بيان
عود إلى بدء من الاحتجاج على ربوبيته تعالى و القول في اهتداء المهتدين و ضلال الضالين و المقايسة بين الفريقين و ما ينتهي إليه عاقبة أمر كل منهما، و فيها معنى هداية القرآن.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض» إلى آخر الآية، قال في المجمع،: الينابيع جمع ينبوع و هو الذي ينبع منه الماء يقال نبع الماء من موضع كذا إذا فار منه، و الزرع ما ينبت على غير ساق و الشجر ما له ساق و أغصان النبات يعم الجميع، و هاج النبت يهيج هيجا إذا جف و بلغ نهايته في اليبوسة، و الحطام فتات التبن و الحشيش.
انتهى.
و قوله: «فسلكه ينابيع في الأرض» أي فأدخله في عيون و مجاري في الأرض هي كالعروق في الأبدان تنقل ما تحمله من جانب إلى جانب، و الباقي ظاهر و الآية - كما ترى - تحتج على توحده تعالى في الربوبية.
قوله تعالى: «أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» إلخ لما ذكر في الآية السابقة أن فيما ذكره من إنزال الماء و إنبات النبات ذكرى لأولي الألباب و هم عباده المتقون و قد ذكر قبل أنهم الذين هداهم الله ذكر في هذه الآية أنهم ليسوا كغيرهم من الضالين و أوضح السبب في ذلك و هو أنهم على نور من ربهم يبصرون به الحق و في قلوبهم لين لا تعصي عن قبول ما يلقى إليهم من أحسن القول.
فقوله: «أ فمن شرح الله صدره» خبره محذوف يدل عليه قوله: «فويل للقاسية قلوبهم» إلخ أي كالقاسية قلوبهم و الاستفهام للإنكار أي لا يستويان.
و شرح الصدر بسطه ليسع ما يلقى إليه من القول و إذ كان ذلك للإسلام و هو التسليم لله فيما أراد و ليس إلا الحق كان معناه كون الإنسان بحيث يقبل ما يلقى إليه من القول الحق و لا يرده، و ليس قبولا من غير دراية و كيفما كان بل عن بصيرة بالحق و عرفان بالرشد و لذا عقبه بقوله: «فهو على نور من ربه» فجعله بحسب التمثيل راكب نور يسير عليه و يبصر ما يمر به في ساحة صدره الرحب الوسيع من الحق فيبصره و يميزه من الباطل بخلاف الضال الذي لا في صدره شرح فيسع الحق و لا هو راكب نور من ربه فيبصر الحق و يميزه.
و قوله: «فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله» تفريع على الجملة السابقة بما يدل على أن القاسية القلوب - و قساوة القلب و صلابته لازمة عدم شرح الصدر و عدم النور - لا يتذكرون بآيات الله فلا يهتدون إلى ما تدل عليه من الحق، و لذا عقبه بقوله: «أولئك في ضلال مبين».
و في الآية تعريف الهداية بلازمها و هو شرح الصدر و جعله على نور من ربه، و تعريف الضلال بلازمه و هو قساوة القلب من ذكر الله.
و قد تقدم في تفسير قوله: «و من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام» الآية: الأنعام: - 125 كلام في معنى الهداية فراجع.
قوله تعالى: «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني» إلى آخر الآية كالإجمال بعد التفصيل بالنسبة إلى الآية السابقة بالنظر إلى ما يتحصل من الآية في معنى الهداية و إن كانت بيانا لهداية القرآن.
فقوله: «الله نزل أحسن الحديث» هو القرآن الكريم و الحديث هو القول كما في قوله تعالى: «فليأتوا بحديث مثله:» الطور: - 34، و قوله: «فبأي حديث بعده يؤمنون:» المرسلات: - 50 فهو أحسن القول لاشتماله على محض الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و هو كلامه المجيد.
و قوله: «كتابا متشابها» أي يشبه بعض أجزائه بعضا و هذا غير التشابه الذي في المتشابه المقابل للمحكم فإنه صفة بعض آيات الكتاب و هذا صفة الجميع.
و قوله: «مثاني» جمع مثنية بمعنى المعطوف لانعطاف بعض آياته على بعض و رجوعه إليه بتبين بعضها ببعض و تفسير بعضها لبعض من غير اختلاف فيها بحيث يدفع بعضه بعضا و يناقضه كما قال تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا:» النساء: - 82.
