بيان
يدور الكلام في السورة حول كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منذرا بالذكر النازل عليه من عند الله سبحانه الداعي إلى التوحيد و إخلاص العبودية له تعالى.
فتبدأ بذكر اعتزاز الكفار و شقاقهم و بالجملة استكبارهم عن اتباعه و الإيمان به و صد الناس عنه و تفوههم بباطل القول في ذلك و رده في فصل.
ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و ذكر قصص عباده الأولين في فصل ثم يذكر مآل حال المتقين و الطاغين في فصل.
ثم تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإبلاغ نذارته و دعوته إلى توحيد الله و أن مآل أتباع الشيطان إلى النار على ما قضى به الله يوم أمر الملائكة بالسجدة لآدم فأبى إبليس فرجمه و قضى عليه و على من تبعه النار في فصل.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «(صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة و شقاق» المراد بالذكر ذكر الله تعالى بتوحيده و ما يتفرع عليه من المعارف الحقة من المعاد و النبوة و غيرهما، و العزة الامتناع، و الشقاق المخالفة، قال في مجمع البيان،: و أصله أن يصير كل من الفريقين في شق أي في جانب و منه يقال: شق فلان العصا إذا خالف انتهى.
و المستفاد من سياق الآيات أن قوله: «و القرآن ذي الذكر» قسم نظير ما في قوله: «يس و القرآن الحكيم» «ق و القرآن المجيد» «ن و القلم» لا عطف على ما تقدمه، و أما المقسم عليه فالذي يدل عليه الإضراب في قوله: «بل الذين كفروا في عزة و شقاق أنه أمر يمتنع عن قبوله القوم و يكفرون به عزة و شقاقا و قد هلك فيه قرون كثيرة ثم ذكر إنذار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما قاله الكفار عليه و ما أمرهم به ملؤهم حول إنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه أعني المقسم عليه نحو من قولنا: إنك لمن المنذرين، و يشهد على ذلك أيضا التعرض في السورة بإنذاره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالذكر مرة بعد أخرى.
و قد قيل في قوله: «(صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن ذي الذكر» من حيث الإعراب و المعنى وجوه كثيرة لا محصل لأكثرها تركنا إيرادها لعدم الجدوى.
و المعنى - و الله أعلم - أقسم بالقرآن المتضمن للذكر - إنك لمن المنذرين - بل الذين كفروا في امتناع عن قبوله و اتباعه و مخالفة له.
قوله تعالى: «كم أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا و لات حين مناص» القرن أهل عصر واحد، و المناص بالنون مصدر ناص ينوص أي تأخر كما أنه بالباء الموحدة بمعنى التقدم على ما في المجمع، و قيل: هو بمعنى الفرار.
و المعنى: كثيرا ما أهلكنا من قبل هؤلاء الكفار من قرن و أمة بتكذيبهم الرسل المنذرين فنادوا عند نزول العذاب بالويل كقولهم: يا ويلنا إنا كنا ظالمين أو بالاستغاثة بالله سبحانه و ليس الحين حين تأخر الأخذ و العذاب أو ليس الحين حين فرار.
قوله تعالى: «و عجبوا أن جاءهم منذر منهم و قال الكافرون هذا ساحر كذاب» أي تعجبوا من مجيء منذر من نوعهم بأن كان بشرا فإن الوثنية تنكر رسالة البشر.
و قوله: «و قال الكافرون هذا ساحر كذاب» يشيرون بهذا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يرمونه بالسحر لكونهم عاجزين عن الإتيان بمثل ما أتى به و هو القرآن، و بالكذب لزعمهم أنه يفتري على الله بنسبة القرآن و ما فيه من المعارف الحقة إليه تعالى.
قوله تعالى: «أ جعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب» العجاب بتخفيف الجيم اسم مبالغة من العجب و هو بتشديد الجيم أبلغ.
