لما انجر الكلام إلى ردهم رسالة الرسول و كفرهم بها تحكما و تشبثهم في الشرك بذيل تقليد الآباء و الأسلاف من غير دليل عقب ذلك بالإشارة إلى قصة إبراهيم (عليه السلام) و رفضه تقليد أبيه و قومه و تبريه عما يعبدونه من دون الله سبحانه و استهدائه هدى ربه الذي فطره. ثم يذكر تمتيعه لهم بنعمه و كفرانهم بها بالكفر بكتاب الله و طعنهم فيه و في رسوله بما هو مردود عليهم.
ثم يذكر تبعة الإعراض عن ذكر الله و ما تنتهي إليه من الشقاء و الخسران، و يعطف عليه إياس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من إيمانهم و تهديدهم بالعذاب و يؤكد الأمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستمسك بالقرآن و إنه لذكر له و لقومه و سوف يسألون عنه، و إن الذي فيه من دين التوحيد هو الذي كان عليه الأنبياء السابقون عليه.
قوله تعالى: «و إذ قال إبراهيم لأبيه و قومه إنني براء مما تعبدون» البراء مصدر من برىء يبرأ فهو بريء فمعنى «إنني براء» إنني: ذو براء أو بريء على سبيل المبالغة مثل زيد عدل.
و في الآية إشارة إلى تبري إبراهيم (عليه السلام) مما كان يعبده أبوه و قومه من الأصنام و الكواكب بعد ما حاجهم فيها فاستندوا فيها إلى سيرة آبائهم على ما ذكر في سور الأنعام و الأنبياء و الشعراء و غيرها.
و المعنى: و اذكر لهم إذ تبرأ إبراهيم عن آلهة أبيه و قومه إذ كانوا يعبدونها تقليدا لآبائهم من غير حجة و قام بالنظر وحده.
قوله تعالى: «إلا الذي فطرني فإنه سيهدين» أي إلا الذي أوجدني و هو الله سبحانه، و في توصيفه تعالى بالفطر إشارة إلى الحجة على ربوبيته و ألوهيته فإن الفطر و الإيجاد لا ينفك عن تدبير أمر الموجود المفطور فالذي فطر الكل هو الذي يدبر أمرهم فهو الحقيق أن يعبد.
و قوله: «فإنه سيهدين» أي إلى الحق الذي أطلبه، و قيل: أي إلى طريق الجنة، و في هذه الجملة إشارة إلى خاصة أخرى ربوبية و هي الهداية إلى السبيل الحق يجب أن يسلكه الإنسان فإن السوق إلى الكمال من تمام التدبير فعلى الرب المدبر لأمر مربوبه أن يهديه إلى كماله و سعادته، قال تعالى: «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50، و قال: «و على الله قصد السبيل»: النحل: 9، فالرجوع إلى الله بتوحيد العبادة يستتبع الهداية كما قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»: العنكبوت: 69.
و الاستثناء في قوله: «إلا الذي فطرني» منقطع لأن الوثنيين لا يعبدون الله كما مر مرارا، فقول بعضهم: إنه متصل، و إنهم كانوا يقولون: الله ربنا مع عبادتهم الأوثان، كما ترى.
قوله تعالى: «و جعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون» الظاهر أن ضمير الفاعل المستتر في «جعلها» لله سبحانه، و الضمير البارز - على ما قيل - لكلمة البراءة التي تكلم بها إبراهيم (عليه السلام) و معناها معنى كلمة التوحيد فإن مفاد لا إله إلا الله نفي الآلهة غير الله لا نفي الآلهة و إثبات الإله تعالى و هو ظاهر فلا حاجة إلى ما تكلف به بعضهم أن الضمير لكلمة التوحيد المعلوم مما تكلم به إبراهيم (عليه السلام).
