بيان
رجوع إلى سابق الكلام و فيه توبيخهم على ما يريدون من الكيد برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و تهديدهم بأن الله يكيدهم، و نفي الولد الذي يقولون به، و إبطال القول بمطلق الشريك و إثبات الربوبية المطلقة لله وحده، و تختتم السورة بالتهديد و الوعيد.
قوله تعالى: «أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون» الإبرام خلاف النقض و هو الإحكام، و أم منقطعة.
و المعنى: على ما يفيده سياق الآية و الآية التالية: بل أحكموا أمرا من الكيد بك يا محمد فإنا محكمون الكيد بهم فالآية في معنى قوله تعالى: «أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون»: الطور: 42.
قوله تعالى: «أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم و نجواهم بلى و رسلنا لديهم يكتبون» السر ما يستسرونه في قلوبهم و النجوى ما يناجيه بعضهم بعضا بحيث لا يسمعه غيرهما، و لما كان السر حديث النفس عبر عن العلم بالسر و النجوى جميعا بالسمع.
و قوله: «بلى و رسلنا لديهم يكتبون» أي بلى نحن نسمع سرهم و نجواهم و رسلنا الموكلون على حفظ أعمالهم عليهم يكتبون ذلك.
قوله تعالى: «قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين» إبطال لألوهية الولد بإبطال أصل وجوده من جهة علمه بأنه ليس، و التعبير بأن الشرطية دون لو الدالة على الامتناع - و كان مقتضى المقام أن يقال: لو كان للرحمن ولد، لاستنزالهم عن رتبة المكابرة إلى مرحلة الانتصاف.
و المعنى: قل لهم إن كان للرحمن ولد كما يقولون، فأنا أول من يعبده أداء لحق بنوته و مسانخته لوالده، لكني أعلم أنه ليس و لذلك لا أعبده لا لبغض و نحوه.
و قد أوردوا للآية معاني أخرى: منها: أن المعنى لو كان لله ولد كما تزعمون فأنا أعبد الله وحده و لا أعبد الولد الذي تزعمون.
و منها: أن «إن» نافية و المعنى: قل ما كان لله ولد فأنا أول العابدين الموحدين له من بينكم.
و منها: أن «العابدين» من عبد بمعنى أنف و المعنى: قل لو كان للرحمن ولد فأنا أول من أنف و استنكف عن عبادته لأن الذي يلد لا يكون إلا جسما و الجسمية تنافي الألوهية.
و منها: أن المعنى: كما أني لست أول من عبد الله كذلك ليس لله ولد أي لو جاز لكم أن تدعوا ذاك المحال جاز لي أن أدعي هذا المحال.
إلى غير ذلك مما قيل لكن الظاهر من الآية ما قدمناه.
قوله تعالى: «سبحان رب السماوات و الأرض رب العرش عما يصفون» تسبيح له سبحانه عما ينسبون إليه، و الظاهر أن «رب العرش» عطف بيان لرب السماوات و الأرض لأن المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و هو عرش ملكه تعالى الذي استوى عليه و حكم فيه و دبر أمره.
و لا يخلو من إشارة إلى حجة على الوحدانية إذ لما كان الخلق مختصا به تعالى حتى باعتراف الخصم و هو من شئون عرش ملكه، و التدبير من الخلق و الإيجاد فإنه إيجاد النظام الجاري بين المخلوقات فالتدبير أيضا من شئون عرشه فربوبيته للعرش ربوبية لجميع السماوات و الأرض.
قوله تعالى: «فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون» وعيد إجمالي لهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإعراض عنهم حتى يلاقوا ما يحذرهم منه من عذاب يوم القيامة.
و المعنى: فاتركهم يخوضوا في أباطيلهم و يلعبوا في دنياهم و يشتغلوا بذلك حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونه و هو يوم القيامة كما ذكر في الآيات السابقة: «هل ينظرون إلا الساعة» إلخ.
