بيان
رجوع إلى ما بدأت به السورة من تنبيه المؤمنين بما هم عليه من الموقف الصعب، و تذكيرهم بنعم الله عليهم من إيمان و نصر و كفاية، و تعليمهم ما يسبقون به إلى شريف مقصدهم، و هدايتهم إلى ما يسعدون به في حياتهم و بعد مماتهم.
و فيها قصة غزوة أحد، و أما الآيات المشيرة إلى غزوة بدر فإنما هي من قبيل الضميمة المتممة و محلها محل شاهد القصة و ليست مقصودة بالأصالة على ما سيجيء.
قوله تعالى: «و إذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين مقاعد للقتال» إذ ظرف متعلق بمحذوف كاذكر و نحوه، و غدوت من الغدو و هو الخروج غداة، و التبوئة تهيئة المكان للغير أو إسكانه و إيطانه المكان، و المقاعد جمع، و أهل الرجل كما ذكره الراغب - من يجمعه و إياهم نسب أو بيت أو غيرهما كدين أو بلد أو صناعة، يقال: أهل الرجل لزوجته و لمن في بيته من زوجة و ولد و خادم و غيرهم، و للمنتسبين إليه من عشيرته و عترته، و يقال: أهل بلد كذا لقاطنيه، و أهل دين كذا لمنتحليه، و أهل صناعة كذا لصناعها و أساتيدها، و يستوي فيه المذكر و المؤنث و المفرد و الجمع و يختص استعماله بالإنسان فأهل الشيء خاصته من الإنسان.
و المراد بأهل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصته و هم جمع، و ليس المراد به هاهنا شخص واحد بدليل قوله: غدوت من أهلك إذ يجوز أن يقال: خرجت من خاصتك و من جماعتك و لا يجوز أن يقال: خرجت من زوجتك و خرجت من أمك، و لذا التجأ بعض المفسرين إلى تقدير في الآية فقال: إن التقدير: خرجت من بيت أهلك، لما فسر الأهل بالمفرد، و لا دليل يدل عليه من الكلام.
و سياق الآيات مبني على خطاب الجمع و هو خطاب المؤمنين على ما تدل عليه الآيات السابقة و اللاحقة ففي قوله: و إذ غدوت من أهلك تبوىء المؤمنين، التفات من خطابهم إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان الوجه فيه ما يلوح من آيات القصة من لحن العتاب فإنها لا تخلو من شائبة اللوم و العتاب و الأسف على ما جرى و ظهر من المؤمنين من الفشل و الوهن في العزيمة و القتال، و لذلك أعرض عن مخاطبتهم في تضاعيف القصة و عدل إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يخص به فقال: و إذ غدوت من أهلك، و قال: إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم، و قال: ليس لك من الأمر شيء، و قال: قل إن الأمر كله لله، و قال: فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم، و قال: و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا الآية.
فغير خطاب الجمع في هذه الموارد إلى خطاب المفرد، و هي موارد تحبس المتكلم الجاري في كلامه عن الجري فيه لما تغيظه و تهيج وجده، بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم، و قوله: و الرسول يدعوكم في أخريكم، لأن العتاب فيهما بخطاب الجمع أوقع دون خطاب المفرد، و بخلاف مثل قوله في ضمن الآيات: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم الآية، لأن الامتنان ببعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع أخذه غائبا أوقع و أشد تأثيرا في النفوس، و أبعد من الوهم و الخطور، فتدبر في الآيات تجد صحة ما ذكرناه.
و معنى الآية: و اذكر إذ خرجت بالغداة من أهلك تهيىء للمؤمنين مقاعد للقتال أو تسكنهم و توقفهم فيها و الله سميع لما قيل هناك، عليم بما أضمرته قلوبهم، و المستفاد من قوله: و إذ غدوت من أهلك، قرب المعركة من داره (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتعين بذلك أن الآيتين ناظرتان إلى غزوة أحد فتتصل الآيتان بالآيات الآتية النازلة في شأن أحد لانطباق المضامين على وقائع هذه الغزوة، و به يظهر ضعف ما قيل: إن الآيتين في غزوة بدر، و كذا ما قيل: إنهما في غزوة الأحزاب، و الوجه ظاهر.
