1809 18
بيان
صدر الآيات متصل بحديث الرزق المذكور في قوله: «الله لطيف بعباده يرزق من يشاء» و قد سبقه قوله: «له مقاليد السماوات و الأرض يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر» و قد تقدمت الإشارة إلى أن من الرزق نعمة الدين التي آتاها الله سبحانه عباده المؤمنين و بهذه العناية دخل الكلام فيه في الكلام على الوحي الذي سيقت لبيانه آيات السورة و انعطف عليه انعطافا بعد انعطاف.
ثم يذكر بعض آيات التوحيد المتعلقة بالرزق كخلق السماوات و الأرض و بث الدواب فيهما و السفائن الجواري في البحر و إيتاء الأولاد الذكور و الإناث أو إحداهما لمن يشاء و جعل من يشاء عقيما.
ثم يذكر أن من الرزق ما آتاهموه في الدنيا و هو متاعها الفاني بفنائها و منه ما يخص المؤمنين في الآخرة و هو خير و أبقى، و ينتقل الكلام من هنا إلى صفات المؤمنين و حسن عاقبتهم و إلى وصف ما يلقاه الظالمون و هم غيرهم في عقباهم من أهوال القيامة و عذاب الآخرة.
و وراء ذلك في خلال الآيات من إجمال بعض الأحكام و الإنذار و التخويف و الدعوة إلى الحق و حقائق المعارف شيء كثير.
قوله تعالى: «و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض و لكن ينزل بقدر ما يشاء أنه بعباده خبير بصير» القدر مقابل البسط معناه التضييق و منه قوله السابق: «يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر» و القدر بفتح الدال و سكونها كمية الشيء و هندسته و منه قوله: «و لكن ينزل بقدر ما يشاء» أو جعل الشيء على كمية معينة و منه قوله: «فقدرنا فنعم القادرون»: المرسلات: 23.
و البغي الظلم، و قوله: «بعباده» من وضع الظاهر موضع الضمير، و النكتة فيه الإشارة إلى بيان كونه خبيرا بصيرا بهم و ذلك أنهم عباده المخلوقون له القائمون به فلا يكونون محجوبين عنه مجهولين له، و كذا قوله السابق: «لعباده» لا يخلو من إشارة إلى بيان إيتاء الرزق و ذلك أنهم عباده و رزق العبد على مولاه.
و معنى الآية: و لو وسع الله الرزق على عباده فأشبع الجميع بإيتائه لظلموا في الأرض - لما أن من طبع سعة المال الأشر و البطر و الاستكبار و الطغيان كما قال تعالى: «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»: العلق: 7 - و لكن ينزل ما يشاء من الرزق بقدر و كمية معينة أنه بعباده خبير بصير فيعلم ما يستحقه كل عبد و ما يصلحه من غنى أو فقر فيؤتيه ذلك.
ففي قوله: «و لكن ينزل بقدر ما يشاء» بيان للسنة الإلهية في إيتاء الرزق بالنظر إلى صلاح حال الناس أي إن لصلاح حالهم أثرا في تقدير أرزاقهم، و لا ينافي ذلك ما نشاهد من طغيان بعض المثرين و نماء رزقهم على ذلك فإن هناك سنة أخرى حاكمة على هذه السنة و هي سنة الابتلاء و الامتحان، قال تعالى: «إنما أموالكم و أولادكم فتنة»: التغابن: 15، و سنة أخرى هي سنة المكر و الاستدراج، قال تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يشعرون و أملي لهم إن كيدي متين»: الأعراف: 183.
فسنة الإصلاح بتقدير الرزق سنة ابتدائية يصلح بها حال الإنسان إلا أن يمتحنه الله كما قال: «و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم»: آل عمران: 154 أو يغير النعمة و يكفر بها فيغير الله في حقه سنته فيعطيه ما يطغيه، قال تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»: الرعد: 11.
و كما أن إيتاء المال و البنين و سائر النعم الصورية من الرزق المقسوم كذلك المعارف الحقة و الشرائع السماوية المنتهية إلى الوحي من حيث إنزالها و من حيث الابتلاء بها و التلبس بالعمل بها من الرزق المقسوم.
فلو نزلت المعارف و الأحكام عن آخرها دفعة واحدة - على ما لها من الإحاطة و الشمول لجميع شئون الحياة الإنسانية - لشقت على الناس و لم يؤمن بها إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه أنزلها على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجا و على مكث و هيأ بذلك الناس بقبول بعضها لقبول بعض، قال تعالى: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث»: إسراء: 106.
و كذا المعارف العالية التي هي في بطون المعارف الساذجة الدينية لو لم يضرب عليها بالحجاب و بينت لعامة الناس على حد الظواهر المبينة لهم لم يتحملوها و دفعته أفهامهم إلا الأوحدي منهم لكن الله سبحانه كلمهم في ذلك نوع تكليم يستفيد منه كل على قدر فهمه و سعة صدره كما قال في مثل ضربه في ذلك: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها»: الرعد: 17.
