بيان
فصل ثان من الآيات يعرف فيه الوحي من حيث الغاية المترتبة عليه كما عرفه في الفصل السابق بالإشارة إليه نفسه.
فبين في هذا الفصل أن الغرض من الوحي إنذار الناس و خاصة الإنذار المتعلق بيوم الجمع الذي يتفرق فيه الناس فريقين فريق في الجنة و فريق في السعير إذ لو لا الإنذار بيوم الجمع الذي فيه الحساب و الجزاء لم تنجح دعوة دينية و لم ينفع تبليغ.
ثم بين أن تفرقهم فريقين هو الذي شاءه الله سبحانه فعقبه بتشريع الدين و إنذار الناس يوم الجمع من طريق الوحي لأنه وليهم الذي يحييهم بعد موتهم الحاكم بينهم فيما اختلفوا فيه.
ثم ساق الكلام فانتقل إلى توحيد الربوبية و أنه تعالى هو الرب لا رب غيره لاختصاصه بصفات الربوبية من غير شريك يشاركه في شيء منها.
قوله تعالى: «و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها» الإشارة إلى الوحي المفهوم من سابق السياق، و أم القرى هي مكة المشرفة و المراد بإنذار أم القرى إنذار أهلها، و المراد بمن حولها سائر أهل الجزيرة ممن هو خارج مكة كما يؤيده توصيف القرآن بالعربية.
و ذلك أن الدعوة النبوية كانت ذات مراتب في توسعها فابتدأت الدعوة العلنية بدعوة العشيرة الأقربين كما قال: «و أنذر عشيرتك الأقربين»: الشعراء، 214 ثم توسعت فتعلقت بالعرب عامة كما قال: «قرآنا عربيا لقوم يعلمون»: حم السجدة: 3 ثم بجميع الناس كما قال: «و أنزل إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ».
و من الدليل على ما ذكرناه من الأمر بالتوسع تدريجا قوله تعالى: «قل ما أسألكم عليه من أجر - إلى أن قال - إن هو إلا ذكر للعالمين»: ص: 87 فإن الخطاب على ما يعطيه سياق السورة لكفار قريش يقول سبحانه إنه ذكر للعالمين لا يختص ببعض دون بعض، فإذا كان للجميع فلا معنى لأن يسأل بعضهم - كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - بعضا عليه أجرا.
على أن تعلق الدعوة بأهل الكتاب و خاصة باليهود و النصارى من ضروريات القرآن، و كذا إسلام رجال من غير العرب كسلمان الفارسي و بلال الحبشي و صهيب الرومي من ضروريات التاريخ.
و قيل المراد بقوله: «من حولها» سائر الناس من أهل قرى الأرض كلها و يؤيده التعبير عن مكة بأم القرى.
و الآية - كما ترى - تعرف الوحي بغايته التي هي إنذار الناس من طريق الإلقاء الإلهي و هو النبوة فالوحي إلقاء إلهي لغرض النبوة و الإنذار.
قوله تعالى: «و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة و فريق في السعير» عطف على «تنذر» السابق و هو من عطف الخاص على العام لأهميته كأنه قيل: لتنذر الناس و تخوفهم من الله و خاصة من سخطه يوم الجمع.
و قوله: «يوم الجمع» مفعول ثان لقوله: «تنذر» و ليس بظرف له و هو ظاهر، و يوم الجمع هو يوم القيامة قال تعالى: «ذلك يوم مجموع له الناس - إلى أن قال - فمنهم شقي و سعيد»: هود: 105.
و قوله: «فريق في الجنة و فريق في السعير» في مقام التعليل و دفع الدخل كأنه قيل: لما ذا ينذرهم يوم الجمع؟ فقيل: «فريق في الجنة و فريق في السعير» أي إنهم يتفرقون فريقين: سعيد مثاب و شقي معذب فلينذروا حتى يتحرزوا سبيل الشقاء و الهبوط في مهبط الهلكة.
قوله تعالى: «و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة» إلى آخر الآية لما كانت الآية مسوقة لبيان لزوم الإنذار و النبوة من جهة تفرق الناس فريقين يوم القيامة كان الأسبق إلى الذهن من جعلهم أمة واحدة مطلق رفع التفرق و التميز من بينهم بتسويتهم جميعا على صفة واحدة من غير فرق و ميز، و لم تقع عند ذلك حاجة إلى النبوة و الإنذار.
