بيان
الآيات تتضمن الإنذار بالعذاب الدنيوي الذي ابتليت به عاد و ثمود بكفرهم بالرسل و جحدهم لآيات الله، و بالعذاب الأخروي الذي سيبتلى به أعداء الله من أهل الجحود الذين حقت عليهم كلمة العذاب، و فيها إشارة إلى كيفية إضلالهم في الدنيا و إلى استنطاق أعضائهم في الآخرة.
قوله تعالى: «فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود» قال في المجمع،: الصاعقة المهلكة من كل شيء انتهى، و قال الراغب: قال بعض أهل اللغة: الصاعقة على ثلاثة أوجه: الموت كقوله: «صعق من في السموات» و قوله: «فأخذتهم الصاعقة» و العذاب كقوله: «أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود» و النار كقوله: «و يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء» و ما ذكره فهو أشياء حاصلة من الصاعقة فإن الصاعقة هي الصوت الشديد من الجو ثم يكون نار فقط أو عذاب أو موت و هي في ذاتها شيء واحد، و هذه الأشياء تأثيرات منها.
انتهى.
و على ما مر تنطبق الصاعقة على عذابي عاد و ثمود و هما الريح و الصيحة، و التعبير بالماضي في قوله: «أنذرتكم» للدلالة على التحقق و الوقوع.
قوله تعالى: «إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم و من خلفهم أن لا تعبدوا إلا الله» إلخ ظرف للصاعقة الثانية فإن الإنذار بالصاعقة بالحقيقة إنذار بوقوعها و حلولها فالمعنى مثل حلول صاعقة عاد و ثمود إذ جاءتهم إلخ.
و نسبة المجيء إلى الرسل و هو جمع - مع أن الذي ذكر في قصتهم رسولان هما هود و صالح - باعتبار أن الرسل دعوتهم واحدة و المبعوث منهم إلى قوم مبعوث لآخرين و كذا القوم المكذبون لأحدهم مكذبون لآخرين قال تعالى: «كذبت عاد المرسلين:» الشعراء: - 123 و قال: «كذبت ثمود المرسلين:» الشعراء: - 141، و قال: «كذبت قوم لوط المرسلين:» الشعراء: - 160 إلى غير ذلك.
و قول بعضهم: إن إطلاق الرسل و هو جمع على هود و صالح (عليهما السلام) و هما اثنان من إطلاق الجمع على ما دون الثلاثة و هو شائع، و من هذا القبيل إرجاع ضمير الجمع في قوله: «إذ جاءتهم» إلى عاد و ثمود.
ممنوع بما تقدم، و أما إرجاع ضمير الجمع إلى عاد و ثمود فإنما هو لكون مجموع الجمعين جمعا مثلهما.
و قوله: «من بين أيديهم و من خلفهم» أي من جميع الجهات فاستعمال هاتين الجهتين في جميع الجهات شائع، و جوز أن يكون المراد به الماضي و المستقبل فقوله: «جاءتهم الرسل من بين أيديهم و من خلفهم» كناية عن دعوتهم لهم من جميع الطرق الممكنة خلوة و جلوة و فرادى و مجتمعين بالتبشير و الإنذار و لذلك فسر مجيئهم كذلك بعد بقوله: «أن لا تعبدوا إلا الله» و هو التوحيد.
و قوله: «قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة» رد منهم لرسالتهم بأن الله لو شاء إرسال رسول إلينا لأرسل من الملائكة، و قد تقدم كرارا معنى قولهم هذا و أنه مبني على إنكارهم نبوة البشر.
و قوله: «فإنا بما أرسلتم به كافرون» تفريع على النفي المفهوم من الجملة السابقة أي فإذا لم يشأ و لم يرسل فإنا بما أرسلتم به و هو التوحيد كافرون.
قوله تعالى: «فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق» إلخ رجوع إلى تفصيل حال من كل الفريقين على حدته، من كفرهم و وبال ذلك، و قوله: «بغير الحق» قيد توضيحي للاستكبار في الأرض فإنه بغير الحق دائما، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات» إلخ فسر الصرصر بالريح الشديدة السموم، و بالريح الشديدة البرد، و بالريح الشديدة الصوت و تلازم شدة الهبوب، و النحسات بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس ينحس نحسا خلاف سعد فالأيام النحسات الأيام المشئومات.
