و نظيرتها الدعوة في الآخرة، و إذ كان الذي يدعوهم إليه ذا دعوة في الدنيا و الآخرة دون ما يدعونه إليه فهو الإله دون ما يدعون إليه.
و قوله: «و أن مردنا إلى الله و أن المسرفين هم أصحاب النار» معطوف على قوله: «إنما تدعونني» أي لا جرم أن مردنا إلى الله فيجب الإسلام له و اتباع سبيله و رعاية حدود العبودية، و لا جرم أن المسرفين و هم المتعدون طور العبودية - و هم أنتم - أصحاب النار فالذي أدعوكم إليه فيه النجاة دون ما تدعونني إليه.
قوله تعالى: «فستذكرون ما أقول لكم و أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد» صدر الآية موعظة و تخويف لهم و هو تفريع على قوله: «و أن مردنا إلى الله» إلخ أي إذ كان لا بد من الرجوع إلى الله و حلول العذاب بالمسرفين و أنتم منهم و لم تسمعوا اليوم ما أقول لكم فستذكرون ما أقول لكم حين عاينتم العذاب و تعلمون عند ذاك أني كنت ناصحا لكم.
و قوله: «و أفوض أمري إلى الله» التفويض على ما فسره الراغب هو الرد فتفويض الأمر إلى الله رده إليه فيقرب من معنى التوكل و التسليم و الاعتبار مختلف: فالتفويض من العبد رده ما نسب إليه من الأمر إلى الله سبحانه و حال العبد حينئذ حال من هو أعزل لا أمر راجعا إليه، و التوكل من العبد جعله ربه وكيلا يتصرف فيما له من الأمر، و التسليم من العبد مطاوعته المحضة لما يريده الله سبحانه فيه و منه من غير نظر إلى انتساب أمر إليه فهي مقامات ثلاث من مقامات العبودية: التوكل ثم التفويض و هو أدق من التوكل ثم التسليم و هو أدق منهما.
و قوله: «إن الله بصير بالعباد» تعليل لتفويضه أمره إلى الله، و في وضع اسم الجلالة موضع ضميره - و كان مقتضى الظاهر الإضمار إشارة إلى علة بصيرته بالعباد كأنه قيل: إنه بصير بالعباد لأنه الله عز اسمه.
قوله تعالى: «فوقاه الله سيئات ما مكروا» تفريع على تفويضه الأمر إلى الله فكفاه الله شرهم و وقاه سيئات مكرهم، و فيه إشارة إلى أنهم قصدوه بالسوء لكن الله دفعهم عنه.
قوله تعالى: «و حاق بآل فرعون سوء العذاب - إلى قوله - أشد العذاب» أي نزل بهم و أصابهم العذاب السيىء فسوء العذاب من إضافة الصفة إلى موصوفها و في التوصيف بالمصدر مبالغة، و آل فرعون أشياعه و أتباعه، و ربما يقال آل فلان و يشمل نفسه.
و قوله: «النار يعرضون عليها غدوا و عشيا و يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب» ظاهر السياق أنه بيان لسوء العذاب و ليس من الاستئناف في شيء.
و الآية صريحة أولا في أن هناك عرضا على النار ثم إدخالا فيها و الإدخال أشد من العرض، و ثانيا: في أن العرض على النار قبل قيام الساعة التي فيها الإدخال و هو عذاب البرزخ - عالم متوسط بين الموت و البعث - و ثالثا: أن التعذيب في البرزخ و يوم تقوم الساعة بشيء واحد و هو نار الآخرة لكن البرزخيين يعذبون بها من بعيد و أهل الآخرة بدخولها.
و في قوله: «غدوا و عشيا» إشارة إلى التوالي من غير انقطاع، و لعل لأهل البرزخ لعدم انقطاعهم عن الدنيا بالكلية نسبة ما إلى الغداة و العشي.
و في قوله: «و يوم تقوم الساعة أدخلوا» إيجاز بالحذف و التقدير يقال: أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.
قوله تعالى: «و إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا - إلى قوله - بين العباد» يفيد السياق أن الضمير في «يتحاجون» لآل فرعون و من الدليل على ذلك تغيير السياق في قوله بعد: «و قال الذين في النار» و المعنى و حاق بآل فرعون سوء العذاب إذ يتحاجون في النار أو و اذكر من سوء عذابهم إذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء منهم للذين استكبروا إنا كنا في الدنيا لكم تبعا و كان لازم ذلك أن تكفونا في الحوائج و تنصرونا في الشدائد و لا شدة أشد مما نحن فيه فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار و إن لم يكن جميع عذابها فقد قنعنا بالبعض.
