بيان
فصل ثالث من الآيات يعرف الوحي الإلهي بأثره الذي هو مفاده و ما احتوى عليه من المضمون و هو الدين الإلهي الواحد الذي يجب على الناس أن يتخذوه سنة في الحياة و طريقة مسلوكة إلى سعادتهم.
و قد بين فيها بحسب مناسبة المقام أن الشريعة المحمدية أجمع الشرائع المنزلة و أن الاختلافات الواقعة في دين الله على وحدته ليست من ناحية الوحي السماوي و إنما هي من بغي الناس بعد علمهم، و في الآيات فوائد أخر أشير إليها في خلالها.
قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى» يقال: شرع الطريق شرعا أي سواه طريقا واضحا بينا.
قال الراغب: الوصية التقدم إلى الغير بما يعمل مقترنا بوعظ من قولهم: أرض واصية متصلة النبات و يقال: أوصاه و وصاه انتهى.
و في معناه إشعار بالأهمية فما كل أمر يوصى به و إنما يختار لذلك ما يهتم به الموصي و يعتني بشأنه.
فقوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا» أي بين و أوضح لكم من الدين و هو سنة الحياة ما قدم و عهد إلى نوح مهتما به، و اللائح من السياق أن الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته، و أن المراد مما وصى به نوحا شريعة نوح (عليه السلام).
و قوله: «و الذي أوحينا إليك» ظاهر المقابلة بينه و بين نوح (عليه السلام) أن المراد بما أوحي إليه ما اختصت به شريعته من المعارف و الأحكام، و إنما عبر عن ذلك بالإيحاء دون التوصية لأن التوصية كما تقدم إنما تتعلق من الأمور بما يهتم به و يعتنى بشأنه خاصة و هو أهم العقائد و الأعمال، و شريعته (صلى الله عليه وآله وسلم) جامعة لكل ما جل و دق محتوية على الأهم و غيره بخلاف شرائع غيره فقد كانت محدودة بما هو الأهم المناسب لحال أممهم و الموافق لمبلغ استعدادهم.
و الالتفات في قوله: «و الذي أوحينا» من الغيبة إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة فإن العظماء يتكلمون عنهم و عن خدمهم و أتباعهم.
و قوله: «و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى» عطف على قوله: «ما وصى به» و المراد به ما شرع لكل واحد منهم (عليهم السلام).
و الترتيب الذي بينهم (عليهم السلام) في الذكر على وفق ترتيب زمنهم فنوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (عليه السلام)، و إنما قدم ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) للتشريف و التفضيل كما في قوله تعالى: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم»: الأحزاب: 7 و إنما قدم نوحا و بدأ به للدلالة على قدم هذه الشريعة و طول عهدها.
و يستفاد من الآية أمور: أحدها: أن السياق بما أنه يفيد الامتنان و خاصة بالنظر إلى ذيل الآية و الآية التالية يعطي أن الشريعة المحمدية جامعة للشرائع الماضية و لا ينافيه قوله تعالى: «لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا»: المائدة: 48 لأن كون الشريعة شريعة خاصة لا ينافي جامعيتها.
الثاني: أن الشرائع الإلهية المنتسبة إلى الوحي إنما هي شريعة نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ لو كان هناك غيرها لذكر قضاء لحق الجامعية المذكورة.
و لازم ذلك أولا: أن لا شريعة قبل نوح (عليه السلام) بمعنى القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني الرافعة للاختلافات الاجتماعية و قد تقدم نبذة من الكلام في ذلك في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين» الآية: البقرة: 213.
و ثانيا: أن الأنبياء المبعوثين بعد نوح كانوا على شريعته إلى بعثة إبراهيم و بعدها على شريعة إبراهيم إلى بعثة موسى و هكذا.
الثالث: أن الأنبياء أصحاب الشرائع و أولي العزم هم هؤلاء الخمسة المذكورون في الآية إذ لو كان معهم غيرهم لذكر فهؤلاء سادة الأنبياء و يدل على تقدمهم أيضا قوله: «و إذ أخذنا من النبيين ميثاقهم و منك و من نوح و إبراهيم و موسى و عيسى بن مريم»: الأحزاب: 7.