و قيل: أيام نحسات أي ذوات الغبار و التراب لا يرى فيها بعضهم بعضا، و يؤيده قوله في سورة الأحقاف: «فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم:» الأحقاف: - 24.
و قوله: «و هم لا ينصرون» أي لا منج ينجيهم و لا شفيع يشفع لهم.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى» إلخ المراد بهدايتهم إراءتهم الطريق و دلالتهم على الحق ببيان حق الاعتقاد و العمل لهم، و المراد بالاستحباب الإيثار و الاختيار، و لعله بالتضمين و لذا عدي إلى المفعول الثاني بعلى و المراد بالعمى الضلال استعارة، و في مقابله الهدى له إيماء إلى أن الهدى بصر كما أن الضلالة عمى، و الهون مصدر بمعنى الذل و توصيف العذاب به للمبالغة أو بحذف ذي و التقدير صاعقة العذاب ذي الهون.
و المعنى: و أما قوم ثمود فدللناهم على طريق الحق و عرفناهم الهدى بتمييزه من الضلال فاختاروا الضلال الذي هو عمى على الهدى الذي هو بصر فأخذتهم صيحة العذاب ذي المذلة - أو أخذهم العذاب بناء على كون الصاعقة بمعنى العذاب و الإضافة بيانية - بما كانوا يكسبون.
قوله تعالى: «و نجينا الذين آمنوا و كانوا يتقون» ضم التقوى إلى الإيمان معبرا عن التقوى بقوله: «و كانوا يتقون» الدال على الاستمرار للدلالة على جمعهم بين الإيمان و العمل الصالح و ذلك هو السبب لنجاتهم من عذاب الاستئصال على ما وعده الله بقوله: «و كان حقا علينا نصر المؤمنين:» الروم: - 47.
و الظاهر أن الآية متعلقة بالقصتين جميعا متممة لهما و إن كان ظاهر المفسرين تعلقها بالقصة الثانية.
قوله تعالى: «و يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون» الحشر إخراج الجماعة عن مقرهم و إزعاجهم عنه إلى الحرب و نحوها.
كذا قال الراغب، و «يوزعون» من الوزع و هو حبس أول القوم ليلحق بهم آخرهم فيجتمعوا.
قيل: المراد بحشرهم إلى النار إخراجهم إلى المحشر للسؤال و الحساب، و جعل النار غاية لحشرهم لأن عاقبتهم إليها، و الدليل عليه ما ذكره من أمر شهادة الأعضاء فإنها في الموقف قبل الأمر بهم إلى النار.
و قيل: المراد حشرهم إلى النار نفسها و من الممكن أن يستشهد عليهم مرتين مرة في الموقف و مرة على شفير جهنم و هو كما ترى.
و المراد بأعداء الله - على ما قيل - المكذبون بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مشركي قومه لا مطلق الكفار و الدليل عليه قوله الآتي: «و حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم» الآية.
قوله تعالى: «حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون» «ما» في «إذا ما جاءوها» زائد للتأكيد و الضمير للنار.
و شهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها و إخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي شهادة أداء لما تحملته، و لو لا التحمل في الدنيا حين العمل كما لو جعل الله لها شعورا و نطقا يوم القيامة فعلمت ثم أخبرت بما عملته أو أوجد الله عندها صوتا يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به لم يصدق عليه الشهادة، و لا تمت بذلك على العبد المنكر حجة و هو ظاهر.
و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن الله يخلق يوم القيامة للأعضاء علما و قدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبيها و هو شهادتها و قول بعضهم: إنه يخلق عندها أصواتا في صورة كلام مدلوله الشهادة، و كذا قول بعضهم: إن معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم.
و ظاهر الآية أن شهادة السمع و البصر أداؤهما ما تحملاه و إن لم يكن معصية مأتيا بها بواسطتهما كشهادة السمع أنه سمع آيات الله تتلى عليه فأعرض عنها صاحبه أو أنه سمع صاحبه يتكلم بكلمة الكفر، و شهادة البصر أنه رأى الآيات الدالة على وحدانية الله تعالى فأعرض عنها صاحبه أو أنه رأى صاحبه يستمع إلى الغيبة أو سائر ما يحرم الإصغاء إليه فتكون الآية على حد قوله تعالى: «إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا:» إسراء: - 36.
