بيان
احتجاج على التوحيد و إنذار بعد تقسيم الناس إلى راجع إلى الله متبع سبيله و مكذب بالآيات مجادل بالباطل.
قوله تعالى: «هو الذي يريكم آياته» إلى آخر الآية المراد بالآيات هي العلائم و الحجج الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية و الألوهية بدليل ما سيجيء من تفريع قوله: «فادعوا الله مخلصين له الدين» عليه، و الآيات مطلقة شاملة للآيات الكونية المشهودة في العالم لكل إنسان صحيح الإدراك و الآيات التي تجري على أيدي الرسل و الحجج القائمة من طريق الوحي.
و الجملة مشتملة على حجة فإنه لو كان هناك إله تجب عبادته على الإنسان و كانت عبادته كمالا للإنسان و سعادة له كان من الواجب في تمام التدبير و كامل العناية أن يهدي الإنسان إليه، و الذي تدل الآيات الكونية على ربوبيته و ألوهيته و يؤيد دلالتها الرسل و الأنبياء بالدعوة و الإتيان بالآيات هو الله سبحانه، و أما آلهتهم الذين يدعونهم من دون الله فلا آية من قبلهم تدل على شيء فالله سبحانه هو الإله وحده لا شريك له، و إلى هذه الحجة يشير علي (عليه السلام) بقوله فيما روي عنه: «لو كان لربك شريك لأتتك رسله».
و قوله: «و ينزل لكم من السماء رزقا» حجة أخرى على وحدانيته تعالى من جهة الرزق فإن رزق العباد من شئون الربوبية و الألوهية و الرزق من الله دون شركائهم فهو الرب الإله دونهم.
و قد فسروا الرزق بالمطر و السماء بجهة العلو، و لا يبعد أن يراد بالرزق نفس الأشياء التي يرتزق بها و بنزولها من السماء بروزها من الغيب إلى الشهادة على ما يفيده قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم:» الحجر: - 21.
و قوله: «و ما يتذكر إلا من ينيب» معترضة تبين أن حصول التذكر بهذه الحجج إنما هو شأن إحدى الطائفتين المذكورتين من قبل و هم المنيبون الراجعون إلى ربهم دون المجادلين الكافرين فإن الكفر و الجحود يبطل استعداد التذكر بالحجة و الاتباع للحق.
قوله تعالى: «فادعوا الله مخلصين له الدين و لو كره الكافرون» الأنسب للسياق أن يكون الخطاب عاما للمؤمنين و غيرهم متفرعا على الحجة السابقة غير أنه لا يشمل الكافرين المذكورين في آخر الآية و هم المكذبون المجادلون بالباطل.
كأنه قيل: إذا كانت الآيات تدل على وحدانيته تعالى و هو الرازق فعلى غير الكافرين الذين كذبوا و جادلوا أن يدعوا الله مخلصين له الدين، و أما الكافرون الكارهون للتوحيد فلا مطمع فيهم و لا آية تفيدهم و لا حجة تقنعهم فاعبدوه بالإخلاص و دعوا الكافرين يكرهون ذلك.
قوله تعالى: «رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده» إلخ صفات ثلاث له تعالى و كل منها خبر بعد خبر للضمير في قوله: «هو الذي يريكم آياته» و الآية و ما بعدها مسوقة للإنذار.
و قد أورد لقوله: «رفيع الدرجات» تفاسير شتى فقيل: معناه رافع درجات الأنبياء و الأولياء في الجنة، و قيل: رافع السماوات السبع التي منها تصعد الملائكة إلى عرشه، و قيل: رفيع مصاعد عرشه، و قيل: كناية عن رفعة شأنه و سلطانه.
و الذي يعطيه التدبر أن الآية و ما بعدها يصفان ملكه تعالى على خلقه أن له عرشا تجتمع فيه أزمة أمور الخلق و يتنزل منه الأمر متعاليا بدرجات رفيعة هي مراتب خلقه و لعلها السماوات التي وصفها في كلامه بأنها مساكن ملائكته و أن أمره يتنزل بينهن و هي التي تحجب عرشه عن الناس.
ثم إن له يوما هو يوم التلاق يرفع فيه الحجاب ما بينه و بين الناس بكشف الغطاء عن بصائرهم و طي السماوات بيمينه و إظهار عرشه لهم فينكشف لهم أنه هو المليك على كل شيء لا ملك إلا ملكه فيحكم بينهم.
فالمراد بالدرجات الدرجات التي يرتقى منها إلى عرشه و يعود قوله: «رفيع الدرجات ذو العرش» كناية استعارية عن تعالي عرش ملكه عن مستوى الخلق و غيبته و احتجابه عنهم قبل يوم القيامة بدرجات رفيعة و مراحل بعيدة.
