بيان
تتكلم السورة حول الوحي الذي هو نوع تكليم من الله سبحانه لأنبيائه و رسله كما يدل عليه ما في مفتتحها من قوله: «كذلك يوحي إليك و إلى الذين من قبلك الله» الآية و ما في مختتمها من قوله: «و ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا إلخ» الآيات، و رجوع الكلام إليه مرة بعد أخرى في قوله: «و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا» الآية، و قوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا» الآية، و قوله: «الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان» الآية و ما يتكرر في السورة من حديث الرزق على ما سيجيء.
فالوحي هو الموضوع الذي يجري عليه الكلام في السورة و ما فيها من التعرض لآيات التوحيد و صفات المؤمنين و الكفار و ما يستقبل كلا من الفريقين في معادهم و رجوعهم إلى الله سبحانه مقصود بالقصد الثاني و كلام جره كلام.
و السورة مكية و قد استثني قوله: «و الذين استجابوا لربهم» إلى تمام ثلاث آيات، و قوله: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى» إلى تمام أربع آيات و سيجيء الكلام فيها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «حم عسق» من الحروف المقطعة الواقعة في أوائل عدة من السور القرآنية، و ذلك من مختصات القرآن الكريم لا يوجد في غيره من الكتب السماوية.
و قد اختلف المفسرون من القدماء و المتأخرين في تفسيرها و قد نقل عنهم الطبرسي في مجمع البيان أحد عشر قولا في معناها: أحدها: أنها من المتشابهات التي استأثر الله سبحانه بعلمها لا يعلم تأويلها إلا هو.
الثاني: أن كلا منها اسم للسورة التي وقعت في مفتتحها.
الثالث: أنها أسماء القرآن أي لمجموعه.
الرابع: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقوله: «الم» معناه أنا الله أعلم، و قوله: «المر» معناه أنا الله أعلم و أرى، و قوله: «المص» معناه أنا الله أعلم و أفصل، و قوله: «كهيعص» الكاف من الكافي، و الهاء من الهادي، و الياء من الحكيم، و العين من العليم، و الصاد من الصادق، و هو مروي عن ابن عباس، و الحروف المأخوذة من الأسماء مختلفة في أخذها فمنها ما هو مأخوذ من أول الاسم كالكاف من الكافي، و منها ما هو مأخوذ من وسطه كالياء من الحكيم، و منها ما هو مأخوذ من آخر الكلمة كالميم من أعلم.
الخامس: أنها أسماء لله تعالى مقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول: الر و حم و ن يكون الرحمن و كذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على تأليفها و هو مروي عن سعيد بن جبير.
السادس: أنها أقسام أقسم الله بها فكأنه هو أقسم بهذه الحروف على أن القرآن كلامه و هي شريفة لكونها مباني كتبه المنزلة، و أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و أصول لغات الأمم على اختلافها.
السابع: أنها إشارات إلى آلائه تعالى و بلائه و مدة الأقوام و أعمارهم و آجالهم.
الثامن: أن المراد بها الإشارة إلى بقاء هذه الأمة على ما يدل عليه حساب الجمل.
التاسع: أن المراد بها حروف المعجم و قد استغنى بذكر ما ذكر منها عن ذكر الباقي كما يقال: أب و يراد به جميع الحروف.
العاشر: أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا للقرآن و أن يلغوا فيه كما حكاه القرآن عنهم بقوله: «لا تسمعوا لهذا القرآن و الغوا فيه» الآية، فربما صفروا و ربما صفقوا و ربما غلطوا فيه ليغلطوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلاوته، فأنزل الله تعالى هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها استغربوها و استمعوا إليها و تفكروا فيها و اشتغلوا بها عن شأنهم فوقع القرآن في مسامعهم.
الحادي عشر: أنها من قبيل تعداد حروف التهجي و المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته هو من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله تعالى، و إنما كررت الحروف في مواضع استظهارا في الحجة، و هو مروي عن قطرب و اختاره أبو مسلم الأصبهاني و إليه يميل جمع من المتأخرين.
