بيان
من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيها حث و ترغيب للمؤمنين أن لا يطيعوا غير ربهم فإنه هو مولاهم و ناصرهم، و إشهاد لهم على صدق وعده و أن الهزيمة و الخذلان لم يكن يوم أحد إلا من قبل أنفسهم، و تعديهم حدود ما أمرهم الله به و دعاهم رسوله إليه و أن الله سبحانه مع ذلك عفا عن جرائمهم لأنه غفور حليم.
قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا إن تطيعوا الذين كفروا» إلى آخر الآيتين لا يبعد أن يستفاد من السياق أن الكفار كانوا أيام نزول الآيات بعد غزوة أحد يلقون إلى المؤمنين - في صورة النصح - ما يثبطهم عن القتال: و يلقي التنازع و التفرقة و تشتت الكلمة و اختلافها بينهم، و ربما أيده ما في آخر هذه الآيات من قوله الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم «إلى أن قال» ذلكم الشيطن يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين الآيات: «173 - 175».
و ربما قيل: إن الآية إشارة إلى قول اليهود و المنافقين يوم أحد: «إن محمدا قد قتل فارجعوا إلى عشائركم»، و ليس بشيء.
ثم لما بين أن إطاعتهم للذين كفروا و الميل إلى ولايتهم يهديهم إلى الخسران الذي هو رجوعهم إلى أعقابهم كافرين أضرب عنه بقوله: بل الله موليكم و هو خير الناصرين.
قوله تعالى: «سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله» «الخ» وعد جميل للمؤمنين بأنهم سينصرون بالرعب، و لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكره فيما حباه الله تعالى و خصه به من بين الأنبياء على ما رواه الفريقان.
و قوله: بما أشركوا، معناه: اتخذوا له ما ليس معه برهان شريكا، و مما يكرره القرآن أن ليس لإثبات الشريك لله سلطان، و من إثبات الشريك نفي الصانع و إسناد التأثير و التدبير إلى غيره كالدهر و المادة.
قوله تعالى: «و لقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم» إلى آخر الآية الحس - بالفتح -: القتل على وجه الاستيصال.
و لقد اتفقت الروايات و ضبطه التاريخ في قصة غزوة أحد أن المؤمنين غلبوهم و ظهروا عليهم في أول الأمر و وضعوا فيهم السيوف و شرعوا في نهب أموالهم حتى إذا خلى الرماة مكانهم في المكمن حمل خالد بن الوليد فيمن معه على عبد الله بن جبير و من بقي معه من الرماة فقتلوهم، و حملوا على المؤمنين من ورائهم، و تراجع المشركون عن هزيمتهم و وضعوا السيوف في أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قتلوا منهم سبعين ثم هزموهم أشد هزيمة.
فقوله تعالى: و لقد صدقكم الله وعده، تثبيت صدق وعده بالنصر بشرط التقوى و الصبر، و قوله: إذ تحسونهم بإذنه، يقبل الانطباق على ما رزقهم في أول الأمر من الظهور على عدوهم يوم أحد، و قوله: حتى إذا فشلتم و تنازعتم في الأمر و عصيتم من بعد ما أريكم ما تحبون، ينطبق على ما صنعه الرماة حيث تنازعوا فيما بينهم في ترك مراكزهم و اللحوق بمن مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لنيل الغنيمة ففشلوا و تنازعوا في الأمر و عصوا أمر النبي بأن لا يتركوا مراكزهم على أي حال، و على هذا فلا بد من تفسير الفشل بضعف الرأي، و أما كونه بمعنى الجبن فلا ينطبق عليهم إذ لم يكن ذلك منهم جبنا بل طمعا في الغنيمة، و لو كان الفشل بمعنى الجبن كان منطبقا على حال جميع القوم و يكون على هذا «ثم» في قوله: ثم صرفكم، مفيدة للتراخي الرتبي دون الزماني.
و يدل لفظ التنازع على أن الكل لم يكونوا مجمعين على الفشل و المعصية بل كان بعضهم يصر على الإطاعة و البقاء على الائتمار و لذا قال تعالى بعده: منكم من يريد الدنيا و منكم من يريد الآخرة.