و المراد بعقبه ذريته و ولده، و قوله: «لعلهم يرجعون» أي يرجعون من عبادة آلهة غير الله إلى عبادته تعالى أي يرجع بعضهم - و هم العابدون لغير الله بدعوة بعضهم و هم العابدون لله - إلى عبادته تعالى، و بهذا يظهر أن المراد ببقاء الكلمة في عقبه عدم خلوهم عن الموحد ما داموا، و لعل هذا عن استجابة دعائه (عليه السلام) إذ يقول: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام»: إبراهيم: 35.
و قيل: الضمير في «جعل» لإبراهيم (عليه السلام) فهو الجاعل هذه الكلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجعوا إليها، و المراد بجعلها باقية فيهم وصيته لهم بذلك كما قال تعالى: «وصى بها إبراهيم بنيه و يعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا و أنتم مسلمون»: البقرة: 132.
و أنت خبير بأن الوصية بكلمة التوحيد لا تسمى جعلا للكلمة باقية في العقب و إن صح أن يقال: أراد بها ذلك لكنه غير جعلها باقية فيهم.
و قيل: المراد أن الله جعل الإمامة كلمة باقية في عقبه و سيجيء الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و يظهر من الآية أن ذرية إبراهيم (عليه السلام) لا تخلو من هذه الكلمة إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: «بل متعت هؤلاء و آباءهم حتى جاءهم الحق و رسول مبين» إضراب عما يفهم من الآية السابقة، و المعنى: أن رجوعهم عن الشرك إلى التوحيد كان هو الغاية المرجوة منهم لكنهم لم يرجعوا بل متعت هؤلاء من قومك و آباءهم فتمتعوا بنعمي «حتى جاءهم الحق و رسول مبين».
و لعل الالتفات إلى التكلم وحده في قوله: «بل متعت» للإشارة إلى تفخيم جرمهم و أنهم لا يقصدون في كفرانهم للنعمة و كفرهم بالحق و رمية بالسحر إلا إياه تعالى وحده.
و المراد بالحق الذي جاءهم هو القرآن، و بالرسول المبين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «و لما جاءهم الحق قالوا هذا سحر و إنا به كافرون» هذا طعنهم في الحق الذي جاءهم و هو القرآن و يستلزم الطعن في الرسول.
كما أن قولهم الآتي: «لو لا نزل» إلخ، كذلك.
قوله تعالى: «و قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» المراد بالقريتين مكة و الطائف، و مرادهم بالعظمة - على ما يفيده السياق - ما هو من حيث المال و الجاه اللذين هما ملاك الشرافة و علو المنزلة عند أبناء الدنيا، و المراد بقوله: «رجل من القريتين عظيم» رجل من إحدى القريتين حذف المضاف إيجازا.
و مرادهم أن الرسالة منزلة شريفة إلهية لا ينبغي أن يتلبس به إلا رجل شريف في نفسه عظيم مطاع في قومه، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقير فاقد لهذه الخصلة، فلو كان القرآن الذي جاء به وحيا نازلا من الله فلو لا نزل على رجل عظيم من مكة أو الطائف كثير المال رفيع المنزلة.
و في المجمع،: و يعنون بالرجل العظيم من إحدى القريتين الوليد بن المغيرة من مكة و أبا مسعود عروة بن مسعود الثقفي من الطائف.
عن قتادة، و قيل: عتبة بن أبي ربيعة من مكة و ابن عبد ياليل من الطائف.
عن مجاهد، و قيل: الوليد بن المغيرة من مكة و حبيب بن عمر الثقفي من الطائف.
عن ابن عباس.
انتهى.
و الحق أن ذلك من تطبيق المفسرين و إنما قالوا ما قالوا على الإبهام و أرادوا أحد هؤلاء من عظماء القريتين على ما هو ظاهر الآية.
قوله تعالى: «أ هم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا» إلخ، المراد بالرحمة - على ما يعطيه السياق - النبوة.
و قال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان، و هو أخص من الحياة لأن الحياة تقال في الحيوان و في الباري تعالى و في الملك، و يشتق منه المعيشة لما يتعيش به.
انتهى.
