بيان
يتلخص غرض السورة في إنذار المرتابين في الكتاب بعذاب الدنيا و عذاب الآخرة و قد سيق بيان ذلك بأنه كتاب مبين نازل من عند الله على من أرسله إلى الناس لإنذارهم و قد نزل رحمة منه تعالى لعباده خير نزول في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم.
غير أن الناس و هم الكفار ارتابوا فيه لاعبين في هوساتهم و سيغشاهم أليم عذاب الدنيا ثم يرجعون إلى ربهم فينتقم منهم بعد فصل القضاء بعذاب خالد.
ثم يذكر لهم تنظيرا لأول الوعيدين قصة إرسال موسى (عليه السلام) إلى قوم فرعون لإنجاء بني إسرائيل و تكذيبهم له و إغراقهم نكالا منه.
ثم يذكر إنكارهم لثاني الوعيدين و هو الرجوع إلى الله في يوم الفصل فيقيم الحجة على أنه آت لا محالة ثم يذكر طرفا من أخباره و ما سيجري فيه على المجرمين و يصيبهم من ألوان عذابه، و ما سيثاب به المتقون من حياة طيبة و مقام كريم.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «حم و الكتاب المبين» الواو للقسم و المراد بالكتاب المبين القرآن.
قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين» المراد بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن ليلة القدر على ما يدل عليه قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة القدر»: القدر: 1، و كونها مباركة ظرفيتها للخير الكثير الذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة، و قد قال تعالى: «و ما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر»: القدر: 3.
و ظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الأرض و ظاهر قوله: «فيها يفرق» الدال على الاستمرار أنها تتكرر و ظاهر قوله تعالى: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن»: البقرة: 185، أنها تتكرر بتكرر شهر رمضان فهي تتكرر بتكرر السنين القمرية و تقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان، و أما إنها أي ليلة هي؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك، و أما الروايات فستوافيك في البحث الروائي التالي.
و المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة» و قوله: «إنا أنزلناه في ليلة القدر»: القدر: 1، و قوله: «شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان»: البقرة: 185، أن النازل هو القرآن كله.
و لا يدفع ذلك قوله: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا»: إسراء: 106، و قوله: «و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا»: الفرقان: 32، الظاهرين في نزوله تدريجا، و يؤيد ذلك آيات أخر كقوله: «فإذا أنزلت سورة محكمة»: سورة محمد: 20، و قوله: «و إذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض»: التوبة: 127 و غير ذلك و يؤيد ذلك أيضا ما لا يحصى من الأخبار المتضمنة لأسباب النزول.
و ذلك أنه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرتين مرة مجموعا و جملة في ليلة واحدة من ليالي شهر رمضان، و مرة تدريجا و نجوما في مدة ثلاث و عشرين سنة و هي مدة دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم).
لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن هذا القرآن المؤلف من السور و الآيات بما فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية لا يقبل النزول دفعة فإن الآيات النازلة في وقائع شخصية و حوادث جزئية مرتبطة بأزمنة و أمكنة و أشخاص و أحوال خاصة لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة زمانا و مكانا و غير ذلك بحيث لو اجتمعت زمانا و مكانا و غير ذلك انقلبت عن تلك الموارد و صارت غيرها فلا يمكن احتمال نزول القرآن و هو على هيئته و حاله بعينها مرة جملة، و مرة نجوما.
فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب أن يفرق بين المرتين بالإجمال و التفصيل فيكون نازلا مرة إجمالا و مرة تفصيلا و نعني بهذا الإجمال و التفصيل ما يشير إليه قوله تعالى: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير»: هود: 1، و قوله: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف: 4، و قد مر الكلام في معنى الإحكام و التفصيل في تفسير سورتي هود و الزخرف.
و قيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان فأول ما نزل من آيات القرآن - و هو سورة العلق أو سورة الحمد - نزل في ليلة القدر.
و هذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة و نزوله التدريجي الذي تدل عليه الآيات السابقة و قد عرفت أن لا منافاة بين الآيات.
على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الآيات.
و قيل: إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل من السماء الدنيا على الأرض تدريجا في ثلاث و عشرين سنة مدة الدعوة النبوية.
و هذا القول مأخوذ من الأخبار الواردة في تفسير الآيات الظاهرة في نزوله جملة و ستمر بك في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و قوله: «إنا كنا منذرين» واقع موقع التعليل، و هو يدل على استمرار الإنذار منه تعالى قبل هذا الإنذار، فيدل على أن نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع، فإنما هو إنذار و الإنذار سنة جارية له تعالى لم تزل تجري في السابقين من طريق الوحي إلى الأنبياء و الرسل و بعثهم لإنذار الناس.
قوله تعالى: «فيها يفرق كل أمر حكيم» ضمير «فيها» لليلة و الفرق فصل الشيء من الشيء بحيث يتمايزان و يقابله الإحكام فالأمر الحكيم ما لا يتميز بعض أجزائه من بعض و لا يتعين خصوصياته و أحواله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21.
فللأمور بحسب القضاء الإلهي مرحلتان: مرحلة الإجمال و الإبهام و مرحلة التفصيل، و ليلة القدر - على ما يدل عليه قوله: «فيها يفرق كل أمر حكيم - ليلة يخرج فيها الأمور من مرحلة الإحكام إلى مرحلة الفرق و التفصيل، و قد نزل فيها القرآن و هو أمر من الأمور المحكمة فرق في ليلة القدر.
و لعل الله سبحانه أطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته و ما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها و أطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة و جملة قبل نزوله تدريجا و مفرقا.
و مآل هذا الوجه اطلاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الأرض و استقراره في مرحلة العين، و على هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرتين بالإجمال و التفصيل كما تقدم في الوجه الأول.