قوله تعالى: «و الله سميع عليم» أي سميع يسمع ما قيل هناك، عليم يعلم ما كان مضمرا في قلوبكم، و فيه دلالة على كلام جرى هناك بينهم، و أمور أضمروها في قلوبهم، و الظاهر أن قوله: إذ همت، متعلق بالوصفين.
قوله تعالى: «إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا و الله وليهما» الهم ما هممت به في نفسك و هو القصد، و الفشل ضعف مع الجبن.
و قوله و الله وليهما، حال و العامل فيه قوله: همت، و الكلام مسوق للعتاب و اللوم، و كذا قوله: و على الله فليتوكل المؤمنون، و المعنى: أنهما همتا بالفشل مع أن الله وليهما و لا ينبغي لمؤمن أن يفشل و هو يرى أن الله وليه، و مع أن المؤمنين ينبغي أن يكلوا أمرهم إلى الله و من يتوكل على الله فهو حسبه.
و من ذلك يظهر ضعف ما قيل: إن هذا الهم هم خطرة لا هم عزيمة لأن الله تعالى مدحهما، و أخبر أنه وليهما، و لو كان هم عزيمة و قصد لكان ذمهم أولى إلى مدحهم.
و ما أدري ما ذا يريد بقوله: إنه هم خطرة، أ مجرد الخطور بالبال و تصور مفهوم الفشل؟ فجميع من هناك كان يخطر ببالهم ذلك، و لا معنى لذكر مثل ذلك في القصة قطعا، و لا يسمى ذلك هما في اللغة، أم تصورا معه شيء من التصديق، و خطورا فيه شوب قصد؟ كما يدل عليه ظهور حالهما عند غيرهما، و لو كان مجرد خطور من غير أي أثر لم يظهر أنهما همتا بالفشل، على أن ذكر ولاية الله لهم و وجوب التوكل على المؤمن إنما يلائم هذا الهم دون مجرد الخطور، على أن قوله: و الله وليهما، ليس مدحا بل لوم و عظة على ما يعطيه السياق كما مر.
و لعل منشأ هذا الكلام ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أنه قال: فينا نزلت، و ما أحب أنها لم تكن، لقوله: و الله وليهما ففهم من الرواية أن جابرا فهم من الآية المدح.
و لو صحت الرواية فإنما يريد جابر أن الله تعالى قبل إيمانهم و صدق كونهم مؤمنين حيث عد نفسه وليا لهم، و الله ولي الذين آمنوا و الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، لا أن الجملة واقعة موقع المدح في هذا السياق الظاهر في العتاب.
قوله تعالى: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة» إلى آخر الآية ظاهر السياق أن تكون الآية مسوقة سوق الشاهد لتتميم العتاب و تأكيده فتكون تؤدي معنى الحال كقوله: و الله وليهما، و المعنى: و ما كان ينبغي أن يظهر منكم الهم بالفشل و قد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة، و ليس من البعيد أن يكون كلاما مستقلا سيق مساق الامتنان بذكر نصر عجيب من الله بإنزال الملائكة لإمدادهم و نصرهم يوم بدر.
و لما ذكر تعالى نصره إياهم يوم بدر و قابل ذلك بما هم عليه من الحال - و من المعلوم أن كل من اعتز فإنما يعتز بنصر الله و عونه فليس للإنسان من قبل نفسه إلا الفقر و الذلة - و لذلك قال: و أنتم أذلة.
و من هنا يعلم أن قوله: و أنتم أذلة لا ينافي أمثال قوله تعالى: و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين: «المنافقون: - 8» فإن عزتهم إنما هي بعزة الله، قال تعالى: فإن العزة لله جميعا: «النساء: - 139» و ذلك بنصر الله المؤمنين كما قال تعالى: و لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا و كان حقا علينا نصر المؤمنين: «الروم: - 47» فإذا كان الحال هذا الحال فلو اعتبر حال المؤمنين من حيث أنفسهم لم يكن لهم إلا الذلة.
على أن واجهة حال المؤمنين أيضا يوم بدر كانت تقضي بكونهم أذلة قبال ما كان عليه المشركون من القوة و الشوكة و الزينة، و لا ضير في إضافة الذلة النسبية إلى الأعزة و قد أضافها الله سبحانه إلى قوم مدحهم كل المدح حيث قال: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم و يحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين الآية: «المائدة: - 54».