قوله تعالى: «ثم صرفكم عنهم ليبتليكم»، أي كفكم عن المشركين بعد ظهور الفشل و التنازع و المعصية، و بالجملة بعد وقوع الاختلاف بينكم ليمتحنكم و يختبر إيمانكم و صبركم في الله إذ الاختلاف في القلوب هو أقوى العوامل المقتضية لبسط الابتلاء ليتميز المؤمن من المنافق، و المؤمن الراسخ في إيمانه الثابت على عزيمته من المتلون السريع الزوال، و مع ذلك فإن الله سبحانه عفا عنهم بفضله كما قال: و لقد عفا عنكم.
قوله تعالى: «إذ تصعدون و لا تلون على أحد و الرسول يدعوكم في أخريكم» الإصعاد هو الذهاب و الإبعاد في الأرض بخلاف الصعود فهو الارتقاء إلى مكان عال يقال: أصعد في جانب البر أي ذهب فيه بعيدا، و صعد في السلم أي ارتقى، و قيل: إن الإصعاد ربما استعمل بمعنى الصعود.
و الظرف متعلق بمقدر أي اذكروا إذ تصعدون، أو بقوله: صرفكم، أو بقوله ليبتليكم، - على ما قيل - و قوله: و لا تلون، من اللي بمعنى الالتفات و الميل قال في المجمع: و لا يستعمل إلا في النفي لا يقال: لويت على كذا، انتهى.
و قوله: و الرسول يدعوكم في أخريكم، الأخرى مقابل الأولى و كون الرسول يدعو و هو في أخراهم يدل على أنهم تفرقوا عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم سواد ممتد على طوائف أولاهم مبتعدون عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخراهم بقرب منه، و هو يدعوهم من غير أن يلتفت إليه لا أولاهم و لا أخراهم فتركوه - (صلى الله عليه وآله وسلم) - بين جموع المشركين و هم يصعدون فرارا من القتل.
نعم قوله تعالى قبيل هذا: و سيجزي الله الشاكرين - و قد مر تفسيره - يدل على أن منهم من لم يتزلزل في عزيمته و لم ينهزم لا في أول الانهزام، و لا بعد شيوع خبر قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يدل عليه قوله: أ فإن مات أو قتل انقلبتم الآية.
و مما يدل عليه قوله: و لا تلون على أحد و الرسول يدعوكم في أخريكم إن خبر قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما انتشر بينهم بعد انهزامهم و إصعادهم.
قوله تعالى: «فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم الخ أي جازاكم غما بغم ليصرفكم عن الحزن على كذا، و هذا الغم الذي أثيبوا به كيفما كان هو نعمة منه تعالى بدليل قوله: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم و لا ما أصابكم، فإن الله تعالى ذم في كتابه هذا الحزن كما قال: لكيلا تأسوا على ما فاتكم: «الحديد - 23» فهذا الغم الذي يصرفهم عن ذاك الحزن المذموم نعمة و موهبة فيكون هو الغم الطارىء عليهم من جهة الندامة على ما وقع منهم و التحسر على ما فاتهم من النصر بسبب الفشل، و يكون حينئذ الغم الثاني في قوله: بغم، الغم الآتي من قبل الحزن المذكور، و الباء للبدلية، و المعنى: جازاكم غما بالندامة و الحسرة على فوت النصر بدل غم بالحزن على ما فاتكم و ما أصابكم.
و من الجائز أن يكون قوله: أثابكم مضمنا معنى الإبدال فيكون المعنى: فأبدلكم غم الحزن من غم الندامة و الحسرة مثيبا لكم، فينعكس المعنى في الغمين بالنسبة إلى المعنى السابق.
و على كل من المعنيين يكون قوله: فأثابكم، تفريعا على قوله: و لقد عفا عنكم، و يتصل به ما بعده أعني قوله: ثم أنزل عليكم، أحسن اتصال، و الترتيب: أنه عفا عنكم فأثابكم غما بغم ليصونكم عن الحزن الذي لا يرتضيه لكم ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا.
