بيان
في الآيات نوع رجوع إلى أول الكلام و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم أن الذي يدعوهم إليه من التوحيد و إخلاص الدين لله هو مأمور به كأحدهم و يزيد أنه مأمور أن يكون أول مسلم لما يدعو إليه أي يكون بحيث يدعو إلى ما قد أسلم له و آمن به قبل، سواء أجابوا إلى دعوته أو ردوها.
فعليهم أن لا يطمعوا فيه أن يخالف فعله قوله و سيرته دعوته فإنه مجيب لربه مسلم له متصلب في دينه خائف منه أن يعصيه ثم تنذر الكافرين و تبشر المؤمنين بما أعد الله سبحانه لكل من الفريقين من عذاب أو نعمة.
قوله تعالى: «قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين - إلى قوله - أول المسلمين» نحو رجوع إلى قوله تعالى في مفتتح السورة: «إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين» بداعي أن يؤيسهم من نفسه، فلا يطمعوا فيه أن يترك دعوتهم و يوافقهم على الإشراك بالله كما يشير إليه أول سورة ص و آيات أخر.
فكأنه يقول: قل لهم إن الذي تلوت عليكم من أمره تعالى بعبادته بإخلاص الدين - و قد وجه به الخطاب إلي - ليس المراد به مجرد دعوتكم إلى ذلك بإقامتي في الخطاب مقام السامع فيكون من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة» بل أنا كأحدكم مأمور بعبادته مخلصا له الدين، و لا ذلك فحسب، بل مأمور بأن أكون أول المسلمين لما ينزل إلي من الوحي فأسلم له أولا ثم أبلغه لغيري - فأنا أخاف ربي و أعبده بالإخلاص آمنتم به أو كفرتم فلا تطمعوا في.
فقوله: «قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين» إشارة إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يشارك غيره في الأمر بدون الإخلاص.
و قوله: «و أمرت لأن أكون أول المسلمين» إشارة إلى أن في الأمر المتوجه إلي زيادة على ما توجه إليكم من التكليف و هو أني أمرت بما أمرت و قد توجه الخطاب إلي قبلكم و الغرض منه أن أكون أول من أسلم لهذا الأمر و آمن به.
قيل: اللام في قوله: «لأن أكون» للتعليل و المعنى و أمرت بذلك لأجل أن أكون أول المسلمين، و قيل: اللام زائدة كما تركت اللام في قوله تعالى: «قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم:» الأنعام: - 14.
و مآل الوجهين واحد بحسب المعنى فإن كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) أول المسلمين يعطي عنوانا لإسلامه و عنوان الفعل يصح أن يجعل غاية للأمر بالفعل و أن يجعل متعلقا للأمر فيؤمر به يقال: اضربه للتأديب، و يقال: أدبه بالضرب.
قال في الكشاف،: و في معناه أوجه: أن أكون أول من أسلم في زماني و من قومي لأنه أول من خالف دين آبائه و خلع الأصنام و حطمها، و أن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما، و أن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا غيره لأكون مقتدى بي في قولي و فعلي جميعا و لا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، و أن أفعل ما استحق به الأولية من أعمال السابقين دلالة على السبب بالمسبب.
انتهى.
و أنت خبير بأن الأنسب لسياق الآيات هو الوجه الثالث و هو الذي قدمناه و يلزمه سائر الوجوه.
قوله تعالى: «قال إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم» المراد بمعصية ربه بشهادة السياق مخالفة أمره بعبادته مخلصا له الدين، و باليوم العظيم يوم القيامة و الآية كالتوطئة لمضمون الآية التالية.
قوله تعالى: «قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه» تصريح بأنه ممتثل لأمر ربه مطيع له بعد التكنية عنه في الآية السابقة، و إياس لهم أن يطمعوا فيه أن يخالف أمر ربه.
و تقديم المفعول في قوله: «قل الله أعبد» يفيد الحصر، و قوله: «مخلصا له ديني» يؤكد معنى الحصر، و قوله: «فاعبدوا ما شئتم من دونه» أمر تهديدي بمعنى أنهم لا ينفعهم ذلك فإنهم مصيبهم وبال إعراضهم عن عبادة الله بالإخلاص كما يشير إليه ذيل الآية «قل إن الخاسرين» إلخ.
