بيان
لما حكى سبحانه عن المشركين رميهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و دعوته الحقة باختلاق و أنها ذريعة إلى التقدم و الرئاسة و أنه لا مرجح له عليهم حتى يختص بالرسالة و الإنذار.
ثم استهزائهم بيوم الحساب و عذابه الذي ينذرون به، أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و أن لا يزلزله هفواتهم و لا يوهن عزمه و أن يذكر عدة من عباده الأوابين له الراجعين إليه فيما دهمهم من الحوادث.
و هؤلاء تسعة من الأنبياء الكرام ذكرهم الله سبحانه: داود و سليمان و أيوب و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل و اليسع و ذو الكفل (عليه السلام)، و بدأ بداود (عليه السلام) و ذكر بعض قصصه.
قوله تعالى: «اصبر على ما يقولون و اذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب» الأيد القوة و كان (عليه السلام) ذا قوة في تسبيحه تعالى يسبح و يسبح معه الجبال و الطير و ذا قوة في ملكه و ذا قوة في علمه و ذا قوة و بطش في الحروب و قد قتل جالوت الملك كما قصه الله في سورة البقرة.
و الأواب اسم مبالغة من الأوب بمعنى الرجوع و المراد به كثرة رجوعه إلى ربه.
قوله تعالى: «إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي و الإشراق» الظاهر أن «معه» متعلق بقوله: «يسبحن» و جملة «معه يسبحن» بيان لمعنى التسخير و قدم الظرف لتعلق العناية بتبعيتها لداود و اقتدائها في التسبيح لكن قوله تعالى في موضع آخر: «و سخرنا مع داود الجبال يسبحن و الطير:» الأنبياء: - 79 يؤيد تعلق الظرف بسخرنا، و قد وقع في موضع آخر من كلامه تعالى: «يا جبال أوبي معه و الطير:» سبأ: - 10.
و العشي و الإشراق الرواح و الصباح.
و قوله: «إنا سخرنا» إلخ «إن» فيه للتعليل و الآية و ما عطف عليها من الآيات بيان لكونه (عليه السلام) ذا أيد في تسبيحه و ملكه و علمه و كونه أوابا إلى ربه.
قوله تعالى: «و الطير محشورة كل له أواب» المحشورة من الحشر بمعنى الجمع بإزعاج أي و سخرنا معه الطير مجموعة له تسبح معه.
و قوله: «كل له أواب» استئناف يقرر ما تقدمه من تسبيح الجبال و الطير أي كل من الجبال و الطير أواب أي كثير الرجوع إلينا بالتسبيح فإن التسبيح من مصاديق الرجوع إليه تعالى.
و يحتمل رجوع ضمير «له» إلى داود على بعد.
و لم يكن تأييد داود (عليه السلام) في أصل جعله تعالى للجبال و الطير تسبيحا فإن كل شيء مسبح لله سبحانه قال تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم:» الإسراء: - 44 بل في موافقة تسبيحها لتسبيحه و قرع تسبيحها أسماع الناس و قد تقدم كلام في معنى تسبيح الأشياء لله سبحانه في تفسير قوله تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده» الآية و أنه بلسان القال دون لسان الحال.
قوله تعالى: «و شددنا ملكه و آتيناه الحكمة و فصل الخطاب» قال الراغب: الشد العقد القوي يقال شددت الشيء قويت عقده.
انتهى فشد الملك من الاستعارة بالكناية و المراد به تقوية الملك و تحكيم أساسه بالهيبة و الجنود و الخزائن و حسن التدبير و سائر ما يتقوى به الملك.
و الحكمة في الأصل بناء نوع من الحكم و المراد بها المعارف الحقة المتقنة التي تنفع الإنسان و تكمله، و قيل: المراد النبوة، و قيل الزبور و علم الشرائع، و قيل غير ذلك و هي وجوه ردية.
و فصل الخطاب تفكيك الكلام الحاصل من مخاطبة واحد لغيره و تمييز حقه من باطله و ينطبق على القضاء بين المتخاصمين في خصامهم.