و كذلك الأحكام و التكاليف الشرعية لو كلف بجميعها جميع الناس لتحرجوا منها و لم يتحملوها لكنه سبحانه قسمها بينهم حسب تقسيم الابتلاءات المقتضية لتوجه التكاليف المتنوعة بينهم.
فالرزق بالمعارف و الشرائع من أي جهة فرض كالرزق الصوري مفروز بين الناس مقدر على حسب صلاح حالهم.
قوله تعالى: «و هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا و ينشر رحمته و هو الولي الحميد» القنوط اليأس، و الغيث المطر، قال في مجمع البيان: الغيث ما كان نافعا في وقته، و المطر قد يكون نافعا و قد يكون ضارا في وقته و غير وقته.
انتهى.
و نشر الرحمة تفريق النعمة بين الناس بإنبات النبات و إخراج الثمار التي يكون سببها المطر.
و في الآية انتقال من حديث الرزق إلى آيات التوحيد التي لها تعلق ما بالأرزاق، و يتلوها في هذا المعنى آيات، و تذييل الآية بالاسمين: الولي الحميد و هما من أسمائه تعالى الحسنى للثناء عليه في فعله الجميل.
قوله تعالى: «و من آياته خلق السماوات و الأرض و ما بث فيهما من دابة» إلخ، البث التفريق، و يقال: بث الريح التراب إذا أثاره، و الدابة كل ما يدب على الأرض فيعم الحيوانات جميعا، و المعنى ظاهر.
و ظاهر الآية أن في السماوات خلقا من الدواب كالأرض، و قول بعضهم: إن ما في السموات من دابة هي الملائكة يدفعه أن إطلاق الدواب على الملائكة غير معهود.
و قوله: «و هو على جمعهم إذا يشاء قدير» إشارة إلى حشر ما بث فيهما من دابة و قد عبر بالجمع لمقابلته البث الذي هو التفريق، و لا دلالة في قوله: «على جمعهم» حيث أتى بضمير أولي العقل على كون ما في السماوات من الدواب أولي عقل كالإنسان لقوله تعالى: «و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون»: الأنعام: 38.
و القدير من أسمائه تعالى الحسنى و هو الذي أركزت فيه القدرة و ثبتت، قال الراغب: القدرة إذا وصف بها الإنسان فاسم لهيئة له بها يتمكن من فعل شيء ما، و إذا وصف الله بها فهي نفي العجز عنه، و محال أن يوصف غير الله بالقدرة المطلقة معنى و إن أطلق عليه لفظا بل حقه أن يقال: قادر على كذا، و متى قيل: هو قادر فعلى سبيل معنى التقييد، و لهذا لا أحد غير الله يوصف بالقدرة من وجه إلا و يصح أن يوصف بالعجز من وجه و الله تعالى هو الذي ينتفي عنه العجز من كل وجه.
و القدير هو الفاعل لما يشاء على قدر ما تقتضي الحكمة لا زائدا عليه و لا ناقصا عنه و لذلك لا يصح أن يوصف به إلا الله تعالى قال: «إنه على ما يشاء قدير»، و المقتدر يقاربه نحو «عند مليك مقتدر» لكن قد يوصف به البشر، و إذا استعمل في الله فمعناه معنى القدير و إذا استعمل في البشر فمعناه المتكلف و المكتسب للقدرة، انتهى.
و هو حسن غير أن في قوله: إن القدرة إذا وصف بها الله فهي نفي العجز عنه مساهلة ظاهرة فإن صفاته تعالى الذاتية كالحياة و العلم و القدرة لها معان إيجابية هي عين الذات لا معان سلبية حتى تكون الحياة بمعنى انتفاء الموت و العلم بمعنى انتفاء الجهل و القدرة بمعنى انتفاء العجز على ما يقوله الصابئون و لازمه خلو الذات عن صفات الكمال.
فالحق أن معنى قدرته تعالى كونه بحيث يفعل ما يشاء، و لازم هذا المعنى الإيجابي انتفاء مطلق العجز عنه تعالى.
قوله تعالى: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير» المصيبة النائبة تصيب الإنسان كأنها تقصده، و المراد بما كسبت أيديكم المعاصي و السيئات، و قوله: «و يعفوا عن كثير» أي عن كثير مما كسبت أيديكم و هي السيئات.
و الخطاب في الآية اجتماعي موجه إلى المجتمع غير منحل إلى خطابات جزئية و لازمه كون المراد بالمصيبة التي تصيبهم المصائب العامة الشاملة كالقحط و الغلاء و الوباء و الزلازل و غير ذلك.
فيكون المراد أن المصائب و النوائب التي تصيب مجتمعكم و يصابون بها إنما تصيبكم بسبب معاصيكم و الله يصفح عن كثير منها فلا يأخذ بها.
فالآية في معنى قوله تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون»: الروم: 41، و قوله: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا»: الأعراف: 96، و قوله: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»: الرعد: 11، و غير ذلك من الآيات الدالة على أن بين أعمال الإنسان و بين النظام الكوني ارتباطا خاصا فلو جرى المجتمع الإنساني على ما يقتضيه الفطرة من الاعتقاد و العمل لنزلت عليه الخيرات و فتحت عليه البركات و لو أفسدوا أفسد عليهم.