و قوله: «و لكن يدخل من يشاء في رحمته و الظالمون ما لهم من ولي و لا نصير» استدراك يبين فيه أن سنته تعالى جرت على التفريق و لم يشأ جعلهم أمة واحدة يدل على ذلك قوله: «يدخل من يشاء» الدال على الاستمرار، و لم يقل: و لكن أدخل و نحوه.
و قد قوبل في الآية قوله: «من يشاء» بقوله: «و الظالمون» فالمراد بمن يشاء غير الظالمين و قد فسر الظالمين يوم القيامة بقوله: «فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون»: الأعراف: 45 فهم المعاندون المنكرون للمعاد.
و قوبل أيضا بين الإدخال في الرحمة و بين نفي الولي و النصير فالمدخلون في رحمته هم الذين وليهم الله، و الذين ما لهم من ولي و لا نصير هم الذين لا يدخلهم الله في رحمته، و أيضا الرحمة هي الجنة و انتفاء الولاية و النصرة يلازم السعير.
فمحمل معنى الآية: أن الله سبحانه إنما قدر النبوة و الإنذار المتفرع على الوحي لمكان ما سيعتريهم يوم القيامة من التفرق فريقين، ليتحرزوا من الدخول في فريق السعير.
و لو أراد الله لجعلهم أمة واحدة فاستوت حالهم و لم يتفرقوا يوم القيامة فريقين فلم يكن عند ذلك ما تقتضي النبوة و الإنذار فلم يكن وحي لكنه تعالى لم يرد ذلك بل جرت سنته على أن يتولى أمر قوم منهم و هم غير الظالمين فيدخلهم الجنة و في رحمته، و لا يتولى أمر آخرين و هم الظالمون فيكونوا لا ولي لهم و لا نصير و يصيروا إلى السعير لا مخلص لهم من النار.
فقد تحصل مما تقدم أن المراد بجعلهم أمة واحدة هو التسوية بينهم بإدخال الجميع في الجنة و إدخال الجميع في السعير أي أنه تعالى ليس بملزم بإدخال السعداء في الجنة و الأشقياء في النار فلو لم يشأ لم يفعل لكنه شاء أن يفرق بين الفريقين و جرت سنته على ذلك و وعد بذلك و هو لا يخلف الميعاد و مع ذلك فقدرته المطلقة باقية على حالها لم تنسلب و لم تتغير فقوله: «و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه» إلى تمام الآيتين في معنى قوله في سورة هود: «إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس» إلى تمام سبع آيات فراجع و تدبر.
و قيل: المراد بجعلهم أمة واحدة جعلهم مؤمنين جميعا داخلين في الجنة، قال في الكشاف: و المعنى و لو شاء ربك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان و لكنه شاء مشيئة حكمة فكلفهم و بنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته و هم المرادون بمن يشاء أ لا ترى إلى وضعهم في مقابلة الظالمين، و يترك الظالمين بغير ولي و لا نصير في عذابه.
و استدل على ما اختاره من المعنى بقوله تعالى: «و لو شئنا لآتينا كل نفس هداها»: الم السجدة: 13 و قوله: «و لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا»: يونس: 99 و الدليل على أن المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله: «أ فأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».
و فيه أن الآيات - كما عرفت مسوقة لتعريف الوحي من حيث غايته و أن تفرق في الناس يوم الجمع: فريقين سبب يستدعي وجود النبوة و الإنذار من طريق الوحي، و قوله: «و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة» مسوق لبيان أنه تعالى ليس بمجبر على ذلك و لا ملزم به بل له أن لا يفعل، و هذا المعنى يتم بمجرد أن لا يجعلهم متفرقين فريقين بل أمة واحدة كيفما كانوا، و أما كونهم فرقة واحدة مؤمنة بالخصوص فلا مقتضى له هناك.
و أما ما استدل به من الآيتين فسياقهما غير سياق الآية المبحوث عنها، و المراد بهما غير الإيمان القسري الذي ذكره و قد تقدم البحث عنهما في الكتاب.
و قيل: إن الأنسب للسياق هو اتحادهم في الكفر بأن يراد جعلهم أمة واحدة كافرة كما في قوله: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين»: البقرة: 213 فالمعنى: و لو شاء الله لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر بأن لا يرسل إليهم رسولا ينذرهم فيبقوا على ما هم عليه من الكفر و لكن يدخل من يشاء في رحمته أي شأنه ذلك فيرسل إلى الكل من ينذرهم فيتأثر به من تأثر فيوفقهم الله للإيمان و الطاعات في الدنيا و يدخلهم في رحمته في الآخرة، و لا يتأثر به الآخرون و هم الظالمون فيعيشون في الدنيا كافرين و يصيرون في الآخرة إلى السعير من غير ولي و لا نصير.