و ظاهر كلام بعضهم أن المراد بقوله: «فيها يفرق كل أمر حكيم» تفصيل الأمور المبينة في القرآن من معارف و أحكام و غير ذلك.
و يدفعه أن ظاهر قوله: «فيها يفرق» الاستمرار و الذي يستمر في هذه الليلة بتكررها تفصيل الأمور الكونية بعد إحكامها و أما المعارف و الأحكام الإلهية فلا استمرار في تفصيلها فلو كان المراد فرقها كان الأنسب أن يقال: «فيها فرق».
و قيل: المراد بكون الأمر حكيما إحكامه بعد الفرق لا الإحكام الذي قبل التفصيل، و المعنى: يقضى في الليلة كل أمر محكم لا يتغير بزيادة أو نقصان أو غير ذلك هذا، و الأظهر ما قدمناه من المعنى.
قوله تعالى: «أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين» المراد بالأمر الشأن و هو حال من الأمر السابق و المعنى فيها يفرق كل أمر حال كونه أمرا من عندنا و مبتدأ من لدنا، و يمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي و المعنى: يفرق فيها كل أمر بأمر منا، و هو على أي حال متعلق بقوله: «يفرق».
و يمكن أن يكون متعلقا بقوله: «أنزلناه» أي حال كون الكتاب أمرا أو بأمر من عندنا، و قوله: «إنا كنا مرسلين» لا يخلو من تأييد لذلك، و يكون تعليلا له و المعنى: إنا أنزلناه أمرا من عندنا لأن سنتنا الجارية إرسال الأنبياء و الرسل.
قوله تعالى: «رحمة من ربك إنه هو السميع العليم» أي إنزاله رحمة من ربك أو أنزلناه لأجل إفاضة الرحمة على الناس أو لاقتضاء رحمة ربك إنزاله فقوله: «رحمة» حال على المعنى الأول و مفعول له على الثاني و الثالث.
و في قوله: «من ربك» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و وجهه إظهار العناية بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنه هو الذي أنزل عليه القرآن و هو المنذر المرسل إلى الناس.
و قوله: «إنه هو السميع العليم» أي السميع للمسائل و العليم بالحوائج فيسمع مسألتهم و يعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى ربك فينزل الكتاب و يرسل الرسول رحمة منه لهم.
قوله تعالى: «رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم موقنين» لما كانت الوثنية يرون أن لكل صنف من الخلق إلها أو أكثر و ربما اتخذ قوم منهم إلها غير ما يتخذه غيرهم عقب قوله: «من ربك» بقوله: «رب السماوات» إلخ، لئلا يتوهم متوهم منهم أن ربوبيته للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست بالاختصاص كالتي بينهم بل هو تعالى ربه و رب السماوات و الأرض و ما بينهما، و لذلك عقبه أيضا في الآية التالية بقوله: «لا إله إلا هو».
و قوله: «إن كنتم موقنين» هذا الاشتراط كما ذكره الزمخشري من قبيل قولنا هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه و اشتهروا سخاءه أن بلغك حديثه و حدثت بقصته فالمعنى هو الذي يعرفه الموقنون بأنه رب السماوات و الأرض و ما بينهما إن كنتم منهم عرفتموه بأنه رب كل شيء.
قوله تعالى: «لا إله إلا هو يحيي و يميت ربكم و رب آبائكم الأولين» لما كان مدلول الآية السابقة انحصار الربوبية و هي الملك و التدبير فيه تعالى و الألوهية و هي المعبودية بالحق من لوازم الربوبية عقبه بكلمة التوحيد النافية لكل إله دونه تعالى.
و قوله: «يحيي و يميت» من أخص الصفات به تعالى و هما من شئون التدبير، و في ذكرهما نوع تمهيد لما سيأتي من إنذارهم بالمعاد.
و قوله: «ربكم و رب آبائكم الأولين» فيه كمال التصريح بأنه ربهم و رب آبائهم فليعبدوه و لا يتعللوا باتباع آبائهم في عبادة الأصنام، و لتكميل التصريح سيقت الجملة بالخطاب فقيل: «ربكم و رب آبائكم».
و هما أعني قوله: «يحيي و يميت» و قوله: «ربكم» خبران لمبتدإ محذوف و التقدير هو يحيي و يميت إلخ.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة» و الليلة المباركة هي ليلة القدر: و، هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل و زرارة و محمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة» قال: نعم ليلة القدر و هي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله تعالى: «فيها يفرق كل أمر حكيم» قال: يقدر في ليلة القدر كل شيء يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير و شر و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق فما قدر في تلك السنة و قضي فهو المحتوم و لله تعالى فيه المشية.
أقول: قوله: فهو المحتوم و لله فيه المشية أي أنه محتوم من جهة الأسباب و الشرائط فلا شيء يمنع عن تحققه إلا أن يشاء الله ذلك.
و في البصائر، عن عباس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن النصف من شعبان فقال: ما عندي فيه شيء و لكن إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قسم فيها الأرزاق و كتب فيها الآجال و خرج فيها صكاك الحاج و اطلع الله إلى عباده فغفر الله لهم إلا شارب خمر مسكر. فإذا كانت ليلة ثلاث و عشرين فيها يفرق كل أمر حكيم ثم ينهى ذلك و يمضي ذلك. قلت: إلى من؟ قال: إلى صاحبكم و لو لا ذلك لم يعلم.
و في الدر المنثور، أخرج محمد بن نصر و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: «فيها يفرق كل أمر حكيم» قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج: يحج فلان و يحج فلان.
أقول: و الأخبار في ليلة القدر و ما يقضى فيها و في تعيينها كثيرة جدا و سيأتي عمدتها في تفسير سورة القدر إن شاء الله تعالى.
|