هذا ما تقتضيه هذه السنة الإلهية إلا أن ترد عليه سنة الابتلاء أو سنة الاستدراج و الإملاء فينقلب الأمر، قال تعالى: «ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة حتى عفوا و قالوا قد مس آباءنا السراء و الضراء فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون»: الأعراف: 95.
و يمكن أن يكون الخطاب في الآية عاما منحلا إلى خطابات الأفراد فيكون ما يصاب كل إنسان بمصيبة في نفسه أو ماله أو ولده أو عرضه و ما يتعلق به مستندا إلى معصية أتى بها و سيئة عملها و يعفو الله عن كثير منها.
و كيف كان فالخطاب في الآية لعامة الناس من المؤمن و الكافر و هو الذي يفيده السياق و تؤيده الآية التالية هذا أولا، و المراد بما كسبته الأيدي المعاصي و السيئات دون مطلق الأعمال، و هذا ثانيا، و المصائب التي تصيب إنما هي آثار الأعمال في الدنيا لما بين الأعمال و بينها من الارتباط و التداعي دون جزاء الأعمال و هذا ثالثا.
و بما ذكر يندفع أولا ما استشكل على عموم الآية بالمصائب النازلة على الأنبياء (عليهم السلام) و هم معصومون لا معصية لهم، المصائب النازلة على الأطفال و المجانين و هم غير مكلفين بتكليف فلا معصية لهم فيجب تخصيص الآية بمصائب الأنبياء و مصائب الأطفال و المجانين.
وجه الاندفاع أن إثبات المعصية لهم في قوله: «فبما كسبت أيديكم» دليل على أن الخطاب في الآية لمن يجوز عليه صدور المعصية فلا يشمل المعصومين و غير المكلفين من رأس فعدم شمول الآية لهم من باب التخصص دون التخصيص.
و ثانيا ما قيل: إن مقتضى الآية مغفرة ذنوب المؤمنين جميعا فإنها بين ما يجزون عليها بإصابة المصائب و ما يعفى عنها.
وجه الاندفاع أن الآية مسوقة لبيان ارتباط المصائب بالمعاصي و كون المعاصي ذوات آثار دنيوية سيئة منها ما يصيب الإنسان و لا يخطىء و منها ما يعفى عنه فلا يصيب لأسباب صارفة و حكم مانعة كصلة الرحم و الصدقة و دعاء المؤمن و التوبة و غير ذلك مما وردت به الأخبار، و أما جزاء الأعمال فالآية غير ناظرة إليه كما تقدم.
على أن الخطاب في الآية يعم المؤمن و الكافر كما تقدمت الإشارة إليه، و لا معنى لتبعضها في الدلالة فتدل على المغفرة في المؤمن و عدمها في الكافر.
و بعد هذا كله فالوجه الأول هو الأوجه.
قوله تعالى: «و ما أنتم بمعجزين في الأرض و ما لكم من دون الله من ولي و لا نصير»، معنى الآية ظاهر و هي باتصالها بما قبلها تفيد أنكم لا تعجزون الله حتى لا تصيبكم المصائب لذنوبكم و ليس لكم من دونه من ولي يتولى أمركم فيدفع عنكم المصائب و لا نصير ينصركم و يعينكم على دفعها.
قوله تعالى: «و من آياته الجوار في البحر كالأعلام»، الجواري جمع جارية و هي السفينة، و الأعلام جمع علم و هو العلامة و يسمى به الجبل و شبهت السفائن بالجبال لعظمها و ارتفاعها و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره» إلخ، ضمير «يشأ» لله تعالى، و ظل بمعنى صار، و «رواكد» جمع راكدة و هي الثابتة في محلها و المعنى: إن يشأ الله يسكن الريح التي تجري بها الجواري فيصرن أي الجواري ثوابت على ظهر البحر.
و قوله: «إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور» أصل الصبر الحبس و أصل الشكر إظهار نعمة المنعم بقول أو فعل، و المعنى: أن فيما ذكر من أمر الجواري من كونها جارية على ظهر البحر بسبب جريان الرياح ناقلة للناس و أمتعتهم من ساحل إلى ساحل لآيات لكل من حبس نفسه عن الاشتغال بما لا يعنيه و اشتغل بالتفكر في نعمه و التفكر في النعمة من الشكر.
و قيل: المراد بكل صبار شكور المؤمن لأن المؤمن لا يخلو من أن يكون في الضراء أو في السراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين و إن كان في السراء كان من الشاكرين.
قوله تعالى: «أو يوبقهن بما كسبوا و يعف عن كثير» الإيباق الإهلاك، و ضمير التأنيث للجواري و ضمير التذكير للناس، و يوبقهن و يعف معطوفان على «يسكن»، و المعنى: إن يشأ يهلك الجواري بإغراقها بسبب ما كسبوا من السيئات و يعف عن كثير منها أي إن بعضها كاف في اقتضاء الإهلاك و إن عفا عن كثير منها.