قوله تعالى: «قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة» إلخ الخسر و الخسران ذهاب رأس المال إما كلا أو بعضا و الخسران أبلغ من الخسر، و خسران النفس هو إيرادها مورد الهلكة و الشقاء بحيث يبطل منها استعداد الكمال فيفوتها السعادة بحيث لا يطمع فيها و كذا خسارة الأهل.
و في الآية تعريض للمشركين المخاطبين بقوله: «فاعبدوا ما شئتم من دونه» كأنه يقول: فأيا ما عبدتم فإنكم تخسرون أنفسكم بإيرادها بالكفر مورد الهلكة و أهليكم و هم خاصتكم بحملهم على الكفر و الشرك و هي الخسران بالحقيقة.
و قوله: «ألا ذلك هو الخسران المبين» و ذلك لأن الخسران المتعلق بالدنيا - و هو الخسران في مال أو جاه - سريع الزوال منقطع الآخر بخلاف خسران يوم القيامة الدائم الخالد فإنه لا زوال له و لا انقطاع.
على أن المال أو الجاه إذا زال بالخسران أمكن أن يخلفه آخر مثله أو خير منه بخلاف النفس إذا خسرت.
هذا على تقدير كون المراد بالأهل خاصة الإنسان في الدنيا، و قيل: المراد بالأهل من أعده الله في الجنة للإنسان لو آمن و اتقى من أزواج و خدم و غيرهم و هو أوجه و أنسب للمقام فإن النسب و كل رابطة من الروابط الدنيوية الاجتماعية مقطوعة يوم القيامة قال تعالى: «فلا أنساب بينهم يومئذ:» المؤمنون: - 101 و قال: «يوم لا تملك نفس لنفس شيئا:» الانفطار: - 19 إلى غير ذلك من الآيات.
و يؤيده أيضا قوله تعالى: «فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا و ينقلب إلى أهله مسرورا:» الانشقاق: - 9.
قوله تعالى: «لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل» إلخ الظلل جمع ظلة و هي - كما قيل - الستر العالي.
و المراد بكونها من فوقهم و من تحتهم إحاطتها بهم فإن المعهود من النار الجهتان و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى» قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كل متعد و كل معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع.
انتهى، و الظاهر أن المراد بها في الآية الأوثان و كل معبود طاغ من دون الله.
و لم يقتصر على مجرد اجتناب عبادة الطاغوت بل أضاف إليه قوله: «و أنابوا إلى الله» إشارة إلى أن مجرد النفي لا يجدي شيئا بل الذي ينفع الإنسان مجموع النفي و الإثبات، عبادة الله و ترك عبادة غيره و هو عبادته مخلصا له الدين.
و قوله: «لهم البشرى» إنشاء بشرى و خبر لقوله: «و الذين اجتنبوا» إلخ.
قوله تعالى: «فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» إلى آخر الآية كان مقتضى الظاهر أن يقال: فبشرهم غير أنه قيل: فبشر عباد و أضيف إلى ضمير التكلم لتشريفهم به و لتوصيفهم بقوله: «الذين يستمعون القول» إلخ.
و المراد بالقول بقرينة ما ذكر من الاتباع ما له نوع ارتباط و مساس بالعمل فأحسن القول أرشده في إصابة الحق و أنصحه للإنسان، و الإنسان إذا كان ممن يحب الحسن و ينجذب إلى الجمال كان كلما زاد الحسن زاد انجذابا فإذا وجد قبيحا و حسنا مال إلى الحسن، و إذا وجد حسنا و أحسن قصد ما هو أحسن، و أما لو لم يمل إلى الأحسن و انجمد على الحسن كشف ذلك عن أنه لا ينجذب إليه من حيث حسنه و إلا زاد الانجذاب بزيادة الحسن.
فتوصيفهم باتباع أحسن القول معناه أنهم مطبوعون على طلب الحق و إرادة الرشد و إصابة الواقع فكلما دار الأمر بين الحق و الباطل و الرشد و الغي اتبعوا الحق و الرشد و تركوا الباطل و الغي و كلما دار الأمر بين الحق و الأحق و الرشد و ما هو أكثر رشدا أخذوا بالأحق الأرشد.