و قال: التسخير سياقه إلى الغرض المختص قهرا - إلى أن قال: و السخري هو الذي يقهر فيتسخر بإرادته.
انتهى.
و الآية و الآيتان بعدها في مقام الجواب عن قولهم: «لو لا نزل هذا القرآن على رجل» إلخ، و محصلها أن قولهم هذا تحكم ظاهر ينبغي أن يتعجب منه فإنهم يحكمون فيما لا يملكون.
هذه معيشتهم في الحياة الدنيا يعيشون بها و يرتزقون و هي رحمة منا لا قدر لها و لا منزلة عندنا و ليست إلا متاعا زائلا نحن نقسمها بينهم و هي خارجة عن مقدرتهم و مشيتهم فكيف يقسمون النبوة التي هي الرحمة الكبرى و هي مفتاح سعادة البشر الدائمة و الفلاح الخالد فيعطونها لمن شاءوا و يمنعونها ممن شاءوا.
فقوله: «أ هم يقسمون رحمة ربك» الاستفهام للإنكار، و الالتفات إلى الغيبة في قوله: «رحمة ربك» و لم يقل: رحمتنا، للدلالة على اختصاص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعناية الربوبية في النبوة.
و المعنى: أنهم لا يملكون النبوة التي هي رحمة لله خاصة به حتى يمنعوك منها و يعطوها لمن هووا.
و قوله: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا» بيان لوجه الإنكار في الجملة السابقة بأنهم عاجزون عن قسمة ما هو دون النبوة بمراحل و لا منزلة له و هو معيشتهم في الحياة الدنيا فنحن قسمناها بينهم فكيف يقسمون ما هو أرفع منزلة منها بما لا يقدر قدره و هو النبوة التي هي رحمة ربك الخاصة به.
و الدليل على أن الأرزاق و المعايش ليست بيد الإنسان اختلاف أفراده بالغنى و الفقر و العافية و الصحة و في الأولاد و سائر ما يعد من الرزق، و كل يريد أن يقتني منها ما لا مزيد عليه، و لا يكاد يتيسر لأحد منهم جميع ما يتمناه و يرتضيه فلو كان ذلك بيد الإنسان لم يوجد معدم فقير في شيء منها بل لم يختلف اثنان فيها فاختلافهم فيها أوضح دليل على أن الرزق مقسوم بمشية من الله دون الإنسان.
على أن الإرادة و العمل من الإنسان بعض الأسباب الناقصة لحصول المطلوب الذي هو الرزق و وراءهما أسباب كونية لا تحصى خارجة عن مقدرة الإنسان لا يحصل المطلوب إلا بحصولها جميعا و اجتماعها عليه و ليست إلا بيد الله الذي إليه تنتهي الأسباب.
هذا كله في المال و أما الجاه فهو أيضا مقسوم من عند الله فإنه يتوقف على صفات خاصة بها ترتفع درجات الإنسان في المجتمع فيتمكن من تسخير من هو دونه كالفطنة و الدهاء و الشجاعة و علو الهمة و أحكام العزيمة و كثرة المال و العشيرة و شيء من ذلك لا يتم إلا بصنع من الله سبحانه، و ذلك قوله: «و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا».
فيتبين بمجموع القولين أعني قوله: «نحن قسمنا» إلخ، و قوله: «و رفعنا بعضهم فوق بعض» إلخ، إن القاسم للمعيشة و الجاه بين الناس هو الله سبحانه لا غير، و قوله: «و رحمة ربك خير مما يجمعون» أي النبوة خير من المال فكيف يملكون قسمها و هم لا يملكون قسم المال فيما بينهم.
و من الممكن أن يكون قوله: «و رفعنا بعضهم فوق بعض» عطف تفسير على قوله: «نحن قسمنا بينهم معيشتهم» إلخ، يبين قسم المعيشة بينهم ببيان علل انقسامها في المجتمع الإنساني، بيان ذلك أن كثرة حوائج الإنسان في حياته الدنيا بحيث لا يقدر على رفع جميعها في عيش انفرادي أحوجته إلى الاجتماع مع غيره من الأفراد على طريق الاستخدام و الاستدرار أولا و على طريق التعاون و التعاضد ثانيا كما مر في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب.