و هو من تتمة قول الكافرين و الاستفهام للتعجيب و الجعل بمعنى التصيير و هو كما قيل تصيير بحسب القول و الاعتقاد و الدعوى لا بحسب الواقع كما في قوله تعالى: «و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا:» الزخرف: - 19 فمعنى جعله (صلى الله عليه وآله وسلم) الآلهة إلها واحدا هو إبطاله ألوهية الآلهة من دون الله و حكمه بأن الإله هو الله لا إله إلا هو.
قوله تعالى: «و انطلق الملأ منهم أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد» نسبة الانطلاق إلى ملإهم و أشرافهم و قولهم ما قالوا يلوح إلى أن أشراف قريش اجتمعوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحلوا مشكلة دعوته إلى التوحيد و رفض الآلهة بنوع من الاستمالة و كلموه في ذلك فما وافقهم في شيء منه ثم انطلقوا و قال بعضهم لبعض أو قالوا لأتباعهم أن امشوا و اصبروا «إلخ» و هذا يؤيد ما ورد في أسباب النزول مما سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قوله: «أن امشوا و اصبروا على آلهتكم» بتقدير القول أي قائلين أن امشوا و اصبروا على آلهتكم و لا تتركوا عبادتها و إن عابها و قدح فيها، و ظاهر السياق أن القول قول بعضهم لبعض، و يمكن أن يكون قولهم لتبعتهم.
و قوله: «إن هذا لشيء يراد» ظاهره أنه إشارة إلى ما يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يطلبه و أن مطلوبه شيء يراد بالطبع و هو السيادة و الرئاسة و إنما جعل الدعوة ذريعة إليه فهو نظير قول الملإ من قوم نوح لعامتهم: «ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم:» المؤمنون: - 24.
و قيل: المعنى إن هذا الذي شاهدناه من إسراره (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يطلبه و تصلبه في دينه لشيء عظيم يراد من قبله.
و قيل: المعنى إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا فلا حيلة إلا أن تمشوا و تصبروا.
و قيل: المعنى إن الصبر خلق محمود يراد منا في مثل هذه الموارد، و قيل غير ذلك و هي وجوه ضعيفة لا يلائمها السياق.
قوله تعالى: «ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق» أرادوا بالملة الآخرة المذهب الذي تداوله الآخرون من الأمم المعاصرين لهم أو المقارنين لعصرهم قبال الملل الأولى التي تداولها الأولون كأنهم يقولون: ليس هذا من الملة الآخرة التي يرتضيها أهل الدنيا اليوم بل من أساطير الأولين.
و قيل: المراد بالملة الآخرة النصرانية لأنها آخر الملل و هم لا يقولون بالتوحيد بل بالتثليت.
و ضعفه ظاهر إذ لم يكن للنصرانية وقع عندهم كالإسلام.
و قوله: «إن هذا إلا اختلاق» أي كذب و افتعال.
قوله تعالى: «أ أنزل عليه الذكر من بيننا» استفهام إنكاري بداعي التكذيب أي لا مرجح عند محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يترجح به علينا فينزل عليه الذكر دوننا فهو في إنكار الاختصاص بنزول الذكر نظير قولهم: ما أنت إلا بشر مثلنا في نفي الاختصاص بالرسالة.
قوله تعالى: «بل هم في شك من ذكري بل لما يذوقوا عذاب» إضراب عن جميع ما قالوه أي إنهم لم يقولوا عن إيمان و اعتقاد به بل هم في شك من ذكري و هو القرآن.
و ليس شكهم فيه من جهة خفاء دلالة آية النبوة و قصورها عن إفادة اليقين بل تعلق قلوبهم بما عندهم من الباطل و لزومهم التقليد يصرفهم عن النظر في دلالة الآية الإلهية المعجزة فشكوا في الذكر و الحال أنه آية معجزة.
و قوله: «بل لما يذوقوا عذاب» إضراب عن الإضراب أي ليس إنكارهم و عدم إيمانهم به عن شك منهم فيه بل لأنهم لعتوهم و استكبارهم لا يعترفون بحقيته و لو لم يكن شك، حتى يذوقوا عذابي فيضطروا إلى الاعتراف كما فعل غيرهم.
