بيان
فصل آخر من الكلام يبين فيه مآل أمر المتقين و الطاغين تبشيرا و إنذارا.
قوله تعالى: «هذا ذكر و إن للمتقين لحسن مآب» الإشارة بهذا إلى ما ذكر من قصص الأوابين من الأنبياء الكرام (عليهم السلام)، و المراد بالذكر الشرف و الثناء الجميل أي هذا الذي ذكر شرف و ذكر جميل و ثناء حسن لهم يذكرون به في الدنيا أبدا و لهم حسن مآب من ثواب الآخرة.
كذا قالوا.
و على هذا فالمراد بالمتقين هم المذكورون من الأنبياء بالخصوص أو عموم أهل التقوى و هم داخلون فيهم و يكون ذكر مآب الطاغين بعد من باب الاستطراد.
و الظاهر أن الإشارة بهذا إلى القرآن و المراد بالذكر ما يشتمل عليه من الذكر و في الكلام عود إلى ما بدىء به في السورة من قوله «و القرآن ذي الذكر» فهو فصل من الكلام يذكر فيه الله سبحانه ما في الدار الآخرة من ثواب المتقين و عقاب الطاغين.
و قوله: «و إن للمتقين لحسن مآب» المآب المرجع و التنكير للتفخيم، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «جنات عدن مفتحة لهم الأبواب» أي جنات استقرار و خلود و كون الأبواب مفتحة لهم كناية عن أنهم غير ممنوعين عن شيء من النعم الموجودة فيها فهي مهيأة لهم مخلوقة لأجلهم، و قيل: المراد أن أبوابها مفتحة لهم لا تحتاج إلى الوقوف وراءها و دقها، و قيل: المراد أنها تفتح بغير مفتاح و تغلق بغير مغلاق.
و الآية و ما بعدها بيان لحسن مآبهم.
قوله تعالى: «متكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة و شراب» أي حال كونهم جالسين فيها بنحو الاتكاء و الاستناد جلسة الأعزة و الأشراف.
و قوله: «يدعون فيها بفاكهة إلخ أي يتحكمون فيها بدعوة الفاكهة و هي كثيرة و الشراب فإذا دعيت فاكهة أو دعي شراب أجابهم المدعو فأتاهم من غير حاجة إلى من يحمله و يناوله.
قوله تعالى: «و عندهم قاصرات الطرف أتراب» الضمير للمتقين و قاصرات الطرف صفة قائمة مقام الموصوف و التقدير و عندهم أزواج قاصرات الطرف و المراد قصور طرفهن على أزواجهن يرضين بهم و لا يرون غيرهم أو هو كناية عن كونهن ذوات غنج و دلال.
و الأتراب الأقران أي أنهن أمثال لا يختلفن سنا أو جمالا أو أنهن أمثال لأزواجهن فكلما زادوا نورا و بهاء زدن حسنا و جمالا.
قوله تعالى: «هذا ما توعدون ليوم الحساب» الإشارة إلى ما ذكر من الجنة و نعيمها، و الخطاب للمتقين ففي الكلام التفات من الغيبة إلى الخطاب و النكتة فيه إظهار القرب منهم و الإشراف عليهم ليكمل نعمهم الصورية بهذه النعمة المعنوية.
قوله تعالى: «إن هذا لرزقنا ما له من نفاد» النفاد الفناء و الانقطاع، و الآية من تمام الخطاب الذي في الآية السابقة على ما يعطيه السياق.
قوله تعالى: «هذا و إن للطاغين لشر مآب» الإشارة بهذا إلى ما ذكر من مقام المتقين أي هذا ما للمتقين من المآب، و يمكن أن يكون هذا اسم فعل أي خذ هذا.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «جهنم يصلونها فبئس المهاد» الصلي دخول النار و مقاساة حرارتها أو اتباعها و المهاد - على ما في المجمع، - الفراش الموطأ يقال: مهدت له تمهيدا مثل وطأت له توطئة، و الآية و ما بعدها تفسير لمآب الطاغين.
قوله تعالى: «هذا فليذوقوه حميم و غساق» الحميم الحار الشديد الحرارة الغساق - على ما في المجمع، - قيح شديد النتن، و فسر بتفاسير أخر، و قوله: «حميم و غساق» بيان لهذا، و قوله: «فليذوقوه» دال على إكراههم و حملهم على ذوقه و تقديم المخبر عنه و جعله اسم إشارة يؤكد ذلك، و المعنى هذا حميم و غساق عليهم أن يذوقوه ليس إلا.
قوله تعالى: «و آخر من شكله أزواج» شكل الشيء ما يشابهه و جنسه و الأزواج الأنواع و الأقسام أي و هذا آخر من جنس الحميم و الغساق أنواع مختلفة ليذوقوها.
قوله تعالى: «هذا فوج مقتحم معكم - إلى قوله - في النار» الآيات الثلاث - على ما يعطيه السياق - حكاية ما يجري بين التابعين و المتبوعين من الطاغين في النار من التخاصم و المجاراة.
فقوله: «هذا فوج مقتحم معكم» خطاب يخاطب به المتبوعون يشار به إلى التابعين الذين يدخلون النار مع المتبوعين فوجا، و الاقتحام الدخول في الشيء بشدة و صعوبة.
و قوله: «لا مرحبا بهم إنهم صالوا النار» جواب المتبوعين لمن يخاطبهم بقوله: «هذا فوج» و مرحبا تحية للوارد معناه عرض رحب الدار و سعتها له فقولهم: «لا مرحبا بهم» معناه نفي الرحب و السعة عنهم.
و قولهم: «إنهم صالوا النار» أي داخلوها و مقاسوا حرارتها أو متبعوها تعليل لتحيتهم بنفي التحية.
و قوله: «قالوا بل أنتم لا مرحبا بكم أنتم قدمتموه لنا فبئس القرار» نقل كلام التابعين و هم القائلون يردون إلى متبوعيهم نفي التحية و يذمون القرار في النار.
قوله تعالى: «قالوا ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار» لم يذكر تعالى جواب المتبوعين لقولهم: «أنتم قدمتموه لنا» إلخ و قد ذكره في سورة الصافات فيما حكى من تساؤلهم بقوله: «قالوا بل لم تكونوا مؤمنين و ما كان لنا عليكم من سلطان بل كنتم قوما طاغين» إلخ: الآية - 30 فقولهم: ربنا من قدم لنا هذا فزده عذابا ضعفا في النار» كلامهم بعد الانقطاع عن المخاصمة.
و جملة «من قدم» إلخ شرط و جزاء، و الضعف المثل و «عذابا ضعفا» أي ذا ضعف و مثل أي ضعفين من العذاب.
قوله تعالى: «و قالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار» القائلون - على ما يعطيه السياق - مطلق أهل النار، و مرادهم بالرجال الذين كانوا يعدونهم من الأشرار المؤمنون و هم في الجنة فيطلبهم أهل النار فلا يجدونهم فيها.
قوله تعالى: «اتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار» أي اتخذناهم سخريا في الدنيا فأخطأنا و قد كانوا ناجين أم عدلت أبصارنا فلا نراهم و هم معنا في النار.
قوله تعالى: «إن ذلك لحق تخاصم أهل النار» إشارة إلى ما حكي من تخاصمهم و بيان أن تخاصم أهل النار ثابت واقع لا ريب فيه و هو ظهور ما استقر في نفوسهم في الدنيا من ملكة التنازع و التشاجر.
|