فآل الأمر إلى المعاوضة العامة المفيدة لنوع من الاختصاص بأن يعطي كل مما عنده من حوائج الحياة ما يفضل من حاجته و يأخذ به من الغير ما يعادله مما يحتاج إليه فيعطي مثلا ما يفضل من حاجته من الماء الذي عنده و قد حصله و اختص به و يأخذ من غيره ما يزيد على قوته من الغذاء، و لازم ذلك أن يسعى كل فرد بما يستعد له و يحسنه من السعي فيقتني مما يحتاج إليه ما يختص به، و لازم ذلك أن يحتاج غيره إليه فيما عنده من متاع الحياة فيتسخر له فيفيده ما يحتاج إليه كالخباز يحتاج إلى ما عند السقاء من الماء و بالعكس فيتعاونان بالمعاوضة و كالمخدوم يتسخر للخادم لخدمته و الخادم يتسخر للمخدوم لماله و هكذا فكل بعض من المجتمع مسخر لآخرين بما عنده و الآخرون متسخرون له بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط لما أن كلا يرتفع على غيره بما يختص به مما عنده بدرجات مختلفة باختلاف تعلق الهمم و القصود به.
و على ما تقدم فالمراد بالمعيشة كل ما يعاش به أعم من المال و الجاه أو خصوص المال و غيره تبع له كما يؤيده قوله ذيلا: «و رحمة ربك خير مما يجمعون» فإن المراد به المال و غيره من لوازم الحياة مقصود بالتبع.
قوله تعالى: «و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة» - إلى قوله - و معارج عليها يظهرون» الآية و ما يتلوها لبيان أن متاع الدنيا من مال و زينة لا قدر لها عند الله سبحانه و لا منزلة.
قالوا: المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم مجتمعين على سنة واحدة هي الكفر بالله لو رأوا أن زينة الدنيا بحذافيرها عند الكافر بالله و المؤمن صفر الكف منها مطلقا، و المعارج الدرجات و المصاعد.
و المعنى: و لو لا أن يجتمع الناس على الكفر لو رأوا تنعم الكافرين و حرمان المؤمنين لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و درجات عليها يظهرون لغيرهم.
و يمكن أن يكون المراد بكون الناس أمة واحدة كونهم جميعا على نسبة واحدة تجاه الأسباب العاملة في حظوظ العيش من غير فرق بين المؤمن و الكافر، فمن سعى سعيه للرزق و وافقته الأسباب و العوامل الموصلة الأخرى نال منه مؤمنا كان أو كافرا، و من لم يجتمع له حرم ذلك و قتر عليه الرزق مؤمنا أو كافرا.
و المعنى: لو لا ما أردنا أن يتساوى الناس تجاه الأسباب الموصلة إلى زخارف الدنيا و لا يختلفوا فيها بالإيمان و الكفر لجعلنا لمن يكفر، إلخ.
قوله تعالى: «و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتكئون و زخرفا» تنكير «أبوابا» و «سررا» للتفخيم، و الزخرف الذهب أو مطلق الزينة، قال في المجمع،: الزخرف كمال حسن الشيء و منه قيل للذهب، و يقال: زخرفه زخرفة إذا حسنه و زينه، و منه قيل للنقوش و التصاوير: زخرف، و في الحديث: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدخل الكعبة حتى أمر بالزخرف فنحي. انتهى.
و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و إن كل ذلك لما متاع الحياة الدنيا و الآخرة عند ربك للمتقين» «إن» للنفي و «لما» بمعنى إلا أي ليس كل ما ذكر من مزايا المعيشة إلا متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية التي لا تدوم.
و قوله: «و الآخرة عند ربك للمتقين» المراد بالآخرة بقرينة المقام الحياة الآخرة السعيدة كان الحياة الآخرة الشقية لا تعد حياة.
