بيان
رجوع إلى حديث كفرهم بالقرآن المذكور في أول السورة و ذكر كيدهم لإبطال حجته، و في الآيات ذكر الكفار و بعض ما في عقبى ضلالتهم و أهل الاستقامة من المؤمنين و بعض ما لهم في الآخرة و متفرقات أخر.
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه لعلكم تغلبون» اللغو من الأمر ما لا أصل له و من الكلام ما لا معنى له يقال: لغا يلغى و يلغو لغوا أي أتى باللغو، و الإشارة إلى القرآن مع ذكر اسمه دليل على كمال عنايتهم بالقرآن لإعفاء أثره.
و الآية تدل على نهاية عجزهم عن مخاصمة القرآن بإتيان كلام يعادله و يماثله أو إقامة حجة تعارضه حتى أمر بعضهم بعضا أن لا ينصتوا له و يأتوا بلغو الكلام عند قراءة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) القرآن ليختل به قراءته و لا تقرع أسماع الناس آياته فيلغو أثره و هو الغلبة.
قوله تعالى: «فلنذيقن الذين كفروا عذابا شديدا» إلخ اللام للقسم، و المراد بالذين كفروا بحسب مورد الآية هم الذين قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن و إن كانت الآية مطلقة بحسب اللفظ.
و قوله: «و لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون» قيل: المراد العمل السيىء الذي كانوا يعملون بتجريد أفعل عن معنى التفضيل، و قيل: المراد بيان جزاء ما هو أسوأ أعمالهم و سكت عن الباقي مبالغة في الزجر.
قوله تعالى: «ذلك جزاء أعداء الله النار» إلخ «ذلك جزاء» مبتدأ و خبر و «النار» بدل أو عطف بيان من «ذلك» أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي النار أو مبتدأ خبره «لهم فيها دار الخلد».
و قوله: «لهم فيها دار الخلد» أي النار محيطة بهم جميعا و لكل منهم فيها دار تخصه خالدا فيها.
و قوله: «جزاء بما كانوا بآياتنا يجحدون» مفعول مطلق لفعل مقدر، و التقدير يجزون جزاء أو للمصدر المتقدم أعني قوله: «ذلك جزاء» نظير قوله: «فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا:» إسراء: - 63.
قوله تعالى: «و قال الذين كفروا ربنا أرنا الذين أضلانا من الجن و الإنس» محكي قول يقولونه و هم في النار، يسألون الله أن يريهم متبوعيهم من الجن و الإنس ليجعلوهما تحت أقدامهم إذلالا لهما و تشديدا لعذابهما كما يشعر به قولهم ذيلا: «نجعلهما تحت أقدامنا ليكونا من الأسفلين».
قوله تعالى: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة» إلخ قال الراغب: الاستقامة تقال في الطريق الذي يكون على خط مستو، و به شبه طريق الحق نحو «اهدنا الصراط المستقيم».
قال: و استقامة الإنسان لزومه المنهج المستقيم نحو قوله: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا».
انتهى.
و في الصحاح،: الاستقامة الاعتدال يقال: استقام له الأمر.
انتهى.
فالمراد بقوله: «ثم استقاموا لزوم وسط الطريق من غير ميل و انحراف و الثبات على القول الذي قالوه، قال تعالى: «فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم:» التوبة: - 7 و قال: «و استقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم:» الشورى: - 15 و ما ورد فيها من مختلف التفاسير يرجع إلى ما ذكر.
و الآية و ما يتلوها بيان حسن حال المؤمنين كما كانت الآيات قبلها بيان سوء حال الكافرين.
و قوله: «تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون» إخبار عما سيستقبلهم به الملائكة من تقوية قلوبهم و تطييب نفوسهم و البشرى بالكرامة.
فالملائكة يؤمنونهم من الخوف و الحزن، و الخوف إنما يكون من مكروه متوقع كالعذاب الذي يخافونه و الحرمان من الجنة الذي يخشونه، و الحزن إنما يكون من مكروه واقع و شر لازم كالسيئات التي يحزنون من اكتسابها و الخيرات التي يحزنون لفوتها عنهم فيطيب الملائكة أنفسهم أنهم في أمن من أن يخافوا شيئا أو يحزنوا لشيء فالذنوب مغفورة لهم و العذاب مصروف عنهم.
ثم يبشرونهم بالجنة الموعودة بقولهم: «و أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون» و في قولهم: «كنتم توعدون» دلالة على أن تنزلهم بهذه البشرى عليهم إنما هو بعد الحياة الدنيا.
قوله تعالى: «نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا و في الآخرة» إلخ من تتمة البشارة، و على هذا فذكر ولايتهم لهم في الحياة الدنيا مع انقضاء وقتها كما تقدم من باب التوطئة و التمهيد إلى ذكر الآخرة للإشارة إلى أن ولاية الآخرة مترتبة على ولاية الدنيا فكأنه قيل نحن أولياؤكم في الآخرة كما كنا - لما كنا - أولياءكم في الحياة الدنيا و سنتولى أمركم بعد هذا كما توليناه قبل.
