بيان
السورة موضوعة للإنذار كما تشهد به فاتحتها و خاتمتها و المقاصد المتخللة بينهما إلا ما في قوله: «إلا المتقين يا عباد لا خوف عليكم اليوم» إلى تمام ست آيات استطرادية.
تذكر أن السنة الإلهية إنزال الذكر و إرسال الأنبياء و الرسل و لا يصده عن ذلك إسراف الناس في قولهم و فعلهم بل يرسل الأنبياء و الرسل و يهلك المستهزءين بهم و المكذبين لهم ثم يسوقهم إلى نار خالدة.
و قد ذكرت إرسال الأنبياء بالإجمال أولا ثم سمي منهم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى (عليه السلام)، و ذكرت من إسراف الكفار أشياء و من عمدتها قولهم بأن لله سبحانه ولدا و أن الملائكة بنات الله ففيها عناية خاصة بنفي الولد عنه تعالى فكررت ذلك و ردته و أوعدتهم بالعذاب، و فيها حقائق متفرقة أخرى.
و السورة مكية بشهادة مضامين آياتها إلا قوله: «و اسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا» الآية، و لم يثبت كما سيأتي إن شاء الله.
قوله تعالى: «و الكتاب المبين» ظاهره أنه قسم و جوابه قوله: «إنا جعلناه قرآنا عربيا» إلى آخر الآيتين، و كون القرآن مبينا هو إبانته و إظهاره طريق الهدى كما قال تعالى: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»: النحل: 89، أو كونه ظاهرا في نفسه لا يرتاب فيه كما قال: «ذلك الكتاب لا ريب فيه»: البقرة: 2.
قوله تعالى: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون» الضمير للكتاب، و «قرآنا عربيا» أي مقروا باللغة العربية و «لعلكم تعقلون» غاية الجعل و غرضه.
و جعل رجاء تعقله غاية للجعل المذكور يشهد بأن له مرحلة من الكينونة و الوجود لا ينالها عقول الناس، و من شأن العقل أن ينال كل أمر فكري و إن بلغ من اللطافة و الدقة ما بلغ فمفاد الآية أن الكتاب بحسب موطنه الذي له في نفسه أمر وراء الفكر أجنبي عن العقول البشرية و إنما جعله الله قرآنا عربيا و ألبسه هذا اللباس رجاء أن يستأنس به عقول الناس فيعقلوه، و الرجاء في كلامه تعالى قائم بالمقام أو المخاطب دون المتكلم كما تقدم غير مرة.
قوله تعالى: «و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم» تأكيد و تبيين لما تدل عليه الآية السابقة أن الكتاب في موطنه الأصلي وراء تعقل العقول.
و الضمير للكتاب، و المراد بأم الكتاب اللوح المحفوظ كما قال تعالى: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج: 22، و تسميته بأم الكتاب لكونه أصل الكتب السماوية يستنسخ منه غيره، و التقييد بأم الكتاب و «لدينا» للتوضيح لا للاحتراز، و المعنى: أنه حال كونه في أم الكتاب لدينا - حالا لازمة - لعلي حكيم، و سيجيء في أواخر سورة الجاثية كلام في أم الكتاب إن شاء الله.
و المراد بكونه عليا على ما يعطه مفاد الآية السابقة أنه رفيع القدر و المنزلة من أن تناله العقول، و بكونه حكيما أنه هناك محكم غير مفصل و لا مجزى إلى سور و آيات و جمل و كلمات كما هو كذلك بعد جعله قرآنا عربيا كما استفدناه من قوله تعالى: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود: 1.
و هذان النعتان أعني كونه عليا حكيما هما الموجبان لكونه وراء العقول البشرية فإن العقل في فكرته لا ينال إلا ما كان من قبيل المفاهيم و الألفاظ أولا و كان مؤلفا من مقدمات تصديقية يترتب بعضها على بعض كما في الآيات و الجمل القرآنية، و أما إذا كان الأمر وراء المفاهيم و الألفاظ و كان غير متجز إلى أجزاء و فصول فلا طريق للعقل إلى نيله.
فمحصل معنى الآيتين: أن الكتاب عندنا في اللوح المحفوظ ذو مقام رفيع و أحكام لا تناله العقول لذينك الوصفين و إنما أنزلناه بجعله مقروا عربيا رجاء أن يعقله الناس.
فإن قلت: ظاهر قوله: «لعلكم تعقلون» إمكان تعقل الناس هذا القرآن العربي النازل تعقلا تاما فهذا الذي نقرؤه و نعقله إما أن يكون مطابقا لما في أم الكتاب كل المطابقة أو لا يكون، و الثاني باطل قطعا كيف؟ و هو تعالى يقول: «و إنه في أم الكتاب» و «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج: 22، و «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون»: الواقعة: 78، فتعين الأول و مع مطابقته لأم الكتاب كل المطابقة ما معنى كون القرآن العربي الذي عندنا معقولا لنا و ما في أم الكتاب عند الله غير معقول لنا.