قوله تعالى: «إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم»، الإمداد من المد و هو إيصال المدد على نعت الاتصال.
قوله تعالى: «بلى أن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا»، بلى كلمة تصديق و الفور و الفوران: الغليان يقال: فار القدر إذا غلا و جاش، ثم استعير للسرعة و العجلة فاستعمل في الأمر الذي لا ريث فيه و لا مهلة فمعنى من فورهم هذا من ساعتهم هذه.
و الظاهر أن مصداق الآية هو يوم بدر، و إنما هو وعد على الشرط و هو ما يتضمنه قوله: إن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا.
و أما ما يظهر من بعض المفسرين أنه وعد بإنزال الملائكة إن جاءوهم بعد فورهم هذا يعني يوم بدر بأن يكون المراد من فورهم هذا هو يوم بدر لا في يوم بدر، و كذا ما يظهر من بعض آخر أنه وعد بإنزالهم في سائر الغزوات بعد بدر كأحد و حنين و الأحزاب فمما لا دليل عليه من لفظ الآية.
أما يوم أحد فلا محل لاستفادة نزول الملائكة فيه من الآيات و هو ظاهر، و أما يوم الأحزاب و يوم حنين فالقرآن و إن كان يصرح بنزول الملائكة فيهما فقد قال في قصة الأحزاب: إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا و جنودا لم تروها: «الأحزاب: - 9» و قال: و يوم حنين «إلى أن قال»: و أنزل جنودا لم تروها: «التوبة: - 26» إلا أن لفظ هذه الآية: بلى أن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا، قاصر عن إفادة عموم الوعد.
و أما نزول ثلاثة آلاف يوم بدر فلا ينافي قوله تعالى في سورة الأنفال: فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين: «الأنفال: - 9» لمكان قوله: مردفين أي متبعين لآخرين و هم الألفان الباقيان المكملان للعدد على ما ذكر في هذه الآيات.
قوله تعالى: «و ما جعله الله إلا بشرى لكم»، الضمير راجع إلى الإمداد، و لفظة عند ظرف يفيد معنى الحضور، و قد كان أولا مستعملا في القرب و الحضور المكاني المختص بالأجسام ثم توسع فاستعمل في القرب الزماني ثم في مطلق القرب و الحضور المعنوي كيفما كان، و قد استعمل في القرآن في مختلف الفنون.
و الذي يفيده في هذا المقام أعني قوله: و ما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم بالنظر إلى ما سبقه من قوله: و ما جعله الله إلا بشرى لكم و لتطمئن قلوبكم به هو المقام الربوبي الذي ينتهي إليه كل أمر و حكم، و لا يكفي عنه و لا يستقل دونه شيء من الأسباب، فالمعنى: أن الملائكة الممدين ليس لهم من أمر النصر شيء بل هم أسباب ظاهرية يجلبون لكم البشرى و طمأنينة القلب، و إنما حقيقة النصر من الله سبحانه لا يغني عنه شيء، و هو الله الذي ينتهي إليه كل أمر، العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي لا يجهل.
قوله تعالى: «ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم» إلى آخر الآيات، اللام متعلق بقوله: و لقد نصركم الله، و قطع الطرف كناية عن تقليل عدتهم و تضعيف قوتهم بالقتل و الأسر كما وقع يوم بدر فقتل من المشركين سبعون و أسر سبعون، و الكبت هو الإخزاء و الإغاظة.
و قوله: ليس لك من الأمر شيء معترضة، و فائدتها بيان أن الأمر في القطع و الكبت لله، و ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه صنع حتى يمدحوه و يستحسنوا تدبيره إذا ظفروا على عدوهم و نالوا منه، و يلوموه و يوبخوه إذا دارت الدائرة عليهم و يهنوا و يحزنوا كما كان ذلك منهم يوم أحد على ما حكاه الله تعالى.