و قيل: المراد به الكلام القصد ليس بإيجازه مخلا و لا بإطنابه مملا، و قيل: فصل الخطاب قول أما بعد فهو (عليه السلام) أول من قال: أما بعد، و الآية التالية «و هل أتاك نبؤا الخصم» إلخ تؤيد ما قدمناه.
قوله تعالى: «و هل أتاك نبؤا الخصم إذ تسوروا المحراب» الخصم مصدر كالخصومة أريد به القوم الذي استقر فيهم الخصومة، و التسور الارتقاء إلى أعلى السور و هو الحائط الرفيع كالتسنم بمعنى الارتقاء إلى سنام البعير و التذري بمعنى الارتقاء إلى ذروة الجبل، و قد فسر المحراب بالغرفة و العلية، و الاستفهام للتعجيب و التشويق إلى استماع الخبر.
و المعنى هل أتاك يا محمد خبر القوم المتخاصمين إذ علوا سور المحراب محراب داود (عليه السلام).
قوله تعالى: «إذ دخلوا على داود ففزع منهم» إلى آخر الآية لفظة «إذ» هذه ظرف لقوله: «تسوروا» كما أن «إذ» الأولى ظرف لقوله: «نبؤا الخصم» و محصل المعنى أنهم دخلوا على داود و هو في محرابه لا من الطريق العادي بل بتسوره بالارتقاء إلى سوره و الورود عليه منه و لذا فزع منهم لما رآهم دخلوا عليه من غير الطريق العادي و بغير إذن.
و قوله: «ففزع منهم» قال الراغب: الفزع انقباض و نفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف و هو من جنس الجزع و لا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه.
انتهى.
و قد تقدم أن الخشية تأثير القلب بحيث يستتبع الاضطراب و القلق و هي رذيلة مذمومة إلا الخشية من الله سبحانه و لذا كان الأنبياء (عليهم السلام) لا يخشون غيره قال تعالى: «و لا يخشون أحدا إلا الله:» الأحزاب: - 39.
و أن الخوف هو التأثير عن المكروه في مقام العمل بتهيئة ما يتحرز به من الشر و يدفع به المكروه لا في مقام الإدراك فليس برذيلة مذمومة لذاته بل هو حسن فيما يحسن الاتقاء قال تعالى خطابا لرسوله: «و إما تخافن من قوم خيانة:» الأنفال: - 58.
و إذا كان الفزع هو الانقباض و النفار الحاصل من الشيء المخوف كان أمرا راجعا إلى مقام العمل دون الإدراك فلم يكن رذيلة بذاته بل كان فضيلة عند تحقق مكروه ينبغي التحرز منه فلا ضير في نسبته إلى داود (عليه السلام) في قوله: «ففزع منهم» و هو من الأنبياء الذين لا يخشون إلا الله.
و قوله: «قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض» لما رأوا ما عليه داود (عليه السلام) من الفزع أرادوا تطييب نفسه و إسكان روعه فقالوا: «لا تخف» و هو نهي عن الفزع بالنهي عن سببه الذي هو الخوف «خصمان بغى» إلخ أي نحن خصمان أي فريقان متخاصمان تجاوز بعضنا ظلما على بعض.
و قوله: «فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط» إلخ الشطط الجور أي فاحكم بيننا حكما مصاحبا للحق و لا تجر في حكمك و دلنا على وسط العدل من الطريق.
قوله تعالى: «إن هذا أخي» إلى آخر الآية بيان لخصومتهم و قوله: «إن هذا أخي» كلام لواحد من أحد الفريقين يشير إلى آخر من الفريق الآخر بأن هذا أخ له» إلخ.
و بهذا يظهر فساد ما استدل بعضهم بالآية على أن أقل الجمع اثنان لظهور قوله: «إذ تسوروا» «إذ دخلوا» في كونهم جمعا و دلالة قوله: «خصمان» «هذا أخي» على الاثنينية.
و ذلك لجواز أن يكون في كل واحد من جانبي التثنية أكثر من فرد واحد قال تعالى: «و هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا» إلخ: الحج: - 19 و جواز أن يكون أصل الخصومة بين فردين ثم يلحق بكل منهما غيره لإعانته في دعواه.