و هاهنا وجه آخر يساعده ظهور السياق في تفريع قوله: فأثابكم، على ما يتصل به بمعنى أن يكون الغم هو ما يتضمنه قوله: إذ تصعدون، و المراد بقوله: بغم هو ما أدى إليه التنازع و المعصية و هو إشراف المشركين عليهم من ورائهم، و الباء للسببية و هذا معنى حسن، و على هذا يكون المراد بقوله: لكيلا تحزنوا «الخ»: نبين لكم حقيقة الأمر لئلا تحزنوا، كما في قوله تعالى: ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما ءاتاكم الآية: «الحديد - 23».
فهذا ما يستقيم به نظم الآية و اتساق الجمل المتعاقبة، و للمفسرين احتمالات كثيرة في الآية من حيث ما عطف عليه قوله: فأثابكم، و من حيث معنى الغم الأول و الثاني و معنى الباء و معنى قوله: لكيلا، ليست من الاستقامة على شيء و لا جدوى في نقلها و البحث عنها.
و على ما احتملناه من أحد معنيين يكون المراد مما فات في قوله: لكيلا تحزنوا على ما فاتكم هو الغلبة و الغنيمة، و مما أصاب ما أصاب القوم من القتل و الجرح.
قوله تعالى: «ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم» الأمنة بالتحريك الأمن، و النعاس ما يتقدم النوم من الفتور و هو نوم خفيف، و نعاسا بدل من أمنة للملازمة عادة، و ربما احتمل أن يكون أمنة جمع آمن كطالب و طلبة، و هو حينئذ حال من ضمير عليكم، و نعاسا مفعول قوله: أنزل، و - الغشيان -: الإحاطة.
و الآية تدل على أن هذا النعاس النازل إنما غشي طائفة من القوم، و لم يعم الجميع بدليل قوله: طائفة منكم، و هؤلاء هم الذين رجعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد الانهزام و الإصعاد لما ندموا و تحسروا، و حاشا أن يعفو الله عنهم عفو رحمة و هم في حال الفرار عن الزحف و هو من كبائر المعاصي و الآثام و قد قال: و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين، و حاشا أن تشمل عنايته تعالى على مقترف الفحشاء و المنكر حين يقترف من قبل أن يتوب و قد عنى في حقهم حين أثابهم غما بغم لكيلا يحزنوا فيتقذر قلوبهم بما لا يرتضيه الله سبحانه على ما مر بيانه.
فهؤلاء بعض القوم و هم النادمون على ما فعلوا الراجعون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المحتفون به، و كان ذلك إنما كان حين فارق (صلى الله عليه وآله وسلم) جموع المشركين و عاد إلى الشعب، و إن كان عودهم إليه تدريجا بعد العلم بأنه لم يقتل.
و أما البعض الآخر من القوم فهم الذين يذكرهم الله بقوله: و طائفة قد أهمتهم أنفسهم.
قوله تعالى: «و طائفة قد أهمتهم أنفسهم» هذه طائفة أخرى من المؤمنين و نعني بكونهم من المؤمنين أنهم غير المنافقين الذين ذكرهم الله أخيرا بقوله: و ليعلم الذين نافقوا و قيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم الآية و هم الذين فارقوا جماعة المؤمنين في أول الأمر قبل القتال و انخذلوا فهؤلاء المنافقون لهم شأن آخر سينبىء الله بذلك.
و هؤلاء الطائفة الثانية الموصوفون بأنهم قد أهمتهم أنفسهم لم يكرمهم الله بما أكرم به الطائفة الأولى من العفو و إثابة الغم ثم الأمنة و النعاس بل وكلهم إلى أنفسهم فأهمتهم أنفسهم و نسوا كل شيء دونها.
