بيان
إشارة إلى قصة عيسى بعد الفراغ عن قصة موسى (عليه السلام) و قدم عليها مجادلتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في عيسى (عليه السلام) و أجيب عنها.
قوله تعالى: «و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون - إلى قوله - خصمون» الآية إلى تمام أربع آيات أو ست آيات حول جدال القوم فيما ضرب من مثل ابن مريم، و الذي يتحصل بالتدبر فيها نظرا إلى كون السورة مكية و مع قطع النظر عن الروايات هو أن المراد بقوله: «و لما ضرب ابن مريم مثلا» هو ما أنزله الله من وصفه في أول سورة مريم فإنها السورة المكية الوحيدة التي وردت فيها قصة عيسى بن مريم (عليهما السلام) تفصيلا، و السورة تقص قصص عدة من النبيين بما أن الله أنعم عليهم كما تختتم قصصهم بقوله: «أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين»: مريم: 58، و قد وقع في هذه الآيات قوله: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» و هو من الشواهد على كون قوله: «و لما ضرب ابن مريم مثلا» إشارة إلى ما في سورة مريم.
و المراد بقوله: «إذا قومك منه يصدون» بكسر الصاد أي يضجون و يضحكون ذم لقريش في مقابلتهم المثل الحق بالتهكم و السخرية، و قرىء «يصدون» بضم الصاد أي يعرضون و هو أنسب للجملة التالية.
و قوله: «و قالوا ء آلهتنا خير أم هو» الاستفهام للإنكار أي آلهتنا خير من ابن مريم كأنهم لما سمعوا اسمه بما يصفه القرآن به من النعمة و الكرامة أعرضوا عنه بما يصفه به القرآن و أخذوه بما له من الصفة عند النصارى أنه إله ابن إله فردوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن آلهتنا خير منه و هذا من أسخف الجدال كأنهم يشيرون بذلك إلى أن الذي في القرآن من وصفه لا يعتنى به و ما عند النصارى لا ينفع فإن آلهتهم خير منه.
و قوله: «ما ضربوه لك إلا جدلا» أي ما وجهوا هذا الكلام: «أ آلهتنا خير أم هو» إليك إلا جدلا يريدون به إبطال المثل المذكور و إن كان حقا «بل هم قوم خصمون» أي ثابتون على خصومتهم مصرون عليها.
و قوله: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» رد لما يستفاد من قولهم: «ء آلهتنا خير أم هو» أنه إله النصارى كما سيجيء.
و قال الزمخشري في الكشاف، و كثير من المفسرين و نسب إلى ابن عباس و غيره في تفسير الآية: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما قرأ قوله تعالى: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم» على قريش امتعضوا من ذلك امتعاضا شديدا فقال ابن الزبعري: يا محمد، أ خاصة لنا و لآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال (عليه السلام): هو لكم و لآلهتكم و لجميع الأمم. فقال: خصمتك و رب الكعبة أ لست تزعم أن عيسى بن مريم نبي و تثني عليه خيرا و على أمه؟ و قد علمت أن النصارى يعبدونهما، و عزير يعبد و الملائكة يعبدون فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن و آلهتنا معهم ففرحوا و ضحكوا و سكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: «إن الذين سبقت لهم منا الحسنى - أولئك عنها مبعدون» و نزلت هذه الآية.
و المعنى: و لما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلا و جادل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعبادة النصارى إياه إذا قومك يعني قريشا من هذا المثل يضجون فرحا و ضحكا بما سمعوا منه من إسكات رسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قالوا: ء آلهتنا خير أم هو أي إن عيسى عندك خير من آلهتنا و إذا كان هو حصب جهنم فأمر آلهتنا هين.
ما ضربوا هذا المثل لك إلا جدلا و غلبة في القول لا لميز الحق من الباطل.
و فيه أنه تقدم في تفسير قوله: «إنكم و ما تعبدون من دون الله حصب جهنم»: الأنبياء: 98، أن هذه الرواية بما فيها من وجوه الوهن و الخلل ضعيفة لا يعبأ بها حتى نقل عن الحافظ ابن حجر أن الحديث لا أصل له و لم يوجد في شيء من كتب الحديث لا مسندا و لا غير مسند.
و قصة ابن الزبعري هذه و إن رويت من طرق الشيعة على وجه سليم عن المناقشة لكن لم يذكر فيها نزول قوله: «و لما ضرب ابن مريم» الآية هناك.
