بيان
الآيات الكريمة - كما ترى - تنعطف إلى ما كان الكلام فيه قبل من التعرض لحال أهل الكتاب و خاصة اليهود في كفرهم بآيات الله و إغوائهم أنفسهم، و صدهم المؤمنين عن سبيل الله، و إنما كانت الآيات العشر المتقدمة من قبيل الكلام في طي الكلام، فاتصال الآيات على حاله.
قوله تعالى: لن يضروكم إلا أذى «الخ» الأذى ما يصل إلى الحيوان من الضرر: إما في نفسه أو جسمه أو تبعاته دنيويا كان أو أخرويا على ما ذكره الراغب مفردات القرآن.
قوله تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله و حبل من الناس، الذلة بناء نوع من الذل، و الذل بالضم ما كان عن قهر، و بالكسر ما كان عن تصعب و شماس على ما ذكره الراغب، و معناه العام حال الانكسار و المطاوعة، و يقابله العز و هو الامتناع.
و قوله: ثقفوا أي وجدوا، و الحبل السبب الذي يوجب التمسك به العصمة، و قد استعير لكل ما يوجب نوعا من الأمن و العصمة و الوقاية كالعهد و الذمة و الأمان، و المراد و الله أعلم: أن الذلة مضروبة عليهم كضرب السكة على الفاز أو كضرب الخيمة على الإنسان فهم مكتوب عليهم أو مسلط عليهم الذلة إلا بحبل و سبب من الله، و حبل و سبب من الناس.
و قد كرر لفظ الحبل بإضافته إلى الله و إلى الناس لاختلاف المعنى بالإضافة فإنه من الله القضاء و الحكم تكوينا أو تشريعا، و من الناس البناء و العمل.
و المراد بضرب الذلة عليهم القضاء التشريعي بذلتهم، و الدليل على ذلك قوله: أينما ثقفوا فإن ظاهر معناه أينما وجدهم المؤمنون أي تسلطوا عليهم، و هو إنما يناسب الذلة التشريعية التي من آثارها الجزية.
فيئول معنى الآية إلى أنهم أذلاء بحسب حكم الشرع الإسلامي إلا أن يدخلوا تحت الذمة أو أمان من الناس بنحو من الأنحاء.
و ظاهر بعض المفسرين أن قوله: ضربت عليهم الذلة، ليس في مقام تشريع الحكم بل إخبار عن ما جرى عليه أمرهم بقضاء من الله و قدر فإن الإسلام أدرك اليهود و هم يؤدون الجزية إلى المجوس، و بعض شعبهم كانوا تحت سلطة النصارى.
و هذا المعنى لا بأس به و ربما أيده ذيل الكلام إلى آخر الآية فإنه ظاهر في أن السبب في ضرب الذلة و المسكنة عليهم ما كسبته أيديهم من الكفر بآيات الله، و قتل الأنبياء، و الاعتداء المستمر إلا أن لازم هذا المعنى اختصاص الكلام في الآية باليهود و لا مخصص ظاهرا، و سيجيء في ذلك كلام في تفسير قوله تعالى: «و ألقينا بينهم العداوة و البغضاء»: المائدة - 64.
قوله تعالى: و باءوا بغضب من الله و ضربت عليهم المسكنة، باءوا أي اتخذوا مباءة و مكانا، أو رجعوا، و المسكنة أشد الفقر، و الظاهر أن المسكنة أن لا يجد الإنسان سبيلا إلى النجاة و الخلاص عما يهدده من فقر أو أي عدم، و على هذا فيتلاءم معنى الآية صدرا و ذيلا.
قوله تعالى: ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون، و المعنى أنهم عصوا و كانوا قبل ذلك يستمرون على الاعتداء.
قوله تعالى: ليسوا سواء - إلى قوله: - بالمتقين السواء مصدر أريد به معنى الوصف أي ليسوا مستوين في الوصف و الحكم فإن منهم أمة قائمة يتلون آيات الله «الخ»، و من هنا يظهر أن قوله: من أهل الكتاب «الخ» في مقام التعليل يبين به وجه عدم استواء أهل الكتاب.
و قد اختلف في قوله: قائمة فقيل: أي ثابتة على أمر الله، و قيل: أي عادلة، و قيل: أي ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، و الحق أن اللفظ مطلق يحتمل الجميع غير أن ذكر الكتاب و ذكر أعمالهم الصالحة يعين أن المراد هو القيام على الإيمان و الطاعة.
و الآناء جمع إنى بكسر الهمزة أو فتحها، و قيل: إنو و هو الوقت.
و المسارعة المبادرة و هي مفاعلة من السرعة قال في المجمع،: و الفرق بين السرعة و العجلة أن السرعة هي التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه، و هي محمودة و ضدها الإبطاء، و هو مذموم، و العجلة هي التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه و هي مذمومة، و ضدها الأناة و هي محمودة، انتهى، و الظاهر أن السرعة في الأصل وصف للحركة، و العجلة وصف للمتحرك.