فهذه أحد عشر قولا و فيما نقل عنهم ما يمكن أن يجعل قولا آخر كما نقل عن ابن عباس في «الم» أن الألف إشارة إلى الله و اللام إلى جبريل و الميم إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ما عن بعضهم أن الحروف المقطعة في أوائل السور المفتتحة بها إشارة إلى الغرض المبين فيها كان يقال: إن «ن» إشارة إلى ما تشتمل عليه السورة من النصر الموعود للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و «ق» إشارة إلى القرآن أو القهر الإلهي المذكور في السورة، و ما عن بعضهم أن هذه الحروف للإيقاظ.
و الحق أن شيئا من هذه الأقوال لا تطمئن إليه النفس: أما القول الأول فقد تقدم في بحث المحكم و المتشابه في أوائل الجزء الثالث من الكتاب أنه أحد الأقوال في معنى المتشابه و عرفت أن الإحكام و التشابه من صفات الآيات التي لها دلالة لفظية على مداليلها، و أن التأويل ليس من قبيل المداليل اللفظية بل التأويلات حقائق واقعية تنبعث من مضامين البيانات القرآنية أعم من محكماتها و متشابهاتها، و على هذا فلا هذه الحروف المقطعة متشابهات و لا معانيها المراد بها تأويلات لها.
و أما الأقوال العشرة الآخر فإنما هي تصويرات لا تتعدى حد الاحتمال و لا دليل يدل على شيء منها.
نعم في بعض الروايات المنسوبة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بعض التأييد للقول الرابع و السابع و الثامن و العاشر و سيأتي نقلها و الكلام في مفادها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و الذي لا ينبغي أن يغفل عنه أن هذه الحروف تكررت في سور شتى و هي تسع و عشرون سورة افتتح بعضها بحرف واحد و هي ص و ق و ن، و بعضها بحرفين و هي سور طه و طس و يس و حم.
و بعضها بثلاثة أحرف كما في سورتي «الم» و «الر» و «طسم» و بعضها بأربعة أحرف كما في سورتي «المص» و «المر» و بعضها بخمسة أحرف كما في سورتي «كهيعص» و «حمعسق».
و تختلف هذه الحروف أيضا من حيث أن بعضها لم يقع إلا في موضع واحد مثل «ن» و بعضها واقعة في مفتتح عدة من السور مثل «الم» و «الر» و «طس» و «حم».
ثم إنك إن تدبرت بعض التدبر في هذه السور التي تشترك في الحروف المفتتح بها مثل الميمات و الراءات و الطواسين و الحواميم، وجدت في السور المشتركة في الحروف من تشابه المضامين و تناسب السياقات ما ليس بينها و بين غيرها من السور.
و يؤكد ذلك ما في مفتتح أغلبها من تقارب الألفاظ كما في مفتتح الحواميم من قوله: «تنزيل الكتاب من الله» أو ما هو في معناه، و ما في مفتتح الراءات من قوله: «تلك آيات الكتاب» أو ما هو في معناه، و نظير ذلك واقع في مفتتح الطواسين، و ما في مفتتح الميمات من نفي الريب عن الكتاب أو ما هو في معناه.
و يمكن أن يحدس من ذلك أن بين هذا الحروف المقطعة و بين مضامين السور المفتتحة بها ارتباطا خاصا، و يؤيد ذلك ما نجد أن سورة الأعراف المصدرة بالمص في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات و ص، و كذا سورة الرعد المصدرة بالمر في مضمونها كأنها جامعة بين مضامين الميمات و الراءات.
و يستفاد من ذلك أن هذه الحروف رموز بين الله سبحانه و بين رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) خفية عنا لا سبيل لأفهامنا العادية إليها إلا بمقدار أن نستشعر أن بينها و بين المضامين المودعة في السور ارتباطا خاصا.
و لعل المتدبر لو تدبر في مشتركات هذه الحروف و قايس مضامين السور التي وقعت فيها بعضها إلى بعض تبين له الأمر أزيد من ذلك.
و لعل هذا معنى ما روته أهل السنة عن علي (عليه السلام) على ما في المجمع،: أن لكل كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجي. قوله تعالى: «كذلك يوحي إليك و إلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم - إلى قوله - العلي العظيم» مقتضى كون غرض السورة بيان الوحي بتعريف حقيقته و الإشارة إلى غايته و آثاره أن تكون الإشارة بقوله: «كذلك» إلى شخص الوحي بإلقاء هذه السورة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيكون تعريفا لمطلق الوحي بتشبيهه بفرد مشار إليه مشهود للمخاطب فيكون كقولنا في تعريف الإنسان مثلا هو كزيد.
