بيان
لما أنذر القوم بالعذاب الدنيوي ثم بالعذاب الأخروي و تمثل للعذاب الدنيوي بما جرى على قوم فرعون إذ جاءهم موسى (عليه السلام) بالرسالة من ربه فكذبوه فأخذهم الله بعذاب الإغراق فاستأصلهم.
رجع إلى الكلام في العذاب الأخروي فذكر إنكار القوم للمعاد و قولهم أن ليس بعد الموتة الأولى حياة فاحتج على إثبات المعاد بالبرهان ثم أنبأ عن بعض ما سيلقاه المجرمون من العذاب في الآخرة و بعض ما سيلقاه المتقون من النعيم المقيم و عند ذلك تختتم السورة بما بدأت به و هو نزول الكتاب للتذكر و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالارتقاب.
قوله تعالى: «إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى و ما نحن بمنشرين» رجوع إلى أول الكلام من قوله: «بل هم في شك يلعبون» و الإشارة بهؤلاء إلى قريش و من يلحق بهم من العرب الوثنيين المنكرين للمعاد، و قولهم: «إن هي إلا موتتنا الأولى» يريدون به نفي الحياة بعد الموت الملازم لنفي المعاد بدليل قولهم بعده: «و ما نحن بمنشرين» أي بمبعوثين، قال في الكشاف يقال: أنشر الله الموتى و نشرهم إذا بعثهم.
انتهى.
فقولهم: «إن هي إلا موتتنا الأولى» الضمير فيه للعاقبة و النهاية أي ليست عاقبة أمرنا و نهاية وجودنا و حياتنا إلا موتتنا الأولى فنعدم بها و لا حياة بعدها أبدا.
و وجه تقييد الموتة في الآية بالأولى، بأنه ليس بقيد احترازي إذ لا ملازمة بين الأول و الآخر أو بين الأول و الثاني فمن الجائز أن يكون هناك شيء أول و لا ثاني له و لا في قباله آخر، كذا قيل.
و هناك وجه آخر ذكره الزمخشري في الكشاف فقال: فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية لا في الموت فهلا قيل: إلا حياتنا الأولى و ما نحن بمنشرين كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا و ما نحن بمبعوثين، و ما معنى قوله: «إلا موتتنا الأولى»؟ و ما معنى ذكر الأولى؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها و جحدوها و أثبتوا الأولى.
قلت: معناه - و الله الموفق للصواب - أنهم قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة و ذلك قوله عز و جل: «و كنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم» فقالوا: إن هي إلا موتتنا الأولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الأولى دون الموتة الثانية، و ما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الأولى خاصة فلا فرق إذا بين هذا و بين قوله: «إن هي إلا حياتنا الدنيا» في المعنى انتهى.
و يمكن أن يوجه بوجه ثالث و هو أن يقولوا: «إن هي إلا موتتنا الأولى» بعد ما سمعوا قوله تعالى: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين» الآية، و قد تقدم في تفسير الآية أن الإماتة الأولى هي الموتة بعد الحياة الدنيا، و الإماتة الثانية هي التي بعد الحياة البرزخية فهم في قولهم: «إن هي إلا موتتنا الأولى» ينفون الموتة الثانية الملازمة للحياة البرزخية التي هي حياة بعد الموت فإنهم يرون موت الإنسان انعداما له و بطلانا لذاته.
و يمكن أن يوجه بوجه رابع و هو أن يرجع التقيد بالأولى إلى الحكاية دون المحكي و ذلك بأن يكون الذي قالوا إنما هو «إن هي إلا موتتنا» و يكون معنى الكلام أن هؤلاء ينفون الحياة بعد الموت و يقولون: إن هي إلا موتتنا يريدون الموتة الأولى من الموتتين اللتين ذكرنا في قولنا: «قالوا ربنا أمتنا اثنتين» الآية.