و في قوله: «لما يذوقوا عذاب» أي لم يذوقوا بعد عذابي، تهديد بعذاب واقع.
قوله تعالى: «أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب» الكلام في موقع الإضراب و «أم» منقطعة و الكلام ناظر إلى قولهم: «ما أنزل عليه الذكر من بيننا» أي بل أ عندهم خزائن رحمة ربك التي ينفق منها على من يشاء حتى يمنعوك منها بل هي له تعالى و هو أعلم حيث يجعل رسالته و يخص برحمته من يشاء.
و تذييل الكلام بقوله: «العزيز الوهاب» لتأييد محصل الجملة أي ليس عندهم شيء من خزائن رحمته لأنه عزيز منيع جانبه لا يداخل في أمره أحد، و لا لهم أن يصرفوا رحمته عن أحد لأنه وهاب كثير الهبات.
قوله تعالى: «أم لهم ملك السموات و الأرض و ما بينهما فليرتقوا في الأسباب» «أم» منقطعة، و الأمر في قوله: «ليرتقوا» للتعجيز و الارتقاء الصعود، و الأسباب المعارج و المناهج التي يتوسل بها إلى الصعود إلى السماوات و يمكن أن يراد بارتقاء الأسباب التسبيب بالعلل و الحيل الذي يحصل به لهم المنع و الصرف.
و المعنى: بل لهم ملك السماوات و الأرض فيكون لهم أن يتصرفوا فيها فيمنعوا نزول الوحي السماوي إلى بشر أرضي فإن كان كذلك فليصعدوا معارج السماوات أو فليتسببوا الأسباب و ليمنعوا من نزول الوحي عليك.
قوله تعالى: «جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب» الهزيمة الخذلان و «من الأحزاب» بيان لقوله: «جند ما» و «ما» للتقليل و التحقير، و الكلام مسوق لتحقير أمرهم رغما لما يشعر به ظاهر كلامهم من التعزز و الإعجاب بأنفسهم.
يدل على ذلك تنكير «جند» و تتميمه بلفظة «ما» و الإشارة إلى مكانتهم بهنالك الدال على البعيد و عدهم من الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين قطع الله دابر الماضين منهم كما سيذكر و لذلك عد هذا الجند مهزوما قبل انهزامهم.
و المعنى: هم جند ما أقلاء أذلاء منهزمون هنالك من أولئك الأحزاب المتحزبين على الرسل الذين كذبوهم فحق عليهم عقابي.
قوله تعالى: «كذبت قبلهم قوم نوح و عاد و فرعون ذو الأوتاد - إلى قوله - فحق عقاب» ذو الأوتاد وصف فرعون و الأوتاد جمع وتد و هو معروف.
قيل: سمي بذي الأوتاد لأنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها، و قيل: لأنه كان يعذب من غضب عليه من المجرمين بالأوتاد يوتد يديه و رجليه و رأسه على الأرض فيعذبه و قيل: معناه ذو الجنود أوتاد الملك، و قيل: غير ذلك من الوجوه، و لا دليل على شيء منها يعول عليه.
و أصحاب الأيكة قوم شعيب و قد تقدم في سورة الحجر و الشعراء، و قوله: «فحق عقاب» أي ثبت في حقهم و استقر فيهم عقابي فأهلكتهم.
قوله تعالى: «و ما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق» النظر الانتظار و الفواق الرجوع و المهلة اليسيرة، و المعنى و ما ينتظر هؤلاء المكذبون من أمتك إلا صيحة واحدة تقضي عليهم و تهلكهم ما لها من رجوع أو مهلة و هي عذاب الاستئصال.
قالوا: و المراد من الصيحة صيحة يوم القيامة لأن أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مؤخر عنهم العذاب إلى قيام الساعة، و قد عرفت في تفسير سورة يونس أن ظاهر آيات الكتاب يعطي خلاف ذلك فراجع.