و كون الملائكة أولياء لهم لا ينافي كونه تعالى هو الولي لأنهم وسائط الرحمة و الكرامة ليس لهم من الأمر شيء، و لعل ذكر ولايتهم لهم في الآية دون ولايته تعالى للمقابلة و المقايسة بين أوليائه تعالى و أعدائه إذ قال في حق أعدائه: «و قيضنا لهم قرناء» إلخ و قال في حق أوليائه عن لسان ملائكته: «نحن أولياؤكم».
و بالمقابلة يستفاد أن المراد ولايتهم لهم بالتسديد و التأييد فإن الملائكة المسددين هم المخصوصون بأهل ولاية الله و أما الملائكة الحرس و موكلو الأرزاق و الآجال و غيرهم فمشتركون بين المؤمن و الكافر.
و قيل: الآية من كلام الله دون الملائكة.
و قوله: «و لكم فيها ما تشتهي أنفسكم و لكم فيها ما تدعون» ضمير «فيها» في الموضعين للآخرة، و أصل الشهوة نزوع النفس بقوة من قواها إلى ما تريده تلك القوة و تلتذ به كشهوة الطعام و الشراب و النكاح، و أصل الادعاء - و هو افتعال من الدعاء - هو الطلب فالجملة الثانية أعني قوله: «و لكم فيها ما تدعون» أوسع نطاقا من الأولى أعني قوله: «لكم فيها ما تشتهي أنفسكم» فإن الشهوة طلب خاص و مطلق الطلب أعم منها.
فالآية تبشرهم بأن لهم في الآخرة ما يمكن أن تتعلق به شهواتهم من أكل و شرب و نكاح و غير ذلك بل ما هو أوسع من ذلك و أعلى كعبا و هو أن لهم ما يشاءون فيها كما قال تعالى: «لهم ما يشاءون فيها: ق - 35.
قوله تعالى: «و من أحسن قولا ممن دعا إلى الله و عمل صالحا و قال إنني من المسلمين» الآية اتصال بقوله السابق: «و قال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن، و الغوا فيه» الآية فإنهم كانوا يخاصمون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما ينازعون القرآن، و قد ذكر في أول السورة قولهم: «قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه» الآية فأيد سبحانه في هذه الآية نبيه بأن قوله و هو دعوته أحسن القول.
فقوله: «و من أحسن قولا ممن دعا إلى الله» المراد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان لفظ الآية يعم كل من دعا إلى الله و لما أمكن أن يدعو الداعي إلى الله لغرض فاسد و ليست الدعوة التي هذا شأنها من القول الأحسن قيده بقوله: «و عمل صالحا» فإن العمل الصالح يكشف عن نية صالحة غير أن العمل الصالح لا يكشف عن الاعتقاد الحق و الالتزام به، و لا حسن في قول لا يقول به صاحبه و لذا قيده بقوله: «و قال إنني من المسلمين» و المراد بالقول الرأي و الاعتقاد على ما يعطيه السياق.
فإذا تم الإسلام لله و العمل الصالح للإنسان ثم دعا إلى الله كان قوله أحسن القول لأن أحسن القول أحقه و أنفعه و لا قول أحق من كلمة التوحيد و لا أنفع منها و هي الهادية للإنسان إلى حاق سعادته.
قوله تعالى: «لا تستوي الحسنة و لا السيئة» الآية لما ذكر أحسن القول و أنه الدعوة إلى الله و القائم به حقا هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التفت إليه ببيان أحسن الطريق إلى الدعوة و أقربها من الغاية المطلوبة منها و هي التأثير في النفوس فخاطبه بقوله: «لا تستوي» إلخ.
فقوله: «لا تستوي الحسنة و لا السيئة» أي الخصلة الحسنة و السيئة من حيث حسن التأثير في النفوس، و «لا» في «لا السيئة» زائدة لتأكيد النفي.
و قوله: «ادفع بالتي هي أحسن» استئناف في معنى دفع الدخل كأن المخاطب لما سمع قوله: «لا تستوي» إلخ قال: فما ذا أصنع؟ فقيل: «ادفع» إلخ و المعنى ادفع بالخصلة التي هي أحسن الخصلة السيئة التي تقابلها و تضادها فادفع بالحق الذي عندك باطلهم لا بباطل آخر و بحلمك جهلهم و بعفوك إساءتهم و هكذا.
و قوله: «فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم» بيان لأثر الدفع بالأحسن و نتيجته و المراد أنك إن دفعت بالتي هي أحسن فاجأك أن عدوك صار كأنه ولي شفيق.
قيل: «الذي بينك و بينه عداوة» أبلغ من «عدوك» و لذا اختاره عليه مع اختصاره.
ثم عظم الله سبحانه الدفع بالتي هي أحسن و مدحه أحسن التعظيم و أبلغ المدح بقوله: «و ما يلقاها إلا الذين صبروا و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» أي ذو نصيب وافر من كمال الإنسانية و خصال الخير.
