بيان
القصة الثانية من قصص العباد الأوابين التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصبر و يذكرها.
قوله تعالى:: «و وهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب» أي وهبناه له ولدا و الباقي ظاهر مما تقدم.
قوله تعالى: «إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد» العشي مقابل الغداة و هو آخر النهار بعد الزوال، و الصافنات على ما في المجمع، جمع الصافنة من الخيل و هي التي تقوم على ثلاث قوائم و ترفع إحدى يديها حتى تكون على طرف الحافر.
قال: و الجياد جمع جواد و الياء هاهنا منقلبة عن واو و الأصل جواد و هي السراع من الخيل كأنها تجود بالركض.
انتهى.
قوله تعالى: «فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب» الضمير لسليمان، و المراد بالخير: الخيل - على ما قيل - فإن العرب تسمي الخيل خيرا و عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): الخير معقود بنواصي الخيل إلى يوم القيامة.
و قيل: المراد بالخير المال الكثير و قد استعمل بهذا المعنى في مواضع من كلامه تعالى كقوله: «إن ترك خيرا:» البقرة: - 180.
و قوله: «إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي» قالوا: إن «أحببت» مضمن معنى الإيثار و «عن» بمعنى على، و المراد إني آثرت حب الخيل على ذكر ربي و هو الصلاة محبا إياه أو أحببت الخيل حبا مؤثرا إياه على ذكر ربي - فاشتغلت بما عرض علي من الخيل عن الصلاة حتى غربت الشمس.
و قوله: «حتى توارت بالحجاب» الضمير على ما قالوا للشمس و المراد بتواريها بالحجاب غروبها و استتارها تحت حجاب الأفق، و يؤيد هذا المعنى ذكر العشي في الآية السابقة إذ لو لا ذلك لم يكن غرض ظاهر يترتب على ذكر العشي.
فمحصل معنى الآية أني شغلني حب الخيل - حين عرض الخيل علي - عن الصلاة حتى فات وقتها بغروب الشمس، و إنما كان يحب الخيل في الله ليتهيأ به للجهاد في سبيل الله فكان الحضور للعرض عبادة منه فشغلته عبادة عن عبادة غير أنه يعد الصلاة أهم.
و قيل: ضمير «توارت» للخيل و ذلك أنه أمر بإجراء الخيل فشغله النظر في جريها حتى غابت عن نظره و توارت بحجاب البعد، و قد تقدم أن ذكر العشي يؤيد المعنى السابق و لا دليل على ما ذكره من حديث الأمر بالجري من لفظ الآية.
قوله تعالى: «ردوها علي فطفق مسحا بالسوق و الأعناق» قيل: الضمير في «ردوها» للشمس و هو أمر منه للملائكة برد الشمس ليصلي صلاته في وقتها، و قوله: «فطفق مسحا بالسوق و الأعناق» أي شرع يمسح ساقيه و عنقه و يأمر أصحابه أن يمسحوا سوقهم و أعناقهم و كان ذلك وضوءهم ثم صلى و صلوا، و قد ورد ذلك في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و قيل: الضمير للخيل و المعنى قال: ردوا الخيل فلما ردت.
شرع يمسح مسحا بسوقها و أعناقها و يجعلها مسبلة في سبيل الله جزاء ما اشتغل بها عن الصلاة.
و قيل: الضمير للخيل و المراد بمسح أعناق الخيل و سوقها ضربها بالسيف و قطعها و المسح القطع فهو (عليه السلام) غضب عليها في الله لما شغلته عن ذكر الله فأمر بردها ثم ضرب بالسيف أعناقها و سوقها فقتلها جميعا.
و فيه أن مثل هذا الفعل مما تتنزه ساحة الأنبياء (عليهم السلام) عن مثله فما ذنب الخيل لو شغله النظر إليها عن الصلاة حتى تؤاخذ بأشد المؤاخذة فتقتل تلك القتلة الفظيعة عن آخرها مع ما فيه من إتلاف المال المحترم.
و أما استدلال بعضهم عليه برواية أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: فطفق مسحا بالسوق و الأعناق قطع سوقها و أعناقها بالسيف ثم أضاف إليها و قد جعلها بذلك قربانا لله و كان تقريب الخيل مشروعا في دينه فليس من التقريب ذكر في الحديث و لا في غيره.