و قيل: المراد بإهلاكها إهلاك أهلها إما مجازا أو بتقدير مضاف، و «يوبقهن» بالعطف على «يسكن» في معنى يرسل الرياح العاصفة فيوبقهم، و المعنى: إن يشأ يسكن الريح إلخ، و إن يشأ يرسلها فيهلكهم بالإغراق و ينج كثير منهم بالعفو، و المحصل: إن يشأ يسكن الريح أو يرسلها فيهلك ناسا بذنوبهم و ينج ناسا بالعفو عنهم و لا يخفى وجه التكلف فيه.
و قيل: إن «يعف» عطف على قوله: «يسكن الريح» إلى قوله: «بما كسبوا» و لذا عطف بالواو لا بأو، و المعنى: إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الإعصاف و إن يشأ يعف عن كثير.
و هو في التكلف كسابقه.
قوله تعالى: «و يعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من محيص» قيل: هو غاية معطوفة على أخرى محذوفة، و التقدير نحو من قولنا: ليظهر به قدرته و يعلم الذين يجادلون في آياتنا ما لهم من مفر و لا مخلص، و هذا كثير الورود في القرآن الكريم غير أن المعطوف فيما ورد فيه مقارن للأم الغاية كقوله: «و ليعلم الله الذين آمنوا»: آل عمران: 140.
و قوله: «و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75.
و جوز بعضهم أن يكون معطوفا على جزاء الشرط بتقدير إن نحو إن جئتني أكرمك و أعطيك كذا و كذا بنصب أعطيك، و المسألة نحوية خلافية فليرجع إلى ما ذكروه فيه.
قوله تعالى: «فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا» إلخ، تفصيل لما تقدم ذكره من الرزق و تقسيم له إلى ما عند الناس من رزق الدنيا الشامل للمؤمن و الكافر و ما عند الله من رزق الآخرة المختص بالمؤمنين، و فيه تخلص إلى ذكر صفات المؤمنين و ذكر بعض ما يلقاه الظالمون يوم القيامة.
فقوله: «فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا» الخطاب للناس على ما يفيده السياق دون المشركين خاصة، و المراد بما أوتيتم من شيء جميع ما أعطيه للناس و رزقوه من النعيم، و إضافة المتاع إلى الحياة للإشارة إلى انقطاعه و عدم ثباته و دوامه، و المعنى: فكل شيء أعطيتموه مما عندكم متاع تتمتعون به في أيام قلائل.
و قوله: «و ما عند الله خير و أبقى للذين آمنوا و على ربهم يتوكلون» المراد بما عند الله ما ادخره الله ثوابا ليثيب به المؤمنين، و اللام في «للذين آمنوا» للملك و الظرف لغو، و قيل اللام متعلق بقوله: «أبقى» و الأول أظهر، و كون ما عند الله خيرا لكونه خالصا من الألم و الكدر و كونه أبقى لكونه أدوم غير منقطع الآخر.
قوله تعالى: «و الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و إذا ما غضبوا هم يغفرون» عطف على قوله: «الذين آمنوا» و الآية و آيتان بعدها تعد صفات المؤمنين الحسنة و قول بعضهم إنه كلام مستأنف لا يساعد عليه السياق.
و كبائر الإثم المعاصي الكبيرة التي لها آثار سوء عظيمة و قد عد تعالى منها شرب الخمر و الميسر، قال تعالى: «قل فيهما إثم كبير»: البقرة: 219، و الفواحش جمع فاحشة و هي المعصية الشنيعة النكراء و قد عد تعالى منها الزنا و اللواط قال: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة»: إسراء: 32، و قال حاكيا عن لوط: «أ تأتون الفاحشة و أنتم تبصرون»: النمل: 54.
و قوله: «يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش» و هو في سورة مكية إشارة إلى إجمال ما سيفصل من تشريع تحريم كبائر المعاصي و الفواحش.
و في قوله: «و إذا ما غضبوا هم يغفرون» إشارة إلى العفو عند الغضب و هو من أخص صفات المؤمنين و لذا عبر عنه بما عبر و لم يقل: و يغفرون إذا غضبوا ففي الكلام جهات من التأكيد و ليس قصرا للمغفرة عند الغضب فيهم.
قوله تعالى: «و الذين استجابوا لربهم و أقاموا الصلاة» إلخ، الاستجابة هي الإجابة و استجابتهم لربهم إجابتهم لما يكلفهم به من الأعمال الصالحة - على ما يفيده السياق - و ذكر إقامة الصلاة بعدها من قبيل ذكر الخاص بعد العام لشرفه.
على أن الظاهر أن الآيات مكية و لم يشرع يومئذ أمثال الزكاة و الخمس و الصوم و الجهاد، و في قوله: «و الذين استجابوا لربهم» من الإشارة إلى الإجمال الأعمال الصالحة المشرعة نظير ما تقدم في قوله: «و الذين يجتنبون» إلخ، و نظير الكلام جار في الآيات التالية.
و قوله: «و أمرهم شورى بينهم» قال الراغب: و التشاور و المشاورة و المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم: شرت العسل إذا أخذته من موضعه و استخرجته منه، قال تعالى: «و شاورهم في الأمر» و الشورى الأمر الذي يتشاور فيه، قال تعالى: «و أمرهم شورى بينهم» انتهى.