و عليه يكون قوله: «إليك و إلى الذين من قبلك» في معنى إليكم جميعا، و إنما عبر بما عبر للدلالة على أن الوحي سنة إلهية جارية غير مبتدعة، و المعنى أن الوحي الذي نوحيه إليكم معشر الأنبياء - نبيا بعد نبي سنة جارية - هو كهذا الذي تجده و تشاهده في تلقي هذه السورة.
و قد أخذ جمهور المفسرين قوله: «كذلك» إشارة إلى الوحي لا من حيث نفسه بل من حيث ما يشتمل عليه من المفاد فيكون في الحقيقة إشارة إلى المعارف التي تشتمل عليها السورة و تتضمنها و استنتجوا من ذلك أن مضمون السورة مما أوحاه الله تعالى إلى جميع الأنبياء فهو من الوحي المشترك فيه، و قد عرفت أنه لا يوافق غرض السورة و يأباه سياق آياتها.
و قوله: «العزيز الحكيم له ما في السماوات و ما في الأرض و هو العلي العظيم» خمسة من أسمائه الحسنى، و قوله: «له ما في السماوات و ما في الأرض» في معنى المالك، و هو واقع موقع التعليل لأصل الوحي و لكونه سنة إلهية جارية فالذي يعطيه الوحي شرع إلهي فيه هداية الناس إلى سعادة حياتهم في الدنيا و الآخرة و ليس المانع أن يمنعه تعالى عن ذلك لأنه عزيز غير مغلوب فيما يريد، و لا هو تعالى يهمل أمر هداية عباده لأنه حكيم متقن في أفعاله و من إتقان الفعل أن يساق إلى غايته.
و من حقه تعالى أن يتصرف فيهم و في أمورهم كيف يشاء، لأنه مالكهم و له أن يعبدهم و يستعبدهم بالأمر و النهي لأنه على عظيم فلكل من الأسماء الخمسة حظه من التعليل، و ينتج مجموعها أنه وليهم من كل جهة لا ولي غيره.
قوله تعالى: «تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن» إلخ التفطر التشقق من الفطر بمعنى الشق.
الذي يهدي إليه السياق و الكلام مسرود لبيان حقيقة الوحي و غايته و آثاره أن يكون المراد من تفطر السماوات من فوقهن تفطرها بسبب الوحي النازل من عند الله العلي العظيم المار بهن سماء سماء حتى ينزل على الأرض فإن مبدأ الوحي هو الله سبحانه و السماوات طرائق إلى الأرض قال تعالى: «و لقد خلقنا فوقكم سبع طرائق و ما كنا عن الخلق غافلين»: المؤمنون: 17.
و الوجه في تقييد «يتفطرن» بقوله: «من فوقهن» ظاهر فإن الوحي ينزل عليهن من فوقهن من عند من له العلو المطلق و العظمة المطلقة فلو تفطرن كان ذلك من فوقهن.
على ما فيه من إعظام أمر الوحي و إعلائه فإنه كلام العلي العظيم فلكونه كلام ذي العظمة المطلقة تكاد السماوات يتفطرن بنزوله و لكونه كلاما نازلا من عند ذي العلو المطلق يتفطرن من فوقهن لو تفطرن.
فالآية في إعظام أمر كلام الله من حيث نزوله و مروره على السماوات نظيره قوله: «حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم قالوا الحق و هو العلي الكبير»: سبأ: 23 في إعظامه من حيث تلقي ملائكة السماوات إياه، و نظيره قوله: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله»: الحشر: 21 في إعظامه على فرض نزوله على جبل و نظيره قوله: «إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا»: المزمل: 5 في استثقاله و استصعاب حمله.
هذا ما يعطيه السياق.
و قد حمل القوم الآية على أحد معنيين آخرين: أحدهما: أن المراد تفطرهن من عظمة الله و جلاله جل جلاله كما يؤيده توصيفه تعالى قبله بالعلي العظيم.
و ثانيهما: أن المراد تفطرهما من شرك المشركين من أهل الأرض و قولهم: «اتخذ الرحمن ولدا» فقد قال تعالى فيه: «تكاد السماوات يتفطرن منه»: مريم: 90 فأدى ذلك إلى التكلف في توجيه تقييد التفطر بقوله: «من فوقهن» و خاصة على المعنى الثاني، و كذا في توجيه اتصال قوله: «و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض» إلخ بما قبله كما لا يخفى على من راجع كتبهم.