و قد ذكر الله تعالى من أوصافهم وصفين اثنين و إن كان أحدهما من لوازم الآخر و فروعه، فذكر أنهم أهمتهم أنفسهم، و ليس معناه أنهم يريدون سعادة أنفسهم بمعناها الحقيقي فإن المؤمنين أيضا لا يريدون إلا سعادة أنفسهم فالإنسان بل كل ذي همة و إرادة لا يريد إلا نفسه البتة، بل المراد: أن ليس لهم هم إلا حفظ حياتهم الدنيا و عدم الوقوع في شبكة القتل فهم لا يريدون بدين أو غيره إلا إمتاع أنفسهم في الدنيا و إنما ينتحلون بالدين ظنا منهم أنه عامل غير مغلوب، و أن الله لا يرضى بظهور أعدائه عليه، و إن كانت الأسباب الظاهرية لهم فهؤلاء يستدرون الدين ما در لهم، و إن انقلب الأمر و لم يسعدهم الجد انقلبوا على أعقابهم القهقرى.
قوله تعالى: «يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية» إلى قوله: «لله» أي ظنوا بالله أمرا ليس بحق بل هو من ظنون الجاهلية فهم يصفونه بوصف ليس بحق بل من الأوصاف التي كان يصفه بها أهل الجاهلية، و هذا الظن أيا ما كان هو شيء يناسبه و يلازمه قولهم: هل لنا من الأمر من شيء، و يكشف عنه ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم به، و هو قوله: قل إن الأمر كله لله فظاهر هذا الجواب أنهم كانوا يظنون أن بعض الأمر لهم و لذا لما غلبوا و فشا فيهم القتل تشككوا فقالوا: هل لنا من الأمر من شيء.
و بذلك يظهر أن الأمر الذي كانوا يرونه لأنفسهم هو الظهور و الغلبة، و إنما كانوا يظنونه لأنفسهم من جهة إسلامهم فهم قد كانوا يظنون أن الدين الحق لا يغلب و لا يغلب المتدين به لما أن على الله أن ينصره من غير قيد و شرط و قد وعدهم به.
و هذا هو الظن بغير الحق، الذي هو ظن الجاهلية فإن وثنية الجاهلية كانت تعتقد أن الله تعالى خالق كل شيء و أن لكل صنف من أصناف الحوادث كالرزق و الحياة و الموت و العشق و الحرب و غيرها، و كذا لكل نوع من الأنواع الكونية كالإنسان و الأرض و البحار و غيرها ربا يدبر أمرها لا يغلب على إرادته، و كانوا يعبدون هؤلاء الأرباب ليدروا لهم الرزق، و يجلبوا لهم السعادة، و يقوهم من الشرور و البلايا، و الله سبحانه كالملك العظيم يفوض كل صنف من أصناف رعيته و كل شطر من أشطار ملكه إلى وال تام الاختيار له أن يفعل ما يشاؤه في منطقة نفوذه و حوزة ولايته.
و إذا ظن الظان أن الدين الحق لا يصير مغلوبا في ظاهر تقدمه و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - و هو أول من يتحمله من ربه و يحمل أثقاله - لا يقهر في ظاهر دعوته أو أنه لا يقتل أو لا يموت فقد ظن بالله غير الحق ظن الجاهلية فاتخذ لله أندادا، و جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربا وثنيا مفوضا إليه أمر الغلبة و الغنيمة، مع أن الله سبحانه واحد لا شريك له، إليه يرجع الأمر كله و ليس لأحد من الأمر شيء، و لذلك لما قال تعالى فيما تقدم من الآيات: ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين، قطع الكلام بالاعتراض فقال - يخاطب نبيه -: ليس لك من الأمر شيء لئلا يتوهم أن له (صلى الله عليه وآله وسلم) دخلا في قطع أو كبت، و الله سبحانه هو الذي وضع سنة الأسباب و المسببات، فما كان سببه أقوى كان وقوعه أرجح سواء في ذلك الحق و الباطل، و الخير و الشر، و الهداية و الضلالة، و العدل و الظلم، و لا فرق فيه بين المؤمن و الكافر، و المحبوب و المبغوض، و محمد و أبي سفيان.
نعم لله سبحانه عناية خاصة بدينه و بأوليائه يجري نظام الكون بسببها جريا ينجر إلى ظهور الدين و تمهد الأرض لأوليائه و العاقبة للمتقين.