على أنه (عليه السلام) لم يشتغل عن العبادة بالهوى بل شغلته عبادة عن عبادة كما تقدمت الإشارة إليه.
فالمعول عليه هو أول الوجوه إن ساعده لفظ الآية و إلا فالوجه الثاني.
قوله تعالى: «و لقد فتنا سليمان و ألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب» الجسد هو الجسم الذي لا روح فيه.
قيل: المراد بالجسد الملقى على كرسيه هو سليمان نفسه لمرض امتحنه الله به و تقدير الكلام ألقيناه على كرسيه جسدا أي كجسد لا روح فيه من شدة المرض.
و فيه أن حذف الضمير من «ألقيناه» و إخراج الكلام على صورته التي في الآية الظاهرة في أن الملقى هو الجسد مخل بالمعنى المقصود لا يجوز حمل أفصح الكلام عليه.
و لسائر المفسرين أقوال مختلفة في المراد من الآية تبعا للروايات المختلفة الواردة فيها و الذي يمكن أن يؤخذ من بينها إجمالا أنه كان جسد صبي له أماته الله و ألقى جسده على كرسيه، و لقوله: «ثم أناب قال رب اغفر لي» إشعار أو دلالة على أنه كان له (عليه السلام) فيه رجاء أو أمنية في الله فأماته الله سبحانه و ألقاه على كرسيه فنبهه أن يفوض الأمر إلى الله و يسلم له.
قوله: «قال رب اغفر لي و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب» ظاهر السياق أن الاستغفار مرتبط بما في الآية السابقة من إلقاء الجسد على كرسيه، و الفصل لكون الكلام في محل دفع الدخل كأنه لما قيل: «ثم أناب» قيل: فما ذا قال؟ فقيل: قال رب اغفر لي» إلخ.
و ربما استشكل في قوله: «و هب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي» أن فيه ضنا و بخلا، فإن فيه اشتراط أن لا يؤتى مثل ما أوتيه من الملك لأحد من العالمين غيره.
و يدفعه أن فيه سؤال ملك يختص به لا سؤال أن يمنع غيره عن مثل ما آتاه و يحرمه ففرق بين أن يسأل ملكا اختصاصيا و أن يسأل الاختصاص بملك أوتيه.
قوله تعالى: «فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب متفرع على سؤاله الملك و إخباره عن إجابة دعوته و بيان الملك الذي لا ينبغي لأحد غيره و هو تسخير الريح و الجن.
و الرخاء بالضم اللينة و الظاهر أن المراد بكون الريح تجري بأمره رخاء مطاوعتها لأمره و سهولة جريانها على ما يريده (عليه السلام) فلا يرد أن توصيف الريح هاهنا بالرخاء يناقض توصيفه في قوله: «و لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره:» الأنبياء: - 81 بكونها عاصفة.
و ربما أجيب عنه بأن من الجائز أن يجعلها الله رخوة تارة و عاصفة أخرى حسب ما أراد سليمان (عليه السلام).
و قوله: «حيث أصاب» أي حيث شاء سليمان (عليه السلام) و قصد و هو متعلق بتجري.
قوله تعالى: «و الشياطين كل بناء و غواص» أي و سخرنا له الشياطين من الجن كل بناء منهم يبني له في البر و كل غواص يعمل له في البحر فيستخرج اللئالىء و غيرها.
قوله تعالى: «و آخرين مقرنين في الأصفاد» الأصفاد جمع صفد و هو الغل من الحديد، و المعنى سخرنا له آخرين منهم مجموعين في الأغلال مشدودين بالسلاسل.
قوله تعالى: «هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب» أي هذا الذي ذكر من الملك عطاؤنا لك بغير حساب و الظاهر أن المراد بكونه بغير حساب أنه لا ينفد بالعطاء و المن و لذا قيل: «فامنن أو أمسك» أي أنهما يستويان في عدم التأثير فيه.
و قيل: المراد بغير حساب أنك لا تحاسب عليه يوم القيامة، و قيل: المراد أن إعطاءه تفضل لا مجازاة و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: «و إن له عندنا لزلفى و حسن مآب» تقدم معناه.