و قوله: «أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا» أن تفسيرية، و إقامة الدين حفظه بالاتباع و العمل و اللام في الدين للعهد أي أقيموا هذا الدين المشروع لكم، و عدم التفرق فيه حفظ وحدته بالاتفاق عليه و عدم الاختلاف فيه.
لما كان شرع الدين لهم في معنى أمرهم جميعا باتباعه و العمل به من غير اختلاف فسره بالأمر بإقامة الدين و عدم التفرق فيه فكان محصله أن عليهم جميعا إقامة الدين جميعا و عدم التفرق و التشتت فيه بإقامة بعض و ترك بعض، و إقامته الإيمان بجميع ما أنزل الله و العمل بما يجب عليه العمل به.
فجميع الشرائع التي أنزلها الله على أنبيائه دين واحد يجب إقامته و عدم التفرق فيه فأما الأحكام السماوية المشترك فيها الباقية ببقاء التكليف فمعنى الإقامة فيها ظاهر و أما الأحكام المشرعة في بعض هذه الشرائع المنسوخة في الشريعة اللاحقة فحقيقة الحكم المنسوخ أنه حكم ذو أمد خاص بطائفة من الناس في زمن خاص و معنى نسخه تبين انتهاء أمده لا ظهور بطلانه قال تعالى: «و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل»: الأحزاب: 4 فالحكم المنسوخ حق دائما غير أنه خاص بطائفة خاصة في زمن خاص يجب عليهم أن يؤمنوا به و يعملوا به و يجب على غيرهم أن يؤمنوا به فحسب من غير عمل و هذا معنى إقامته و عدم التفرق فيه.
فتبين أن الأمر بإقامة الدين و عدم التفرق فيه في قوله: «أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه» مطلق شامل لجميع الناس في جميع الأزمان.
و بذلك يظهر فساد قول جمع إن الأمر بالإقامة و عدم التفرق إنما يشمل الأحكام المشتركة بين الشرائع دون المختصة فهي أحكام متفاوتة مختلفة باختلاف الأمم من حيث أحوالها و مصالحها.
و ذلك أنه لا موجب لتقييد إطلاق قوله: «أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه» و لو كان كما يقولون كان الأمر بالإقامة مختصا بأصول الدين الثلاثة: التوحيد و النبوة و المعاد، و أما غيرها من الأحكام الفرعية فلا يكاد يوجد هناك حكم واحد مشترك فيه في جميع خصوصياته بين جميع الشرائع و هذا مما يأباه قطعا سياق قوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به» إلخ، و مثل قوله: «و إن هذه أمتكم أمة واحدة و أنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا»: المؤمنون: 53 و قوله: «إن الدين عند الله الإسلام و ما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم»: آل عمران: 19.
و قوله: «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه» المراد بقوله: «ما تدعوهم إليه» دين التوحيد الذي كان يدعو إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أصل التوحيد فحسب على ما تشهد به الآية التالية، و المراد بكبره على المشركين تحرجهم من قبوله.
و قوله: «الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب» الاجتباء هو الجمع و الاجتلاب، و مقتضى اتساق الضمائر أن يكون ضمير «إليه» الثاني و الثالث راجعا إلى ما يرجع إليه الأول و المعنى الله يجمع و يجتلب إلى دين التوحيد - و هو ما تدعوهم إليه - من يشاء من عباده و يهدي إليه من يرجع إليه فيكون مجموع قوله: «كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء» في معنى قوله: هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم»: الحج: 78.
و قيل: الضميران لله تعالى، و لا بأس به لكن ما تقدم هو الأنسب، و على أي حال قوله: «الله يجتبي إليه» إلى آخر الآية موضوع موضع الاستغناء عن إيمان المشركين المستكبرين للإيمان نظير قوله تعالى: «فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون»: حم السجدة: 38.
و قيل: المراد بما تدعوهم إليه ما تدعوهم إلى الإيمان به و هو الرسالة أي إن رسالتك كبرت عليهم، و قوله: «الله يجتبي» إلخ في معنى قوله: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»: الأنعام: 124 و هو خلاف الظاهر.