و قوله: «و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض» أي ينزهونه تعالى عما لا يليق بساحة قدسه و يثنون عليه بجميل فعله، و مما لا يليق بساحة قدسه أن يهمل أمر عباده فلا يهديهم بدين يشرعه لهم بالوحي و هو منه فعل جميل، و يسألونه تعالى أن يغفر لأهل الأرض، و حصول المغفرة إنما هو بحصول سببها و هو سلوك سبيل العبودية بالاهتداء بهداية الله سبحانه فسؤالهم المغفرة لهم مرجعه إلى سؤال أن يشرع لهم دينا يغفر لمن تدين به منهم فالمعنى و الملائكة يسألون الله سبحانه أن يشرع لمن في الأرض من طريق الوحي دينا يدينون به فيغفر لهم بذلك.
و يشهد على هذا المعنى وقوع الجملة في سياق بيان صفة الوحي و كذا تعلق الاستغفار بمن في الأرض إذ لا معنى لطلب المغفرة منهم لمطلق أهل الأرض حتى لمن قال: «اتخذ الله ولدا» و قد حكى الله تعالى عنهم: «و يستغفرون للذين آمنوا» الآية: المؤمن: 7 فالمتعين حمل سؤال المغفرة على سؤال سببها و هو تشريع الدين لأهل الأرض ليغفر لمن تدين به.
و قوله: «ألا إن الله هو الغفور الرحيم» أي إن الله سبحانه لاتصافه بصفتي المغفرة و الرحمة و تسميه باسمي الغفور الرحيم يليق بساحة قدسه أن يفعل بأهل الأرض ما ينالون به المغفرة و الرحمة من عنده و هو أن يشرع لهم دينا يهتدون به إلى سعادتهم من طريق الوحي و التكليم.
قيل: و في قوله: «ألا إن الله» إلخ إشارة إلى قبول استغفار الملائكة و أنه سبحانه يزيدهم على ما طلبوه من المغفرة رحمة.
قوله تعالى: «و الذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم و ما أنت عليهم بوكيل» لما استفيد من الآيات السابقة أن الله تعالى هو الولي لعباده لا ولي غيره و هو يتولى أمر من في الأرض منهم بتشريع دين لهم يرتضيه من طريق الوحي إلى أنبيائه على ما يقتضيه أسماؤه الحسنى و صفاته العليا، و لازم ذلك أن لا يتخذ عباده أولياء من دونه، أشار في هذه الآية إلى حال من اتخذ من دونه أولياء باتخاذهم شركاء له في الربوبية و الألوهية فذكر أنه ليس بغافل عما يعملون و أن أعمالهم محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و ليس على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا البلاغ من غير أن يكون وكيلا عليهم مسئولا عن أعمالهم.
فقوله: «الله حفيظ عليهم» أي يحفظ عليهم شركهم و ما يتفرع عليه من الأعمال السيئة.