بحث روائي
و في المجمع،: في قوله تعالى: «فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي» الآية قيل: إن هذه الخيل كانت شغلته عن صلاة العصر حتى فات وقتها: عن علي (عليه السلام) و في رواية أصحابنا: أنه فاته أول الوقت.
و فيه، قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها يا ابن عباس؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتى فاتته الصلاة فقال: ردوها علي يعني الأفراس و كانت أربعة عشر فأمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها فسلبه الله ملكه أربعة عشر يوما لأنه ظلم الخيل بقتلها. فقال علي: كذب كعب لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم لأنه أراد جهاد العدو حتى توارت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: ردوها علي فردت فصلى العصر في وقتها و إن أنبياء الله لا يظلمون و لا يأمرون بالظلم لأنهم معصومون مطهرون.
أقول: و قول كعب الأحبار: فسلبه الله ملكه إشارة إلى حديث الخاتم الذي سنشير إليه.
و في الفقيه، روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: إن سليمان بن داود عرض عليه ذات يوم بالعشي الخيل فاشتغل بالنظر إليها حتى توارت الشمس بالحجاب فقال للملائكة: ردوا الشمس علي حتى أصلي صلاتي في وقتها فردوها فقام و مسح ساقيه و عنقه بمثل ذلك و كان ذلك وضوءهم للصلاة ثم قام فصلى فلما فرغ غابت الشمس و طلعت النجوم، و ذلك قول الله عز و جل: «و وهبنا لداود سليمان إلى قوله مسحا بالسوق و الأعناق».
أقول: و الرواية لا بأس بها لو ساعد لفظ الآية أعني قوله: «فطفق مسحا بالسوق و الأعناق» على ما فيها من المعنى، و أما مسألة رد الشمس فلا إشكال فيه بعد ثبوت إعجاز الأنبياء، و قد ورد ردها لغيره (عليه السلام) كيوشع بن نون و علي بن أبي طالب (عليه السلام) في النقل المعتبر و لا يعبأ بما أورده الرازي في تفسيره الكبير،.
و أما عقره (عليه السلام) الخيل و ضربه أعناقها بالسيف فقد روي في ذلك عدة روايات من طرق أهل السنة و أورده القمي في تفسيره، و كأنها تنتهي إلى كعب كما مر في رواية ابن عباس المتقدمة و كيف كان فلا يعبأ بها كما تقدم.
و قد بلغ من إغراقهم في القصة أن رووا أن الخيل كانت عشرين ألف فرس ذات أجنة و مثله ما روي في قوله: حتى توارت بالحجاب عن كعب أنه حجاب من ياقوتة خضراء محيط بالخلائق منه اخضرت السماء.
و مثل هذه الروايات أعاجيب من القصص رووها في قوله تعالى: «و ألقينا على كرسيه جسدا» الآية كما روي: أنه ولد له ولد فأمر بإرضاعه و حفظه في السحاب إشفاقا عليه من مردة الجن و في بعضها خوفا عليه من ملك الموت فوقع يوما جسده على كرسيه ميتا.
و ما روي: أنه قال يوما: لأطوفن الليلة بمائة امرأة من نسائي تلد لي كل واحدة منهن لي فارسا يجاهد في سبيل الله و لم يستثن فلم تحمل منهن إلا واحدة بشق من ولد و كان يحبه فخبأه له بعض الجن من ملك الموت فأخذه من مخبئه و قبضه على كرسي سليمان.
و ما روي في روايات كثيرة تنتهي عدة منها إلى ابن عباس و هو يصرح في بعضها أنه أخذه عن كعب: أن ملك سليمان كان في خاتمه فتخطفه شيطان منه فزال ملكه و تسلط الشيطان على ملكه أياما ثم أعاد الله الخاتم إليه فعاد إلى ما كان عليه من الملك، و قد أوردوا في القصة أمورا ينبغي أن تنزه ساحة الأنبياء (عليهم السلام) عن ذكرها فضلا عن نسبتها إليهم.
قالوا: و جلوس الشيطان على كرسي سليمان هو المراد بقوله تعالى: «و ألقينا على كرسيه جسدا» الآية.
فهذه 1 كلها مما لا يعبأ بها على ما تقدمت الإشارة إليه و إنما هي مما لعبت بها أيدي الوضع.
|