و على هذا يختلف السمع و الأبصار و الجلود فيما شهدت عليه فالسمع و الأبصار تشهد على معصية العبد و إن لم تكن بسببهما و الجلود تشهد على المعصية التي كانت هي آلات لها بالمباشرة، و هذا الفرق هو السبب لتخصيصهم الجلود بالخطاب في قولهم: «لم شهدتم علينا» على ما سيجيء.
و المراد بالجلود على ظاهر إطلاق الآية مطلق الجلود و شهادتها على أنواع المعاصي التي تتم بالجلود من التمتعات المحرمة كالزنا و نحوه، و يمكن حينئذ أن تعمم الجلود بحيث تشمل شهادتها ما شهدت الأيدي و الأرجل المذكورة في قوله: «اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم:» يس: - 65 على بعد.
و قيل: المراد بالجلود الفروج و قد كني بها عنها تأدبا.
قوله تعالى: «و قالوا لجلودهم لم شهدتم علينا» اعتراض و عتاب منهم لجلودهم في شهادتها عليهم، و قيل: الاستفهام للتعجب فهو سؤال عن السبب لرفع التعجب و إنما خصوها بالسؤال دون سمعهم و أبصارهم مع اشتراكها في الشهادة لأن الجلود شهدت على ما كانت هي بنفسها أسبابا و آلات مباشرة له بخلاف السمع و الأبصار فإنها كسائر الشهداء تشهد بما ارتكبه غيرها.
و قيل: تخصيص الجلود بالذكر تقريع لهم و زيادة تشنيع و فضاحة و خاصة لو كان المراد بالجلود الفروج و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: «قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء» إلخ إرجاع ضمير أولي العقل إلى الجوارح لمكان نسبة الشهادة و النطق إليها و ذلك من شئون أولي العقل.
و المتيقن من معنى النطق إذا استعمل على الحقيقة من غير تجوز هو إظهار ما في الضمير من طريق التكلم فيتوقف على علم و كشفه لغيره، قال الراغب: و لا يكاد يستعمل النطق في غير الإنسان إلا تبعا و بنوع من التشبيه و ظاهر سياق الآيات و ما فيها من ألفاظ القول و التكلم و الشهادة و النطق أن المراد بالنطق ما هو حقيقة معناه.
فشهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقا و تكلما حقيقة عن علم تحملته سابقا بدليل قولها: «أنطقنا الله».
ثم إن قولها: «أنطقنا الله» جوابا عن قول المجرمين: «لم شهدتم علينا»؟ إراءة منها للسبب الذي أوجب نطقها و كشف عن العلم المدخر عندها المكنون في ضميرها فهي ملجؤه إلى التكلم و النطق، و لا يضر ذلك نفوذ شهادتها و تمام الحجة بذلك فإنها إنما ألجئت إلى الكشف عما في ضميرها لا على الستر عليه و الإخبار بخلافه كذبا و زورا حتى ينافي جواز الشهادة و تمام الحجة.
و قوله: «الذي أنطق كل شيء» توصيف لله سبحانه و إشارة إلى أن النطق ليس مختصا بالأعضاء حتى تختص هي بالسؤال بل هو عام شامل لكل شيء و السبب الموجب له هو الله سبحانه.
و قوله: «و هو خلقكم أول مرة و إليه ترجعون» من تتمة الكلام السابق أو هو من كلامه، و هو احتجاج على علمه بأعمالهم و قد أنطق الجوارح بما علم.
يقول: إن وجودكم يبتدىء منه تعالى و ينتهي إليه تعالى فعند ما تظهرون من كتم العدم - و هو خلقكم أول مرة - يعطيكم الوجود و يملككم الصفات و الأفعال فتنسب إليكم ثم ترجعون و تنتهون إليه فيرجع ما عندكم من ظاهر الملك الموهوب إليه فلا يبقى ملك إلا و هو لله سبحانه.
فهو سبحانه المالك لجميع ما عندكم أولا و آخرا فما عندكم من شيء في أول وجودكم هو الذي أعطاكموه و ملكه لكم و هو أعلم بما أعطى و أودع، و ما عندكم من شيء حينما ترجعون إليه هو الذي يقبضه منكم إليه و يملكه فكيف لا يعلمه، و انكشافه له سبحانه حينما يرجع إليه إنطاقه لكم و شهادتكم على أنفسكم عنده.