و قوله: أو يتوب عليهم معطوف على قوله: يقطع، و الكلام متصل، و قوله: و لله ما في السموات و ما في الأرض، بيان لرجوع أمر التوبة و المغفرة إلى الله تعالى، و المعنى: أن هذا التدبير المتقن منه تعالى إنما هو ليقطع طرفا من المشركين بالقتل و الأسر أو ليخزيهم و يخيبهم في سعيهم أو ليتوب عليهم أو ليعذبهم، أما القطع و الكبت فلأن الأمر إليه لا إليك حتى تمدح أو تذم، و أما التوبة و العذاب فلأن الله هو المالك لكل شيء فيغفر لمن يشاء، و يعذب من يشاء، و مع ذلك فإن مغفرته و رحمته تسبقان عذابه و غضبه فهو الغفور الرحيم.
و إنما أخذنا قوله: و لله ما في السموات و ما في الأرض، في موضع التعليل للفقرتين الأخيرتين أعني قوله: أو يتوب اه، لما في ذيله من اختصاص البيان بهما أعني قوله: يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء.
و قد ذكر المفسرون وجوها أخر في اتصال قوله: ليقطع طرفا، و في معنى العطف في قوله: أو يتوب عليهم أو يعذبهم، و كذا في ما يعلله قوله: ليس لك من الأمر شيء، و ما يعلله قوله: و لله ما في السموات و ما في الأرض، أغمضنا عن التعرض لها و البحث عنها لقلة الجدوى فيها لمخالفتها ما يفيده ظاهر الآيات بسياقها الجاري، فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.
بحث روائي
في المجمع،: عن الصادق (عليه السلام) أنه قال كان سبب غزوة أحد أن قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر، لأنه قتل منهم سبعون و أسر سبعون قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم تبكين على قتلاكم فإن الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن و العداوة لمحمد فلما غزوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء و النوح، و خرجوا من مكة في ثلاثة آلاف فارس و ألفي راجل و أخرجوا معهم النساء. فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذلك جمع أصحابه و حثهم على الجهاد فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها فيقاتل الرجل الضعيف و المرأة و العبد و الأمة على أفواه السكك و على السطوح فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا و نحن في حصوننا و دورنا، و ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا. فقام سعد بن معاذ و غيره من الأوس فقالوا: يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا و أنت فينا؟ لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فمن قتل منا كان شهيدا، و من نجا منا كان قد جاهد في سبيل الله. فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رأيه، و خرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما قال تعالى: و إذ غدوت من أهلك الآية و قعد عنه عبد الله بن أبي بن سلول، و جماعة من الخزرج اتبعوا رأيه. و وافت قريش إلى أحد و كان رسول الله عبأ أصحابه و كانوا سبعمائة رجل و وضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب، و أشفق أن يأتي كمينهم من ذلك المكان، فقال لعبد الله بن جبير و أصحابه: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان، و إن رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا و الزموا مراكزكم. و وضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا، و قال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم. و عبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه، و دفع الراية إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) و حمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، و وضع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سوادهم و انحط خالد بن الوليد في مائتي فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع، و نظر أصحاب عبد الله بن جبير إلى أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله بن جبير: قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد الله: اتقوا الله فإن رسول الله قد تقدم إلينا أن لا نبرح، فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم، و بقي عبد الله بن جبير في اثني عشر رجلا. و كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار فقتله علي، و أخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة فقتله علي و سقطت الراية فأخذها مسافع بن أبي طلحة فقتله علي حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صواب فانتهى إليه علي فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال: هل عذرت في بني عبد الدار؟ فضربه علي على رأسه فقتله، و سقط اللواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها. و انحط خالد بن الوليد على عبد الله بن جبير و قد فر أصحابه و بقي في نفر قليل فقتلهم على باب الشعب ثم أتى المسلمين من أدبارهم، و نظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها، و انهزم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هزيمة عظيمة، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كل وجه. فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال: إلي أنا رسول الله إلى أين تفرون عن الله و عن رسوله؟ و كانت هند بنت عتبة في وسط العسكر فكلما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا و مكحلة، و قالت: إنما أنت امرأة فاكتحل بهذا. و كان حمزة بن عبد المطلب يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له أحد، و كانت هند قد أعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا و كذا، و كان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيا فقال وحشي: أما محمد فلم أقدر عليه، و أما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه، فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا فمر بي فوطىء على جرف نهر فسقط، و أخذت حربتي فهززتها و رميته بها فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنته فسقط فأتيته فشققت بطنه، و أخذت كبده، و جئت به إلى هند فقلت هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها فجعله الله في فمها مثل الداعضة و هي عظم رأس الركبة فلفظتها و رمت بها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فبعث الله ملكا فحمله و رده إلى موضعه قال: فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، و قطعت أذنيه، و قطعت يده و رجله و لم يبق مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أبو دجانة سماك بن خرشة و علي، فكلما حملت طائفة على رسول الله استقبلهم علي فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه فدفع إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سيفه ذا الفقار، و انحاز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ناحية أحد فوقف فلم يزل علي (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في رأسه و وجهه و بدنه و بطنه و رجليه سبعون جراحة، كذا أورده علي بن إبراهيم في تفسيره فقال جبرائيل: إن هذه لهي المواساة يا محمد، فقال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه مني و أنا منه فقال جبرائيل: و أنا منكما. قال أبو عبد الله: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبرائيل بين السماء و الأرض على كرسي من ذهب و هو يقول: لا سيف إلا ذو الفقار و لا فتى إلا علي.