فالمعنى: الأمر الذي يعزمون عليه شورى بينهم يتشاورون فيه، و يظهر من بعضهم أنه مصدر، و المعنى: و شأنهم المشاورة بينهم.
و كيف كان ففيه إشارة إلى أنهم أهل الرشد و إصابة الواقع يمعنون في استخراج صواب الرأي بمراجعة العقول فالآية قريبة المعنى من قول الله تعالى: «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه»: الزمر: 18.
و قوله: «و مما رزقناهم ينفقون» إشارة إلى بذل المال لمرضاة الله.
قوله تعالى: «و الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون» قال الراغب: الانتصار و الاستنصار طلب النصرة.
انتهى.
فالمعنى: الذين إذا أصاب الظلم بعضهم طلب النصرة من الآخرين و إذا كانوا متفقين على الحق كنفس واحدة فكان الظلم أصاب جميعهم فطلبوا المقاومة قباله و أعدوا عليه النصرة.
و عن بعضهم أن الانتصار بمعنى التناصر نظير اختصم و تخاصم و استبق و تسابق و المعنى عليه ظاهر.
و كيف كان فالمراد مقاومتهم لرفع الظلم فلا ينافي المغفرة عند الغضب المذكورة في جملة صفاتهم فإن المقاومة دون الظلم و سد بابه عن المجتمع لمن استطاعه و الانتصار و التناصر لأجله من الواجبات الفطرية، قال تعالى: «و إن استنصروكم في الدين فعليكم النصر»: الأنفال: 72، و قال: «فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله»: الحجرات: 9.
قوله تعالى: «و جزاء سيئة سيئة مثلها» إلى آخر الآية بيان لما جعل للمنتصر في انتصاره و هو أن يقابل الباغي بما يماثل فعله و ليس بظلم و بغي.
قيل: و سمي الثانية و هي ما يأتي بها المنتصر سيئة لأنها في مقابلة الأولى كما قال تعالى: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم»: البقرة: 194، و قال الزمخشري: كلتا الفعلتين: الأولى و جزاؤها سيئة لأنها تسوء من تنزل به ففيه رعاية لحقيقة معنى اللفظ و إشارة إلى أن مجازاة السيئة بمثلها إنما تحمد بشرط المماثلة من غير زيادة.
و قوله: «فمن عفا و أصلح فأجره على الله» وعد جميل على العفو و الإصلاح، و الظاهر أن المراد بالإصلاح إصلاحه أمره فيما بينه و بين ربه، و قيل: المراد إصلاحه ما بينه و بين ظالمه بالعفو و الإغضاء.
و قوله: «إنه لا يحب الظالمين» قيل: فيه بيان أنه تعالى لم يرغب المظلوم في العفو عن الظالم لميله إلى الظالم أو لحبه إياه و لكن ليعرض المظلوم بذلك لجزيل الثواب، و لحبه تعالى الإحسان و الفضل.
و قيل: المراد أنه لا يحب الظالم في قصاص و غيره بتعديه عما هو له إلى ما ليس هو له.
و الوجهان و إن كانا حسنين في نفسهما لكن سياق الآية لا يساعد عليهما و خاصة مع حيلولة قوله: «فمن عفا و أصلح فأجره على الله» بين التعليل و المعلل.
و يمكن أيضا أن يكون قوله: «إنه لا يحب الظالمين» تعليلا لأصل كون جزاء السيئة سيئة من غير نظر إلى المماثلة و المساواة.
قوله تعالى: «و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل - إلى قوله - من عزم الأمور» ضمير «ظلمه» راجع إلى المظلوم.
و الإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.
الآيات الثلاث تبيين و رفع لبس من قوله في الآية السابقة: «فمن عفا و أصلح فأجره على الله» فمن الجائز أن يتوهم المظلوم أن في ذلك إلغاء لحق انتصاره فبين سبحانه بقوله أولا: «و لمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل» أن لا سبيل على المظلومين و لا مجوز لإبطال حقهم في الشرع الإلهي، و إرجاع ضمير الإفراد إلى الموصول أولا باعتبار لفظه، و ضمير الجمع ثانيا باعتبار معناه.
و بين بقوله ثانيا: «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس و يبغون في الأرض بغير الحق» إن السبيل كله على الظالمين في الانتقام منهم للمظلومين، و أكد ذلك ذيلا بقوله: «أولئك لهم عذاب أليم».
و بين بقوله ثالثا: «و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور» إن الدعوة إلى الصبر و العفو ليست إبطالا لحق الانتصار و إنما هي إرشاد إلى فضيلة هي من أعظم الفضائل فإن في المغفرة الصبر الذي هو من عزم الأمور، و قد أكد الكلام بلام القسم أولا و باللام في خبر إن ثانيا لإفادة العناية بمضمونه.