و قوله: «له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة فقال أكفلنيها و عزني في الخطاب» النعجة الأنثى من الضأن، و «أكفلنيها» أي اجعلها في كفالتي و تحت سلطتي و «عزني في الخطاب» أي غلبني فيه و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه - إلى قوله - و قليل ما هم» جواب داود (عليه السلام)، و لعله قضاء تقديري قبل استماع كلام المتخاصم الآخر فإن من الجائز أن يكون عنده من القول ما يكشف عن كونه محقا فيما يطلبه و يقترحه على صاحبه لكن صاحب النعجة الواحدة ألقى كلامه بوجه هيج الرحمة و العطوفة منه (عليه السلام) فبادر إلى هذا التصديق التقديري فقال: «لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه».
فاللام للقسم، و السؤال - على ما قيل - مضمن معنى الإضافة و لذا عدي إلى المفعول الثاني بإلى، و المعنى أقسم لقد ظلمك بسؤال إضافة نعجتك إلى نعاجه.
و قوله: «و إن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم» من تمام كلام داود (عليه السلام) يقرر به كلامه الأول و الخلطاء الشركاء المخالطون.
قوله تعالى: «و ظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه و خر راكعا و أناب» أي علم داود أنما فتناه بهذه الواقعة أي أنها إنما كانت فتنة فتناه بها و الفتنة الامتحان، و قيل: ظن بمعناه المعروف الذي هو خلاف اليقين و ذكر استغفاره و توبته مطلقين يؤيد ما قدمناه و لو كان الظن بمعناه المعروف كان الاستغفار و التوبة على تقدير كونها فتنة واقعا و إطلاق اللفظة يدفعه، و الخر على ما ذكره الراغب سقوط يسمع منه خرير و الخرير يقال لصوت الماء و الريح و غير ذلك مما يسقط من علو، و الركوع - على ما ذكره - مطلق الانحناء.
و الإنابة إلى الله - على ما ذكره الراغب - الرجوع إليه بالتوبة و إخلاص العمل و هي من النوب بمعنى رجوع الشيء مرة بعد أخرى.
و المعنى: و علم داود أن هذه الواقعة إنما كانت امتحانا امتحناه و أنه أخطأ فاستغفر ربه - مما وقع منه - و خر منحنيا و تاب إليه.
و أكثر المفسرين تبعا للروايات على أن هؤلاء الخصم الداخلين على داود (عليه السلام) كانوا ملائكة أرسلهم الله سبحانه إليه ليمتحنه و ستعرف حال الروايات.
لكن خصوصيات القصة كتسورهم المحراب و دخولهم عليه دخولا غير عادي بحيث أفزعوه، و كذا تنبهه بأنه إنما كان فتنة من الله له لا واقعة عادية، و قوله تعالى بعد: «فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى» الظاهر في أن الله ابتلاه بما ابتلى لينبهه و يسدده في خلافته و حكمه بين الناس، كل ذلك يؤيد كونهم من الملائكة و قد تمثلوا له في صورة رجال من الإنس.
و على هذا فالواقعة تمثل تمثل فيه الملائكة في صورة متخاصمين لأحدهما نعجة واحدة يسألها آخر له تسع و تسعون نعجة و سألوه القضاء فقال لصاحب النعجة الواحدة: «لقد ظلمك» إلخ و كان قوله (عليه السلام) - لو كان قضاء منجزا - حكما منه في ظرف التمثل كما لو كان رآهم فيما يرى النائم فقال لهم ما قال و حكم فيهم بما حكم و من المعلوم أن لا تكليف في ظرف التمثل كما لا تكليف في عالم الرؤيا و إنما التكليف في عالمنا المشهود و هو عالم المادة و لم تقع الواقعة فيه و لا كان هناك متخاصمان و لا نعجة و لا نعاج إلا في ظرف التمثل فكانت خطيئة داود (عليه السلام) في هذا الظرف من التمثل و لا تكليف هناك كخطيئة آدم (عليه السلام) في الجنة من أكل الشجرة قبل الهبوط إلى الأرض و تشريع الشرائع و جعل التكاليف، و استغفاره و توبته مما صدر منه كاستغفار آدم و توبته مما صدر منه و قد صرح الله بخلافته في كلامه كما صرح بخلافة آدم (عليه السلام) في كلامه و قد مر توضيح ذلك في قصة آدم (عليه السلام) من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب.