و قوله: «يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده» إشارة إلى أمر الرسالة التي من شأنها الإنذار، و تقييد الروح بقوله: «من أمره» دليل على أن المراد بها الروح التي ذكرها في قوله: «قل الروح من أمر ربي:» الإسراء: - 85، و هي التي تصاحب ملائكة الوحي كما يشير إليه قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا:» النحل: - 2.
فالمراد بإلقاء الروح على من يشاء تنزيلها مع ملائكة الوحي عليه، و المراد بقوله: «من يشاء من عباده» الرسل الذين اصطفاهم الله لرسالته، و في معنى الروح الملقاة على النبي أقوال أخر لا يعبأ بها.
و قوله: «لينذر يوم التلاق» و هو يوم القيامة سمي به لالتقاء الخلائق فيه أو لالتقاء الخالق و المخلوق أو لالتقاء أهل السماء و الأرض أو لالتقاء الظالم و المظلوم أو لالتقاء المرء و عمله و لكل من هذه الوجوه قائل.
و يمكن أن يتأيد القول الثاني بما تكرر في كلامه تعالى من حديث اللقاء كقوله: «بلقاء ربهم لكافرون:» الروم: - 8، و قوله: «إنهم ملاقوا ربهم:» هود: - 29، و قوله: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه:» الانشقاق: - 6 و معنى اللقاء تقطع الأسباب الشاغلة و ظهور أن الله هو الحق المبين و بروزهم لله.
قوله تعالى: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء» إلخ تفسير ليوم التلاق، و معنى بروزهم لله ظهور ذلك لهم و ارتفاع الأسباب الوهمية التي كانت تجذبهم إلى نفسها و تحجبهم عن ربهم و تغفلهم عن إحاطة ملكه و تفرده في الحكم و توحده في الربوبية و الألوهية.
فقوله: «يوم هم بارزون» إشارة إلى ارتفاع كل سبب حاجب، و قوله: «لا يخفى على الله منهم شيء» تفسير لمعنى بروزهم لله و توضيح فقلوبهم و أعمالهم بعين الله و ظاهرهم و باطنهم و ما ذكروه و ما نسوه مكشوفة غير مستورة.
و قوله: «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» سؤال و جواب من ناحيته سبحانه تبين بهما حقيقة اليوم و هي ظهور ملكه و سلطانه تعالى على الخلق على الإطلاق.
و في توصيفه تعالى بالواحد القهار تعليل لانحصار الملك فيه لأنه إذ قهر كل شيء ملكه و تسلط عليه بسلب الاستقلال عنه و هو واحد فله الملك وحده.
قوله تعالى: «اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب» الباء في «بما كسبت» للصلة و المراد بيان خصيصة اليوم و هي أن كل نفس تجزى عين ما كسبت فجزاؤها عملها، قال تعالى: «يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون:» التحريم: - 7.
و قوله: «إن الله سريع الحساب» تعليل لنفي الظلم في قوله: «لا ظلم اليوم» أي إنه تعالى سريع في المحاسبة لا يشغله حساب نفس عن حساب أخرى حتى يخطىء فيجزي نفسا غير جزائها فيظلمها.
و هذا التعليل ناظر إلى نفي الظلم الناشىء عن الخطإ و أما الظلم عن عمد و علم فانتفاؤه مفروغ عنه لأن الجزاء لما كان بنفس العمل لم يتصور معه ظلم.
قوله تعالى: «و أنذرهم يوم الأزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين» إلى آخر الآية.
الأزفة من أوصاف القيامة و معناها القريبة الدانية قال تعالى: «إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا:» المعارج: - 7.
و قوله: «إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين» الحناجر جمع حنجرة و هي رأس الغلصمة من خارج و كون القلوب لدى الحناجر كناية عن غاية الخوف كأنها تزول عن مقرها و تبلغ الحناجر من شدة الخوف، و كاظمين من الكظم و هو شدة الاغتمام.
و قوله: «ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع» الحميم القريب أي ليس لهم قريب يقوم بنصرهم بحمية القرابة قال تعالى: «فلا أنساب بينهم يومئذ:» المؤمنون: - 101، و لا شفيع يطاع في شفاعته.
قوله تعالى: «يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور» قيل: الخائنة مصدر كالخيانة نظيرة الكاذبة و اللاغية بمعنى الكذب و اللغو، و ليس المراد بخائنة الأعين كل معصية من معاصيها بل المعاصي التي لا تظهر للغير كسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور.
و قيل: «خائنة الأعين» من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف، و لازمه كون العلم بمعنى المعرفة و المعنى يعرف الأعين الخائنة، و الوجه هو الأول.
و قوله: «و ما تخفي الصدور» و هو ما تسره النفس و تستره من وجوه الكفر و النفاق و هيئات المعاصي.
