بيان
رجوع بعد رجوع إلى حديث المجادلين في آيات الله و قد تعرض لبيان مآل أمرهم بذكر ما آل إليه أمر أشباههم من الأمم الخالية و نصره تعالى لدينه في أول السورة إجمالا ثم بذكر الحال في دعوة موسى (عليه السلام) بالخصوص فيما قصه من قصته و نصره له بالخصوص ثم في ضمن أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و وعده بالنصر.
و هذا آخر كرة عليهم يذكر فيها مآل أمرهم و ما يصرفون إليه و هو العذاب المخلد ثم يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و بعده بالنصر و يطيب نفسه بأن وعد الله حق.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين يجادلون في آيات الله أنى يصرفون» «أ لم تر» مفيد للتعجيب و «أنى» بمعنى كيف، و المعنى أ لا تعجب أو أ لم تعجب من أمر هؤلاء المجادلين في آيات الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل و عن الهدى إلى الضلال.
و التعرض لحال المجادلين هاهنا من حيث الإشارة إلى كونهم مصروفين عن الحق و الهدى و مآل ذلك، و فيما تقدم من قوله: «إن الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه» من حيث إن الداعي لهم إلى ذلك الكبر و أنهم لا يبلغون ما يريدون فلا تكرار.
و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن تكرير ذكر المجادلة محمول على تعدد المجادل بأن يكون المجادلون المذكورون في الآية السابقة غير المذكورين في هذه الآية أو على اختلاف ما فيه المجادلة كأن يكون المجادلة هناك في أمر البعث و هاهنا في أمر التوحيد على أن فيه غفلة عن غرض السورة كما عرفت.
قوله تعالى: «الذين كذبوا بالكتاب و بما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون» الذي يعطيه سياق الآيات التالية أن المراد بهؤلاء المجادلين هم المجادلون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و عليه فالأنسب أن يكون المراد بالكتاب هو القرآن الكريم، و بقوله: «بما أرسلنا به رسلنا» ما جاءت به الرسل (عليهم السلام) من عند الله من كتاب و دين فالوثنية منكرون للنبوة.
و قوله: «فسوف يعلمون» تفريع على مجادلتهم و تكذيبهم و تهديد لهم أي سوف يعلمون حقيقة مجادلتهم في آيات الله و تكذيبهم بالكتاب و بالرسل.
قوله تعالى: «إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون» في المجمع،: الأغلال جمع غل و هو طوق يدخل في العنق للذل و الألم و أصله الدخول، و قال: السلاسل جمع سلسلة و هي الحلق منتظمة في جهة الطول مستمرة و قال: السحب جر الشيء على الأرض.
هذا أصله، و قال: السجر أصله إلقاء الحطب في معظم النار كالتنور الذي يسجر بالوقود.
انتهى.
و قوله: «إذ الأغلال في أعناقهم و السلاسل» ظرف لقوله: «فسوف يعلمون» قيل: الإتيان بإذ - و هو للماضي - للدلالة على تحقق الوقوع و إن كان موقعه المستقبل فلا تنافي، في الجمع بين سوف و إذ.
و «الأغلال في أعناقهم» مبتدأ و خبر، و «السلاسل» معطوف على الأغلال، و «يسحبون في الحميم» خبر بعد خبر، و «في النار يسجرون» معطوف على «يسحبون».
و المعنى: سوف يعلمون حقيقة عملهم حين تكون الأغلال و السلاسل في أعناقهم يجرون في الماء الحار الشديد الحرارة ثم يقذفون في النار.
و قيل: معنى قوله: «ثم في النار يسجرون» ثم يصيرون وقود النار، و يؤيده قوله تعالى في صفة جهنم: «وقودها الناس و الحجارة:» البقرة: - 24، و قوله: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم:» الأنبياء: - 98.
قوله تعالى: «ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا» إلى آخر الآية.
أي قيل لهم و هم يتقلبون بين السحب و السجر: أين ما كنتم تشركون من شركائكم من دون الله حتى ينصروكم بالإنجاء من هذا العذاب أو يشفعوا لكم كما كنتم تزعمون أنهم سيشفعون لكم قبال عبادتكم لهم؟.
و قوله: «قالوا ضلوا عنا» أي غابوا عنا من قولهم: ضلت الدابة إذا غابت فلم يعرف مكانها، و هذا جوابهم عما قيل لهم: أين ما كنتم تشركون من دون الله.
و قوله: «بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا» إضراب منهم عن الجواب الأول لما يظهر لهم أن الآلهة الذين كانوا يزعمونهم شركاء لم يكونوا إلا أسماء لا مسميات لها و مفاهيم لا يطابقها شيء و لم يكن عبادتهم لها إلا سدى، و لذلك نفوا أن يكونوا يعبدون شيئا قال تعالى: «فزيلنا بينهم:» يونس: - 28 و قال: «لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون:» الأنعام: - 94.