و أما على قول بعض المفسرين من أن المتخاصمين الداخلين عليه كانوا بشرا و القصة على ظاهرها فينبغي أن يؤخذ قوله: «لقد ظلمك» إلخ قضاء تقديريا أي إنك مظلوم لو لم يأت خصيمك بحجة بينة، و إنما ذلك لحفظ على ما قامت عليه الحجة من طريقي العقل و النقل أن الأنبياء معصومون بعصمة من الله لا يجوز عليهم كبيرة و لا صغيرة.
على أن الله سبحانه صرح قبلا بأنه آتاه الحكمة و فصل الخطاب و لا يلائم ذلك خطأه في القضاء.
قوله تعالى: «و إن له عندنا لزلفى و حسن مآب» الزلفة و الزلفى المنزلة و الحظوة، و المآب المرجع، و تنكير «زلفى» و «مآب» للتفخيم، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض» إلى آخر الآية الظاهر أن الكلام بتقدير القول و التقدير فغفرنا له ذلك و قلنا يا داود «إلخ».
و ظاهر الخلافة أنها خلافة الله فتنطبق على ما في قوله تعالى: «و إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة:» البقرة: - 30 و من شأن الخلافة أن يحاكي الخليفة من استخلفه في صفاته و أعماله فعلى خليفة الله في الأرض أن يتخلق بأخلاق الله و يريد و يفعل ما يريده الله و يحكم و يقضي بما يقضي به الله - و الله يقضي بالحق - و يسلك سبيل الله و لا يتعداها.
و لذلك فرع على جعل خلافته قوله: «فاحكم بين الناس بالحق» و هذا يؤيد أن المراد بجعل خلافته إخراجها من القوة إلى الفعل في حقه لا مجرد الخلافة الشأنية لأن الله أكمله في صفاته و آتاه الملك يحكم بين الناس.
و قول بعضهم: إن المراد بخلافته المجعولة خلافته ممن قبله من الأنبياء و تفريع قوله: «فاحكم بين الناس بالحق» لأن الخلافة نعمة عظيمة شكرها العدل أو أن المترتب هو مطلق الحكم بين الناس الذي هو من آثار الخلافة و تقييده بالحق لأن سداده به، تصرف في اللفظ من غير شاهد.
و قوله: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله» العطف و المقابلة بينه و بين ما قبله يعطيان أن المعنى و لا تتبع في قضائك الهوى هوى النفس فيضلك عن الحق الذي هو سبيل الله فتفيد الآية أن سبيل الله هو الحق.
قال بعضهم: إن في أمره (عليه السلام) بالحكم بالحق و نهيه عن اتباع الهوى تنبيها لغيره ممن يلي أمور الناس أن يحكم بينهم بالحق و لا يتبع الباطل و إلا فهو (عليه السلام) من حيث إنه معصوم لا يحكم إلا بالحق و لا يتبع الباطل.
و فيه أن أمر تنبيه غيره بما وجه إليه من التكليف في محله لكن عصمة المعصوم و عدم حكمه إلا بالحق لا يمنع توجه التكليف بالأمر و النهي إليه فإن العصمة لا توجب سلب اختياره و ما دام اختياره باقيا جاز بل وجب توجه التكليف إليه كما يتوجه إلى غيره من الناس، و لو لا توجه التكليف إلى المعصوم لم يتحقق بالنسبة إليه واجب و محرم و لم تتميز طاعة من معصية فلغا معنى العصمة التي هي المصونية عن المعصية.
و قوله: «إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب» تعليل للنهي عن اتباع الهوى بأنه يلازم نسيان يوم الحساب و في نسيانه عذاب شديد و المراد بنسيانه عدم الاعتناء بأمره.
و في الآية دلالة على أن كل ضلال عن سبيل الله سبحانه بمعصية من المعاصي لا ينفك عن نسيان يوم الحساب.