قوله تعالى: «و ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم» إلى آخر الآية ضمير «تفرقوا» للناس المفهوم من السياق، و البغي الظلم أو الحسد، و تقييده بقوله: «بينهم» للدلالة على تداوله، و المعنى و ما تفرق الناس الذين شرعت لهم الشريعة باختلافهم و تركهم الاتفاق إلا حال كون تفرقهم آخذا - أو ناشئا - من بعد ما جاءهم العلم بما هو الحق ظلما أو حسدا تداولوه بينهم.
و هذا هو الاختلاف في الدين المؤدي إلى الانشعابات و التحزبات الذي ينسبه الله سبحانه في مواضع من كلامه إلى البغي، و أما الاختلاف المؤدي إلى نزول الشريعة و هو الاختلاف في شئون الحياة و التفرق في أمور المعاش فهو أمر عائد إلى اختلاف طبائع الناس في مقاصدهم و هو الذريعة إلى نزول الوحي و تشريع الشرع لرفعه كما يشير إليه قوله: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين»: البقرة: 213 كما تقدم في تفسير الآية.
و قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم» المراد بالكلمة مثل قوله: حين إهباط آدم (عليه السلام) إلى الأرض: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: البقرة: 36.
و المعنى: و لو لا أن الله قضى فيهم الاستقرار و التمتع في الأرض إلى أجل سماه و عينه لقضي بينهم إثر تفرقهم في دينه و انحرافهم عن سبيله فأهلكهم باستدعاء من هذا الذنب العظيم.
و قول القائل: إن الله قد قضى و أهلك كما يقصه في قصص نوح و هود و صالح (عليهما السلام) و قد قال تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط»: يونس: 47.
مدفوع بأن ما قصه تعالى من القضاء و الإهلاك إنما هو في أمم الأنبياء في زمانهم من المكذبين بين الرادين عليهم و ما نحن فيه من قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك» الآية في أممهم بعدهم و هو واضح من السياق.
و قوله: «و إن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب» ضمير «من بعدهم» لأولئك الذين تفرقوا من بعد علم بغيا بينهم و هم الأسلاف، و الذين أورثوا الكتاب من بعدهم أخلافهم فمفاد الآية أن البادئين بالاختلاف المؤسسين للتفرقة كانوا على علم من الحق و إنما أبدعوا ما أبدعوا، بغيا بينهم، و أخلافهم الذين أورثوا الكتاب من بعدهم في شك مريب - موقع في الريب - منه.
و ما أوردناه في معنى الآية هو الذي يعطيه السياق، و لهم في تفسيرها أقاويل كثيرة لا جدوى في إسقاطها فليرجع في الوقوف عليها إلى كتبهم.
قوله تعالى: «فلذلك فادع و استقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم» إلى آخر الآية.
تفريع على ما ذكر من شرع دين واحد لجميع الأنبياء و أممهم ثم انقسام أممهم إلى أسلاف اختلفوا في الدين عن علم بغيا، و إلى أخلاف شاكين مرتابين فيما أورثوه من الكتاب أي فلأجل أنه شرع لكم جميع ما شرع لمن قبلكم فادع و لأجل ما ذكر من تفرق بعضهم بغيا و ارتياب آخرين فاستقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم.
و اللام في قوله: «فلذلك» للتعليل، و قيل: اللام بمعنى إلى أي إلى ما شرع لكم من الدين فادع و استقم كما أمرت، و الاستقامة - كما ذكره الراغب - لزوم المنهاج المستقيم، و قوله: «و لا تتبع أهواءهم» كالمفسر له.
و قوله: «و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب» تسوية بين الكتب السماوية من حيث تصديقها و الإيمان بها و هي الكتب المنزلة من عند الله المشتملة على الشرائع.
و قوله: «و أمرت لأعدل بينكم» قيل: اللام زائدة للتأكيد نظير قوله: «و أمرنا لنسلم لرب العالمين»: الأنعام: 71، و المعنى: و أمرت أن أعدل بينكم أي أسوي بينكم فلا أقدم قويا على ضعيف و لا غنيا على فقير و لا كبيرا على صغير، و لا أفضل أبيض على أسود و لا عربيا على عجمي و لا هاشميا أو قرشيا على غيره فالدعوة متوجهة إلى الجميع، و الناس قبال الشرع الإلهي سواء.