و الوجوه الأربع مختلفة في القرب من الفهم فأقربها ثالثها ثم الرابع ثم الأول.
قوله تعالى: «فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين» تتمة كلام القوم و خطاب منهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين به حيث كانوا يذكرون لهم البعث و الإحياء فاحتجوا لرد الإحياء بعد الموت بقولهم: «فأتوا بآبائنا إن كنتم صادقين» أي فليحي آباؤنا الماضون بدعائكم أو بأي وسيلة اتخذتموها حتى نعلم صدقكم في دعواكم أن الأموات سيحيون و أن الموت ليس بانعدام.
قوله تعالى: «أ هم خير أم قوم تبع و الذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين» تهديد للقوم بالإهلاك كما أهلك قوم تبع و الذين من قبلهم من الأمم.
و تبع هذا ملك من ملوك الحمير باليمن و اسمه على ما ذكروا أسعد أبو كرب و قيل: سعد أبو كرب و سيأتي في البحث الروائي نبذة من قصته و في الكلام نوع تلويح إلى سلامة تبع نفسه من الإهلاك.
قوله تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون» ضمير التثنية في قوله: «و ما بينهما» لجنسي السماوات و الأرض و لذا لم يجمع، و الباء في قوله «بالحق» للملابسة أي ما خلقناهما إلا متلبستين بالحق، و جوز بعضهم كونها للسببية أي ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق الذي هو الإيمان و الطاعة و البعث و الجزاء، و لا يخفى بعده.
و مضمون الآيتين حجة برهانية على ثبوت المعاد و تقريرها أنه لو لم يكن وراء هذا العالم عالم ثابت باق بل كان الله لا يزال يوجد أشياء ثم يعدمها ثم يوجد أشياء أخر ثم يعدمها و يحيي هذا ثم يميته و يحيي آخر و هكذا كان لاعبا في فعله عابثا به و اللعب عليه تعالى محال ففعله حق له غرض صحيح فهناك عالم آخر باق دائمي ينتقل إليه الأشياء و ما في هذا العالم الدنيوي الفاني البائد مقدمة للانتقال إلى ذلك العالم و هو الحياة الآخرة.
و قد فصلنا القول في هذا البرهان في تفسير الآية 16 من سورة الأنبياء، و الآية 27 من سورة ص فليراجع.
و قوله: «و لكن أكثرهم لا يعلمون» تقريع لهم بالجهل.
قوله تعالى: «إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين» بيان لصفة اليوم الذي يثبته البرهان السابق و هو يوم القيامة الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين.
و سماه الله يوم الفصل لأنه يفصل فيه بين الحق و الباطل و بين المحق و المبطل و المتقين و المجرمين أو لأنه يوم القضاء الفصل منه تعالى.
و قوله: «ميقاتهم أجمعين» أي موعد الناس أجمعين أو موعد من تقدم ذكره من قوم تبع و قوم فرعون و من تقدمهم و قريش و غيرهم.
قوله تعالى: «يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا و لا هم ينصرون» بيان ليوم الفصل، و المولى هو الصاحب الذي له أن يتصرف في أمور صاحبه و يطلق على من يتولى الأمر و على من يتولى أمره و المولى الأول في الآية هو الأول و الثاني هو الثاني.
و الآية تنفي أولا إغناء مولى عن مولاه يومئذ، و تخبر ثانيا أنهم لا ينصرون و الفرق بين المعنيين أن الإغناء يكون فيما استقل المغني في عمله و لا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك، و النصرة إنما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة و يتم له ذلك بنصرة الناصر.
و الوجه في انتفاء الإغناء و النصر يومئذ أن الأسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة، قال تعالى: «و تقطعت بهم الأسباب»: البقرة: 166، و قال: «فزيلنا بينهم»: يونس: 28.
قوله تعالى: «إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم» استثناء من ضمير «لا هم ينصرون» و الآية من أدلة الشفاعة يومئذ و قد تقدم تفصيل القول في الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
هذا على تقدير رجوع ضمير «لا هم ينصرون» إلى الناس جميعا على ما هو الظاهر.