على أن ظاهر قوله: «ضرب ابن مريم مثلا» و قوله: «أ آلهتنا خير أم هو» لا يلائم ما فسرته تلك الملاءمة.
و قيل: إنهم لما سمعوا قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59، قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم يعبدون آدميا و نحن نعبد الملائكة - يريدون أرباب الأصنام - فآلهتنا خير من إلههم فالذي ضرب المثل بابن مريم هو الله سبحانه، و قولهم: «ء آلهتنا خير أم هو» لتفضيل آلهتهم على عيسى لا بالعكس كما في الوجه السابق.
و فيه أن قوله تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» مدنية.
و هذه الآيات أعني قوله: «و لما ضرب ابن مريم» إلخ، آيات مكية من سورة مكية.
على أن الأساس في قولهم - على هذا الوجه - تفضيلهم أنفسهم على النصارى فلا يرتبط على هذا قوله: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» إلخ، بما تقدمه.
و قيل: إنهم لما سمعوا قوله: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم» ضجوا و قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده كما يعبد النصارى المسيح، و آلهتنا خير منه أي من محمد.
و فيه ما في سابقه.
و قيل: مرادهم بقولهم: «ء آلهتنا خير أم هو» التنصل و التخلص عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، و من عبادتهم لهم كأنهم قالوا: ما كان ذلك منا بدعا فإن النصارى يعبدون المسيح و ينسبونه إلى الله و هو بشر و نحن نعبد الملائكة و ننسبهم إلى الله و هم أفضل من البشر.
و فيه أنه لا يفي بتوجيه قوله: «و لما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون» على أن قوله: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه» على هذا الوجه لا يرتبط بما قبله كما في الوجهين السابقين.
و قيل: معنى قولهم: «ء آلهتنا خير أم هو» أن مثلنا في عبادة الآلهة مثل النصارى في عبادة المسيح فأيهما خير؟ عبادة آلهتنا أم عبادة المسيح؟ فإن قال: عبادة المسيح خير فقد اعترف بعبادة غير الله، و إن قال: عبادة الآلهة فكذلك، و إن قال: ليس في عبادة المسيح خير فقد قصر به عن منزلته و جوابه أن اختصاص المسيح بضرب من التشريف و الإنعام من الله تعالى لا يوجب جواز عبادته.
و فيه أنه في نفسه لا بأس به لكن الشأن في دلالة قوله تعالى: «ء آلهتنا خير أم هو» على هذا التفصيل.
و قال في المجمع، في الوجوه التي أوردها في معنى الآية: و رابعها ما رواه سادة أهل البيت عن علي (عليه السلام) أنه قال: جئت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما فوجدته في ملإ من قريش فنظر إلي ثم قال: يا علي، إنما مثلك في هذه الأمة مثل عيسى بن مريم أحبه قوم فأفرطوا في حبه فهلكوا، و أبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، و اقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم فضحكوا و قالوا: يشبهه بالأنبياء و الرسل، فنزلت الآية.
أقول: و الرواية غير متعرضة لتوجيه قولهم: «ء آلهتنا خير أم هو» و لئن كانت القصة سببا للنزول فمعنى الجملة: لئن نتبع آلهتنا و نطيع كبراءنا خير من أن نتولى عليا فيتحكم علينا أو خير من أن نتبع محمدا فيحكم علينا ابن عمه.
و يمكن أن يكون قوله: «و قالوا ء آلهتنا خير أم هو» إلخ، استئنافا و النازل في القصة هو قوله: «و لما ضرب ابن مريم مثلا» الآية.
قوله تعالى: «إن هو إلا عبد أنعمنا عليه و جعلناه مثلا لبني إسرائيل» الذي يستدعيه السياق أن يكون الضمير لابن مريم، و المراد بكونه مثلا - على ما قيل - كونه آية عجيبة إلهية يسير ذكره كالأمثال السائرة.
و المعنى: ليس ابن مريم إلا عبدا متظاهرا بالعبودية أنعمنا عليه بالنبوة و تأييده بروح القدس و إجراء المعجزات الباهرة على يديه و غير ذلك و جلعناه آية عجيبة خارقة نصف به الحق لبني إسرائيل.
و هذا المعنى كما ترى رد لقولهم: «ء آلهتنا خير أم هو» الظاهر في تفضيلهم آلهتهم في ألوهيتها على المسيح (عليه السلام) في ألوهيته و محصله أن المسيح لم يكن إلها حتى ينظر في منزلته في ألوهيته و إنما كان عبدا أنعم الله عليه بما أنعم، و أما آلهتهم فنظر القرآن فيهم ظاهر.