و في رواية القمي و بقيت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نسيبة بنت كعب المازنية و كانت تخرج مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في غزواته تداوي الجرحى و كان ابنها معها فأراد أن ينهزم و يتراجع فحملت عليه و قالت: يا بني إلى أين تفر عن الله و عن رسوله، فردته فحمل عليه رجل فقتله، فأخذت سيف ابنها فحملت على الرجل فضربته على فخذه فقتلته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بارك الله فيك يا نسيبة، و كانت تقي رسول الله بصدرها و ثدييها حتى أصابتها جراحات كثيرة. و حمل ابن قمئة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال: أروني محمدا لا نجوت إن نجا، فضربه على حبل عاتقه، و نادى: قتلت محمدا و اللات و العزى.
أقول: و في القصة روايات أخر ربما تخالف هذه الرواية في بعض فقراتها.
منها: ما في هذه الرواية أن عدة المشركين كانت خمسة آلاف فإن غالب الروايات أنهم كانوا ثلاثة آلاف رجل.
و منها: ما فيها أن عليا (عليه السلام) قتل حاملي الراية و هم تسعة و يوافقها فيه روايات أخر، و رواه ابن الأثير في الكامل عن أبي رافع، و بقية الروايات تنسب قتل بعضهم إلى غيره (عليه السلام) و التدبر في القصة يؤيد ما في هذه الرواية.
و منها: ما فيها أن هندا أعطت وحشيا عهدا في قتل حمزة فإن ما روته أهل السنة أن الذي أعطاه العهد مولاه جبير بن مطعم وعده تحريره على الشرط، و إتيانه بكبد حمزة إلى هند دون جبير يؤيد ما في هذه الرواية.
و منها: ما فيها أن جميع المسلمين تفرقوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا علي و أبو دجانة و هو الذي اتفقت عليه الروايات، و في بعضها ذكر لغيرهما حتى أنهي من ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ثلاثين رجلا لكن هذه الروايات ينفي بعضها ما في بعض، و عليك بالتدبر في أصل القصة و القرائن التي تبين الأحوال حتى يخلص لك الحق، فإن هذه القصص و الروايات شهدت مواقف موافقة و مخالفة و مرت بأجواء نيرة و مظلمة حتى انتهت إلينا.
و منها: ما فيها أن الله بعث ملكا فحمل كبد حمزة فرده إلى موضعه، و ليس في غالب الروايات، و في بعضها كما في الدر المنثور عن ابن أبي شيبة و أحمد و ابن المنذر عن ابن مسعود في حديث قال: ثم قال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة و إن كانت لمن غير ملإ منا ما أمرت و لا نهيت، و لا أحببت و لا كرهت، و لا ساءني و لا سرني،: قال فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه، و أخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ أكلت شيئا؟ قالوا: لا قال: ما كان الله ليدخل شيئا من حمزة النار، الحديث.
