بيان
لما قص قصة موسى و إرساله بالحق إلى فرعون و قومه، و مجادلتهم في آيات الله بالباطل و مكرهم فيها و نصره تعالى لنبيه و إبطاله كيدهم و ما آل إليه أمرهم من خيبة السعي و سوء المنقلب فرع على ذلك أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر منبها له أن وعد الله بالنصر حق و أن كيد قومه و جدالهم بالباطل و استكبارهم عن قبول دعوته سيبطل و يعود وبالا على أنفسهم فليسوا بمعجزي الله و ستقوم الساعة الموعودة و يدخلون جهنم داخرين.
قوله تعالى: «فاصبر إن وعد الله حق» إلى آخر الآية.
تفريع على ما تقدم من الأمر بالاعتبار في قوله: «أ و لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم» و ما أورد بعده من قصة موسى و مآل أمر المستكبرين المجادلين بالباطل و نصره تعالى للحق و أهله.
و المعنى: إذا كان الأمر على ذلك فاصبر على إيذاء المشركين و مجادلتهم بالباطل إن وعد الله حق و سيفي لك بما وعد، و المراد بالوعد ما في قوله قبيل هذا: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا» الآية من وعد النصر.
و قوله: «و استغفر لذنبك» أمر له بالاستغفار لما يعد بالنسبة إليه ذنبا و إن لم يكن ذنبا بمعنى المخالفة للأمر المولوي لمكان عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد تقدم كلام في معنى الذنب و المغفرة في أواخر الجزء السادس من الكتاب.
و للذنب المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) معنى آخر سنشير إليه في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى، و قيل: المراد بذنبه (صلى الله عليه وآله وسلم) ذنب أمته أعطي الشفاعة فيه.
و قوله: «و سبح بحمد ربك بالعشي و الإبكار» أي نزهه سبحانه مصاحبا لحمده على جميل آلائه مستمرا متواليا بتوالي الأيام أو في كل صباح و مساء، و كونه بالعشي و الإبكار على المعنى الأول من قبيل الكناية.
و قيل: المراد به صلاتا الصبح و العصر، و الآية مدنية.
و فيه أن المسلم من الروايات و منها أخبار المعراج أن الصلوات الخمس فرضت جميعا بمكة قبل الهجرة فلو كان المراد به الفريضتين كان ذلك بمكة قبل فرض بقية الصلوات الخمس.
قوله تعالى: «إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه» إلخ تأكيد لما تقدم في الآية السابقة من أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و تطييب نفسه بتأييد وعد النصر، و محصله أن هؤلاء المجادلين لا ينالون بغيتهم و لن ينالوا فلا يحزنك جدالهم و طب نفسا من ناحيتهم.
فقوله: «إن في صدورهم إلا كبر» حصر للسبب الموجب لمجادلتهم في الكبر أي ليس عاملهم في ذلك طلب الحق أو الارتياب في آياتنا و الشك فيها حتى يريدوا بها ظهور الحق و لا حجة و لا سلطان عندهم حتى يريدوا إظهارها بل الذي في صدورهم و هو الداعي لهم إلى الجدال، الكبر، يريدون به إدحاض الحق الصريح.
و قوله: «ما هم ببالغيه» الضمير لكبر باعتبار مسببه فإن الكبر سبب للجدال و الجدال يراد به إبطال الحق و محق الدعوة الحقة، و المعنى ما هم ببالغي مرادهم و بغيتهم من الجدال الذي يأتون به لكبرهم.
و قوله: «فاستعذ بالله» أي فاستعذ بالله منهم بما لهم من الكبر كما استعاذ موسى من كل متكبر مجادل كما قال: «و قال موسى إني عذت بربي و ربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب».
و قوله: «إنه هو السميع البصير» أي السميع لدعاء عباده البصير بحوائجهم و الذي يبصر ما هم فيه من شدة أو رخاء.