قوله تعالى: «و الله يقضي بالحق و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء» إلخ هذه حجة أخرى على توحده تعالى بالألوهية أقامها بعد ما ذكر حديث انحصار الملك فيه يوم القيامة و علمه بخائنة الأعين و ما تخفي الصدور تمهيدا و توطئة.
و محصلها أن من اللازم الضروري في الألوهية أن يقضي الإله في عباده و بينهم و الله سبحانه هو يقضي بين الخلق و فيهم يوم القيامة و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء لأنهم عباد مملوكون لا يملكون شيئا.
و من قضائه تعالى تدبيره جزئيات أمور عباده بالخلق بعد الخلق فإنه مصداق القضاء و الحكم قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون:» يس: - 82، و قال: «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون:» آل عمران: - 47، و لا نصيب لغيره تعالى في الخلق فلا نصيب له في القضاء.
و من قضائه تعالى تشريع الدين و ارتضاؤه سبيلا لنفسه قال تعالى: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» الآية: الإسراء: - 23.
و قوله: «إن الله هو السميع البصير» أي له حقيقة العلم بالمسموعات و المبصرات لذاته، و ليس لغيره من ذلك إلا ما ملكه الله و أذن فيه لا لذاته.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده» قال: روح القدس و هو خاص برسول الله و الأئمة (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المعاني، بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء و أهل الأرض:. أقول: و رواه القمي في تفسيره، مضمرا مرسلا.
و في التوحيد، بإسناده عن ابن فضال عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) في حديث قال: و يقول الله عز و جل: «لمن الملك اليوم» ثم ينطق أرواح أنبيائه و رسله و حججه فيقولون ««لله الواحد القهار» ثم يقول الله جل جلاله: «اليوم تجزى كل نفس بما كسبت» الآية.
و في نهج البلاغة،: و أنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت و لا زمان و لا حين و لا مكان، عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات، و زالت السنون و الساعات، فلا شيء إلا الله الواحد القهار الذي إليه مصير جميع الأمور، بلا قدرة منها كان ابتداء خلقها، و بغير امتناع منها كان فناؤها، و لو قدرت على الامتناع لدام بقاؤها و في تفسير القمي، بإسناده عن ثوير بن أبي فاختة عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: سئل عن النفختين كم بينهما؟ قال: ما شاء. ثم ذكر (عليه السلام) كيفية النفخ و موت أهل الأرض و السماء إلى أن قال فيمكثون في ذلك ما شاء الله ثم يأمر السماء فتمور و يأمر الجبال فتسير و هو قوله: «يوم تمور السماء مورا و تسير الجبال سيرا» يعني يبسط و تبدل الأرض غير الأرض يعني بأرض لم تكسب عليها الذنوب بارزة ليس عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة، و يعيد عرشه على الماء كما كان أول مرة مستقلا بعظمته و قدرته. قال: فعند ذلك ينادي الجبار جل جلاله بصوت من قبله جهوري يسمع أقطار السماوات و الأرضين «لمن الملك اليوم» فلم يجبه مجيب فعند ذلك يقول الجبار عز و جل مجيبا لنفسه «لله الواحد القهار» الحديث.
أقول: التدبر في الروايات الثلاث الأخيرة يهدي إلى أن الذي يفنى من الخلق استقلال وجودها و النسب و روابط التأثير التي بينها كما تفيده الآيات القرآنية و أن الأرواح لا تموت، و أن لا وقت بين النفختين فلا تغفل، و في الروايات لطائف من الإشارات تظهر للمتدبر، و فيها ما يخالف بظاهره ما تقدم.
و في روضة الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في حديث قال: يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا أساءه ذلك و ندم عليه و قد قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «كفى بالندم توبة» و قال: «من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن» فإن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له شفاعة و كان ظالما و الله تعالى يقول: «ما للظالمين من حميم و لا شفيع يطاع».
و في المعاني، بإسناده إلى عبد الرحمن بن سلمة الحريري قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «يعلم خائنة الأعين» فقال: أ لم تر إلى الرجل ينظر إلى الشيء و كأنه لا ينظر فذلك خائنة الأعين.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النسائي و ابن مردويه عن سعد قال: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلا أربعة نفر و امرأتين، و قال: اقتلوهم و إن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة منهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح فاختبأ عند عثمان بن عفان. فلما دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس إلى البيعة جاء به فقال: يا رسول الله بايع عبد الله فنظر إليه ثلاثا كل ذلك يأبى أن يبايعه ثم بايعه ثم أقبل على أصحابه فقال: أ ما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا إلى حين رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ فقالوا: ما يدرينا يا رسول الله ما في نفسك هلا أومأت إلينا بعينك. قال: إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين.
|