و المعنى: أن الحياة الآخرة السعيدة بحكم من الله تعالى و قضاء منه مختصة بالمتقين، و هذا التخصيص و القصر يؤيد ما قدمناه من معنى كون الناس أمة واحدة في الدنيا بعض التأييد.
قوله تعالى: «و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين» يقال: عشي يعشى عشا من باب علم يعلم إذا كان ببصره آفة لا يبصر مطلقا أو بالليل فقط، و عشا يعشو عشوا و عشوا من باب نصر ينصر إذا تعامى و تعشى بلا آفة، و التقييض التقدير و الإتيان بشيء إلى شيء، يقال: قيضه له إذا جاء به إليه.
لما انتهى الكلام إلى ذكر المتقين و أن الآخرة لهم عند الله قرنه بعاقبة أمر المعرضين عن الحق المتعامين عن ذكر الرحمن مشيرا إلى أمرهم من أوله و هو أن تعاميهم عن ذكر الله يورثهم ملازمة قرناء الشياطين فيلازمونهم مضلين لهم حتى يردوا عذاب الآخرة معهم.
فقوله: «و من يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا» أي من تعامى عن ذكر الرحمن و نظر إليه نظر الأعشى جئنا إليه بشيطان، و قد عبر تعالى عنه في موضع آخر بالإرسال فقال: «أ لم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا»: مريم: 83، و إضافة الذكر إلى الرحمن للإشارة إلى أنه رحمة.
و قوله: «فهو له قرين» أي مصاحب لا يفارقه.
قوله تعالى: «و إنهم ليصدونهم عن السبيل و يحسبون أنهم مهتدون» ضمير «أنهم» للشياطين، و ضمائر الجمع الباقية للعاشين عن الذكر، و اعتبار الجمع نظرا إلى المعنى في «و من يعش» إلخ، و الصد الصرف، و المراد بالسبيل ما يدعو إليه الذكر من سبيل الله الذي هو دين التوحيد.
و المعنى: و إن الشياطين ليصرفون العاشين عن الذكر و يحسب العاشون أنهم - أي العاشين أنفهسم - مهتدون إلى الحق.
و هذا أعني حسبانهم أنهم مهتدون عند انصدادهم عن سبيل الحق أمارة تقييض القرين و دخولهم تحت ولاية الشيطان فإن الإنسان بطبعه الأولي مفطور على الميل إلى الحق و معرفته إذا عرض عليه ثم إذا عرض عليه فأعرض عنه اتباعا للهوى و دام عليه طبع الله على قلبه و أعمى بصره و قيض له القرين فلم ير الحق الذي تراءى له و طبق الحق الذي يميل إليه بالفطرة على الباطل الذي يدعوه إليه الشيطان فيحسب أنه مهتد و هو ضال و يخيل إليه أنه على الحق و هو على الباطل.
و هذا هو الغطاء الذي يذكر تعالى أنه مضروب عليهم في الدنيا و أنه سينكشف عنهم يوم القيامة، قال تعالى: «الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري - إلى أن قال - قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا»: الكهف: 104، و قال فيما يخاطبه يوم القيامة و معه قرينه: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد» - إلى أن قال - «قال قرينه ربنا ما أطغيته و لكن كان في ضلال بعيد»: ق: 27.
قوله تعالى: «حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني و بينك بعد المشرقين فبئس القرين» «حتى» غاية لاستمرار الفعل الذي يدل عليه قوله في الآية السابقة: «يصدونهم» و قوله: «يحسبون» أي لا يزال القرناء يصدونهم و لا يزالون يحسبون أنهم مهتدون حتى إذا جاءنا الواحد منهم.
و المراد بالمجيء إليه تعالى البعث، و ضمير «جاء» و «قال» راجع إلى الموصول باعتبار لفظه، و المراد بالمشرقين المشرق و المغرب غلب فيه جانب المشرق.