و هذا ظهور مما رسخ في نفوسهم في الدنيا من الالتجاء بكبريائهم و متبوعيهم من دون الله يظهر منهم ذلك يوم القيامة و هم يعلمون أنهم في يوم لا تغني فيه نفس عن نفس شيئا و الأمر يومئذ لله و له نظائر محكية عنهم في كلامه تعالى من كذبهم يومئذ و خلفهم و إنكارهم أعمالهم و تكذيب بعضهم لبعض و غير ذلك.
و قوله: «قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد» جواب من مستكبريهم عن قولهم و محصله أن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل فالأسباب ساقطة عن التأثير و قد طاحت منا ما كنا نتوهمه لأنفسنا في الدنيا من القوة و القدرة فحالنا و حالكم - و نحن جميعا في النار - واحدة.
فقولهم: «إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد» مفاده أن ظهور الحكم الإلهي قد أبطل أحكام سائر الأسباب و تأثيراتها و أثبتنا على ما نحن فيه من الحال في حد سواء فلسنا نختص دونكم بقوة حتى نغني عنكم شيئا من العذاب.
و مما قيل في الآية أن الضمير في قوله «يتحاجون» لمطلق الكفار من أهل النار و هو بعيد كما عرفت، و قيل: الضمير لقريش و هو أبعد.
قوله تعالى: «و قال الذين في النار لخزنة جهنم ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب» مكالمة بين أهل النار - و منهم آل فرعون - و بين خزنة جهنم أوردها سبحانه تلو قصة آل فرعون، و هم إنما سألوا الخزنة أن يدعوا لهم ليأسهم من أن يستجاب منهم أنفسهم.
و المراد باليوم من العذاب ما يناسب من معنى اليوم لعالمهم الذي هم فيه، و يؤول معناه إلى قطعة من العذاب.
قوله تعالى: «قالوا أ و لم تك تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى قالوا فادعوا و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال» أجابوهم بالاستخبار عن إتيان رسلهم إياهم بالبينات فاعترفوا بذلك و هو اعتراف منهم بأنهم كفروا بهم مع العلم بكونهم على الحق و هو الكفر بالنبوة فلم يجبهم الخزنة فيما سألوهم من الدعاء إثباتا و لا نفيا بل ردوهم إلى أنفسهم مشيرين إلى أنهم لا يستجاب لهم دعاء.
و قوله: «و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال» أي إن دعاءهم قد أحاط به الضلال فلا يهتدي إلى هدف الإجابة و هو تتمة كلام الخزنة على ما يعطيه السياق، و يحتمل أن يكون من كلامه تعالى، على بعد.
و الجملة على أي حال تفيد معنى التعليل و المحصل: ادعوا فلا يستجاب لكم فإنكم كافرون، و الكافرون لا يستجاب لهم دعاء.
و تعليق حكم عدم الاستجابة بوصف الكفر مشعر بعليته و ذلك أن الله سبحانه و إن وعد عباده وعدا قطعيا أن يجيب دعوة من دعاه منهم فقال: «أجيب دعوة الداع إذا دعان:» البقرة - 186، و الدعاء إذا كان واقعا على حقيقته لا يرد البتة لكن الذي يتضمنه متن هذا الوعد هو أن يكون هناك دعاء و طلب حقيقة و أن يتعلق ذلك بالله حقيقة أي يدعو الداعي و يطلب جدا و ينقطع في ذلك إلى الله عن سائر الأسباب التي يسميها أسبابا.
و الكافر بعذاب الآخرة و هو الذي ينكرها و يستر حقيقتها لا يتمشى منه طلب جدي لرفعه أما في الدنيا فظاهر، و أما في الآخرة فلأنه و إن أيقن به بالمعاينة و انقطع إلى الله سبحانه لما هو فيه من الشدة و قد انقطعت عنه الأسباب لكن صفة الإنكار لزمته وبالا و قد جوزي بها فلا تدعه يطلب ما كان ينكره طلبا جديا.
على أن الكلام في انقطاعه إلى الله أيضا كالكلام في طلبه الجدي للتخلص و أنى له الانقطاع إلى الله هناك و لم يتلبس به في الدنيا فافهمه.