و قوله: «تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم» صفة الكتاب و ليس استئنافا، و الاقشعرار تقبض الجلد تقبضا شديدا لخشية عارضة عن استماع أمر هائل أو رؤيته، و ليس ذلك إلا لأنهم على تبصر من موقف نفوسهم قبال عظمة ربهم فإذا سمعوا كلامه توجهوا إلى ساحة العظمة و الكبرياء فغشيت قلوبهم الخشية و أخذت جلودهم في الاقشعرار.
و قوله: «ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله» «تلين» مضمنة معنى السكون و الطمأنينة و لذا عدي بإلى و المعنى ثم تسكن و تطمئن جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله لينة تقبله أو تلين له ساكنة إليه.
و لم يذكر القلوب في الجملة السابقة عند ذكر الاقشعرار لأن المراد بالقلوب النفوس و لا اقشعرار لها و إنما لها الخشية.
و قوله: «ذلك هدى الله يهدي به من يشاء» أي ما يأخذهم من اقشعرار الجلود من القرآن ثم سكون جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله هو هدى الله و هذا تعريف آخر للهداية بلازمها.
و قوله: «يهدي به من يشاء» أي يهدي بهداه من يشاء من عباده و هو الذي لن يبطل استعداده للاهتداء و لم يشغل بالموانع عنه كالفسق و الظلم و في السياق إشعار بأن الهداية من فضله و ليس بموجب فيها مضطر إليها.
و قيل: المشار إليه بقوله: «ذلك هدى الله» القرآن و هو كما ترى، و قد استدل بالآيات على أن الهداية من صنع الله لا يشاركه فيها غيره، و الحق أنها خالية عن الدلالة على ذلك و إن كان الحق هو ذلك بمعنى كونها لله سبحانه أصالة و لمن اختاره من عباده لذلك تبعا كما يستفاد من مثل قوله: «قل إن هدى الله هو الهدى:» البقرة: - 120 و قوله: «إن علينا للهدى:» الليل: - 12، و قوله: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا:» الأنبياء: - 73، و قوله: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم:» الشورى: - 52.
فالهداية كلها لله إما بلا واسطة أو بواسطة الهداة المهديين من خلقه و على هذا فمن أضله من خلقه بأن لم يهده بالواسطة و لا بلا واسطة فلا هادي له و ذلك قوله في ذيل الآية: «و من يضلل الله فما له من هاد» و سيأتي الجملة بعد عدة آيات و هي متكررة في كلامه تعالى.
قوله تعالى: «أ فمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون» مقايسة بين أهل العذاب يوم القيامة و الآمنين منه و الفريقان هما أهل الضلال و أهل الهدى و لذا عقب الآية السابقة بهذه الآية.
و الاستفهام للإنكار و خبر «من» محذوف و التقدير كمن هو في أمن منه، و يوم القيامة متعلق بيتقي، و المعنى أ فمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن من العذاب لا يصيبه مكروه.
كذا قيل.
و قيل: الاتقاء بوجهه بالمعنى المذكور لا وجه له لأن الوجه ليس مما يتقى به بل المراد الاتقاء بكليته أو بخصوص وجهه سوء عذاب يوم القيامة و يوم القيامة قيد للعذاب و المراد عكس الوجه السابق، و المعنى أ فمن يتقي سوء العذاب الذي يوم القيامة في الدنيا بتقوى الله كالمصر على كفره، و لا يخلو من التكلف.
و قوله: «و قيل للظالمين ذوقوا ما كنتم تكسبون» القول لملائكة النار، و الظاهر أن الجملة بتقدير قد أو بدونه و الأصل و قيل لهم ذوقوا «إلخ» لكن وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على علة الحكم و هي الظلم.
قوله تعالى: «كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون» أي من الجهة التي لا يحتسبون ففوجئوا و أخذوا على غفلة و هو أشد الأخذ، و في الآية و ما بعدها بيان لما أصاب بعض الكفار من عذاب الخزي ليكون عبرة لغيرهم.
قوله تعالى: «فأذاقهم الله الخزي في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون» الخزي هو الذل و الصغار، و قد أذاقهم الله ذلك في ألوان من العذاب أنزلنا عليهم كالغرق و الخسف و الصيحة و الرجفة و المسخ و القتل.