و أما لو رجع إلى الكفار كما قيل فالاستثناء منقطع و المعنى: لكن من رحمة الله و هم المتقون فإنهم في غني عن مولى يغني عنهم و ناصر ينصرهم.
و أما ما جوزه بعضهم من كونه استثناء متصلا من «مولى» فقد ظهر فساده مما قدمناه فإن الإغناء إنما هو فيما لم يكن عند الإنسان شيء من أسباب النجاة و من كان على هذه الصفة لم يغن عنه مغن و لا استثناء و الشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة و هو الدين المرضي و قد تقدم في بحث الشفاعة، نعم يمكن أن يوجه بما سيجيء في رواية الشحام.
و قوله: «إنه هو العزيز الرحيم» أي الغالب الذي لا يغلبه شيء حتى يمنعه من تعذيب من يريد عذابه، و مفيض الخير على من يريد أن يرحمه و يفيض الخير عليه و مناسبة الاسمين الكريمين لمضامين الآيات ظاهرة.
قوله تعالى: «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم» تقدم الكلام في شجرة الزقوم في تفسير سورة الصافات، و الأثيم من استقر فيه الإثم إما بالمداومة على معصية أو بالإكثار من المعاصي و الآية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار.
قوله تعالى: «كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم» المهل هو المذاب من النحاس و الرصاص و غيرهما، و الغلي و الغليان معروف، و الحميم الماء الحار الشديد الحرارة، و قوله: «كالمهل» خبر ثان لقوله: «إن» كما أن قوله: «طعام الأثيم» خبر أول، و قوله: «يغلي في البطون كغلي الحميم» خبر ثالث، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم» الاعتلاء الزعزعة و الدفع بعنف و سواء الجحيم وسطه، و الخطاب للملائكة الموكلين على النار أي نقول للملائكة خذوا الأثيم و ادفعوه بعنف إلى وسط النار لتحيط به قال تعالى: «و إن جهنم لمحيطة بالكافرين»: التوبة: 49.
قوله تعالى: «ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم» كان المراد بالعذاب ما يعذب به، و إضافته إلى الحميم بيانية و المعنى: ثم صبوا فوق رأسه من الحميم الذي يعذب به.
قوله تعالى: «ذق إنك أنت العزيز الكريم» خطاب يخاطب به الأثيم و هو يقاسي العذاب بعد العذاب، و توصيفه بالعزة و الكرامة على ما هو عليه من الذلة و اللآمة استهزاء به تشديدا لعذابه و قد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة و كرامة لا تفارقانه كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله: «و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50.
قوله تعالى: «إن هذا ما كنتم به تمترون» الامتراء الشك و الارتياب، و الآية تتمة قولهم له: «ذق» إلخ، و فيها تأكيد و إعلام لهم بخطاهم و زلتهم في الدنيا حيث ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، و لذا عبر عن تحمل العذاب بالذوق لما أنه يعبر عن إدراك ألم المولمات و لذة الملذات إدراكا تاما بالذوق.
و يمكن أن تكون الآية استئنافا من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفار بعد ذكر حالهم في يوم القيامة، و ربما أيده قوله: «كنتم به تمترون» بخطاب الجمع و الخطاب في الآيات السابقة بالإفراد.
قوله تعالى: «إن المتقين في مقام أمين» المقام محل القيام بمعنى الثبوت و الركوز و لذا فسر أيضا بموضع الإقامة، و الأمين صفة من الأمن بمعنى عدم إصابة المكروه، و المعنى: أن المتقين - يوم القيامة - ثابتون في محل ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا.
و بذلك يظهر أن نسبة الأمن إلى المقام بتوصيف المقام بالأمين من المجاز في النسبة.