و أمر النبوة و الدعوة ليس بمستثنى من هذه السنة الجارية، و لذلك كلما توافقت الأسباب العادية على تقدم هذا الدين و ظهور المؤمنين كبعض غزوات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان ذلك، و حيث لم يتوافق الأسباب كتحقق نفاق أو معصية لأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو فشل أو جزع كانت الغلبة و الظهور للمشركين على المؤمنين، و كذلك الحال في أمر سائر الأنبياء مع الناس فإن أعداء الأنبياء لكونهم أهل الدنيا، و قصرهم مساعيهم في عمارة الدنيا، و بسط القدرة، و تشديد القوة، و جمع الجموع كانت الغلبة الظاهرية و الظهور لهم على الأنبياء، فمن مقتول كزكريا، و مذبوح كيحيى، و مشرد كعيسى إلى غير ذلك.
نعم إذا توقف ظهور الحق بحقانيته على انتقاض نظام العادة دون السنة الواقعية و بعبارة أخرى دار أمر الحق بين الحياة و الموت كان على الله سبحانه أن يقيم صلب الدين و لا يدعه تدحض حجته، و قد مر شطر من هذا البحث في القول على الإعجاز في الجزء الأول من الكتاب، و في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.
و لنرجع إلى ما كنا فيه: فقول هؤلاء الطائفة الذين أهمتهم أنفسهم: هل لنا من الأمر من شيء، تشكك في حقية الدين و قد أدرجوا في هيكله روح الوثنية على ما مر بيانه، فأمر سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم فقال: قل إن الأمر كله لله، و قد خاطب نبيه قبل ذلك بقوله: ليس لك من الأمر شيء فبين بذلك أن ملة الفطرة و دين التوحيد هو الذي لا يملك فيه الأمر إلا الله جل شأنه، و باقي الأشياء و منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست بمؤثرة شيئا بل هي في حيطة الأسباب و المسببات و السنة الإلهية التي تؤدي إلى جريان ناموس الابتلاء و الامتحان.
قوله تعالى: «يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان» «إلخ»، و هذا توصيف لهم بما هو أشد من قولهم: هل لنا من الأمر من شيء، فإنه كان تشكيكا في صورة السؤال، و هذا أعني قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ترجيح في هيئة الاستدلال، و لذلك أبدوا قولهم الأول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أخفوا قولهم الثاني لاشتماله على ترجيح الكفر على الإسلام.
فأمر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم فقال: قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم، فبين لهم: أولا: أن قتل من قتل منكم في المعركة ليس لعدم كونكم على الحق، و عدم كون الأمر لكم على ما تزعمون بل لأن القضاء الإلهي و هو الذي لا مناص من نفوذه و مضيه جرى على أن يضطجع هؤلاء المقتولون في هذه المضاجع، فلو لم تكونوا خرجتم إلى القتال لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم، فلا مفر من الأجل المسمى الذي لا تستأخرون عنه ساعة و لا تستقدمون.
و ثانيا: أن سنة الله جرت على عموم الابتلاء و التمحيص و هي واقعة بهم و بكم لا محالة، فلم يكن بد من خروجكم و وقوع هذا القتال حتى يحل المقتولون محلهم و ينالوا درجاتهم، و تحلوا أنتم محلكم فيتعين لكم أحد جانبي السعادة و الشقاوة بامتحان ما في صدوركم من الأفكار، و تخليص ما في قلوبكم من الإيمان و الشرك.
و من عجيب ما ذكر في هذه الآية قول عدة من المفسرين إن المراد بهذه الطائفة التي تشرح الآية حالها هم المنافقون مع ظهور سياق الآيات في أنها تصف حال المؤمنين، و أما المنافقون أعني أصحاب عبد الله بن أبي المنخذلين في أول الوقعة قبل وقوع القتال فإنما يتعرض لحالهم فيما سيأتي.
اللهم إلا أن يريدوا بالمنافقين الضعفاء الإيمان الذين يعود عقائدهم المتناقضة بحسب اللازم إلى إنكار الحق قلبا و الاعتراف به لسانا و هم الذين يسميهم الله بالذين في قلوبهم مرض قال تعالى: إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم -: الأنفال - 49، و قال: و فيكم سماعون لهم -: التوبة 47، أو يريدوا أن جميع المنافقين لم يرجعوا مع أصحاب عبد الله بن أبي إلى المدينة.