قوله تعالى: «و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون» أي ضربنا لهم من كل نوع من الأمثال شيئا لعلهم يتنبهون و يعتبرون و يتعظون بتذكر ما تتضمنه.
قوله تعالى: «قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون» العوج الانحراف و الانعطاف، «قرآنا عربيا» منصوب على المدح بتقدير أمدح أو أخص و نحوه أو حال معتمد على الوصف.
قوله تعالى: «ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون و رجلا سلما لرجل هل يستويان» إلخ، قال الراغب: الشكس - بالفتح فالكسر - سيىء الخلق، و قوله: «شركاء متشاكسون» أي متشاجرون لشكاسة خلقهم.
انتهى و فسروا السلم بالخالص الذي لا يشترك فيه كثيرون.
مثل ضربه الله للمشرك الذي يعبد أربابا و آلهة مختلفين فيشتركون فيه و هم متنازعون فيأمره هذا بما ينهاه عنه الآخر و كل يريد أن يتفرد فيه و يخصه بخدمة نفسه، و للموحد الذي هو خالص لمخدوم واحد لا يشاركه فيه غيره فيخدمه فيما يريد منه من غير تنازع يؤدي إلى الحيرة فالمشرك هو الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون و الموحد هو الرجل الذي هو سلم لرجل.
لا يستويان بل الذي هو سلم لرجل أحسن حالا من صاحبه.
و هذا مثل ساذج ممكن الفهم لعامة الناس لكنه عند المداقة يرجع إلى قوله تعالى: «لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا:» الأنبياء: - 22 و عاد برهانا على نفي تعدد الأرباب و الآلهة.
و قوله: «الحمد لله» ثناء لله بما أن عبوديته خير من عبودية من سواه.
و قوله: «بل أكثرهم لا يعلمون» مزية عبادته على عبادة غيره على ما له من الظهور التام لمن له أدنى بصيرة.
قوله تعالى: «إنك ميت و إنهم ميتون ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون» الآية الأولى تمهيد لما يذكر في الثانية من اختصامهم يوم القيامة عند ربهم و الخطاب في «إنكم» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته أو المشركين منهم خاصة و الاختصام - كما في المجمع، - رد كل واحد من الاثنين ما أتى به الآخر على وجه الإنكار عليه.
و المعنى: إن عاقبتك و عاقبتهم الموت ثم إنكم جميعا يوم القيامة بعد ما حضرتم عند ربكم تختصمون و قد حكى مما يلقيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا:» الفرقان: - 30.
و الآيتان عامتان بحسب لفظهما لكن الآيات الأربع التالية تؤيد أن المراد بالاختصام ما يقع بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين الكافرين من أمته يوم القيامة.
قوله تعالى: «فمن أظلم ممن كذب على الله و كذب بالصدق إذ جاءه أ ليس في جهنم مثوى للكافرين» في الآية و ما بعدها مبادرة إلى ذكر ما ينتهي إليه أمر اختصامهم يوم القيامة و تلويح إلى ما هو نتيجة القضاء بينهم كأنه قيل: و نتيجة ما يقضى به بينكم معلومة اليوم و أنه من هو الناجي منكم، و من هو الهالك؟ فإن القضاء يومئذ يدور مدار الظلم و الإحسان و لا أظلم من الكافر و المؤمن متق محسن و الظلم إلى النار و الإحسان إلى الجنة.
هذا ما يعطيه السياق.
فقوله: «فمن أظلم ممن كذب على الله» أي افترى عليه بأن ادعى أن له شركاء و الظلم يعظم بعظم من تعلق به و إذا كان هو الله سبحانه كان أعظم من كل ظلم و مرتكبه أظلم من كل ظالم.
و قوله: «و كذب بالصدق إذ جاءه» المراد بالصدق الصادق من النبإ و هو الدين الإلهي الذي جاء به الرسول بقرينة قوله: «إذ جاءه».
و قوله: «أ ليس في جهنم مثوى للكافرين» المثوى اسم مكان بمعنى المنزل و المقام، و الاستفهام للتقرير أي إن في جهنم مقام هؤلاء الظالمين لتكبرهم على الحق الموجب لافترائهم على الله و تكذيبهم بصادق النبإ الذي جاء به الرسول.