قوله تعالى: «و لو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون» الظاهر أن الآية متصلة بما قبلها مسرودة لرفع استبعاد أن يتلبس البشر من الكمال ما يقصه القرآن عن عيسى (عليه السلام) فيخلق الطير و يحيي الموتى و يكلم الناس في المهد إلى غير ذلك، فيكون كالملائكة المتوسطين في الإحياء و الإماتة و الرزق و سائر أنواع التدبير و يكون مع ذلك عبدا غير معبود و مألوها غير إله فإن هذا النوع من الكمال عند الوثنية مختص بالملائكة و هو ملاك ألوهيتهم و معبوديتهم و بالجملة هم يحيلون تلبس البشر بهذا النوع من الكمال الذي يخصونه بالملائكة.
فأجيب بأن لله أن يزكي الإنسان و يطهره من أدناس المعاصي بحيث يصير باطنه باطن الملائكة فظاهره ظاهر البشر و باطنه باطن الملك يعيش في الأرض يخلف مثله و يخلفه مثله و يظهر منه ما يظهر من الملائكة.
و على هذا فمن في قوله «منكم» للتبعيض، و قوله: «يخلفون» أي يخلف بعضهم بعضا.
و في المجمع، أن «من» في قوله: «منكم» تفيد معنى البدلية كما في قوله: فليت لنا من ماء زمزم شربة.
مبردة باتت على الطهيان.
و قوله: «يخلفون» أي يخلفون بني آدم و يكونون خلفاء لهم، و المعنى: و لو نشاء أهلكناكم و جعلنا بدلكم ملائكة يسكنون الأرض و يعمرونها و يعبدون الله.
و فيه أنه لا يلائم النظم تلك الملاءمة.
قوله تعالى: «و إنه لعلم للساعة فلا تمترن بها و اتبعون هذا صراط مستقيم» ضمير «إنه» لعيسى (عليه السلام) و المراد بالعلم ما يعلم به، و المعنى: و إن عيسى يعلم به الساعة في خلقه من غير أب و إحيائه الموتى فيعلم به أن الساعة ممكنة فلا تشكوا في الساعة و لا ترتابوا فيها البتة.
و قيل: المراد بكونه علما للساعة كونه من أشراطها ينزل على الأرض فيعلم به قرب الساعة.
و قيل: الضمير للقرآن و كونه علما للساعة كونه آخر الكتب المنزلة من السماء.
و في الوجهين جميعا خفاء التفريع الذي في قوله: «فلا تمترن بها».
و قوله: «و اتبعون هذا صراط مستقيم» قيل: هو من كلامه تعالى، و المعنى: اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، و قيل: من كلام الرسول بأمر منه تعالى.
قوله تعالى: «و لا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين» الصد الصرف، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و لما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة» إلخ، المراد بالبينات الآيات البينات من المعجزات، و بالحكمة المعارف الإلهية من العقائد الحقة و الأخلاق الفاضلة.
و قوله: «و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه» أي في حكمه من الحوادث و الأفعال، و الذي يختلفون فيه و إن كان أعم من الاعتقادات التي يختلف في كونها حقة أو باطلة و الحوادث و الأفعال التي يختلف في مشروع حكمها لكن المناسب لسبق قوله: «قد جئتكم بالحكمة» أن يختص ما اختلفوا فيه بالحوادث و الأفعال و الله أعلم.
و قيل: المراد بقوله: «بعض الذي تختلفون فيه» كل الذي تختلفون فيه.
و هو كما ترى.
و قيل: المراد لأبين لكم أمور دينكم دون أمور دنياكم و لا دليل عليه من لفظ الآية و لا من المقام.
و قوله: «فاتقوا الله و أطيعون» نسب التقوى إلى الله و الطاعة إلى نفسه ليسجل أنه لا يدعي إلا الرسالة.
قوله تعالى: «إن الله هو ربي و ربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم» دعوة منه إلى عبادة الله وحده و أنه هو ربه و ربهم جميعا و إتمام للحجة على من يقول بألوهيته.
قوله تعالى: «فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم» ضمير «من بينهم» لمن بعث إليهم عيسى (عليه السلام) و المعنى: فاختلف الأحزاب المتشعبة من بين أمته في أمر عيسى من كافر به قال فيه، و من مؤمن به غال فيه، و من مقتصد لزم الاعتدال.
و قوله: «فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم» تهديد و وعيد للقالي منهم و الغالي.
|