و الخيرات مطلق الأعمال الصالحة من عبادة أو إنفاق أو عدل أو قضاء حاجة، و هو جمع محلى باللام، و معناه الاستغراق، و يكثر إطلاقه على الخيرات المالية كما أن الخير يكثر إطلاقه على المال.
و قد عد الله سبحانه لهم جمل مهمات الصالحات، و هي الإيمان، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و المسارعة في كل خير، ثم وصفهم بأنهم صالحون فهم أهل الصراط المستقيم و زملاء النبيين و الصديقين و الشهداء لقوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و لا الضالين»: الحمد - 7، و قوله تعالى: «فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين» الآية: النساء - 69، قيل: المراد بهؤلاء الممدوحين عبد الله بن سلام و أصحابه.
قوله تعالى: و ما يفعلوا من خير فلن يكفروه، من الكفران مقابل الشكر أي يشكر الله لهم فيرده إليهم من غير ضيعة كما قال تعالى: «و من تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم»: البقرة - 158، و قال: «و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم - إلى أن قال - و ما تنفقوا من خير يوف إليكم و أنتم لا تظلمون»: البقرة - 272.
قوله تعالى: إن الذين كفروا لن تغني عنهم، ظاهر وحدة السياق أن المراد بهؤلاء، الذين كفروا هم الطائفة الأخرى من أهل الكتاب الذين لم يستجيبوا دعوة النبوة، و كانوا يوطئون على الإسلام، و لا يألون جهدا في إطفاء نوره.
و ربما قيل: إن الآية ناظرة إلى حال المشركين فتكون التوطئة لما سيشير إليه من قصة أحد لكن لا يلائمه ما سيأتي من قوله: و تؤمنون بالكتاب كله و إذا لقوكم قالوا آمنا «الخ» فإن ذلك بيان لحال اليهود مع المسلمين دون حال المشركين، و من هناك يظهر أن اتصال السياق لم ينقطع بعد.
و ربما جمع بعض المفسرين بين حمل هذه الآية على المشركين و حمل تلك على اليهود، و هو خطأ.
قوله تعالى: مثل ما ينفقون في هذه الحيوة الدنيا الآية الصر البرد الشديد، و إنما قيد الممثل بقوله: في هذه الحيوة الدنيا ليدل على أنهم منقطعون عن الدار الآخرة فلا يتعلق إنفاقهم إلا بهذه الحيوة، و قيد حرث القوم بقوله: ظلموا أنفسهم ليحسن ارتباطه بقوله بعده: و ما ظلمهم الله.
و محصل الكلام أن إنفاقهم في هذه الحيوة و هم يريدون به إصلاح شأنهم و نيل مقاصدهم الفاسدة لا يثمر لهم إلا الشقاء، و فساد ما يريدونه و يحسبونه سعادة لأنفسهم كالريح التي فيها صر تهلك حرث الظالمين، و ليس ذلك إلا ظلما منهم لأنفسهم فإن العمل الفاسد لا يأتي إلا بالأثر الفاسد.
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم الآية سميت الوليجة بطانة و هي ما يلي البدن من الثوب و هي خلاف الظهارة لكونها تطلع على باطن الإنسان و ما يضمره و يستسره، و قوله: لا يألونكم أي لا يقصرون فيكم، و قوله: خبالا أي شرا و فسادا، و منه الخبل للجنون لأنه فساد العقل، و قوله: ودوا ما عنتم، ما مصدرية أي ودوا و أحبوا عنتكم و شدة ضرركم، و قوله: قد بدت البغضاء من أفواههم أريد به ظهور البغضاء و العداوة من لحن قولهم و فلتات لسانهم ففيه استعارة لطيفة و كناية، و لم يبين ما في صدورهم بل أبهم قوله: و ما تخفي صدورهم أكبر للإيماء إلى أنه لا يوصف لتنوعه و عظمته و به يتأكد قوله: أكبر.
قوله تعالى: ها أنتم أولاء تحبونهم الآية، الظاهر أن أولاء اسم إشارة و لفظة ها للتنبيه، و قد تخلل لفظة أنتم بين ها و أولاء، و المعنى أنتم هؤلاء على حد قولهم: زيد هذا و هند هذه كذا و كذا.
و قوله: و تؤمنون بالكتاب كله، اللام للجنس أي و أنتم تؤمنون بجميع الكتب السماوية النازلة من عند الله: كتابهم و كتابكم، و هم لا يؤمنون بكتابكم، و قوله، و إذا لقوكم قالوا آمنا، أي إنهم منافقون، و قوله: و إذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط، و الأنامل جمع أنملة و هي طرف الإصبع.
و الغيظ هو الحنق، و عض الأنامل على شيء مثل يضرب للتحسر و التأسف غضبا و حنقا.
و قوله: قل موتوا بغيظكم دعاء عليهم في صورة الأمر و بذلك تتصل الجملة بقوله: إن الله عليم بذات الصدور أي اللهم أمتهم بغيظهم إنك عليم بذات الصدور أي القلوب أي النفوس.
قوله تعالى: إن تمسسكم حسنة تسؤهم، المساءة خلاف السرور، و في الآية دلالة على أن الأمن من كيدهم مشروط بالصبر و التقوى.
|