و الآية خاصة بمشركي عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو بمشركي أمته بحسب السياق و عامة لكل من ابتدع بدعة و ترك سنة من سنن الدين.
قوله تعالى: «و الذي جاء بالصدق و صدق به أولئك هم المتقون» المراد بالمجيء بالصدق الإتيان بالدين الحق و المراد بالتصديق به الإيمان به و الذي جاء به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قوله: «أولئك هم المتقون» لعل الإشارة إلى الذي جاء به بصيغة الجمع لكونه جمعا بحسب المعنى و هو كل نبي جاء بالدين الحق و آمن بما جاء به بل و كل مؤمن آمن بالدين الحق و دعي إليه فإن الدعوة إلى الحق قولا و فعلا من شئون اتباع النبي، قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني:» يوسف: - 108.
قوله تعالى: «لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين» هذا جزاؤهم عند ربهم و هو أن لهم ما تتعلق به مشيتهم فالمشية هناك هي السبب التام لحصول ما يشاؤه الإنسان أيا ما كان بخلاف ما عليه الأمر في الدنيا فإن حصول شيء من مقاصد الحياة فيها يتوقف - مضافا إلى المشية - على عوامل و أسباب كثيرة منها السعي و العمل المستمد من الاجتماع و التعاون.
فالآية تدل أولا على إقامتهم في دار القرب و جوار رب العالمين، و ثانيا أن لهم ما يشاءون فهذان جزاء المتقين و هم المحسنون فإحسانهم هو السبب في إيتائهم الأجر المذكور و هذه هي النكتة في إقامة الظاهر مقام الضمير في قوله: «ذلك جزاء المحسنين» و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و ذلك جزاؤهم.
و توصيفهم بالإحسان و ظاهره العمل الصالح أو الاعتقاد الحق و العمل الحسن جميعا يشهد أن المراد بالتصديق المذكور هو التصديق قولا و فعلا.
على أن القرآن لا يسمي تارك بعض ما أنزله الله من حكم مصدقا به.
قوله تعالى: «ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا» إلى آخر الآية و من المعلوم أنه إذا كفر أسوأ أعمالهم كفر ما دون ذلك، و المراد بأسوإ الذي عملوا ما هو كالشرك و الكبائر.
قال في المجمع البيان، في الآية: أي أسقط الله عنهم عقاب الشرك و المعاصي التي فعلوها قبل ذلك بإيمانهم و إحسانهم و رجوعهم إلى الله تعالى انتهى و هو حسن من جهة تعميم الأعمال السيئة، و من جهة تقييد التكفير بكونه قبل ذلك بالإيمان و الإحسان و التوبة فإن الآية تبين أثر تصديق الصدق الذي أتاهم و هو تكفير السيئات بالتصديق و الجزاء الحسن في الآخرة.
و قوله: «و يجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون».
قيل: المراد أنه ينظر إلى أعمالهم فيجازيهم في أحسنها جزاءه اللائق به و في غير الأحسن يجازيهم جزاء الأحسن فالباء للمقابلة نحو بعت هذا بهذا.
و يمكن أن يقال: إن المراد أنه ينظر إلى أرفع أعمالهم درجة فيترفع درجتهم بحسبه فلا يضيع شيء مما هو آخر ما بلغه عملهم من الكمال لكن في جريان نظير الكلام في تكفير الأسوإ خفاء.
و قيل: صيغة التفضيل في الآية «أسوأ» و «أحسن» مستعملة في الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه فإن معصية الله كلها أسوأ و طاعته كلها أحسن.
قوله تعالى: «أ ليس الله بكاف عبده و يخوفونك بالذين من دونه» المراد بالذين من دونه آلهتهم من دون الله على ما يستفاد من السياق، و المراد بالعبد من مدحه الله تعالى في الآيات السابقة و يشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شمولا أوليا.
و الاستفهام للتقرير و المعنى هو يكفيهم، و فيه تأمين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبال تخويفهم إياه بآلهتهم و كناية عن وعده بالكفاية كما صرح به في قوله: «فسيكفيكهم الله و هو السميع العليم:» البقرة: - 137.