فقوله: «آمنت بما أنزل الله من كتاب» تسوية بين الكتب المنزلة من حيث الإيمان بها، و قوله: «و أمرت لأعدل بينكم» تسوية بين الناس من حيث الدعوة و توجه ما جاء به من الشرع.
و قيل: اللام في «لأعدل بينكم» للتعليل، و المعنى: و أمرت بما أمرت لأجل أن أعدل بينكم، و كذا قيل: المراد بالعدل العدل في الحكم، و قيل: العدل في القضاء بينكم، و قيل غير ذلك، و هذه معان بعيدة لا يساعد عليها السياق.
و قوله: «الله ربنا و ربكم» إلخ، في مقام التعليل لما ذكر من التسوية بين الكتب و الشرائع في الإيمان بها و بين الناس في دعوتهم و شمول الأحكام لهم، و لذا جيء في الكلام بالفصل من غير عطف.
فقوله: «الله ربنا و ربكم» يشير إلى أن رب الكل هو الله الواحد تعالى فليس لهم أرباب كثيرون حتى يلحق كل بربه و يتفاضلوا بالأرباب و يقتصر كل منهم بالإيمان بشريعة ربه بل الله هو رب الجميع و هم جميعا عباده المملوكون له المدبرون بأمره و الشرائع المنزلة على الأنبياء من عنده فلا موجب للإيمان ببعضها دون بعض كما يؤمن اليهود بشريعة موسى دون من بعده و كذا النصارى بشريعة عيسى دون محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بل الواجب الإيمان بكل كتاب نازل من عنده لأنها جميعا من عنده.
و قوله: «لنا أعمالنا و لكم أعمالكم» يشير إلى أن الأعمال و إن اختلفت من حيث كونها حسنة أو سيئة و من حيث الجزاء ثوابا أو عقابا إلا أنها لا تتعدى عاملها فلكل امرىء ما عمل فلا ينتفع أحد بعمل آخر و لا يتضرر بعمل غيره فليس له أن يقدم امرأ للانتفاع بعمله أو يؤخر امرأ للتضرر بعمله نعم في الأعمال تفاضل تختلف به درجات العاملين لكن ذلك إلى الله فيما يحاسب به عباده لا إلى الناس - النبي فمن دونه - الذين هم جميعا عباد مملوكون لا يملك منهم نفس من نفس شيئا، و هذا هو الذي ذكره تعالى في محاورة نوح (عليه السلام) قومه: «قالوا أ نؤمن لك و اتبعك الأرذلون قال و ما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون»: الشعراء: 113، و كذا قوله يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما عليك من حسابهم من شيء و ما من حسابك عليهم من شيء»: الأنعام: 52.
و قوله: «لا حجة بيننا و بينكم» لعل المراد أنه لا حجة تدل على تقدم بعض على بعض تكون فيما بيننا يقيمها بعض على بعض يثبت بها تقدمه عليه.
و يمكن أن يكون نفي الحجة كناية عن نفي لازمها و هو الخصومة أي لا خصومة بيننا بتفاوت الدرجات لأن ربنا واحد و نحن في أننا جميعا عباده واحد و لكل نفس ما عملت فلا حجة في البين أي لا خصومة حتى تتخذ لها حجة.
و من هنا يظهر أن لا وجه لقول بعضهم في تفسير الجملة: أي لا احتجاج و لا خصومة لأن الحق قد ظهر فلم يبق للاحتجاج حاجة و لا للمخالفة محمل سوى المكابرة و العناد انتهى.
إذ الكلام مسوق لبيان ما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نفسه و في أمته من سنة التسوية لا لإثبات شيء من أصول المعارف حتى تحمل الحجة على ما حملها عليه.
و قوله: «الله يجمع بيننا» المراد بضمير التكلم فيه مجموع المتكلم و المخاطب في الجمل السابقة، و المراد بالجمع جمعه تعالى إياهم يوم القيامة للحساب و الجزاء على ما قيل.
و غير بعيد أن يراد بالجمع جمعه تعالى بينهم في الربوبية فهو رب الجميع و الجميع عباده فيكون قوله: «الله يجمع بيننا» تأكيدا لقوله السابق: «الله ربنا و ربكم» و توطئة و تمهيدا لقوله: «و إليه المصير» و يكون مفاد الجملتين أن الله هو مبدئنا لأنه ربنا جميعا و إليه منتهانا لأنه إليه المصير فلا موجد لما بيننا إلا هو عز اسمه.