قوله تعالى: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا» إلى آخر الآية، لما انتهى الكلام إلى ذكر يوم الحساب عطف عنان البيان عليه فاحتج عليه بحجتين إحداهما ما ساقه في هذه الآية بقوله: «و ما خلقنا السماء» إلخ و هو احتجاج من طريق الغايات إذ لو لم يكن خلق السماء و الأرض و ما بينهما - و هي أمور مخلوقة مؤجلة توجد و تفنى - مؤديا إلى غاية ثابتة باقية غير مؤجلة كان باطلا و الباطل بمعنى ما لا غاية له ممتنع التحقق في الأعيان.
على أنه مستحيل من الحكيم و لا ريب في حكمته تعالى.
و ربما أطلق الباطل و أريد به اللعب و لو كان المراد ذلك كانت الآية في معنى قوله: «و ما خلقنا السموات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق:» الدخان: - 39.
و قيل: الآية عطف على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: و لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك و لأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل اتباع الهوى و هو الباطل بل خلقه للتوحيد و متابعة الشرع.
و فيه أن الآية التالية: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض» إلخ لا تلائم هذا المعنى.
و قوله: «ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار» أي خلق العالم باطلا لا غاية له و انتفاء يوم الحساب الذي يظهر فيه ما ينتجه حساب الأمور ظن الذين كفروا بالمعاد فويل لهم من عذاب النار.
قوله تعالى: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار» هذه هي الحجة الثانية على المعاد و تقريرها أن للإنسان كسائر الأنواع كمالا بالضرورة و كمال الإنسان هو خروجه في جانبي العلم و العمل من القوة إلى الفعل بأن يعتقد الاعتقادات الحقة و يعمل الأعمال الصالحة اللتين يهديه إليهما فطرته الصحيحة و هما الإيمان بالحق و العمل الصالح اللذين بهما يصلح المجتمع الإنساني الذي في الأرض.
فالذين آمنوا و عملوا الصالحات و هم المتقون هم الكاملون من الإنسان و المفسدون في الأرض بفساد اعتقادهم و عملهم و هم الفجار هم الناقصون الخاسرون في إنسانيتهم حقيقة، و مقتضى هذا الكمال و النقص أن يكون بإزاء الكمال حياة سعيدة و عيش طيب و بإزاء خلافه خلاف ذلك.
و من المعلوم أن هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها هي تحت سيطرة الأسباب و العوامل المادية و نسبتها إلى الكامل و الناقص و المؤمن و الكافر على السواء فمن أجاد العمل و وافقته الأسباب المادية فاز بطيب العيش و من كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء و ضنك المعيشة.
فلو كانت الحياة مقصورة على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء و لم تكن هناك حياة تختص بكل منهما و تناسب حاله كان ذلك منافيا للعناية الإلهية بإيصال كل ذي حق حقه و إعطاء المقتضيات ما تقتضيه.
و إن شئت فقل: تسوية 1 بين الفريقين و إلغاء ما يقتضيه صلاح هذا و فساد ذلك خلاف عدله تعالى.
و الآية - كما ترى - لا تنفي استواء حال المؤمن و الكافر و إنما قررت المقابلة بين من آمن و عمل صالحا و بين من لم يكن كذلك سواء كان غير مؤمن أو مؤمنا غير صالح و لذا أتت بالمقابلة ثانيا بين المتقين و الفجار.
قوله تعالى: «كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب» أي هذا كتاب من وصفه كذا و كذا، و توصيفه بالإنزال المشعر بالدفعة دون التنزيل الدال على التدريج لأن ما ذكر من التدبر و التذكر يناسب اعتباره مجموعا لا نجوما مفرقة.
و المقابلة بين «ليدبروا» و «ليتذكر أولوا الألباب» تفيد أن المراد بضمير الجمع الناس عامة.
و المعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك كثير الخيرات و البركات للعامة و الخاصة ليتدبره الناس فيهتدوا به أو تتم لهم الحجة و ليتذكر به أولو الألباب فيهتدوا إلى الحق باستحضار حجته و تلقيها من بيانه.