قوله تعالى: «و من يضلل الله فما له من ولي من بعده» إلخ، لما ذكر المؤمنين بأوصافهم و أن لهم عند الله رزقهم المدخر لهم و فيه سعادة عقباهم التي هداهم الله إليها التفت إلى غيرهم و هم الظالمون الآيسون من تلك الهداية الموصلة إلى السعادة المحرومون من هذا الرزق الكريم فبين أن الله سبحانه أضلهم لكفرهم و تكذيبهم فلا ينتهون إلى ما عنده من الرزق و لا يسعدهم به و ليس لهم من دونه من ولي حتى يتولى أمرهم و يرزقهم ما حرمهم الله من الرزق، فهم صفر الأكف يتمنون عند مشاهدة العذاب الرجوع إلى الدنيا ليعملوا صالحا فيكونوا أمثال المؤمنين.
فقوله: «و من يضلل الله» إلخ، من قبيل وضع السبب و هو إضلال الله لهم و عدم ولي آخر يتولى أمرهم فيهديهم و يرزقهم موضع المسبب و هو الهداية و الرزق.
و قوله: «و ترى الظالمين لما رأوا العذاب يقولون هل إلى مرد من سبيل» إشارة إلى تمنيهم الرجوع إلى الدنيا بعد اليأس عن السعادة و مشاهدة العذاب.
و «ترى» خطاب عام وجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه راء و معناه و ترى و يرى كل من هو راء، و فيه إشارة إلى أنهم يتمنون ذلك على رءوس الأشهاد، و المرد هو الرد.
قوله تعالى: «و تراهم يعرضون عليها خاشعين من الذل ينظرون من طرف خفي» ضمير «عليها» للنار للدلالة المقام عليها و خفي الطرف ضعيفه و إنما ينظر من طرف خفي.
إلى المكاره المهولة من ابتلي بها فهو لا يريد أن ينصرف فيغفل عنها و لا يجترىء أن يمتلىء بها بصره كالمبصور ينظر إلى السيف، و الباقي ظاهر.
و قوله: «و قال الذين آمنوا إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم و أهليهم يوم القيامة» أي إن الخاسرين كل الخسران و بحقيقته هم الذين خسروا أنفهسم بحرمانها عن النجاة و أهليهم بعدم الانتفاع بهم يوم القيامة.
و قيل أهلوهم أزواجهم من الحور و خدمهم في الجنة لو آمنوا و لا يخلو من وجه نظرا إلى آيات وراثة الجنة.
و هذا القول المنسوب إلى المؤمنين إنما يقولونه يوم القيامة - و التعبير بلفظ الماضي لتحقق الوقوع - لا في الدنيا كما يظهر من بعضهم فليس لاستناده تعالى إلى مقالة المؤمنين في الدنيا وجه في مثل المقام، و ليس القائلون به جميع المؤمنين كائنين من كانوا و إنما هم الكاملون منهم المأذون لهم في الكلام الناطقون بالصواب محضا كأصحاب الأعراف و شهداء الأعمال قال تعالى: «يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه»: هود: 105.
و قال: «لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا»: النبأ: 38.
فلا يصغى إلى ما قيل: إن القول المذكور إنما نسب إلى المؤمنين للدلالة على ابتهاجهم بما رزقوا يومئذ من الكرامة و نجوا من الخسران و إلا فالقول قول كل من يتأتى منه القول من أهل الجمع كما أن الرؤية المذكورة قبله رؤية كل من تتأتى منه الرؤية.
و قوله: «ألا إن الظالمين في عذاب مقيم» تسجيل عليهم بالعذاب و أنه دائم غير منقطع، و جوز أن يكون من تمام كلام المؤمنين.
قوله تعالى: «و ما كان لهم من أولياء ينصرونهم من دون الله» إلخ، هذا التعبير أعني قوله: «و ما كان لهم» إلخ، دون أن يقال: و ما لهم من ولي كما قيل أولا للدلالة على ظهور بطلان دعواهم ولاية أوليائهم في الدنيا و أن ذلك كان باطلا من أول الأمر.
و قوله: «و من يضلل الله فما له من سبيل» صالح لتعليل صدر الآية و هو كالنتيجة لجميع ما تقدم من الكلام في حال الظالمين في عقباهم، و نوع انعطاف إلى ما سبق من حديث تشريع الشريعة و السبيل بالوحي.
فهو كناية عن أنه لا سبيل إلى السعادة إلا سبيل الله الذي شرعه لعباده من طريق الوحي و الرسالة فمن أضله عن سبيله لكفره و تكذيبه بسبيله فلا سبيل له يهتدي به إلى سعادة العقبى و التخلص من العذاب و الهلاك.
قوله تعالى: «استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجأ يومئذ و ما لكم من نكير» دعوة و إنذار بيوم القيامة المذكور في الآيات السابقة على ما يعطيه السياق، و قول بعضهم: إن المراد باليوم يوم الموت غير وجيه.
و في قوله: «لا مرد له من الله» «لا» لنفي الجنس و «مرد» اسمه و «له» خبره و «من الله» حال من «مرد» و المعنى، يوم لا رد له من قبل الله أي أنه مقضي محتوم لا يرده الله البتة فهو في معنى ما تكرر في كلامه تعالى من وصف يوم القيامة بأنه لا ريب فيه.
و قد ذكروا للجملة أعني قوله: «يوم لا مرد له من الله» وجوها أخر من الإعراب لا جدوى في نقلها.