و كان مقتضى الظاهر في التعليل أن يقال: «الله ربي و ربكم لي عملي و لكم أعمالكم لا حجة بيني و بينكم على محاذاة قوله: «آمنت» «و أمرت لأعدل» لكن عدل عن المتكلم وحده إلى المتكلم مع الغير لدلالة قوله السابق: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا» إلخ، و قوله: «الله يجتبي إليه من يشاء و يهدي إليه من ينيب» إن هناك قوما يؤمنون بما آمن به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يلبون دعوته و يتبعون شريعته.
فالمراد بالمتكلم مع الغير في «ربنا» و «لنا أعمالنا» و «بيننا» هو (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون به، و بالمخاطبين في قوله: «و ربكم» و «أعمالكم» و «بينكم» سائر الناس من أهل الكتاب و المشركين، و الآية على وزان قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون»: آل عمران: 64.
قوله تعالى: «و الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم و عليهم غضب و لهم عذاب شديد» الحجة هي القول الذي يقصد به إثبات شيء أو إبطاله من الحج بمعنى القصد، و الدحض البطلان و الزوال.
و المعنى: - على ما قيل - و الذين يحاجون في الله أي يحتجون على نفي ربوبيته أو على إبطال دينه من بعد ما استجاب الناس له و دخلوا في دينه لظهور الحجة و وضوح المحجة حجتهم باطلة زائلة عند ربهم و عليهم غضب منه تعالى و لهم عذاب شديد.
و الظاهر أن المراد بالاستجابة له ما هو حق الاستجابة و هو التلقي بالقبول عن علم لا يداخله شك تضطر إليه الفطرة الإنسانية السليمة فإن الدين بما فيه من المعارف فطري تصدقه و تستجيب له الفطرة الحية قال تعالى: «إنما يستجيب الذين يسمعون و الموتى يبعثهم الله»: الأنعام: 36، و قال: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8، و قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها»: الروم: 30.
و محصل الآية: على هذا أن الذين يحاجون فيه تعالى أو في دينه بعد استجابة الفطرة السليمة له أو بعد استجابة الناس بفطرتهم السليمة له حجتهم باطلة زائلة عند ربهم و عليهم غضب منه و لهم عذاب شديد لا يقادر قدره.
و يؤيد هذا الوجه بعض التأييد سياق الآيات السابقة حيث تذكر أن الله شرع دينا و وصى به أنبياءه و اجتبى إليه من شاء من عباده فالمحاجة في أن لله دينا يستعبد به عباده داحضة و من الممكن حينئذ أن يكون قوله: «الله الذي أنزل الكتاب بالحق و الميزان» في مقام التعليل و حجة مدحضة لحجتهم فتدبر فيه.
و قيل: ضمير «له» للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و المستجيب أهل الكتاب، و استجابتهم له اعترافهم بورود أوصافه و نعوته في كتبهم و المراد أن محاجتهم في الله بعد اعترافهم له بما اعترفوا حجتهم باطلة عند ربهم.
و قيل: الضمير له (صلى الله عليه وآله وسلم) و المستجيب هو الله تعالى حيث استجاب دعاءه على صناديد قريش فقتلهم يوم بدر، و دعاءه على أهل مكة فابتلاهم بالقحط و السنة، و دعاءه على المستضعفين حتى خلصهم الله من يد قريش إلى غير ذلك من معجزاته، و المعنيان بعيدان من السياق.
بحث روائي
في روح المعاني،: في قوله تعالى: «و الذين يحاجون في الله» الآية: عن ابن عباس و مجاهد: نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام و إضلالهم فقالوا: كتابنا قبل كتابكم و نبينا قبل نبيكم فديننا أفضل من دينكم: و في رواية: بدل «فديننا» إلخ فنحن أولى بالله منكم. و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت إذا جاء نصر الله و الفتح قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجا فاخرجوا من بين أظهرنا فعلام تقيمون بين أظهرنا فنزلت: «و الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له» الآية.
أقول: مضمون الآية لا ينطبق على الرواية إذ لا محاجة في القصة، و كذا الخبر السابق لا يفي بتوجيه قوله: «من بعد ما استجيب له».
|