و المعنى: و أنهم يستمرون على صدهم عن السبيل و يستمر العاشون عن الذكر على حسبان أنهم مهتدون في انصدادهم حتى إذا حضر الواحد منهم عندنا و معه قرينه و كشف له عن ضلاله و ما يستتبعه من العذاب الأليم، قال مخاطبا لقرينه متأذيا من صحابته: يا ليت بيني و بينك بعد المشرق و المغرب فبئس القرين أنت.
و يستفاد من السياق أنهم معذبون بصحابة القرناء وراء عذابهم بالنار، و لذا يتمنون التباعد عنهم و يخصونه بالذكر و ينسون سائر العذاب.
قوله تعالى: «و لن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون» الظاهر أنه معطوف على ما قبله من وصف حالهم، و المراد باليوم يوم القيامة، و قوله: «أنكم في العذاب مشتركون» فاعل «لن ينفعكم» و المراد بضمير جمع المخاطب العاشون عن الذكر و قرناؤهم، و «إذ ظلمتم» واقع موقع التعليل.
و المراد - و الله أعلم - أنكم إذا أساء بعضكم إلى بعض في الدنيا فأوقعه في مصيبة ربما تسليتم بعض التسلي لو ابتلي هو نفسه بمثل ما ابتلاكم به فينفعكم ذلك تسليا و تشفيا لكن لا ينفعكم يوم القيامة اشتراك قرنائكم معكم في العذاب فإن اشتراكهم معكم في العذاب و كونهم معكم في النار هو بعينه عذاب لكم.
و ذكر بعض المفسرين أن فاعل «لن ينفعكم» ضمير راجع إلى تمنيهم المذكور في الآية السابقة، و قوله: «إذ ظلمتم» أي لأجل ظلمكم أنفسكم في الدنيا باتباعكم إياهم في الكفر و المعاصي، و قوله: «أنكم في العذاب مشتركون» تعليل لنفي النفع و المعنى: و لن ينفعكم تمني التباعد عنكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم و قرناؤكم في العذاب.
و فيه أن فيه تدافعا فإنه أخذ قوله: «إذ ظلمتم» تعليلا لنفي نفع التمني أولا و قوله: «أنكم في العذاب مشتركون» تعليلا له ثانيا و لازم التطابق بين التعليلين أن يذكر ثانيا القضاء على المتمنين التابعين بالعذاب لا باشتراك التابعين و المتبوعين فيه.
و قال بعضهم: معنى الآية أنه لا يخفف الاشتراك عنكم شيئا من العذاب لأن لكل واحد منكم و من قرنائكم الحظ الأوفر من العذاب.
و فيه أن ما ذكر من سبب عدم النفع و إن فرض صحيحا في نفسه لكن لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية و لا سياق الكلام.
و قال بعضهم: المعنى: لا ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في شدائد الدنيا اشتراكهم فيها لتعاونهم في تحمل أعبائها و تقسمهم لعنائها لأن لكل منكم و من قرنائكم من العذاب ما لا تبلغه طاقته.
و فيه ما في سابقه من الكلام، و رد أيضا بأن الانتفاع بذلك الوجه ليس مما يخطر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه.
قوله تعالى: «أ فأنت تسمع الصم أو تهدي العمي و من كان في ضلال مبين» لما ذكر تقييضه القرناء لهم و تقليبهم إدراكهم بحيث يرون الضلال هدى و لا يقدرون على معرفة الحق فرع عليه أن نبه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هؤلاء صم عمي لا يقدر هو على أسماعهم كلمة الحق و هدايتهم إلى سبيل الرشد فلا يتجشم و لا يتكلف في دعوتهم و لا يحزن لإعراضهم، و الاستفهام للإنكار، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون أو نرينك الذي وعدناهم فإنا عليهم مقتدرون» المراد بالإذهاب به توفيه (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل الانتقام منهم، و قيل: المراد إذهابه بإخراجه من بينهم، و قوله: «فإنا منهم منتقمون» أي لا محالة، و المراد بإراءته ما وعدهم الانتقام منهم قبل توفيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو حال كونه بينهم، و قوله: «فإنا عليهم مقتدرون» أي اقتدارنا يفوق عليهم.