و في الآية مع ذلك دلالة ظاهرة على أن الحظ العظيم إنما يوجد لأهل الصبر خاصة.
قوله تعالى: «و إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم» النزغ النخس و هو غرز جنب الدابة أو مؤخرها بقضيب و نحوه ليهيج، و «ما» في «إما ينزغنك» زائدة و الأصل و إن ينزغنك فاستعذ.
و النازغ هو الشيطان أو تسويله و وسوسته، و الأول هو الأنسب لمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لا سبيل للشيطان إليه بالوسوسة غير أنه يمكن أن يقلب له الأمور بالوسوسة على المدعوين من أهل الكفر و الجحود فيبالغوا في جحودهم و مشاقتهم و إيذائهم له فلا يؤثر فيهم الدفع بالأحسن و يؤول هذا إلى نزغ من الشيطان بتشديد العداوة في البين كما في قوله: «من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي:» يوسف: - 100، قال تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» الآية: الحج: - 52.
و لو حمل على الوجه الثاني فالمتعين حمله على مطلق الدستور تتميما للأمر، و هو بوجه من باب «إياك أعني و اسمعي يا جارة».
و قوله: «فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم» العوذ و العياذ بكسر العين و المعاذ و الاستعاذة بمعنى و هو الالتجاء و المعنى فالتجىء بالله من نزغه إنه هو السميع لمسألتك العليم بحالك أو السميع لأقوالكم العليم بأفعالكم.
قوله تعالى: «و من آياته الليل و النهار و الشمس و القمر» إلخ لما ذكر سبحانه كون دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) أحسن القول و وصاه أن يدفع بأحسن الخصال عاد إلى أصل الدعوة فاحتج على الوحدانية و المعاد في هذه الآيات الثلاث.
فقوله: «و من آياته الليل و النهار» إلخ احتجاج بوحدة التدبير و اتصاله على وحدة الرب المدبر، و بوحدة الرب على وجوب عبادته وحده، و لذلك عقبه بقوله «لا تسجدوا للشمس و لا للقمر» إلخ.
فالكلام في معنى دفع الدخل كأنه لما قيل: «و من آياته الليل و النهار» إلخ فأثبت وحدته في ربوبيته قيل: فما ذا نصنع؟ فقيل «لا تسجدوا للشمس و لا للقمر» هما مخلوقان مدبران من خلقه بل خصوه بالسجدة و اعبدوه وحده، و عامة الوثنيين كانوا يعظمون الشمس و القمر و إن لم يعبدهما غير الصابئين على ما قيل، و ضمير «خلقهن» لليل و النهار و الشمس و القمر.
و قوله: «إن كنتم إياه تعبدون» أي إن عبادته لا تجامع عبادة غيره.
قوله تعالى: «فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون» السأمة الملال، و المراد «بالذين عند ربك» الملائكة و المخلصون من عباد الله و قد تقدم كلام في ذلك في تفسير قوله: «إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون:» الأعراف: - 206.
و قوله: «يسبحون له» و لم يقل: يسبحونه للدلالة على الحصر و الاختصاص أي يسبحونه خاصة، و قوله: «بالليل و النهار» أي دائما لا ينقطع فإن الملائكة ليس عندهم ليل و لا نهار.
و المعنى: فإن استكبر هؤلاء الكفار عن السجدة لله وحده فعبادته تعالى لا ترتفع من الوجود فهناك من يسبحه تسبيحا دائما لا ينقطع من غير سأمة و هم الذين عند ربك.
قوله تعالى: «و من آياته أنك ترى الأرض خاشعة» إلخ الخشوع التذلل، و الاهتزاز التحرك الشديد، و الربو النشوء و النماء و العلو، و اهتزاز الأرض و ربوها تحركها بنباتها و ارتفاعه.
و في الآية استعارة تمثيلية شبهت فيها الأرض في جدبها و خلوها عن النبات ثم اخضرارها و نمو نباتها و علوه بشخص كان وضيع الحال رث الثياب متذللا خاشعا ثم أصاب ما لا يقيم أوده فلبس أفخر الثياب و انتصب ناشطا متبخترا يعرف في وجهه نضرة النعيم.
و الآية مسوقة للاحتجاج على المعاد، و قد تكرر البحث عن مضمونها في السور المتقدمة.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «أرنا الذين أضلانا» يعنون إبليس الأبالسة و قابيل بن آدم أول من أبدع المعصية: روي ذلك عن علي (عليه السلام).
أقول: و لعله من نوع الجري فالآية عامة.
و فيه،: في قوله تعالى: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا»: روي عن أنس قال: قرأ علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية ثم قال: قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها.
و فيه،: في قوله تعالى: «تتنزل عليهم الملائكة» يعني عند الموت: عن مجاهد و السدي و روي ذلك عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا» قال: كنا نحرسكم من الشياطين «و في الآخرة» أي عند الموت.
و في المجمع،: في الآية قيل: «نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا» أي نحرسكم في الدنيا و عند الموت في الآخرة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن» قال: ادفع سيئة من أساء إليك بحسنتك حتى يكون الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم.
|