بحث روائي
روي في الدر المنثور، بطريق عن أنس و عن مجاهد و السدي و بعدة طرق عن ابن عباس قصة دخول الخصم على داود (عليه السلام) على اختلاف ما في الروايات و روى مثلها القمي في تفسيره، و رواها في العرائس، و غيره و قد لخصها في مجمع البيان، كما يأتي: أن داود كان كثير الصلاة فقال: يا رب فضلت علي إبراهيم فاتخذته خليلا و فضلت علي موسى فكلمته تكليما فقال: يا داود إنا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله فإن شئت ابتليتك فقال: نعم يا رب فابتلني. فبينا هو في محرابه ذات يوم إذ وقعت حمامة فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوة المحراب فذهب ليأخذها فاطلع من الكوة فإذا امرأة أوريا بن حيان تغتسل فهواها و هم بتزويجها فبعث بأوريا إلى بعض سراياه و أمر بتقديمه أمام التابوت الذي فيه السكينة ففعل ذلك و قتل. فلما انقضت عدتها تزوجها و بنى بها فولد له منها سليمان فبينا هو ذات يوم في محرابه إذ دخل عليه رجلان ففزع منهما فقالا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض إلى قوله و قليل ما هم، فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثم ضحك فتنبه داود على أنهما ملكان بعثهما الله إليه في صورة خصمين ليبكتاه على خطيئته فتاب و بكى حتى نبت الزرع من كثرة دموعه.
ثم قال في المجمع، - و نعم ما قال -: إنه مما لا شبهة في فساده فإن ذلك مما يقدح في العدالة فكيف يجوز أن يكون أنبياء الله الذين هم أمناؤه على وحيه و سفراؤه بينه و بين خلقه بصفة من لا تقبل شهادته و على حالة تنفر عن الاستماع إليه و القبول منه.
أقول: و القصة مأخوذة من التوراة غير أن التي فيها أشنع و أفظع فعدلت بعض التعديل على ما سيلوح لك.
ففي التوراة ما ملخصه: و كان في وقت المساء أن داود قام عن سريره و تمشى على سطح بيت الملك فرأى من على السطح امرأة تستحم و كانت المرأة جميلة المنظر جدا. فأرسل داود و سأل عن المرأة فقيل: إنها بتشبع امرأة أوريا الحتي فأرسل داود رسلا و أخذها فدخلت عليه فاضطجع معها و هي مطهرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها و حبلت المرأة فأرسلت و أخبرت داود أنها حبلى. و كان أوريا في جيش لداود يحاربون بني عمون فكتب داود إلى يوآب أمير جيشه يأمره بإرسال أوريا إليه و لما أتاه و أقام عنده أياما كتب مكتوبا إلى يوآب 1 و أرسله بيد أوريا، و كتب في المكتوب يقول: اجعلوا أوريا في وجه الحرب الشديدة و ارجعوا من ورائه فيضرب و يموت ففعل به ذلك فقتل و أخبر داود بذلك. فلما سمعت امرأة أوريا أنه قد مات ندبت بعلها و لما مضت المناحة أرسل داود و ضمها إلى بيته و صارت له امرأة و ولدت له ابنا و أما الأمر الذي فعله داود فقبح في عيني الرب. فأرسل الرب ناثان النبي إلى داود فجاء إليه و قال له كان رجلان في مدينة واحدة واحد منهما غني و الآخر فقير، و كان للغني غنم و بقر كثيرة جدا و أما الفقير فلم يكن له شيء إلا نعجة واحدة صغيرة قد اقتناها و رباها فجاء ضيف إلى الرجل الغني فعفا أن يأخذ من غنمه و من بقره ليهيىء للضيف الذي جاء إليه فأخذ نعجة الرجل الفقير و هيأ لضيفه، فحمي غضب داود على الرجل جدا و قال لناثان: حي هو الرب إنه يقتل الرجل الفاعل ذلك و ترد النعجة أربعة أضعاف لأنه فعل هذا الأمر و لأنه لم يشفق. فقال ناثان لداود: أنت هو الرجل يعاتبك الرب و يقول: سأقيم عليك الشر من بيتك و آخذ نساءك أمام عينيك و أعطيهن لقريبك فيضطجع معهن قدام جميع إسرائيل و قدام الشمس جزاء لما فعلت بأوريا و امرأته. فقال داود لناثان: قد أخطأت إلى الرب فقال ناثان لداود: الرب أيضا قد نقل عنك خطيئتك. لا تموت غير أنه من أجل أنك قد جعلت بهذا الأمر أعداء الرب يشمتون فالابن المولود لك من المرأة يموت، فأمرض الله الصبي سبعة أيام ثم قبضه ثم ولدت مرأة أوريا بعده لداود ابنه سليمان.