و قوله في الصدر: «فإما نذهبن بك» أصله أن نذهب بك زيدت عليه ما و النون للتأكيد، و محصل الآية إنا منتقمون منهم بعد توفيك أو قبلها لا محالة.
قوله تعالى: «فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم» الظاهر أنه تفريع لجميع ما تقدم من أن إنزال الذكر من طريق الوحي و النبوة من سننه تعالى و أن كتابه النازل عليه حق و هو رسول مبين لا يستجيب دعوته إلا المتقون و لا يعرض عنها إلا قرناء الشياطين، و لا مطمع في إيمانهم و سينتقم الله منهم.
فأكد عليه الأمر بعد ذلك كله أن يجد في التمسك بالكتاب الذي أوحي إليه لأنه على صراط مستقيم.
قوله تعالى: «و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون» الظاهر أن المراد بالذكر ذكر الله، و بهذا المعنى تكرر مرارا في السورة، و اللام في «لك و لقومك» للاختصاص بمعنى توجه ما فيه من التكاليف إليهم، و يؤيده بعض التأييد قوله: «و سوف تسألون» أي عنه يوم القيامة.
و عن أكثر المفسرين أن المراد بالذكر الشرف الذي يذكر به، و المعنى: و إنه لشرف عظيم لك و لقومك من العرب تذكرون به بين الأمم.
قوله تعالى: «و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أ جعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون» قيل: المراد بالسؤال منهم السؤال من أممهم و علماء دينهم كقوله تعالى: «فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك»: يونس: 94، و فائدة هذا المجاز أن المسئول عنه السؤال منهم عين ما جاءت به رسلهم لا ما يجيبونه من تلقاء أنفسهم.
و قيل: المراد السؤال من أهل الكتابين: التوراة و الإنجيل فإنهم و إن كفروا لكن الحجة تقوم بتواتر خبرهم، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و التكليف لأمته.
و بعد الوجهين غير خفي و يزيد الثاني بعدا التخصيص بأهل الكتابين من غير مخصص ظاهر.
و قيل: الآية مما خوطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة المعراج أن يسأل أرواح الأنبياء (عليهم السلام) و قد اجتمع بهم أن يسألهم هل جاءوا بدين وراء دين التوحيد.
و قد وردت به غير واحدة من الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و سيوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «و جعلها كلمة باقية في عقبه» و قيل: الكلمة الباقية في عقبه هي الإمامة إلى يوم الدين: عن أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر و قد طبقت الآية في بعضها على الإمامة في عقب الحسين (عليه السلام).
و التأمل في الروايات يعطي أن بناءها على إرجاع الضمير في «جعلها» إلى الهداية المفهومة من قوله: «سيهدين» و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «إني جاعلك للناس إماما» إن الإمام وظيفته هداية الناس في ملكوت أعمالهم بمعنى سوقهم إلى الله سبحانه بإرشادهم و إيرادهم درجات القرب من الله سبحانه و إنزال كل ذي عمل منزلة الذي يستدعيه عمله، و حقيقة الهداية من الله سبحانه و تنسب إليه بالتبع أو بالعرض.
و فعلية الهداية النازلة من الله إلى الناس تشمله أولا ثم تفيض عنه إلى غيره فله أتم الهداية و لغيره ما هي دونها و ما ذكره إبراهيم (عليه السلام) في قوله: «فإنه سيهدين» هداية مطلقة تقبل الانطباق على أتم مراتب الهداية التي هي حظ الإمام منها فهي الإمامة و جعلها كلمة باقية في عقبه جعل الإمامة كذلك.