و فيه أولا: أن المراد من كون الناس أمة واحدة في الآية المقيس عليها ليس هو اتفاقهم على الكفر بل عدم اختلافهم في الأمور الراجعة إلى المعاش كما تقدم في تفسير الآية، و لو سلم ذلك أدى إلى التنافي البين بين المقيسة و المقيس عليها لدلالة المقيسة على التفرق و عدم الاتحاد دلالة المقيس عليها على ثبوت الاتحاد و عدم التفرق.
و لو أجيب عنه بأن المقيس عليها تدل على كون الناس أمة واحدة بحسب الطبع دون الفعلية فلا تنافي بين الآيتين، رد بمنافاته لما دل من الآيات على كون الإنسان مؤمنا بحسب الفطرة الأصلية كقوله تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8.
و ثانيا: أن فيه إخراجا لقوله: «و لكن يدخل من يشاء في رحمته» عن المقابلة مع قوله: «و الظالمون» إلخ من غير دليل، ثم تكلف تقدير ما يفيد معناه ليحفظ به ما يقيده الكلام من المقابلة.
قوله تعالى: «أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي - إلى قوله - فحكمه إلى الله» «أم» تفيد الإنكار كما ذكره الزمخشري.
لما أفاد في الآية السابقة أن الله سبحانه يتولى أمر المؤمنين خاصة فيدخلهم في رحمته و أن الظالمين هم الكافرون المعاندون لا ولي لهم تعرض في هذه الآية لاتخاذهم أولياء يدينون لهم و يعبدونهم من دونه و كان يجب أن يتخذوا الله وليا يدينون له و يعبدونه فأنكر عليهم ذلك و احتج على وجوب اتخاذه وليا بالحجة بعد الحجة و ذلك قوله: «فالله هو الولي» إلخ.
فقوله: «فالله هو الولي» تعليل للإنكار السابق لاتخاذهم من دونه أولياء فيكون حجة لوجوب اتخاذه وليا، و الجملة - فالله هو الولي - تفيد حصر الولاية في الله و قد تبينت الحجة على أصل ولايته و انحصارها فيه من قوله في الآيات السابقة: «العزيز الحكيم له ما في السماوات و ما في الأرض و هو العلي العظيم» كما أشرنا إليه في تفسير الآيات.
و المعنى: أنه تعالى ولي ينحصر فيه الولاية فمن الواجب على من يتخذ وليا أن يتخذه وليا و لا يتعداه إلى غيره إذ لا ولي غيره.
و قوله: «و هو يحيي الموتى» حجة ثانية على وجوب اتخاذه تعالى وحده وليا، و محصله أن عمدة الغرض في اتخاذ الولي و التدين له بعبوديته التخلص من عذاب السعير و الفوز بالجنة يوم القيامة و المثيب و المعاقب يوم القيامة هو الله الذي يحيي الموتى فيجمعهم فيجازيهم بأعمالهم فهو الذي يجب أن يتخذ وليا دون أوليائهم الذين هم أموات غير أحياء و لا يشعرون أيان يبعثون.
و قوله: «و هو على كل شيء قدير» حجة ثالثة على وجوب اتخاذه تعالى وليا دون غيره، و محصله أن من الواجب في باب الولاية أن يكون للولي قدرة على ما يتولاه من شئون من يتولاه و أموره، و الله سبحانه على كل شيء قدير و لا قدرة لغيره إلا مقدار ما أقدره الله عليه و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره فهو الولي لا ولي غيره تعالى و تقدس.
و قوله: «و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله» حجة رابعة على كونه تعالى وليا لا ولي غيره، و حكم الحاكم بين المختلفين هو أحكامه و تثبيته الحق المضطرب بينهما بسبب تخالفهما بالإثبات و النفي، و الاختلاف ربما كان في عقيدة كالاختلاف في أن الإله واحد أو كثير، و ربما كان في عمل أو ما يرجع إليه كالاختلاف في أمور المعيشة و شئون الحياة فهو أعني الحكم يساوق القضاء مصداقا و إن اختلفا مفهوما.