و بما مر من البيان يظهر وجه تقييد قوله: «و هو خلقكم» بقوله: «أول مرة» فالمراد به أول وجودهم.
و لهم في قوله: «قالوا أنطقنا الله» في معنى الإنطاق نظائر ما تقدم في قوله: «شهد عليهم» من الأقوال فمن قائل: إن الله يخلق لهم يومئذ العلم و القدرة على النطق فينطقون، و من قائل: إنه يخلق عند الأعضاء أصواتا شبيهة بنطق الناطقين و هو المراد بنطقهم، و من قائل: إن المراد بالنطق دلالة ظاهر الحال على ذلك.
و كذا في عموم قوله: «أنطق كل شيء» فقيل: هو مخصص بكل حي نطق إذ ليس كل شيء و لا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي و مثل هذا التخصيص شائع و منه قوله تعالى في الريح المرسلة إلى عاد: «تدمر كل شيء:» الأحقاف: - 25.
و قيل: النطق في «أنطقنا» بمعناه الحقيقي و في قوله: «أنطق كل شيء» بمعنى الدلالة فيبقى الإطلاق على حاله.
و يرد عليهما أن تخصيص الآية أو حملها على المعنى المجازي مبني على تسلم كون غير ما نعده من الأشياء حيا ناطقا كالإنسان و الحيوان و الملك و الجن فاقدا للعلم و النطق على ما نراه من حالها.
لكن لا دليل على فقدان الأشياء غير ما استثنيناه للشعور و الإرادة سوى أنا في حجاب من بطون ذواتها لا طريق لنا إلى الاطلاع على حقيقة حالها، و الآيات القرآنية و خاصة الآيات المتعرضة لشئون يوم القيامة ظاهرة في عموم العلم.
بحث إجمالي قرآني
كررنا الإشارة في الأبحاث المتقدمة إلى أن الظاهر من كلامه تعالى أن العلم صار في الموجودات عامة كما تقدم في تفسير قوله تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم:» إسراء: - 44 فإن قوله: «و لكن لا تفقهون» نعم الدليل على كون التسبيح منهم عن علم و إرادة لا بلسان الحال.
و من هذا القبيل قوله: «فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين» و قد تقدم تفسيره في السورة.
و من هذا القبيل قوله: «و من أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة و هم عن دعائهم غافلون و إذا حشر الناس كانوا لهم أعداء و كانوا بعبادتهم كافرين:» الأحقاف: - 6 فالمراد بمن لا يستجيب الأصنام فقط أو هي و غيرها، و قوله: «يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها:» الزلزال: - 5.
و من هذا القبيل الآيات الدالة على شهادة الأعضاء و نطقها و تكليمها لله و السؤال منها و خاصة ما ورد في ذيل الآيات الماضية آنفا من قوله: «أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء» الآية.
لا يقال: لو كان غير الإنسان و الحيوان كالجماد و النبات ذا شعور و إرادة لبانت آثاره و ظهر منها ما يظهر من الإنسان و الحيوان من الأعمال العلمية و الأفعال و الانفعالات الشعورية.
لأنه يقال: لا دليل على كون العلم ذا سنخ واحد حتى تتشابه الآثار المترشحة منه فمن الممكن أن يكون ذا مراتب مختلفة تختلف باختلافها آثارها.
على أن الآثار و الأعمال العجيبة المتقنة المشهودة من النبات و سائر الأنواع الطبيعية في عالمنا هذا لا تقصر في إتقانها و نظمها و ترتيبها عن آثار الأحياء كالإنسان و الحيوان.
بحث إجمالي فلسفي
حقق في مباحث العلم من الفلسفة أن العلم و هو حضور شيء لشيء يساوق الوجود المجرد لكونه ما له من فعلية الكمال حاضرا عنده من غير قوة فكل وجود مجرد يمكنه أن يوجد حاضرا لمجرد غيره أو يوجد له مجرد غيره و ما أمكن لمجرد بالإمكان العام فهو له بالضرورة.
فكل عالم فهو مجرد و كذا كل معلوم و ينعكسان بعكس النقيض إلى أن المادة و ما تألف منها ليس بعالم و لا معلوم.