و في الإحتجاج، عن العسكري عن أبيه (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قاعدا ذات يوم بفناء الكعبة إذ قال له عبد الله بن أمية المخزومي: لو أراد الله أن يبعث إلينا رسولا لبعث أجل من فيما بيننا مالا و أحسنه حالا فهلا نزل هذا القرآن الذي تزعم أن الله أنزله عليك و ابتعثك به رسولا، على رجل من القريتين عظيم: إما الوليد بن المغيرة بمكة و إما عروة بن مسعود الثقفي بالطائف. ثم ذكر (عليه السلام) في كلام طويل جواب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قوله بما في معنى الآيات. ثم قال: و ذلك قوله تعالى: «و قالوا لو لا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم» قال الله: «أ هم يقسمون رحمة ربك» يا محمد «نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا» فأحوجنا بعضنا إلى بعض أحوج هذا إلى مال ذلك و أحوج ذلك إلى سلعة هذا و إلى خدمته. فترى أجل الملوك و أغنى الأغنياء محتاجا إلى أفقر الفقراء في ضرب من الضروب إما سلعة معه ليست معه، و إما خدمة يصلح لها لا يتهيأ لذلك الملك أن يستغني إلا به و أما باب من العلوم و الحكم هو فقير إلى أن يستفيدها من هذا الفقير الذي يحتاج إلى مال ذلك الملك الغني، و ذلك الملك يحتاج إلى علم هذا الفقير أو رأيه أو معرفته. ثم ليس للملك أن يقول: هلا اجتمع إلي مالي علم هذا الفقير و لا للفقير أن يقول: هلا اجتمع إلى رأيي و معرفتي و علمي و ما أتصرف فيه من فنون الحكم مال هذا الملك الغني، ثم قال تعالى: «و رفعنا بعضهم فوق بعض درجات - ليتخذ بعضهم بعضا سخريا». ثم قال: يا محمد «و رحمة ربك خير مما يجمعون» أي ما يجمعه هؤلاء من أموال الدنيا.
و في الكافي، بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: سألت علي بن الحسين (عليهما السلام) عن قول الله عز و جل: «و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة» قال: عنى بذلك أمة محمد أن يكونوا على دين واحد كفارا كلهم «لجعلنا لمن يكفر بالرحمان» إلى آخر الآية.
و في تفسير القمي، بإسناده عن يحيى بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «فإما نذهبن بك» يا محمد من مكة إلى المدينة فإما رادوك إليها و منتقمون منهم بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و الحاكم و صححه عن قتادة في قوله: «فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون»: قال: قال أنس: ذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بقيت النقمة و لم ير الله نبيه في أمته شيئا يكرهه حتى قبض و لم يكن نبي قط إلا و قد رأى العقوبة في أمته إلا نبيكم رأى ما يصيب أمته بعده فما رئي ضاحكا منبسطا حتى قبض.
أقول: و روي فيه هذا المعنى عنه و عن علي بن أبي طالب و عن غيرهما بطرق أخرى.
و فيه، أخرج ابن مردويه من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن جابر بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى: «فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون» نزلت في علي بن أبي طالب أنه ينتقم من الناكثين و القاسطين بعدي.
أقول: ظاهر الرواية و ما قبلها و ما في معناهما أن الوعيد في الآيتين للمنحرفين عن الحق من أهل القبلة دون كفار قريش.
و في الإحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه: و أما قوله تعالى: «و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا» فهذا من براهين نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) التي آتاه الله إياها و أوجب به الحجة على سائر خلقه لأنه لما ختم به الأنبياء و جعله الله رسولا إلى جميع الأمم و سائر الملل خصه بالارتقاء إلى السماء عند المعراج و جمع له يومئذ الأنبياء فعلم منهم ما أرسلوا به و حملوه من عزائم الله و آياته و براهينه.
الحديث.
أقول: و روى هذا المعنى القمي في تفسيره، بإسناده عن أبي الربيع عن أبي جعفر (عليه السلام) في جواب ما سأله نافع بن الأزرق، و رواه في الدر المنثور، بطرق عن سعيد بن جبير و ابن جريح و ابن زيد.
|