و في العيون، في باب مجلس الرضا عند المأمون مع أصحاب الملل و المقالات: قال الرضا (عليه السلام) لابن جهم: و أما داود فما يقول من قبلكم فيه؟ قال: يقولون: إن داود كان يصلي في محرابه إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من الطيور فقطع داود صلاته و قام يأخذ الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حيان. فاطلع داود في أثر الطير فإذا بامرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها و كان قد أخرج أوريا في بعض غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام التابوت فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب ذلك على داود فكتب إليه ثانية أن قدمه أمام التابوت فقدم فقتل أوريا و تزوج داود بامرأته. قال: فضرب الرضا (عليه السلام) يده على جبهته و قال: إنا لله و إنا إليه راجعون لقد نسبتم نبيا من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم بالقتل. فقال: يا ابن رسول الله ما كانت خطيئته؟ فقال: ويحك إن داود (عليه السلام) إنما ظن أنه ما خلق الله خلقا هو أعلم منه فبعث الله عز و جل إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا: خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق و لا تشطط و اهدنا إلى سواء الصراط إن هذا أخي له تسع و تسعون نعجة و لي نعجة واحدة فقال أكفلنيها و عزني في الخطاب فعجل داود على المدعى عليه فقال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه و لم يسأل المدعي البينة على ذلك، و لم يقبل على المدعى عليه فيقول له: ما تقول؟ فكان هذا خطيئة رسم الحكم لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع الله عز و جل يقول: «يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض - فاحكم بين الناس بالحق» إلى آخر الآية. فقال: يا ابن رسول الله ما قصته مع أوريا؟ قال الرضا (عليه السلام): إن المرأة في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا فأول من أباح الله عز و جل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود (عليه السلام) فتزوج بامرأة أوريا لما قتل و انقضت عدتها فذلك الذي شق على الناس من قتل أوريا.
و في أمالي الصدوق، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لعلقمة: إن رضا الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط أ لم ينسبوا داود (عليه السلام) إلى أنه تبع الطير حتى نظر إلى امرأة أوريا فهواها، و أنه قدم زوجها أمام التابوت حتى قتل ثم تزوج بها الحديث.
كلام في قصص داود في فصول
1 - قصته في القرآن:
لم يقع من قصته في القرآن إلا إشارات فقد ذكر سبحانه أنه كان في جيش طالوت الملك حين حارب جالوت فقتل داود فأتاه الله الملك بعد طالوت و الحكمة و علمه مما يشاء «البقرة: 251» و جعله خليفة له يحكم بين الناس و آتاه فصل الخطاب «(صلى الله عليه وآله وسلم): 20 و 26» و قد أيد الله ملكه و سخر معه الجبال و الطير يسبحن معه «الأنبياء: 79، (عليهم السلام) 19» و ألان له الحديد يعمل و ينسج منه الدروع «الأنبياء: 80 سبأ: 11».
2 - جميل الثناء عليه في القرآن.
عده سبحانه من الأنبياء و أثنى عليه بما أثنى عليهم و خصه بقوله: «و آتينا داود زبورا:» «النساء: - 163 الأنعام: 84 - 87» و آتاه فضلا و علما «سبأ: 10 النمل: 15» و آتاه الحكمة و فصل الخطاب و جعله خليفة في الأرض «ص: 20 و 26» و وصفه بأنه أواب و إن له عنده لزلفى و حسن مآب «ص: 19 و 25».
3 -
التدبر في آيات الكتاب المتعرضة لقصة دخول المتخاصمين على داود (عليه السلام) لا يعطي أزيد من كونه امتحانا منه تعالى له (عليه السلام) في ظرف التمثل ليربيه تربية إلهية و يعلمه رسم القضاء العدل فلا يجور في الحكم و لا يعدل عن العدل.
و أما ما تضمنته غالب الروايات من قصة أوريا و امرأته فهو مما يجل عنه الأنبياء و يتنزه عنه ساحتهم و قد تقدم في بيان الآيات و البحث الروائي محصل الكلام في ذلك.
|