قوله تعالى: «و هو الذي في السماء إله و في الأرض إله و هو الحكيم العليم» أي هو الذي هو في السماء إله مستحق للمعبودية و هو في الأرض إله أي هو المستحق لمعبودية أهل السماوات و الأرض وحده، و يفيد تكرار «إله» كما قيل التأكيد و الدلالة على أن كونه تعالى إلها في السماء و الأرض بمعنى تعلق ألوهيته بهما لا بمعنى استقراره فيهما أو في أحدهما.
و في الآية مقابلة لما يثبته الوثنية لكل من السماء و الأرض إلها أو آلهة، و في تذييل الآية بقوله: «و هو الحكيم العليم» الدال على الحصر إشارة إلى وحدانيته في الربوبية التي لازمها الحكمة و العلم.
قوله تعالى: «و تبارك الذي له ملك السماوات و الأرض و ما بينهما و عنده علم الساعة و إليه ترجعون» ثناء عليه تعالى بالتبارك و هو مصدريته للخير الكثير.
و كل من الصفات الثلاث المذكورة حجة على توحده في الربوبية أما ملكه للجميع فظاهر فإن الربوبية لمن يدبر الأمر و التدبير للملك، و أما اختصاص علم الساعة به فلأن الساعة هي المنزل الأقصى إليه يسير الكل و كيف يصح أن يرب الأشياء من لا علم له بمنتهى مسيرها فهو تعالى رب الأشياء لا من يدعونه، و أما رجوع الناس إليه فإن الرجوع للحساب و الجزاء و هو آخر التدبير فمن إليه الرجوع فإليه التدبير و من إليه التدبير له الربوبية.
قوله تعالى: «و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق و هم يعلمون» السياق سياق العموم فالمراد بالذين يدعون، أي يعبدونهم من دونه، كل معبود غيره تعالى من الملائكة و الجن و البشر و غيرهم.
و المراد «بالحق» الحق الذي هو التوحيد، و الشهادة به الاعتراف به، و المراد بقوله: «و هم يعلمون» حيث أطلق العلم علمهم بحقيقة حال من شفعوا له و حقيقة عمله كما قال: «لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا»: النبأ: 38، و إذا كان هذا حال الشفعاء لا يملكونها إلا بعد الشهادة بالحق فما هم بشافعين إلا لأهل التوحيد كما قال: «و لا يشفعون إلا لمن ارتضى».
و الآية مصرحة بوجود الشفاعة.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون» أي إلى متى يصرفون عن الحق الذي هو التوحيد إلى الباطل الذي هو الشرك، و ذلك أنهم معترفون أن لا خالق إلا الله و التدبير الذي هو ملاك الربوبية غير منفك عن الخلق كما اتضح مرارا فالرب المعبود هو الذي بيده الخلق و هو الله سبحانه.
قوله تعالى: «و قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون» ضمير «قيله» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا إشكال، و القيل مصدر كالقول و القال، و «قيله» معطوف - على ما قيل - على الساعة في قوله: «و عنده علم الساعة»، و المعنى: و عنده علم قوله: «يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون».
قوله تعالى: «فاصفح عنهم و قل سلام فسوف يعلمون» أمر بالإعراض عنهم و إقناط من إيمانهم، و قوله: «قل سلام» أي وادعهم موادعة ترك من غير هم لك فيهم، و في قوله: «فسوف يعلمون» تهديد و وعيد.
بحث روائي
في الإحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث طويل يقول فيه: قوله: إن كان للرحمن ولد - فأنا أول العابدين أي الجاحدين، و التأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره.
أقول: الظاهر أن المراد أنه خلاف ما ينصرف إليه لفظ عابد عند الإطلاق.
و في الكافي، بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا. قلت: و ما هي؟ قال: هو الذي في السماء إله و في الأرض إله فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله، و في الأرض إله، و في البحار إله، و في القفار إله، و في كل مكان إله. قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة قال: هم الذين عبدوا في الدنيا لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم.
و في الكافي، بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني (عليه السلام): ما معنى الواحد؟ فقال: إجماع الألسن عليه بالوحدانية لقوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.
|