ثم الحكم و القضاء إنما يتم إذا ملكه الحاكم بنوع من الملك و الولاية و إن كان بتمليك المختلفين له ذلك كالمتنازعين إذا رجعا إلى ثالث فاتخذاه حكما ليحكم بينهما و يتسلما ما يحكم به فقد ملكاه الحكم بما يرى و أعطياه من نفسهما القبول و التسليم فهو وليهما في ذلك.
و الله سبحانه هو المالك لكل شيء لا مالك سواه لكون كل شيء بوجوده و آثار وجوده قائما به تعالى فله الحكم و القضاء بالحق قال تعالى: «كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم و إليه ترجعون»: القصص: 88، و قال: «إن الله يحكم ما يريد»: المائدة: 2 و قال: «الحق من ربك»: آل عمران: 60.
و حكمه تعالى إما تكويني و هو تحقيقه و تثبيته المسببات قبال الأسباب المجتمعة عليها المتنازعة فيها بتقديم ما نسميه سببا تاما على غيره قال تعالى حاكيا عن يعقوب (عليه السلام): «إن الحكم إلا لله عليه توكلت»: يوسف: 67 و إما تشريعي كالتكاليف الموضوعة في الدين الإلهي الراجعة إلى الاعتقاد و العمل قال تعالى: «إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم»: يوسف: 40.
و هناك قسم ثالث من الحكم يمكن أن يعد من كل من القسمين السابقين بوجه و هو حكمه تعالى يوم القيامة بين عباده فيما اختلفوا فيه و هو إعلانه و إظهاره الحق يوم القيامة لأهل الجمع يشاهدونه مشاهدة عيان و إيقان فيسعد به و بآثاره من كان مع الحق و يشقى بالاستكبار عليه و تبعات ذلك من استكبر عليه قال تعالى: «فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: البقرة: 113.
ثم إن اختلاف الناس في عقائدهم و أعمالهم اختلاف تشريعي لا يرفعه إلا الأحكام و القوانين التشريعية و لو لا الاختلاف لم يجود قانون كما يشير إليه قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين و منذرين و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه»: البقرة: 213، و قد تبين أن الحكم التشريعي لله سبحانه فهو الولي في ذلك فيجب أن يتخذ وحده وليا فيعبد و يدان بما أنزله من الدين.
و هذا معنى قوله: «و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله» و محصل الحجة أن الولي الذي يعبد و يدان له يجب أن يكون رافعا لاختلافات من يتولونه مصلحا لما فسد من شئون مجتمعهم سائقا لهم إلى سعادة الحياة الدائمة بما يضعه عليهم من الحكم و هو الدين، و الحكم في ذلك إلى الله سبحانه، فهو الولي الذي يجب أن يتخذ وليا لا غير.
و للقوم في تفسير الآية أعني قوله: «و ما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله» تفاسير أخر فقيل: هو حكاية قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمؤمنين أي ما خالفكم فيه الكفار من أهل الكتاب و المشركين فاختلفتم أنتم و هم فيه من أمر من أمور الدين، فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله و هو إثابة المحقين فيه من المؤمنين و معاقبة المبطلين ذكره صاحب الكشاف.
و قيل معناه ما اختلفتم فيه و تنازعتم في شيء من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا تؤثروا على حكومته حكومة غيره كقوله تعالى: «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول».
و قيل: المعنى ما اختلفتم فيه من تأويل آية و اشتبه عليكم فارجعوا في بيانه إلى محكم كتاب الله و ظاهر سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قيل: المعنى و ما اختلفتم فيه من العلوم مما لا يتصل بتكليفكم و لا طريق لكم إلى علمه فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح قال تعالى: «و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي».
و الآية على جميع هذه الأقوال من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما بنحو الحكاية و إما بتقدير «قل» في أولها.
و أنت بالتدبر في سياق الآيات ثم الرجوع إلى ما تقدم لا ترتاب في سقوط هذه الأقوال.
قوله تعالى: «ذلكم الله ربي عليه توكلت و إليه أنيب» كلام محكي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإشارة بذلكم إلى من أقيمت الحجج في الآيتين على وجوب اتخاذه وليا و هو الله سبحانه، و لازم ولايته ربوبيته.
لما أقيمت الحجج على أنه تعالى هو الولي لا ولي غيره أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بإعلام أنه الله و أنه اتخذه وليا بالاعتراف له بالربوبية التي هي ملك التدبير ثم عقب ذلك بالتصريح بما للاتخاذ المذكور من الآثار و هو قوله: «عليه توكلت و إليه أنيب».