و أعجب منه قول بعض آخر إن هذه الطائفة كانوا مؤمنين، و أنهم كانوا يظنون أن أمر النصر و الغلبة إليهم لكونهم على دين الله الحق لما رأوا من الفتح و الظفر و نزول الملائكة يوم بدر فقولهم: هل لنا من الأمر من شيء، و قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء «إلخ» اعتراف منهم بأن الأمر إلى الله لا إليهم و إلا لم يستأصلهم القتل.
و يرد عليه عدم استقامة الجواب حينئذ و هو قوله تعالى: قل إن الأمر كله لله، و قوله: قل لو كنتم في بيوتكم «إلخ»، و قد أحس بعض هؤلاء بهذا الإشكال فأجاب عنه بما هو أردأ من أصل كلامه و قد عرفت ما هو الحق من المعنى.
قوله تعالى: «إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا» استزلال الشيطان إياهم إرادته وقوعهم في الزلة، و لم يرد ذلك منهم إلا بسبب بعض ما كسبوا في نفوسهم و من أعمالهم فإن السيئات يهدي بعضها إلى بعض فإنها مبنية على متابعة هوى النفس، و هوى النفس للشيء هوى لما يشاكله.
و أما احتمال كون الباء للآلة و كون ما كسبوا عين توليهم يوم الالتقاء فبعيد من ظاهر اللفظ فإن ظاهر «ما كسبوا» تقدم الكسب على التولي و الاستزلال.
و كيف كان فظاهر الآية أن بعض ما قدموا من الذنوب و الآثام مكن الشيطان أن أغواهم بالتولي و الفرار، و من هنا يظهر أن احتمال كون الآية ناظرة إلى نداء الشيطان يوم أحد بقتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما في بعض الروايات ليس بشيء إذ لا دلالة عليه من جهة اللفظ.
قوله تعالى: «و لقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم» هذا العفو هو عن الذين تولوا، المذكورين في صدر الآية، و الآية مطلقة تشمل جميع من تولى يومئذ فتعم الطائفتين جميعا أعني الطائفة التي غشيهم النعاس و الطائفة التي أهمتهم أنفسهم، و الطائفتان مختلفتان بالتكرم بإكرام الله و عدمه، و لكونهما مختلفتين لم يذكر مع هذا العفو الشامل لهما معا جهات الإكرام التي اشتمل عليها العفو المتعلق بالطائفة الأولى على ما تقدم بيانه.
و من هنا يظهر أن هذا العفو المذكور في هذه الآية غير العفو المذكور في قوله: و لقد عفا عنكم، و من الدليل على اختلاف العفوين ما في الآيتين من اختلاف اللحن ففرق واضح بين قوله تعالى: و لقد عفا عنكم و الله ذو فضل على المؤمنين حيث إنه كلام مشعر بالفضل و الرأفة و قد سماهم مؤمنين ثم ذكر إثابتهم غما بغم لكيلا يحزنوا ثم إنزاله عليهم أمنة نعاسا، و بين قوله تعالى: و لقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم حيث ذكر العفو و سكت عن جميع ما أكرم الطائفة الأولى به ثم ختم الكلام بذكر حلمه و هو أن لا يعجل في العقوبة و العفو الذي مع الحلم إغماض مع استبطان سخط فإن قلت: إنما سوى بين الطائفتين من سوى بينهما لمكان ورود العفو عنهما جميعا.
قلت: معنى العفو مختلف في الموردين بحسب المصداق و إن صدق على الجميع مفهوم العفو على حد سواء، و لا دليل على كون العفو و المغفرة و ما يشابههما في جميع الموارد سنخا واحدا، و قد بينا وجه الاختلاف.