و في روايات أصحابنا و غيرهم: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصيب يومئذ بشجة في جبهته، و كسرت رباعيته: و اشتكت ثنيته رواه مغيرة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق، و عبد بن حميد، و ابن جرير، و ابن المنذر عن ابن شهاب، و محمد بن يحيى بن حيان، و عاصم بن عمرو بن قتادة، و الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، و غيرهم كل قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد.
قالوا: لما أصيب قريش أو من ناله منهم يوم بدر من كفار قريش و رجع فلهم إلى مكة، و رجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة و عكرمة بن أبي جهل و صفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيب آباؤهم و أبناؤهم و إخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب و من كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم و قتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا بمن أصاب، ففعلوا فأجمعت قريش لحرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و خرجت بجدتها و جديدها، و خرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة و لئلا يفروا، و خرج أبو سفيان و هو قائد الناس فأقبلوا حتى نزلوا بعينين جبل ببطن السنجة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة.
فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمون بالمشركين قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إني رأيت بقرا تنحر، و رأيت في ذباب سيفي ثلما، و رأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا المدينة و تدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، و إن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها.
و نزلت قريش منزلها أحدا يوم الأربعاء فأقاموا ذلك اليوم و يوم الخميس و يوم الجمعة، و راح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث.
و كان رأي عبد الله بن أبي مع رأي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكره الخروج من المدينة فقال رجال من المسلمين - ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد و غيرهم ممن كان فاته يوم بدر و حضوره -: يا رسول الله اخرج بنا إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم و ضعفنا فقال عبد الله بن أبي: يا رسول الله أقم بالمدينة فلا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، و لا دخلها علينا إلا أصبنا منهم فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر، و إن دخلوا قاتلهم النساء و الصبيان و الرجال بالحجارة من فوقهم، و إن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا، و لم يزل الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلبس لأمته، و ذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم و قد ندم الناس، و قالوا: استكرهنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل.
فخرج رسول الله في ألف رجل من أصحابه حتى إذا كانوا بالشوط بين المدينة و أحد تحول عنه عبد الله بن أبي بثلث الناس، و مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب ذباب سيفه فاستله فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - و كان يحب الفال و لا يعتاف - لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم، و مضى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نزل بالشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره و عسكره إلى أحد، و تعبأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للقتال و هو في سبعمائة رجل.
و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الرماة عبد الله بن جبير - و الرماة خمسون رجلا - فقال: انضح عنا الجبل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فأنت مكانك لنؤتين من قبلك، و ظاهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بين درعين.
و في الدر المنثور، أيضا عن ابن جرير عن السدي في حديث: و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أحد في ألف رجل، و قد وعدهم الفتح أن يصبروا فرجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه، و قالوا له: ما نعلم قتالا و لئن أطعتنا لترجعن معنا. و قال: إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، و هم بنو سلمة و بنو حارثة هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي فعصمهم الله، و بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سبعمائة.
أقول: بنو سلمة و بنو حارثة حيان من الأنصار فبنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس.
و في المجمع،: روى ابن أبي إسحاق و السدي و الواقدي و ابن جرير و غيرهم و قالوا: كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء في شوال سنة ثلاث من الهجرة، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم يوم الجمعة، و كان القتال يوم السبت النصف من الشهر، و كسرت رباعية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و شج في وجهه ثم رجع المهاجرون و الأنصار بعد الهزيمة و قد قتل من المسلمين سبعون، و شد رسول الله بمن معه حتى كشفهم، و كان المشركون مثلوا بجماعة، و كان حمزة أعظم مثلة.
أقول: الروايات في قصة أحد كثيرة جدا و لم نرو من بينها فيما تقدم و يأتي إلا النزر اليسير الذي يتوقف عليها فهم معاني الآيات النازلة فيها، فالآيات في شأن القصة أقسام: فمنها: ما تتعرض لفشل من فشل من القوم و تنازع أو هم أن يفشل يومئذ.
و منها: ما نزل و لحنه العتاب و اللوم على من انهزم و انكشف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد كان الله حرم عليهم ذلك.
و منها: ما يتضمن الثناء على من استشهد قبل انهزام الناس، و من ثبت و لم ينهزم و قاتل حتى قتل.
و منها: ما يشتمل على الثناء الجميل على من ثبت إلى آخر الغزوة و قاتل و لم يقتل.
|