و قيل: هذا من كذبهم يوم القيامة على حد قوله: «و الله ربنا ما كنا مشركين:» الأنعام: - 23.
و قوله: «كذلك يضل الله الكافرين» أي إضلاله تعالى للكافرين و هم الساترون للحق يشبه هذا الضلال و هو أنهم يرون الباطل حقا فيقصدونه ثم يتبين لهم بعد ضلال سعيهم أنه لم يكن إلا باطلا في صورة حق و سرابا في سيماء الحقيقة.
و المعنى: على الوجه الثاني أعني كون قولهم: «بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا» كذبا منهم: كمثل هذا الإضلال يضل الله الكافرين فيئول أمرهم إلى الكذب حيث لا ينفع مع علمهم بأنه لا ينفع.
و قد فسرت الجملة بتفاسير أخرى متقاربة و قريبة مما ذكرناه.
قوله تعالى: «ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق و بما كنتم تمرحون» الفرح مطلق السرور، و المرح الإفراط فيه و هو مذموم، و قال الراغب: الفرح انشراح الصدر بلذة عاجلة و أكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية، و قال: المرح شدة الفرح و التوسع فيه.
انتهى.
و قوله: «ذلكم بما كنتم» الإشارة إلى ما هم فيه من العذاب و الباء في «بما كنتم» للسببية أو المقابلة.
و المعنى: ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب كونكم تفرحون في الأرض بغير الحق من اللذات العاجلة و بسبب كونكم تفرطون في الفرح و ذلك لتعلق قلوبهم بعرض الدنيا و زينتها و معاداتهم لكل حق يخالف باطلهم فيفرحون و يمرحون بإحياء باطلهم و إماتة الحق و اضطهاده.
قال في المجمع،: قيد الفرح و أطلق المرح لأن الفرح قد يكون بحق فيحمد عليه و قد يكون بالباطل فيذم عليه، و المرح لا يكون إلا باطلا.
انتهى.
قوله تعالى: «ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين» أي ادخلوا أبوابها المقسومة لكم خالدين فيها فبئس مقام الذين يتكبرون عن الحق جهنم، و قد تقدم أن أبواب جهنم دركاتها.
قوله تعالى: «فاصبر إن وعد الله حق» لما بين مآل أمر المجادلين في آيات الله و هي النار و أن الله يضلهم بكفرهم فرع عليه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر معللا ذلك بأن وعد الله حق.
و قوله: «فإما نرينك بعض الذي نعدهم» هو عذاب الدنيا «أو نتوفينك» بالموت فلم نرك ذلك «فإلينا يرجعون» و لا يفوتوننا فننجز فيهم ما وعدناه.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك» إلخ بيان لكيفية النصر المذكور في الآية السابقة أن آية النصر - التي جرت سنة الله على إنزالها للقضاء بين كل رسول و أمته و إظهار الحق على الباطل كما يشير إليه قوله: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون:» يونس: - 47 - لم يفوض أمرها إلى رسول من الرسل من قبلك بل كان يأتي بها من يأتي منهم بإذن الله، و حالك حالهم، فمن الممكن أن نأذن لك في الإتيان بها فنريك بعض ما نعدهم، و من الممكن أن نتوفاك فلا نريك غير أن أمر الله إذا جاء قضي بينهم بالحق و خسر هنالك المبطلون.
هذا ما يفيده السياق.
فقوله: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك» مسوق للإشارة إلى كون ما سيذكره سنة جارية منه تعالى.
و قوله: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله» الآية و إن كانت أعم من الآية المعجزة التي يؤتاها الرسول لتأييد رسالته، و الآية التي تنصر الحق و تقضي بين الرسول و بين أمته و الكل بإذن الله لكن مورد الكلام كما استفدناه من السياق القسم الثاني و هي القاضية بين الرسول و أمته.
و قوله: «فإذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون» أي فإذا جاء أمر الله بالعذاب قضي بالحق فأظهر الحق و أزهق الباطل و خسر عند ذلك المتمسكون بالباطل في دنياهم بالهلاك و في آخرتهم بالعذاب الدائم.
و استدل بالآية على أن من الرسل من لم تذكر قصته في القرآن، و فيه أن الآية مكية لا تدل على أزيد من عدم ذكر قصة بعض الرسل إلى حين نزولها بمكة، و قد ورد في سورة النساء: «و رسلا قد قصصناهم عليك من قبل و رسلا لم نقصصهم عليك:» النساء: - 164 و لم يذكر في السور النازلة بعد سورة النساء اسم أحد من الرسل المذكورين بأسمائهم في القرآن.
و في المجمع، و روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته، و روي في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عنه ما في معناه.
|