فالحق و الرشد هو مطلوبهم و لذلك يستمعون القول و لا يردون قولا بمجرد ما قرع سمعهم اتباعا لهوى أنفسهم من غير أن يتدبروا فيه و يفقهوه.
فقوله: «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه» مفاده أنهم طالبو الحق و الرشد يستمعون القول رجاء أن يجدوا فيه حقا و خوفا أن يفوتهم شيء منه.
و قيل: المراد باستماع القول و اتباع أحسنه استماع القرآن و غيره و اتباع القرآن، و قيل: المراد استماع أوامر الله تعالى و اتباع أحسنها كالقصاص و العفو فيتبعون العفو و إبداء الصدقات و إخفائها فيتبعون الإخفاء، و القولان من قبيل التخصيص من غير مخصص.
و قوله: «أولئك الذين هداهم الله» إشارة إلى أن هذه الصفة هي الهداية الإلهية و هذه الهداية أعني طلب الحق و التهيؤ التام لاتباع الحق أينما وجد هي الهداية الإجمالية و إليها تنتهي كل هداية تفصيلية إلى المعارف الإلهية.
و قوله: «و أولئك هم أولوا الألباب» أي ذوو العقول و يستفاد منه أن العقل هو الذي به الاهتداء إلى الحق و آيته صفة اتباع الحق، و قد تقدم في تفسير قوله: «و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه:» البقرة: - 130 أنه يستفاد منه أن العقل ما يتبع به دين الله.
قوله تعالى: «أ فمن حق عليه كلمة العذاب أ فأنت تنقذ من في النار» ثبوت كلمة العذاب وجوب دخول النار بالكفر بقوله عند إهباط آدم إلى الأرض: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون:» البقرة: - 39 و ما في معناه من الآيات.
و مقتضى السياق أن في الآية إضمارا يدل عليه قوله: «أ فأنت تنقذ من في النار» و التقدير أ فمن حقت عليه كلمة العذاب ينجو منه و هو أولى من تقدير قولنا: خير أم من وجبت عليه الجنة.
و قيل: المعنى أ فمن وجب عليه وعيده تعالى بالعقاب أ فأنت تخلصه من النار فاكتفى بذكر «من في النار» عن ذكر الضمير العائد إلى المبتدإ و جيء بالاستفهام مرتين للتأكيد تنبيها على المعنى.
و قيل: التقدير أ فأنت تنقذ من في النار منهم فحذف الضمير و هو أردأ الوجوه.
قوله تعالى: «لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار» الغرف جمع غرفة و هي المنزل الرفيع.
قيل: و هذا في مقابلة قوله في الكافرين: «لهم من فوقهم ظلل من النار و من تحتهم ظلل».
و قوله: «وعد الله» أي وعدهم الله ذلك وعدا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله و قوله: «لا يخلف الله الميعاد» إخبار عن سنته تعالى في مواعيده و فيه تطييب لنفوسهم.
بحث روائي
في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم» يقول: غبنوا أنفسهم و أهليهم.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الذين اجتنبوا الطاغوت - أن يعبدوها و أنابوا إلى الله لهم البشرى»: روى أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: أنتم هم و من أطاع جبارا فقد عبده.
أقول: و هو من الجري.
و في الكافي،: بعض أصحابنا رفعه عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): يا هشام إن الله تبارك و تعالى بشر أهل العقل و الفهم في كتابه فقال: «فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه - أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب».
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم: في قوله تعالى: «و الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها» قال: نزلت هاتان الآيتان في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون: لا إله إلا الله، في زيد بن عمرو بن نفيل و أبي ذر الغفاري و سلمان الفارسي:. أقول: و رواه في المجمع، عن عبد الله بن زيد، و روي في الدر المنثور، أيضا عن ابن مردويه عن ابن عمر: أنها نزلت في سعيد بن زيد و أبي ذر و سلمان، و روي أيضا عن جويبر عن جابر بن عبد الله: أنها نزلت في رجل من الأنصار أعتق سبعة مماليك لما نزل قوله تعالى: «لها سبعة أبواب» الآية، و الظاهر أن الجميع من تطبيق القصة على الآية.
|