و قوله: «ما لكم من ملجإ يومئذ و ما لكم من نكير» الملجأ الملاذ الذي يلتجأ إليه و النكير - كما قيل - مصدر بمعنى الإنكار، و المعنى: ما لكم من ملاذ تلتجئون إليه من الله و ما لكم من إنكار لما صدر منكم لظهور الأمر من كل جهة.
قوله تعالى: «فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظا إن عليك إلا البلاغ» عدول من خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لإعلام أن ما حمله من الأمر إنما هو التبليغ لا أزيد من ذلك فقد أرسل مبلغا لدين الله إن عليه إلا البلاغ و لم يرسل حفيظا عليهم مسئولا عن إيمانهم و طاعتهم حتى يمنعهم عن الإعراض و يتعب نفسه لإقبالهم عليه.
قوله تعالى: «و إنا إذا أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها و إن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم فإن الإنسان كفور» الفرح بالرحمة كناية عن الاشتغال بالنعمة و نسيان المنعم، و المراد بالسيئة المصيبة التي تسوء الإنسان إذا أصابته، و قوله: «فإن الإنسان كفور» من وضع الظاهر موضع الضمير، و النكتة فيه تسجيل الذم و اللوم عليه بذكره باسمه.
و في الآية استشعار بإعراضهم و توبيخهم بعنوان الإنسان المشتغل بالدنيا فإنه بطبعه حليف الغفلة إن ذكر بنعمة يؤتاها صرفه الفرح بها عن ذكر الله، و إن ذكر بسيئة تصيبه بما قدمت يداه شغله الكفران عن ذكر ربه فهو في غفلة عن ذكر ربه في نعمة كانت أو في نقمة فكاد أن لا تنجح فيه دعوة و لا تنفع فيه موعظة.
قوله تعالى: «لله ملك السماوات و الأرض يخلق ما يشاء» إلى آخر الآيتين، للآيتين نوع اتصال بما تقدم من حديث الرزق لما أن الأولاد المذكورين فيهما من قبيل الرزق.
و قيل: إنهما متصلتان بالآية السابقة حيث ذكر فيها إذاقة الرحمة و إصابة السيئة و إن الإنسان يفرح بالرحمة و يكفر في السيئة فذكر تعالى في هاتين الآيتين أن ملك السماوات و الأرض لله سبحانه يخلق ما يشاء فليس لمن يذوق رحمته أن يفرح بها و يشتغل به و لا لمن أصابته السيئة أن يكفر و يعترض بل له الخلق و الأمر فعلى المرحوم أن يشكر و على المصاب أن يرجع إليه.
و يبعده أنه تعالى لم ينسب السيئة في الآية السابقة إلى نفسه بل إلى تقديم أيديهم فلا يناسبه نسبة القسمين جميعا في هذه الآية إلى مشيته و دعوتهم إلى التسليم لها.
و كيف كان فقوله: «لله ملك السماوات و الأرض يخلق ما يشاء» فيه قصر الملك و السلطنة فيه تعالى على جميع العالم و أن الخلق منوط بمشيته من غير أن يكون هناك أمر يوجب عليه المشية أو يضطره على الخلق.
و قوله: «يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور» الإناث جمع أنثى و الذكور و الذكران جمعا ذكر، و ظاهر التقابل أن المراد هبة الإناث فقط لمن يشاء و هبة الذكور فقط لمن يشاء و لذلك كررت المشية، قيل: وجه تعريف الذكور أنهم المطلوبون لهم المعهودون في أذهانهم و خاصة العرب.
و قوله: «أو يزوجهم ذكرانا و إناثا» أي يجمع بينهم حال كونهم ذكرانا و إناثا معا فالتزويج في اللغة الجمع، و قوله: «و يجعل من يشاء عقيما» أي لا يلد و لا يولد له، و لما كان هذا أيضا قسما برأسه قيده بالمشية كالقسمين الأولين، و أما قسم الجمع بين الذكران و الإناث فإنه بالحقيقة جمع بين القسمين الأولين فاكتفى بما ذكر من المشية فيهما.
و قوله: «إنه عليم قدير» تعليل لما تقدم أي أنه عليم لا يزيد ما يزيد لجهل قدير لا ينقص ما ينقص عن عجز.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي عن علي قال: إنما أنزلت هذه الآية في أصحاب الصفة: «و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض» و ذلك أنهم قالوا: لو أن لنا فتمنوا الدنيا.
أقول: و الآية على هذا مدنية لكن الرواية أشبه بالتطبيق منها بسبب النزول.
و في تفسير القمي،: قوله: «و لو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض»: قال الصادق (عليه السلام): لو فعل لفعلوا و لكن جعلهم محتاجين بعضهم إلى بعض و استعبدهم بذلك و لو جعلهم أغنياء لبغوا «و لكن ينزل بقدر ما يشاء» مما يعلم أنه يصلحهم في دينهم و دنياهم «إنه بعباده خبير بصير».
و في المجمع، روى أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن جبرئيل عن الله جل ذكره: أن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم و لو صححته لأفسده، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الصحة و لو أسقمته لأفسده، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى و لو أفقرته لأفسده، و إن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر و لو أغنيته لأفسده، و ذلك أني أدبر عبادي لعلمي بقلوبهم.