قلت: يمكن أن تكون النسبة بين ما عندنا و ما في أم الكتاب نسبة المثل و الممثل فالمثل هو الممثل بعينه لكن الممثل له لا يفقه إلا المثل فافهم ذلك.
و بما مر يظهر ضعف الوجوه التي أوردوها في تفسير الوصفين كقول بعضهم: إن المراد بكونه عليا أنه عال في بلاغته مبين لما يحتاج إليه الناس، و قول بعضهم: معناه أنه يعلو كل كتاب بما اختص به من الإعجاز و هو ينسخ الكتب غيره و لا ينسخه كتاب، و قول بعضهم يعني أنه يعظمه الملائكة و المؤمنون.
و كقول بعضهم في معنى «حكيم» إنه مظهر للحكمة البالغة، و قول بعضهم معناه أنه لا ينطق إلا بالحكمة و لا يقول إلا الحق و الصواب، ففي توصيفه بالحكيم تجوز لغرض المبالغة.
و ضعف هذه الوجوه ظاهر بالتدبر في مفاد الآية السابقة و ظهور أن جعله قرآنا عربيا بالنزول عن أم الكتاب.
قوله تعالى: «أ فنضرب عنكم الذكر صفحا إن كنتم قوما مسرفين» الاستفهام للإنكار، و الفاء للتفريع على ما تقدم، و ضرب الذكر عنهم صرفه عنهم.
قال في المجمع:، و أصل ضربت عنه الذكر أن الراكب إذا ركب دابة فأراد أن يصرفه عن جهة ضربه بعصا أو سوط ليعدل به إلى جهة أخرى ثم وضع الضرب موضع الصرف و العدل.
انتهى.
و الصفح بمعنى الإعراض فصفحا مفعول له، و احتمل أن يكون بمعنى الجانب «و إن كنتم» محذوف الجار و التقدير لأن كنتم و هو متعلق بقوله: «أ فنضرب».
و المعنى: أ فنصرف عنكم الذكر - و هو الكتاب الذي جعلناه قرآنا لتعقلوه - للإعراض عنكم لكونكم مسرفين أو أ فنصرفه عنكم إلى جانب لكونكم مسرفين أي أنا لا نصرفه عنكم لذلك.
قوله تعالى: «و كم أرسلنا من نبي في الأولين و ما يأتيهم من نبي إلا كانوا به يستهزءون» «كم» للتكثير، و الأولون هم الأمم الدارجة و «ما يأتيهم» إلخ، حال و العامل فيها «أرسلنا».
و الآيتان و ما يتلوهما في مقام التعليل لعدم صرف الذكر عنهم ببيان أن كونكم قوما مسرفين لا يمنعنا من إجراء سنة الهداية من طريق الوحي فإنا كثيرا ما أرسلنا من نبي في الأمم الماضين و الحال أنه ما يأتيهم من نبي إلا استهزءوا به و انجر الأمر إلى أن أهلكنا من أولئك من هو أشد بطشا منكم.
فكما كانت عاقبة إسرافهم و استهزائهم الهلاك دون الصرف فكذلك عاقبة إسرافكم ففي الآيات الثلاث كما ترى وعد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وعيد لقومه.
قوله تعالى: «فأهلكنا أشد منهم بطشا و مضى مثل الأولين» قال الراغب،: البطش تناول الشيء بصولة.
انتهى و في الآية التفات في قوله: «منهم» من الخطاب إلى الغيبة، و كان الوجه فيه العدول عن خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لعدم اعتبارهم بهذه القصص و العبر و ليكون تمهيدا لقوله بعد: «و مضى مثل الأولين» و يؤيده قوله بعد: «و لئن سألتهم» خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و معنى قوله: «و مضى مثل الأولين» و مضى في السور النازلة قبل هذه السورة من القرآن وصف الأمم الأولين و أنه كيف حاق بهم ما كانوا به يستهزءون.
قوله تعالى: «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم» في الآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات احتجاج على ربوبيته تعالى و توحده فيها مع إشارة ما إلى المعاد و تبكيت لهم على إسرافهم مأخوذ من اعترافهم بأنه تعالى هو خالق الكل ثم الأخذ بجهات من الخلق هي بعينها تدبير لأمور العباد كجعل الأرض لهم مهدا و جعله فيها سبلا و إنزال الأمطار فينتج أنه تعالى وحده مالك مدبر لأمورهم فهو الرب لا رب غيره.
و بذلك تبين أن الآية تقدمة و توطئة لما تتضمنه الآيات التالية من الحجة و قد تقدم في هذا الكتاب مرارا أن الوثنية لا تنكر رجوع الصنع و الإيجاد إليه تعالى وحده و إنما تدعي رجوع أمر التدبير إلى غيره.