قوله تعالى: «و من يضلل الله فما له من هاد و من يهد الله فما له من مضل» إلخ جملتان كالمتعاكستين مرسلتان إرسال الضوابط الكلية و لذا جيء فيهما باسم الجلالة و كان من قبيل وضع الظاهر موضع الضمير.
و في تعقيب قوله: «أ ليس الله بكاف» إلخ بقوله: «و من يضلل» إلخ إشارة إلى أن هؤلاء المخوفين لا يهتدون بالإيمان أبدا و لن ينجح مسعاهم و أنهم لن ينالوا بغيتهم و لا أمنيتهم من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الله لن يضله و قد هداه.
و قوله: «أ ليس الله بعزيز ذي انتقام» استفهام للتقرير أي هو كذلك، و هو تعليل ظاهر لقوله: «و من يضلل الله» إلخ فإن عزته و كونه ذا انتقام يقتضيان أن ينتقم ممن جحد الحق و أصر على كفره فيضله و لا هادي يهديه لأنه تعالى عزيز لا يغلبه فيما يريد غالب، و كذا إذا هدى عبدا من عباده لتقواه و إحسانه لم يقدر على إضلاله مضل.
و في التعليل دلالة على أن الإضلال المنسوب إلى الله تعالى هو ما كان على نحو المجازاة و الانتقام دون الضلال الابتدائي و قد مر مرارا.
بحث روائي
عن روضة الواعظين، روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ «أ فمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه» فقال: إن النور إذا وقع في القلب انفسح له و انشرح. قالوا: يا رسول الله فهل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الاستعداد للموت قبل نزول الموت:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن عبد الله بن مسعود و عن الحكيم الترمذي عن ابن عمر، و عن ابن جرير و غيره عن قتادة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أ فمن شرح الله صدره» الآية قال: نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام).
أقول: و نزول السورة دفعة لا يلائمه كما مر في نظيره.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: قالوا: يا رسول الله لو حدثتنا فنزل: «الله نزل أحسن الحديث».
أقول: و هو من التطبيق.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «تقشعر منه جلود» الآية: روي عن العباس بن عبد المطلب أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إذا اقشعر جلد العبد من خشية الله تحاتت 1 عنه ذنوبه كما يتحات عن الشجرة اليابسة ورقها.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «قرآنا عربيا غير ذي عوج»: أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «قرآنا عربيا غير ذي عوج» قال: غير مخلوق.
أقول: الآية تأبى عن الانطباق على الرواية و قد تقدم كلام في معنى الكلام في ذيل قوله تعالى: «تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض:» البقرة: - 253 في الجزء الثاني من الكتاب.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و رجلا سلما لرجل»: روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن علي أنه قال: أنا ذلك الرجل السلم لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):. أقول: و رواه أيضا عن العياشي بإسناده عن أبي خالد عن أبي جعفر (عليه السلام) و هو من الجري و المثل عام.
و فيه،: في قوله تعالى: «ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون» قال ابن عمر: كنا نرى أن هذه فينا و في أهل الكتابين و قلنا: كيف نختصم نحن و نبينا واحد و كتابنا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعلمت أنها فينا نزلت.
و قال أبو سعيد الخدري: كنا نقول: إن ربنا واحد و نبينا واحد و ديننا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين و شد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: نعم هو هذا:. أقول: و روي في الدر المنثور، الحديث الأول بطرق مختلفة عن ابن عمر و في ألفاظها اختلاف و المعنى واحد، و رواه أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن إبراهيم النخعي، و روي ما يقرب منه بطريقين عن الزبير بن العوام، و روي الحديث الثاني عن سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري.
و الأحاديث تعارض ما روي أن الصحابة مجتهدون مأجورون إن أصابوا و إن أخطئوا.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الذي جاء بالصدق و صدق به» قيل: الذي جاء بالصدق محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و صدق به علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هو المروي عن أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أبي هريرة، و الظاهر أنه من الجري نظرا إلى قوله في ذيل الآية «أولئك هم المتقون».
و روي من طرقهم: أن الذي صدق به أبو بكر و هو أيضا من تطبيق الراوي، روي: أن الذي جاء به جبرئيل و الذي صدق به محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أيضا تطبيق غير أن السياق يدفعه فإن الآيات مسوقة لوصف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين و جبرئيل أجنبي عنه لا تعلق للكلام به.
|