و ذلك أن ولاية الربوبية تتعلق بنظام التكوين بتدبير الأمور و تنظيم الأسباب و المسببات بحيث يتعين بها للمخلوق المدبر كالإنسان مثلا ما قدر له من الوجود و البقاء، و تتعلق بنظام التشريع و هو تدبير أعمال الإنسان بجعل قوانين و أحكام يراعيها الإنسان بتطبيق أعماله عليها في مسير حياته لتنتهي به إلى كمال سعادته.
و لازم اتخاذه تعالى ربا وليا من جهة التكوين إرجاع أمر التدبير إليه بالانقطاع عن الأسباب الظاهرية و الركون إليه من حيث أنه سبب غير مغلوب ينتهي إليه كل سبب و هذا هو التوكل، و من جهة التشريع الرجوع إلى حكمه في كل واقعة يستقبله الإنسان في مسير حياته و هذا هو الإنابة فقوله: «عليه توكلت و إليه أنيب» أي أرجع في جميع أموري، تصريح بإرجاع الأمر إليه تكوينا و تشريعا.
قوله تعالى: «فاطر السماوات و الأرض» إلى آخر الآية لما صرح بأنه تعالى هو ربه لقيام الحجج على أنه هو الولي وحده عقب ذلك بإقامة الحجة في هذه الآية و التي بعدها على ربوبيته تعالى وحده.
و محصل الحجة: أنه تعالى موجد الأشياء و فاطرها بالإخراج من كتم العدم إلى الوجود و قد جعلكم أزواجا فكثركم بذلك و جعل من الأنعام أزواجا فكثرها بذلك لتنتفعوا بها، و هذا خلق و تدبير، و هو سميع لما يسأله خلقه من الحوائج فيقضي لكل ما يستحقه من الحاجة، بصير لما يعمله خلقه من الأعمال فيجازيهم بما عملوا و هو الذي يملك مفاتيح خزائن السماوات و الأرض التي ادخر فيها ما لها من خواص وجودها و آثاره مما يتألف منها بظهورها النظام المشهود و هو الذي يرزق المرزوقين فيوسع في رزقهم و يضيق عن علم منه بذلك.
و هذا كله من التدبير فهو الرب المدبر للأمور.
فقوله: «فاطر السماوات و الأرض» أي موجدها من كتم العدم على سبيل الإبداع.
و قوله: «جعل لكم من أنفسكم أزواجا» و ذلك بخلق الذكر و الأنثى للذين يتم بتزاوجهما أمر التوالد و التناسل و تكثر الأفراد «و من الأنعام أزواجا» أي و جعل من الأنعام أزواجا «يذرؤكم فيه» أي يكثركم في هذا الجعل، و الخطاب في «يذرؤكم» للإنسان و الأنعام بتغليب جانب العقلاء على غيرهم كما ذكره الزمخشري.
و قوله: «ليس كمثله شيء» أي ليس مثله شيء، فالكاف زائدة للتأكيد و له نظائر كثيرة في كلام العرب.
و قوله: «و هو السميع البصير» أي السميع لما يرفع إليه من مسائل خلقه البصير لأعمال خلقه قال تعالى: «يسأله من في السماوات و الأرض»: الرحمن: 29، و قال: «و آتاكم من كل ما سألتموه»: إبراهيم: 34، و قال: «و الله بما تعملون بصير»: الحديد: 4.
قوله تعالى: «له مقاليد السماوات و الأرض» إلى آخر الآية المقاليد المفاتيح و في إثبات المقاليد للسماوات و الأرض دلالة على أنها خزائن لما يظهر في الكون من الحوادث و الآثار الوجودية.
و قوله: «يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر» بسط الرزق توسعته و قدره تضييقه و الرزق كل ما يمد به البقاء و يرتفع به حاجة من حوائج الوجود في استمراره.
و تذييل الكلام بقوله: «إنه بكل شيء عليم» للإشارة إلى أن الرزق و اختلافه في موارده بالبسط و القدر ليس على سبيل المجازفة جهلا بل عن علم منه تعالى بكل شيء فرزق كل مرزوق على علم منه بما يستدعيه المرزوق بحسب حاله و الرزق بحسب حاله و ما يحف بهما من الأوضاع و الأحوال الخارجية، و هذا هو الحكمة فهو يبسط و يقدر بالحكمة.
|