قوله تعالى: «لخلق السموات و الأرض أكبر من خلق الناس و لكن أكثر الناس لا يعلمون» اللام للقسم، و المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم، و معنى الآية حسب ما يعطيه المقام أنهم ليسوا ببالغي بغيتهم و ليسوا بمعجزين فإن الله الذي قدر على خلق مجموع العالم و لم يعجزه ذلك على ما فيه من العظمة ليس يعجزه جزء يسير منه و هو الناس المخلوقون الذين هم أهون عليه و لكن أكثر الناس جاهلون يظنون بجهلهم أنهم يعجزون الله بجدال يجادلونه أو أي كيد يكيدونه.
قوله تعالى: «و ما يستوي الأعمى و البصير» إلخ لما ذكر أن أكثر الناس لا يعلمون أكده بأنهم ليسوا على وتيرة واحدة فإن منهم الأعمى و البصير و لا يستويان و عطف عليهما الذين آمنوا و عملوا الصالحات و المسيء فالطائفة الأولى أولو بصيرة يتذكرون بها و الثانية أعمى الله قلوبهم فلا يتذكرون.
و قوله: «قليلا ما تتذكرون» خطاب للناس بداعي التوبيخ و هو الوجه في الالتفات من الغيبة إلى الحضور.
قوله تعالى: «إن الساعة لآتية لا ريب فيها و لكن أكثر الناس لا يؤمنون» ذكرهم تعالى في هذه الآية بإتيان الساعة و في الآية التالية بدعوة ربهم إياهم إلى دعائه و عبادته كما نبه الذي آمن من آل فرعون في القصة السابقة بإتيان الساعة و بأن لله الدعوة و ليس لآلهتهم دعوة في الدنيا و لا في الآخرة.
قوله تعالى: «و قال ربكم ادعوني أستجب لكم» دعوة منه تعالى لعباده إلى دعائه و وعد بالاستجابة، و قد أطلق الدعوة و الدعاء و الاستجابة إطلاقا، و قد أشبعنا الكلام في معنى الدعاء و الإجابة في ذيل قوله تعالى: «أجيب دعوة الداع إذا دعان:» البقرة: - 186 في الجزء الأول من الكتاب.
و قوله: «إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين» الدخور الذلة، و قد بدل الدعاء عبادة فدل على أن الدعاء عبادة.
بحث روائي
في الصحيفة السجادية،: و قلت: «ادعوني أستجب لكم - إن الذين يستكبرون عن عبادتي - سيدخلون جهنم داخرين» فسميت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعدت على تركه دخول جهنم داخرين.
و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: ادع و لا تقل: قد فرغ من الأمر فإن الدعاء هو العبادة إن الله عز و جل يقول: «إن الذين يستكبرون عن عبادتي - سيدخلون جهنم داخرين» و قال: «ادعوني أستجب لكم».
أقول: قوله (عليه السلام): فإن الدعاء - إلى قوله - داخرين احتجاج على ما ندب إليه أولا بقوله: ادع، و قوله: و قال: «ادعوني أستجب لكم» احتجاج على ما قاله ثانيا: و لا تقل: قد فرغ من الأمر و لذا قدم (عليه السلام) في بيانه ذيل الآية على صدرها.
و في الخصال، عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يا معاوية من أعطي ثلاثة لم يحرم ثلاثة: من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة و من أعطي التوكل أعطي الكفاية فإن الله عز و جل يقول في كتابه: «و من يتوكل على الله فهو حسبه» و قال: «لئن شكرتم لأزيدنكم»، و قال: «ادعوني أستجب لكم».
و في التوحيد، بإسناده إلى موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: قال قوم للصادق (عليه السلام): ندعوه فلا يستجاب لنا. قال: لأنكم تدعون من لا تعرفونه.
أقول: و قد أوردنا جملة من روايات الدعاء في ذيل قوله: «أجيب دعوة الداع إذا دعان:» البقرة: - 186 في الجزء الأول من الكتاب.
|