و في تفسير القمي، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن منصور بن يونس عن أبي حمزة عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: إني سمعته يقول: إني أحدثكم بحديث ينبغي لكل مسلم أن يعيه. ثم أقبل علينا فقال: ما عاقب الله عبدا مؤمنا في هذه الدنيا إلا كان الله أحكم و أجود و أمجد من أن يعود في عقابه يوم القيامة. ثم قال: و قد يبتلي الله عز و جل المؤمن بالبلية في بدنه أو ماله أو ولده أو أهله ثم تلا هذه الآية: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم - و يعفوا عن كثير» و حثا بيده ثلاث مرات.
و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: أما أنه ليس من عرق يضرب و لا نكبة و لا صداع و لا مرض إلا بذنب و ذلك قول الله عز و جل في كتابه: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير» قال: ثم قال: و ما يعفو الله أكثر مما يؤاخذ به.
أقول: و روي هذا المعنى بطريق آخر عن مسمع عنه (عليه السلام)، و روي مثله في الدر المنثور، عن الحسن عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لفظه: لما نزلت هذه الآية «و ما أصابكم من مصيبة - فبما كسبت أيديكم» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و الذي نفسي بيده ما من خدش عود و لا اختلاج عرق و لا نكبة حجر و لا عثرة قدم إلا بذنب، و ما يعفو الله عنه أكثر.
و في الكافي، أيضا بإسناده عن علي بن رئاب قال: سألت أبا عبد الله عن قول الله عز و جل: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» أ رأيت ما أصاب عليا و أهل بيته (عليهم السلام) من بعده أ هو بما كسبت أيديهم و هم أهل بيت طهارة معصومون؟ فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتوب إلى الله و يستغفر في كل يوم و ليلة مائة مرة من غير ذنب إن الله يخص أولياءه بالمصائب ليأجرهم عليها.
و في المجمع، روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خير آية في كتاب الله هذه الآية. يا على ما من خدش عود و لا نكبة قدم إلا بذنب، و ما عفا إله عنه في الدنيا فهو أكرم من أن يعود فيه، و ما عاقب عليه في الدنيا فهو أعدل من أن يثني على عبده:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من أرباب الجوامع عن علي (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فحوى الرواية أن قوله تعالى: «و ما أصابكم» الآية خاص بالمؤمنين و الخطاب لهم و أن مفاده غفران ذنوبهم كافة فلا يعاقبون عليها في برزخ و لا قيامة لأن الآية تقصر الذنوب في مأخوذ به بإصابة المصيبة و معفو عنه و مفاد الرواية نفي المؤاخذة بعد المؤاخذة و نفي المؤاخذة بعد العفو.
فيشكل الأمر أولا: من جهة ما عرفت أن الآية في سياق يفيد عموم الخطاب للمؤمن و الكافر.
و ثانيا: من جهة معارضة الرواية لما ورد في أخبار متكاثرة لعلها تبلغ حد التواتر المعنوي من أن من المؤمنين من يعذب في قبره أو في الآخرة.
و ثالثا: من جهة مخالفة الرواية لظواهر ما دلت من الآيات على أن موطن جزاء الأعمال هي الدار الآخرة كقوله تعالى: «و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»: النحل: 61، و غيره من الآيات الدالة على أن كل مظلمة و معصية مأخوذ بها و أن موطن الأخذ هو ما بعد الموت و في القيامة إلا ما غفرت بالتوبة أو تذهب بحسنة أو بشفاعة في الآخرة أو نحو ذلك.
على أن الآية أعني قوله: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير» - كما تقدمت الإشارة إليه - غير ظاهرة في كون أصابة المصيبة جزاء للعمل و لا في كون العفو بمعنى إبطال الجزاء و إنما هو الأثر الدنيوي للسيئة يصيب مرة و يمحى أخرى.
فالحري أن تحمل الرواية - لو قبلت - على الأخذ بحسن الظن بالله سبحانه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و أمرهم شورى بينهم»: و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: ما من رجل يشاور أحدا إلا هدي إلى الرشد.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عز و جل: «يهب لمن يشاء إناثا» يعني ليس معهن ذكور «و يهب لمن يشاء الذكور» يعني ليس معهم أنثى «أو يزوجهم ذكرانا و إناثا» أي يهب لمن يشاء ذكرانا و إناثا جميعا يجمع له البنين و البنات أي يهبهم جميعا لواحد.
و في التهذيب، بإسناده عن الحسين بن علوان عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل فقال: يا رسول الله إن أبي عمد إلى مملوك لي فأعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنت و مالك من هبة الله لأبيك أنت سهم من كنانته «يهب لمن يشاء إناثا و يهب لمن يشاء الذكور - أو يزوجهم ذكرانا و إناثا و يجعل من يشاء عقيما» جازت عتاقة أبيك يتناول والدك من مالك و بدنك و ليس لك أن تتناول من ماله و لا من بدنه شيئا إلا بإذنه.
أقول: و هذا المعنى مروي عن الرضا (عليه السلام) في جواب مسائل محمد بن سنان في العلل و مروي من طرق أهل السنة عن عائشة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
|