فالعلم يساوق الوجود المجرد، و الوجودات المادية لا يتعلق بها علم و لا لها علم بشيء لكن لها، على كونها مادية متغيرة متحركة لا تستقر على حال، ثبوتا من غير تغير و لا تحول لا ينقلب عما وقع عليه.
فلها من هذه الجهة تجرد و العلم سار فيها كما هو سار في المجردات المحضة العقلية و المثالية فافهم ذلك.
قوله تعالى: «و ما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم» إلخ لا شك أن الله سبحانه خالق كل شيء لا موجد غيره فلا يحول بين خلقه و بينه شيء و لا يحجب خلقه من حاجب فهو تعالى مع كل شيء أينما كان و كيفما كان قال تعالى: «إن الله على كل شيء شهيد:» الحج: - 17 و قال: «و كان الله على كل شيء رقيبا:» الأحزاب: - 52.
فالإنسان أينما كان كان الله معه، و أي عمل عمله كان الله مع عمله، و أي عضو من أعضائه استعمله و أي سبب أو أداة أو طريق اتخذه لعمله كان مع ذلك العضو و السبب و الأداة و الطريق قال تعالى: «و هو معكم أينما كنتم:» الحديد: - 4، و قال: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت:» الرعد: - 33، و قال: «إن ربك لبالمرصاد:» الفجر: - 14.
و من هنا يستنتج أن الإنسان - و هو جار في عمله - واقع بين مراصد كثيرة يرصده من كل منها ربه و يرقبه و يشهده فمرتكب المعصية و هو متوغل في سيئته غافل عنه تعالى في جهل عظيم بمقام ربه و استهانة به سبحانه و هو يرصده و يرقبه.
و هذه الحقيقة هي التي تشير إليه الآية أعني قوله: «و ما كنتم تستترون» إلخ على ما يعطيه السياق.
فقوله: «و ما كنتم تستترون» نفي لاستتارهم و هم في المعاصي قبلا و هم في الدنيا و قوله: «أن يشهد» إلخ منصوب بنزع الخافض و التقدير من أن يشهد إلخ.
و قوله: «و لكن ظننتم أن الله لا يعلم» استدراك في معنى الإضراب عن محذوف يدل عليه صدر الآية، و التقدير و لم تظنوا أنها لا تعلم أعمالكم و لكن ظننتم إلخ و الآية تقريع و توبيخ للمشركين أو لمطلق المجرمين يوجه إليهم يوم القيامة من قبله تعالى.
و محصل المعنى و ما كنتم تستخفون في الدنيا عند المعاصي من شهادة أعضائكم التي تستعملونها في معصية الله و لم يكن ذلك لظنكم أنها لا إدراك فيها لعملكم بل لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون أي لم تستهينوا عند المعصية بشهادة أعضائكم و إنما استهنتم بشهادتنا.
فالاستدراك و معنى الإضراب في الآية نظير ما في قوله تعالى: «و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى:» الأنفال: - 17، و قوله: «و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون:» البقرة: - 57.
و قوله: «كثيرا مما تعملون» و لم يقل: لا يعلم ما تعملون و لعل ذلك لكونهم معتقدين بالله و بصفاته العليا التي منها العلم فهم يعتقدون فيه العلم في الجملة لكن حالهم في المعاصي حال من لا يرى علمه بكثير من أعماله.
و يستفاد من الآية أن شهادة الشهود شهادته تعالى بوجه قال تعالى: «و لا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهود إذ تفيضون فيه:» يونس: - 61.
و لهم في توجيه معنى الآية أقوال أخر لا يساعد عليها السياق و لا تخلو من تكلف أضربنا عن التعرض لها.
قوله تعالى: «و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين» الإرداء من الردى بمعنى الهلاك، و «ذلكم ظنكم» مبتدأ و خبر و «أرداكم» خبر بعد خبر، و يمكن أن يكون «ظنكم» بدلا من ذلكم.
و معنى الآية على الأول و ذلكم الظن الذي ذكر ظن ظننتموه لا يغني من الحق شيئا و العلم و الشهادة على حالها أهلككم ذلك الظن فأصبحتم من الخاسرين.
و على الثاني و ظنكم الذي ظننتم بربكم أنه لا يعلم كثيرا مما تعملون أهلككم إذ هون عليكم أمر المعاصي و أدى بكم إلى الكفر فأصبحتم من الخاسرين.