قوله تعالى: «في جنات و عيون» بيان لقوله: «في مقام أمين» و جعل العيون ظرفا لهم باعتبار المجاورة و وجودها في الجنات التي هي ظرف، و جمع الجنات باعتبار اختلاف أنواعها أو باعتبار أن لكل منهم وحده جنة أو أكثر.
قوله تعالى: «يلبسون من سندس و إستبرق متقابلين» السندس الرقيق من الحرير و الإستبرق الغليظ منه و هما معربان من الفارسية.
و قوله: «متقابلين» أي يقابل بعضهم بعضا للاستيناس إذ لا شر و لا مكروه عندهم لكونهم في مقام أمين.
قوله تعالى: «كذلك و زوجناهم بحور عين» أي الأمر كذلك أي كما وصفناه و المراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهن من الزوج بمعنى القرين و هو أصل التزويج في اللغة، و الحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين و بياضها أو ذات المقلة السوداء كالظباء، و العين جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، و ظاهر كلامه تعالى أن الحور العين غير نساء الدنيا الداخلة في الجنة.
قوله تعالى: «يدعون فيها بكل فاكهة آمنين» أي آمنين من ضررها.
قوله تعالى: «لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى و وقاهم عذاب الجحيم» أي إنهم في جنة الخلد أحياء بحياة أبدية لا يعتريها موت.
و قد استشكل في الآية بأن استثناء الموتة الأولى من قوله: «لا يذوقون فيها الموت» يفيد أنهم يذوقون الموتة الأولى فيها، و المراد خلافه قطعا، و بتقرير آخر الموتة الأولى هي موتة الدنيا و قد مضت بالنسبة إلى أهل الجنة، و التلبس في المستقبل بأمر ماض محال قطعا فما معنى استثناء الموتة الأولى من عدم الذوق في المستقبل؟.
و هنا إشكال آخر لم يتعرضوا له و هو أنه قد تقدم في قوله تعالى: «ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين»: المؤمن: 11، إن بين الحياة الدنيا و الساعة موتتين: موتة بالانتقال من الدنيا إلى البرزخ و موتة بالانتقال من البرزخ إلى الآخرة، و الظاهر أن المراد بالموتة الأولى في الآية هي موتة الدنيا الناقلة للإنسان إلى البرزخ فهب أنا أصلحنا استثناء الموتة الأولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن؟ و ما الفرق بينهما و هما موتتان ذاقوهما قبل الدخول في جنة الخلد؟.
و أجيب عن الإشكال الأول بأن الاستثناء منقطع، و المعنى: لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا و قد مضت فعموم قوله: «لا يذوقون فيها الموت» على حاله.
و على تقدير عدم كون الاستثناء منقطعا «إلا» بمعنى سوى و «إلا الموتة الأولى» بدل من «الموت» و ليس من الاستثناء في شيء، و المعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة الأولى من الموت أما الموتة الأولى فقد ذاقوها و محال أن تعود و تذاق و هي أولى.
و أجيب ببعض وجوه أخر لا يعبأ به، و أنت خبير بأن شيئا من الوجهين لا يوجه اتصاف الموتة بالأولى و قد تقدم في تفسير قوله: «إن هي إلا موتتنا الأولى» الآية، وجوه في ذلك.
و أما الإشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدم لما أن هناك موتتين الموتة الأولى و هي الناقلة للإنسان من الدنيا إلى البرزخ و الموتة الثانية و هي الناقلة له من البرزخ إلى الآخرة فإذا كان «إلا» في قوله: «إلا الموتة الأولى» بمعنى سوى و المجموع بدلا من الموت كانت الآية مسوقة لنفي غير الموتة الأولى و هي الموتة الثانية التي هي موتة البرزخ فلا موت في جنة الآخرة لا موتة الدنيا لأنها تحققت لهم قبلا و لا غير موتة الدنيا التي هي موتة البرزخ، و يتبين بهذا وجه تقييد الموتة بالأولى.