و بذلك يظهر ضعف الاستدلال بالآية على أن دعاء الكافر لا يستجاب مطلقا فإنك عرفت أن مدلول الآية عدم استجابة دعائه في ما يكفر به و ينكره لا مطلقا كيف؟ و هناك آيات كثيرة تذكر استجابة دعائه في موارد الاضطرار.
قوله تعالى: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد» الأشهاد جمع شهيد بمعنى شاهد، و الآية وعد نوعي لا وعد شخصي لكل واحد شخصي منهم في كل واقعة شخصية، و قد تقدم كلام في معنى النصر الإلهي في تفسير قوله تعالى: «إنهم لهم المنصورون:» الصافات: - 172.
قوله تعالى: «يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم و لهم اللعنة و لهم سوء الدار» تفسير ليوم يقوم الأشهاد، و ظاهر إضافة المصدر إلى فاعله في قوله «معذرتهم» و لم يقل: إن يعتذروا، تحقق معذرة ما منهم يومئذ، و أما قوله: «هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون:» المرسلات: - 36 فمحمول على بعض مراحل يوم القيامة و عقباته لدلالة آيات أخرى على وقوع تكلم ما منهم يومئذ.
و قوله: «و لهم اللعنة» أي البعد من رحمة الله، و قوله «لهم سوء الدار» أي الدار السيئة و هي جهنم.
قوله تعالى: «و لقد آتينا موسى الهدى و أورثنا بني إسرائيل الكتاب - إلى قوله - الألباب» خاتمة لما تقدم من إرسال موسى بالآيات و السلطان المبين و مجادلة آل فرعون في الآيات بالباطل و محاجة مؤمن آل فرعون، يشير بها و قد صدرت بلام القسم إلى حقية ما أرسل به و ظلمهم في ما قابلوه به.
و المراد بالهدى الدين الذي أوتيه موسى، و بإيراث بني إسرائيل الكتاب» إبقاء التوراة بينهم يعملون بها و يهتدون.
و قوله: «هدى و ذكرى لأولي الألباب» أي حال كون الكتاب هدى يهتدي به عامتهم و ذكرى يتذكر به خاصتهم من أولي الألباب.
بحث روائي
في العلل، بإسناده عن إسماعيل بن منصور أبي زياد عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول فرعون: «ذروني أقتل موسى» ما كان يمنعه؟ قال: منعته رشدته، و لا يقتل الأنبياء و لا أولاد الأنبياء إلا أولاد الزنا.
و في المجمع، قال أبو عبد الله: التقية ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقية له، و التقية ترس الله في الأرض لأن مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل.
أقول: و الروايات من طرق الشيعة فيها كثيرة و الآيات تؤيدها كقوله: «إلا أن تتقوا منهم تقاة:» آل عمران: - 28 و قوله: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان:» النحل: - 106.
و في المحاسن، بإسناده عن أيوب بن الحر عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «فوقاه الله سيئات ما مكروا» قال: أما لقد سطوا عليه و قتلوه و لكن أ تدرون ما وقاه؟ وقاه أن يفتنوه في دينه.
أقول: و في معناه بعض روايات أخر و في بعض ما ورد من طرق أهل السنة أن الله نجاه من القتل.
و في الخصال، عن الصادق (عليه السلام) قال: عجبت لمن يفزع من أربع كيف لا يفزع إلى أربع؟ إلى أن قال و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: «و أفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد» فإني سمعت الله تعالى يقول بعقبها: «فوقاه الله سيئات ما مكروا».
أقول: و هو مروي في غير هذا الكتاب.
و في تفسير القمي،: قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في قول الله عز و جل: «النار يعرضون عليها غدوا و عشيا» فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما يقول الناس؟ فقال: يقولون: إنها في نار الخلد و هم لا يعذبون فيما بين ذلك فقال: فهم من السعداء. فقيل له: جعلت فداك فكيف هذا؟ فقال: إنما هذا في الدنيا فأما في دار الخلد فهو قوله: «يوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب».
أقول: مراده (عليه السلام) بالدنيا البرزخ و هو كثير الورود في رواياتهم.
و في المجمع، عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشي فإن كان من أهل الجنة فمن الجنة، و إن كان من أهل النار فمن النار يقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة: أورده البخاري و مسلم في الصحيح،. أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور، عنهما و عن ابن أبي شيبة و ابن مردويه.
و هذا المعنى كثير الورود في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد مر كثير منها في البحث عن البرزخ في الجزء الأول من الكتاب و غيره من المواضع.
|