و قوله: «و ما أنت عليهم بوكيل» أي مفوضا إليك أعمالهم حتى تصلحها لهم بهدايتهم إلى الحق، و الكلام لا يخلو من نوع من التسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و البخاري في تاريخه و ابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس عن جابر بن عبد الله بن رباب قال: مر أبو ياسر بن أخطب في رجال من يهود برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يتلو فاتحة سورة البقرة «الم ذلك الكتاب» فأتاه أخوه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال: تعلمون؟ و الله لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه «الم ذلك الكتاب» فقالوا: أنت سمعته؟ قال نعم. فمشى أولئك النفر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا محمد أ لم تذكر أنك تتلو فيما أنزل عليك «الم ذلك الكتاب»؟ قال: بلى. قالوا: قد جاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال: نعم. قالوا: لقد بعث الله قبلك أنبياء ما نعلمه بين لنبي لهم ما مدة ملكه؟ و ما أجل أمته غيرك. فقال حيي بن أخطب و أقبل على من كان معه: الألف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون فهذه إحدى و سبعون سنة أ فتدخلون في دين نبي إنما مدة ملكه و أجل أمته إحدى و سبعون سنة. ثم أقبل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال: نعم. قال: ما ذا؟ قال: المص قال: هذا أثقل و أطول الألف واحدة، و اللام ثلاثون و الميم أربعون و الصاد تسعون فهذه مائة و إحدى و ستون سنة هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال: نعم. قال: ما ذا؟ قال: الر. قال: هذه أثقل و أطول الألف واحدة و اللام ثلاثون و الراء مائتان فهذه إحدى و ثلاثون و مائتا سنة فهل مع هذا غيره؟ قال: نعم قال: ما ذا؟، قال المر قال: فهذه أثقل و أطول الألف واحدة و اللام ثلاثون و الميم أربعون و الراء مائتان فهذه إحدى و سبعون سنة و مائتان. ثم قال: لقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري أ قليلا أعطيت أم كثيرا؟ ثم قاموا فقال أبو ياسر لأخيه حيي و من معه من الأحبار: ما يدريكم؟ لعله قد جمع هذا لمحمد كله إحدى و سبعون و إحدى و ستون و مائة و إحدى و ثلاثون و مائتان فذلك سبعمائة و أربع و ثلاثون فقالوا: لقد تشابه علينا أمره فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم: «هو الذي أنزل عليك الكتاب - منه آيات محكمات هن أم الكتاب - و أخر متشابهات»:. أقول: و روي قريبا منه عن ابن المنذر عن ابن جريح، و روى مثله أيضا القمي في تفسيره، عن أبيه عن ابن رئاب عن محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام)، و ليس في الرواية ما يدل على إمضاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لدعواهم و لا كانت لهم على ما ادعوه حجة، و قد تقدم أن الآيات المتشابهة غير الحروف المقطعة في فواتح السور.
و في المعاني، بإسناده عن جويرية عن سفيان الثوري قال: قلت لجعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام): يا ابن رسول الله ما معنى قول الله عز و جل: الم و المص و الر و المر و كهيعص و طه و طس و طسم و يس و ص و حم و حمعسق و ق و ن؟ قال (عليه السلام) أما الم في أول البقرة فمعناه أنا الله الملك، و أما الم في أول آل عمران فمعناه أنا الله المجيد، و المص فمعناه أنا الله المقتدر الصادق، و الر فمعناه أنا الله الرءوف، و المر فمعناه أنا الله المحيي المميت الرازق، و كهيعص معناه أنا الكافي الهادي الولي العالم الصادق الوعد، فأما طه فاسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و معناه يا طالب الحق الهادي إليه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى بل لتسعد به. و أما طس فمعناه أنا الطالب السميع، و أما طسم فمعناه أنا الطالب السميع المبدىء المعيد، و أما يس فاسم من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و معناه يا أيها السامع للوحي و القرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم. و أما ص فعين تنبع من تحت العرش و هي التي توضأ منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما عرج به و يدخلها جبرئيل كل يوم دخلة فيغتمس فيها ثم يخرج منها فينفض أجنحته فليس من قطرة تقطر من أجنحته إلا خلق الله تبارك و تعالى منها ملكا يسبح الله و يقدسه و يكبره و يحمده إلى يوم القيامة. و أما حم فمعناه الحميد المجيد، و أما حمعسق فمعناه الحليم المثيب العالم السميع القادر القوي، و أما ق فهو الجبل المحيط بالأرض و خضرة السماء منه و به يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها، و أما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز و جل اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال عز و جل للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور. قال سفيان: فقلت له: يا ابن رسول الله بين لي أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدي إلى اللوح و هو ملك، و اللوح يؤدي إلى إسرافيل، و إسرافيل يؤدي إلى ميكائيل، و ميكائيل يؤدي إلى جبرئيل، و جبرئيل يؤدي إلى الأنبياء و الرسل (صلى الله عليه وآله وسلم). قال: ثم قال لي: قم يا سفيان فلا آمن عليك. أقول: ظاهر ما في الرواية من تفسير غالب الحروف المقطعة بأسماء الله الحسنى أنها حروف مأخوذة من الأسماء إما من أولها كالميم من الملك و المجيد و المقتر، و إما من بين حروفها كاللام من الله و الياء من الولي فتكون الحروف المقطعة إشارات على سبيل الرمز إلى أسماء الله تعالى، و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس و الربيع بن أنس و غيرهما لكن لا يخفى عليك أن الرمز في الكلام إنما يصار إليه في الإفصاح عن الأمور التي لا يريد المتكلم أن يطلع عليه غير المخاطب بالخطاب فيرمز إليه بما لا يتعداه و مخاطبه و لا يقف عليه غيرهما و هذه الأسماء الحسنى قد أوردت و بينت في مواضع كثيرة من كلامه تعالى تصريحا و تلويحا و إجمالا و تفصيلا و لا يبقى مع ذلك فائدة في الإشارة إلى كل منها بحرف مأخوذ منه رمزا إليه.