و قوله: «و وقاهم عذاب الجحيم» الوقاية حفظ الشيء مما يؤذيه و يضره، فالمعنى: و حفظهم من عذاب الجحيم، و ذكر وقايتهم من عذاب الجحيم مع نفي الموت عنهم تتميم لقسمة المكاره أي إنهم مصونون من الانتقال من دار إلى دار و من نشأة الجنة إلى نشأة غيرها و هو الموت و مصونون من الانتقال من حال سعيدة إلى حال شقية و هي عذاب الجحيم.
قوله تعالى: «فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم» حال مما تقدم ذكره من الكرامة و النعمة، و يمكن أن يكون مفعولا مطلقا أو مفعولا له، و على أي حال هو تفضل منه تعالى من غير استحقاق من العباد استحقاقا يوجب عليه تعالى و يلزمه على الإثابة فإنه تعالى مالك غير مملوك لا يتحكم عليه شيء، و إنما هو وعده لعباده ثم أخبر أنه لا يخلف وعده، و قد تقدم تفصيل القول في هذا المعنى في الأبحاث السابقة.
و قوله: «ذلك هو الفوز العظيم» الفوز هو الظفر بالمراد و كونه فوزا عظيما لكونه آخر ما يسعد به الإنسان.
قوله تعالى: «فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون» تفريع على جميع ما تقدم من أول السورة إلى هنا و فذلكة للجميع، و التيسير التسهيل، و الضمير للكتاب و المراد بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) العربية.
و المعنى: فإنما سهلنا القرآن - أي فهم مقاصده - بالعربية لعلهم - أي لعل قومك - يتذكرون فتكون الآية قريبة المعنى من قوله: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»: الزخرف: 3.
و قيل: المراد من تيسير الكتاب بلسان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إجراؤه على لسانه و هو أمي لا يقرأ و لا يكتب ليكون آية لصدق نبوته، و هو بعيد من سياق الفذلكة.
قوله تعالى: «فارتقب إنهم مرتقبون» كأنه متفرع على ما يتفرع على الآية السابقة، و محصل المعنى أنا يسرناه بالعربية رجاء أن يتذكروا فلم يتذكروا بل هم في شك يلعبون و ينتظرون العذاب الذي لا مرد له من المكذبين فانتظر العذاب إنهم منتظرون له.
فإطلاق المرتقبين على القوم من باب التهكم، و من سخيف القول قول من يقول إن في الآية أمرا بالمتاركة و هي منسوخة بآية السيف.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «أ هم خير أم قوم تبع»: روى سهل بن ساعد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم.
أقول: و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن ابن عباس أيضا، و أيضا عن ابن عساكر عن عطاء بن أبي رباح عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، و روى الوليد بن صبيح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن تبعا قال للأوس و الخزرج: كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي، أما أنا فلو أدركته لخدمته و خرجت معه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن سلام قال: لم يمت تبع حتى صدق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما كان يهود يثرب يخبرونه.
أقول: و الأخبار في أمر تبع كثيرة، و في بعضها أنه أول من كسا الكعبة.
و في الكافي، بإسناده عن زيد الشحام قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) و نحن في الطريق في ليلة الجمعة: اقرأ فإنها ليلة الجمعة قرآنا، فقرأت «إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين - يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا - و لا هم ينصرون إلا من رحم الله» فقال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن و الله الذي استثنى الله فكنا نغني عنهم.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى الشفاعة و قد أخذ الاستثناء عن «مولى» الأول.
و في تفسير القمي، ثم قال: «إن شجرة الزقوم طعام الأثيم» نزلت في أبي جهل بن هشام، و قوله: «كالمهل» قال: المهل الصفر المذاب «يغلي في البطون كغلي الحميم» و هو الذي قد حمي و بلغ المنتهى.
أقول: و من طرق أهل السنة أيضا روايات تؤيد نزول الآية في أبي جهل.
|