بيان
رجوع بعد رجوع إلى ذكر بعض آيات التوحيد و إرجاع لهم إلى الاعتبار بحال الأمم الدارجة الهالكة و سنة الله الجارية فيهم بإرسال رسله إليهم ثم القضاء بين رسلهم و بينهم المؤدي إلى خسران الكافرين منهم، و عند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا منها و منها تأكلون» ذكر سبحانه مما ينتفع به الإنسان في حياته و يدبر به أمره الأنعام و المراد بها الإبل و البقر و الغنم، و قيل: المراد بها هاهنا الإبل خاصة.
فقوله: «جعل لكم الأنعام لتركبوا منها و منها تأكلون» الجعل هنا الخلق أو التسخير، و اللام في «لتركبوا» للغرض و «من» للتبعيض، و المعنى خلق لأجلكم أو سخر لكم الأنعام و الغرض من هذا الجعل أن تركبوا بعضها كبعض الإبل و بعضها كبعض الإبل و البقر و الغنم تأكلون.
قوله تعالى: «و لكم فيها منافع» إلخ كانتفاعكم بألبانها و أصوافها و أوبارها و أشعارها و جلودها و غير ذلك، و قوله: «و لتبلغوا عليها حاجة في صدوركم» أي و من الغرض من جعلها أن تبلغوا، حال كونكم عليها بالركوب، حاجة في صدوركم و هي الانتقال من مكان إلى مكان لأغراض مختلفة.
و قوله: «و عليها و على الفلك تحملون» كناية عن قطع البر و البحر بالأنعام و الفلك.
قوله تعالى: «و يريكم آياته فأي آيات الله تنكرون» تقدم معنى إراءته تعالى آياته في تفسير أوائل السورة، و كأن الجملة أعني قوله: «و يريكم آياته» غير مقصودة لنفسها حتى يلزم التكرار و إنما هي تمهيد و توطئة للتوبيخ الذي في قوله: «فأي آيات الله تنكرون» أي أي هذه الآيات التي يريكم الله إياها عيانا و بيانا، تنكرون إنكارا يمهد لكم الإعراض عن توحيده.
قوله تعالى: «أ فلم يسيروا في الأرض فينظروا» إلى آخر الآية توبيخ لهم و عطف لأنظارهم إلى ما جرى من سنة القضاء و الحكم في الأمم السالفة، و قد تقدمت نظيرة الآية في أوائل السورة و كان الغرض هناك أن يتبين لهم أن الله أخذ كلا منهم بذنوبهم لما كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فيكفرون بهم و لذا ذيل الآية بقوله: «فأخذهم الله بذنوبهم»، و الغرض هاهنا أن يتبين لهم أنهم لم يغنهم ما كسبوا و لم ينفعهم في دفع عذاب الله ما فرحوا به من العلم الذي عندهم و لا توبتهم و ندامتهم مما عملوا.
و قد صدرت الآية بفاء التفريع فقيل: «أ فلم يسيروا» إلخ مع الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، و كأن الكلام تفريع على قوله: «فأي آيات الله تنكرون» فكأنه لما ذمهم و أنكر إنكارهم لآياته رجع و انصرف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مشيرا إلى سقوطه من منزلة الخطاب و قال: إذا كانت آياته تعالى ظاهرة بينة لا تقبل الإنكار و من جملتها ما في آثار الماضين من الآيات الناطقة و هم قد ساروا في الأرض و شاهدوها فلم لم ينظروا فيها فيتبين لهم أن الماضين مع كونهم أقوى من هؤلاء كما و كيفا لم ينفعهم ما فرحوا به من علم و قوة.
قوله تعالى: «فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم» إلخ ضمائر الجمع في الآية - و هي سبع - للذين من قبلهم، و المراد بما عندهم من العلم ما وقع في قلوبهم و شغل نفوسهم من زينة الحياة الدنيا و فنون التدبير للظفر بها و بلوغ لذائذها و قد عد الله سبحانه ذلك علما لهم و قصر علمهم فيه، قال تعالى: «يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا و هم عن الآخرة هم غافلون:» الروم: - 7، و قال: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم:» النجم: - 30.
و المراد بفرحهم بما عندهم من العلم شدة إعجابهم بما كسبوه من الخبرة و العلم الظاهري و انجذابهم إليه الموجب لإعراضهم عن المعارف الحقيقية التي جاءت بها رسلهم، و استهانتهم بها و سخريتهم لها، و لذا عقب فرحهم بما عندهم من العلم بقوله: «و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون».
و في معنى قوله: «فرحوا بما عندهم من العلم» أقوال أخر: منها: أن المراد بما عندهم من العلم عقائدهم الفاسدة و آراؤهم الباطلة و تسميتها علما للتهكم فهم كانوا يفرحون بها و يستحقرون لذلك علم الرسل، و أنت خبير بأنه تصوير من غير دليل.
و منها: أن المراد بالعلم هو علوم الفلاسفة من اليونان و الدهريين فكانوا إذا سمعوا بالوحي و معارف النبوة صغروا علم الأنبياء و تبجحوا بما عندهم، و هو كسابقه على أنه لا ينطبق على أحد من الأمم التي قص القرآن قصتهم كقوم نوح و عاد و ثمود و قوم إبراهيم و قوم لوط و قوم شعيب و غيرهم.
و منها: أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضع موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم بدل الجهل علما تهكما فقيل: فرحوا بما عندهم من العلم، و هذا الوجه - على ما فيه من التكلف و البعد من الفهم - يرد عليه ما يرد على الأول.
و منها: أن ضمير فرحوا للكفار و ضمير «عندهم» للرسل، و المعنى فرح الكفار بما عند الرسل من العلم فرح ضحك و استهزاء و فيه أن لازمه اختلاف الضمائر المتسقة مضافا إلى أن الضحك و الاستهزاء لا يسمى فرحا و لا قرينة.
و منها: أن ضميري «فرحوا بما عندهم» للرسل، و المعنى أن الرسل لما جاءوهم و شاهدوا ما هم فيه من الجهل و التمادي على الكفر و الجحود و علموا عاقبة أمرهم فرحوا بما عندهم من العلم الحق و شكروا الله على ذلك.
و فيه أن سياق الآيات أصدق شاهد على أنها سيقت لبيان حال الكفار بعد إتيان رسلهم بالبينات و كيف آلت إلى نزول العذاب و لم ينفعهم الإيمان بعد مشاهدة البأس؟ و أي ارتباط له بفرح الرسل بعلومهم الحقة؟ على أن لازمه أيضا اختلاف الضمائر.
قوله تعالى: «فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده و كفرنا بما كنا به مشركين» البأس شدة العذاب، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا» إلخ و ذلك لعدم استناد الإيمان حينئذ إلى الاختيار، و قوله: «سنة الله التي قد خلت في عباده» أي سنها الله سنة ماضية في عباده أن لا تقبل توبة بعد رؤية البأس «و خسر هنالك الكافرون».
|