معنى العفو و المغفرة في القرآن
العفو على ما ذكره الراغب - و هو المعنى المتحصل من موارد استعمالاته - هو القصد لتناول الشيء، يقال: عفاه و اعتفاه أي قصده متناولا ما عنده، و عفت الريح الدار قصدتها متناولة آثارها، انتهى و كان قولهم: عفت الدار إذ بلت مبني على عناية لطيفة و هي أن الدار كأنها قصدت آثار نفسها و ظواهر زينتها فأخذته فغابت عن أعين الناظرين، و بهذه العناية ينسب العفو إليه تعالى كأنه تعالى يعني بالعبد فيأخذ ما عنده من الذنب و يتركه بلا ذنب.
و من هنا يظهر أن المغفرة - و هو الستر - متفرع عليه بحسب الاعتبار فإن الشيء كالذنب مثلا يؤخذ و يتناول أولا ثم يستر عليه فلا يظهر ذنب المذنب لا عند نفسه و لا عند غيره، قال تعالى: و اعف عنا و اغفر لنا: «البقرة: 286»، و قال: و كان الله عفوا غفورا: «النساء: 99».
و قد تبين بذلك أن العفو و المغفرة و إن كانا مختلفين متفرعا أحدهما على الآخر بحسب العناية الذهنية لكنهما بحسب المصداق واحد، و أن معناهما ليس من المعاني المختصة به تعالى بل يصح إطلاقهما على غيره تعالى بما لهما من المعنى كما قال تعالى: إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح: «البقرة: 237»، و قال تعالى: قل للذين ءامنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله: «الجاثية: 14»، و قال تعالى: فاعف عنهم و استغفر لهم و شاورهم في الأمر الآية فأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعفوا عنهم فلا يرتب الأثر على معصيتهم من المؤاخذة و العتاب و الإعراض و نحو ذلك، و أن يستغفر فيسأل الله أن يغفر لهم - و هو تعالى فاعله لا محالة - فيما يرجع إليه من آثار الذنب.
و قد تبين أيضا أن معنى العفو و المغفرة يمكن أن يتعلق بالآثار التكوينية و التشريعية و الدنيوية و الأخروية جميعا، قال تعالى: و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير: «الشورى: 30»، و الآية شاملة للآثار و العواقب الدنيوية قطعا، و مثله قوله تعالى: و الملائكة يسبحون بحمد ربهم و يستغفرون لمن في الأرض: «الشورى: 5»، على ظاهر معناه، و كذا قول آدم و زوجته فيما حكاه الله عنهما: ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين: «الأعراف: 23»، بناء على أن ظلمهما كان معصية لنهي إرشادي لا مولوي.
و الآيات الكثيرة القرآنية دالة على أن القرب و الزلفى من الله، و التنعم بنعم الجنة يتوقف على سبق المغفرة الإلهية و إزالة رين الشرك و الذنوب بتوبة و نحوها كما قال تعالى: كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون: «المطففين: 14» و قال تعالى: و من يؤمن بالله يهد قلبه: «التغابن: 11».
و بالجملة العفو و المغفرة من قبيل إزالة المانع و رفع المنافي المضاد، و قد عد الله سبحانه الإيمان و الدار الآخرة حياة، و آثار الإيمان و أفعال أهل الآخرة و سيرهم الحيوي نورا كما قال: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: «الأنعام: 122»، و قال تعالى: و إن الدار الآخرة لهي الحيوان: «العنكبوت: 64»، فالشرك موت و المعاصي ظلمات، قال تعالى: أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور: «النور: 40»، فالمغفرة إزالة الموت و الظلمة و إنما تكون بحياة و هو الإيمان، و نور و هو الرحمة الإلهية.
فالكافر لا حياة له و لا نور، و المؤمن المغفور له له حياة و نور، و المؤمن إذا كان معه سيئات حي لم يتم له نوره و إنما يتم بالمغفرة، قال تعالى: نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا و اغفر لنا: «التحريم - 8».
فظهر من جميع ما تقدم أن مصداق العفو و المغفرة إذا نسب إليه تعالى في الأمور التكوينية كان إزالة المانع بإيراد سبب يدفعه، و في الأمور التشريعية إزالة السبب المانع عن الإرفاق و نحوه، و في مورد السعادة و الشقاوة إزالة المانع عن السعادة.
|