قوله تعالى: «فإن يصبروا فالنار مثوى لهم و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين» في المفردات،: الثواء الإقامة مع الاستقرار.
انتهى، و في المجمع، الاستعتاب طلب العتبى و هي الرضا و هو الاسترضاء، و الإعتاب الإرضاء، و أصل الإعتاب عند العرب استصلاح الجلد بإعادته في الدباغ ثم استعير فيما يستعطف به البعض بعضا لإعادته ما كان من الألفة.
انتهى.
و معنى الآية فإن يصبروا فالنار مأواهم و مستقرهم و إن يطلبوا الرضا و يعتذروا لينجوا من العذاب فليسوا ممن يرضى عنهم و يقبل أعتابهم و معذرتهم فالآية في معنى قوله: «اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم:» الطور: - 16.
قوله تعالى: «و قيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم و ما خلفهم» إلى آخر الآية.
أصل التقييض - كما في المجمع، - التبديل، و القرناء جمع قرين و هو معروف.
فقوله: «و قيضنا لهم قرناء» إشارة إلى أنهم لو آمنوا و اتقوا لأيدهم الله بمن يسددهم و يهديهم كما قال: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه:» المجادلة: - 22 لكنهم كفروا و فسقوا فبدل الله لهم قرناء من الشياطين يقارنونهم و يلازمونهم، و إنما يفعل ذلك بهم مجازاة لكفرهم و فسوقهم.
و قيل: المعنى بدلناهم قرناء سوء من الجن و الإنس مكان قرناء الصدق الذين أمروا بمقارنتهم فلم يفعلوا، و لعل ما قدمناه أحسن.
و قوله: «فزينوا لهم ما بين أيديهم و ما خلفهم» لعل المراد التمتعات المادية التي هم مكبون عليها في الحال و ما تعلقت به آمالهم و أمانيهم في المستقبل.
و قيل: ما بين أيديهم ما قدموه من أعمالهم السيئة حتى ارتكبوها، و ما خلفهم ما سنوه لغيرهم ممن يأتي بعدهم، و يمكن إدراج هذا الوجه في سابقه.
و قيل: ما بين أيديهم هو ما يحضرهم من أمر الدنيا فيؤثرونه و يقبلون إليه و يعملون له، و ما خلفهم هو أمر الآخرة حيث يدعوهم قرناؤهم إلى أنه لا بعث و لا نشور و لا حساب و لا جنة و لا نار، و هو وجه بعيد إذ لا يقال لمن ينكر الآخرة أنها زينت له.
و قوله: «و حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس» أي ثبت و وجب عليهم كلمة العذاب حال كونهم في أمم مماثلين لهم ماضين قبلهم من الجن و الإنس و كلمة العذاب قوله تعالى: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:» البقرة: - 39 كقوله: «لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين:» ص: - 85.
و قوله: «إنهم كانوا خاسرين» تعليل لوجوب كلمة العذاب عليهم أو لجميع ما تقدم.
و يظهر من الآية أن حكم الموت جار في الجن مثل الإنس.
بحث روائي
في الفقيه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابن الحنفية: قال الله تعالى: «و ما كنتم تستترون - أن يشهد عليكم سمعكم و لا أبصاركم و لا جلودكم» يعني بالجلود الفروج.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية: يعني بالجلود الفروج و الأفخاذ.
و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): ينبغي للمؤمن أن يخاف الله خوفا كأنه يشرف على النار، و يرجوه رجاء كأنه من أهل الجنة إن الله تعالى يقول: «و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم» الآية، ثم قال: إن الله عند ظن عبده إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
و في تفسير القمي، بإسناده عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس من عبد يظن بالله عز و جل خيرا إلا كان عند ظنه به و ذلك قوله عز و جل: «و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم» الآية.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الطبراني و عبد بن حميد و مسلم و أبو داود و ابن ماجة و ابن حبان و ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يموتن أحدكم إلا و هو يحسن الظن بالله فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله عز و جل قال الله: «و ذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم - أرداكم فأصبحتم من الخاسرين».
أقول: و قد روي في سبب نزول بعض الآيات السابقة ما لا يلائم سياقها تلك الملاءمة و لذلك أغمضنا عن إيراده.
|