فالوجه - على تقدير صحة الرواية - أن يحمل على كون هذه الأحرف دالة على هذه المعاني دلالة غير وضعية فتكون رموزا إليها مستورة عنا مجهولة لنا دالة على مراتب من هذه المعاني هي أدق و أرقى و أرفع من أفهامنا، و يؤيد ذلك بعض التأييد تفسيره الحرف الواحد كالميم في المواضع المختلفة بمعان مختلفة، و كذا ما ورد أنها من حروف اسم الله الأعظم.
و قوله: «و أما ق فهو الجبل المحيط بالأرض و خضرة السماء منه» إلخ و روى قريبا منه القمي في تفسيره، و هو مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره، و لفظ بعضها جبل من زمرد محيط بالدنيا على كنفي السماء، و في بعضها أنه جبل محيط بالبحر المحيط بالأرض و السماء الدنيا مترفرفة عليها و أن هناك سبع أرضين و سبعة أبحر و سبعة أجبل و سبع سماوات.
و في بعض ما عن ابن عباس: خلق الله جبلا يقال له: ق محيط بالعالم و عروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها و يحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية.
و الروايات بظاهرها أشبه بالإسرائيليات، و لو لا قوله: «و به يمسك الله الأرض أن تميد بأهلها» لأمكن حمل قوله: «و أما ق فهو الجبل المحيط بالدنيا و خضرة السماء منه» على إرادة الهواء المحيط بالأرض بضرب من التأويل.
و أما قوله: إن طه و يس من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمعنى الذي فسره به فينبغي أن يحمل أيضا على ما قدمناه به و يفسر الروايات الكثيرة الواردة من طرق العامة و الخاصة في أن طه و يس من أسماء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و أما قوله في ن إنه نهر صيره الله مدادا كتب به القلم بأمره على اللوح ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة، و أن المداد و القلم و اللوح من النور ثم قوله: إن المداد ملك و القلم ملك و اللوح ملك فهو نعم الشاهد على أن ما ورد في كلامه تعالى من العرش و الكرسي و اللوح و القلم و نظائر ذلك و فسر بما فسر به في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) من باب التمثيل أريد به تقريب معارف حقيقية هي أعلى و أرفع من سطح الأفهام العامة بتنزيلها منزلة المحسوس.
و في المعاني، أيضا بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال «الم» هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإمام فإذا دعا به أجيب. الحديث.
أقول: كون هذه الحروف المقطعة من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن مروي بعدة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره، و قد تبين في البحث عن الأسماء الحسنى في سورة الأعراف أن الاسم الأعظم الذي له أثره الخاص به ليس من قبيل الألفاظ، و أن ما ورد مما ظاهره أنه اسم مؤلف من حروف ملفوظة مصروف عن ظاهره بنوع من الصرف المناسب له.
و فيه، بإسناده عن محمد بن زياد و محمد بن سيار عن العسكري (عليه السلام) أنه قال: كذبت قريش و اليهود بالقرآن و قالوا: سحر مبين تقوله فقال الله: «الم ذلك الكتاب» أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك هو الحروف المقطعة التي منها ألف لام ميم و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين و استعينوا على ذلك بسائر شهدائكم. الحديث.
أقول: و الحديث من تفسير العسكري و هو ضعيف.
و في تفسير القمي، و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «يتفطرن من فوقهن» أي يتصدعن.
و عن جوامع الجامع،: في قوله تعالى: «و يستغفرون لمن في الأرض»: قال الصادق (عليه السلام): لمن في الأرض من المؤمنين:. أقول: و روي ما في معناه في المجمع، عنه (عليه السلام) و رواه القمي مضمرا.
|