قوله تعالى: «الذي جعل لكم الأرض مهدا و جعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون» أي جعل لكم الأرض بحيث تربون فيها كما يربى الأطفال في المهد، و جعل لكم في الأرض سبلا و طرقا تسلكونها و تهتدون بها إلى مقاصدكم.
و قيل: معنى «لعلكم تهتدون» رجاء أن تهتدوا إلى معرفة الله و توحيده في العبادة و الأول أظهر.
و في الكلام التفات إلى خطاب القوم بعد صرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لعل الوجه فيه إظهار العناية بهذا المعنى في الخلقة و هو أن التدبير بعينه من الخلق فاعترافهم بكون الخلق مختصا بالله سبحانه و قولهم برجوع التدبير إلى غيره من خلقه من التهافت في القول جهلا فقرعهم بهذا الخطاب من غير واسطة.
قوله تعالى: «و الذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون» قيد تنزيل الماء بقدر للإشارة إلى أنه عن إرادة و تدبير لا كيف اتفق و الإنشار الإحياء، و الميت مخفف الميت بالتشديد، و توصيف البلدة به باعتبار أنها مكان لأن البلدة أيضا إنما تتصف بالموت و الحياة باعتبار أنها مكان، و الالتفات عن الغيبة إلى التكلم مع الغير في «أنشرنا» لإظهار العناية.
و لما استدل بتنزيل الماء بقدر و إحياء البلدة الميتة على خلقه و تدبيره استنتج منه أمر آخر لا يتم التوحيد إلا به و هو المعاد الذي هو رجوع الكل إليه تعالى فقال: «كذلك تخرجون» أي كما أحيا البلدة الميتة كذلك تبعثون من قبوركم أحياء.
قيل: في التعبير عن إخراج النبات بالإنشار الذي هو إحياء الموتى و عن إحيائهم بالإخراج تفخيم لشأن الإنبات و تهوين لأمر البعث لتقويم سنن الاستدلال و توضيح منهاج القياس.
قوله تعالى: «و الذي خلق الأزواج كلها و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون» قيل: المراد بالأزواج أصناف الموجودات من ذكر و أنثى و أبيض و أسود و غيرها، و قيل: المراد الزوج من كل شيء فكل ما سوى الله كالفوق و تحت و اليمين و اليسار و الذكر و الأنثى زوج.
و قوله: «و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون» أي تركبونه، و الركوب إذا نسب إلى الحيوان كالفرس و الإبل تعدى بنفسه فيقال: ركبت الفرس و إذا نسب إلى مثل الفلك و السفينة تعدى بفي فيقال ركب فيه قال تعالى: «و إذا ركبوا في الفلك» ففي قوله: «ما تركبون» أي تركبونه تغليب لجانب الأنعام.
قوله تعالى: «لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه و تقولوا - إلى قوله - لمنقلبون» الاستواء على الظهور الاستقرار عليها، و الضمير في «ظهوره» راجع إلى لفظ الموصول في «ما تركبون»، و الضمير في قوله: «إذا استويتم عليه» للموصول أيضا فكما يقال: استويت على ظهر الدابة يقال: استويت على الدابة.
و المراد بذكر نعمة الرب سبحانه بعد الاستواء على ظهر الفلك و الأنعام ذكر النعم التي ينتفع بها الإنسان بتسخيره تعالى له هذه المراكب كالانتقال من مكان إلى مكان و حمل الأثقال قال تعالى: «و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره»: إبراهيم: 32، و قال: «و الأنعام خلقها - إلى أن قال - و تحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس»: النحل: 7، أو المراد ذكر مطلق نعمه تعالى بالانتقال من ذكر هذه النعم إليه.
و قوله: «و تقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا و ما كنا له مقرنين» أي مطيقين و الإقران الإطاقة.
و ظاهر ذكر النعمة عند استعمالها و الانتفاع بها شكر منعمها و لازم ذلك أن يكون ذكر النعمة غير قول: «سبحان الذي» إلخ، فإن هذا القول تسبيح و تنزيه له عما لا يليق بساحة كبريائه و هو الشريك في الربوبية و الألوهية، و ذكر النعمة شكر - كما تقدم - و الشكر غير التنزيه.
و يؤيد هذا ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في ما يقال عند الاستواء على المركوب فإن الروايات على اختلافها تتضمن التحميد وراء التسبيح يقول «سبحان الذي» إلخ.
و روي في الكشاف، عن الحسن بن علي (عليهما السلام) أنه رأى رجلا يركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا فقال: أ بهذا أمرتم؟ فقال: و بم أمرنا؟ قال: إن تذكروا نعمة ربكم.
و قوله: «و إنا إلى ربنا لمنقلبون» أي صائرون شهادة بالمعاد.
|