قوله تعالى: «و قالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب» القط النصيب و الحظ، و هذه الكلمة استعجال منهم للعذاب قبل يوم القيامة استهزاء بحديث يوم الحساب و الوعيد بالعذاب فيه.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أقبل أبو جهل بن هشام و معه قوم من قريش فدخلوا على أبي طالب فقالوا. إن ابن أخيك قد آذانا و آذى آلهتنا فادعه و مره فليكف عن آلهتنا و نكف عن إلهه. قال: فبعث أبو طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاه فلما دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ير في البيت إلا مشركا فقال: السلام على من اتبع الهدى ثم جلس فخبره أبو طالب بما جاءوا به فقال: أ و هل لهم في كلمة خير لهم من هذا يسودون بها العرب و يطئون أعناقهم؟ فقال أبو جهل: نعم و ما هذه الكلمة؟ قال: تقولون: لا إله إلا الله. قال: فوضعوا أصابعهم في آذانهم و خرجوا و هم يقولون: ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق فأنزل الله في قولهم (عليهم السلام) و القرآن ذي الذكر إلى قوله إلا اختلاق و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و عجبوا أن جاءهم منذر منهم» قال: لما أظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة اجتمعت قريش إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه أحلامنا و سب آلهتنا و أفسد شبابنا و فرق جماعتنا فإن كان الذي يحمله على ذلك العدم جمعنا له مالا حتى يكون أغنى رجل في قريش و نملكه علينا. فأخبر أبو طالب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فقال: و الله لو وضعوا الشمس في يميني و القمر في يساري ما أردته و لكن يعطونني كلمة يملكون بها العرب و يدين لهم بها العجم و يكونون ملوكا في الجنة فقال لهم أبو طالب ذلك فقالوا: نعم و عشر كلمات فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تشهدون أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فقالوا: ندع ثلاثمائة و ستين إلها و نعبد إلها واحدا؟. فأنزل الله سبحانه: «و عجبوا أن جاءهم منذر منهم - و قال الكافرون هذا ساحر كذاب إلى قوله إلا اختلاق» أي تخليط «أ أنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري إلى قوله من الأحزاب» يعني الذين تحزبوا عليه يوم الأحزاب.
أقول: و القصة مروية من طريق أهل السنة أيضا و في بعض رواياتهم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما عرض عليهم كلمة التوحيد قالوا له: سلنا غير هذه قال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها فغضبوا و قالوا و الكلمة كناية عن تمليكهم إياه زمام نظام العالم الأرضي فإن الشمس و القمر من أعظم المؤثرات فيه، و قد أخذ على ما يظهر أن للحسن من القدر ليصح ما أريد من التمثيل.
و في العلل، بإسناده إلى إسحاق بن عمار قال: سألت أبا الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) كيف صارت الصلاة ركعة و سجدتين؟ و كيف إذا صارت سجدتين لم تكن ركعتين؟ فقال: إذا سألت عن شيء ففرغ قلبك لتفهم. إن أول صلاة صلاها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما صلاها في السماء بين يدي الله تبارك و تعالى قدام عرشه. و ذلك أنه لما أسري به و صار عند عرشه قال يا محمد ادن من صاد فاغسل مساجدك و طهرها و صل لربك فدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حيث أمره الله تبارك و تعالى فتوضأ و أسبغ وضوءه. قلت: جعلت فداك و ما صاد الذي أمر أن يغتسل منه؟ فقال: عين تنفجر من ركن من أركان العرش يقال لها ماء الحيوان و هو ما قال الله عز و جل: «(صلى الله عليه وآله وسلم) و القرآن ذي الذكر» الحديث.
أقول: و روي هذا المعنى أعني أن (صلى الله عليه وآله وسلم) نهر يخرج من ساق العرش في المعاني، عن سفيان الثوري عن الصادق (عليه السلام)،: و روي ذلك في مجمع البيان، عن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى: قال: و روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).
و في المعاني، بإسناده إلى الأصبغ عن علي (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و قالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب» قال: نصيبهم من العذاب.
|