بيان
تذكر الآيات ارتيابهم في كتاب الله بعد ما ذكرت أنه كتاب مبين نازل في خير ليلة على رسوله لغرض الإنذار رحمة من الله، ثم تهددهم بعذاب الدنيا و بطش يوم القيامة و تتمثل لهم بقصة إرسال موسى إلى قوم فرعون و تكذيبهم له و إغراقهم.
و لا تخلو القصة من إيماء إلى أنه تعالى سينجي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين به من عتاة قريش بإخراجهم من مكة ثم إهلاك صناديد قريش في تعقيبهم النبي و المؤمنين به.
قوله تعالى: «بل هم في شك يلعبون» ضمير الجمع لقوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الإضراب عن محذوف يدل عليه السياق السابق أي إنهم لا يوقنون و لا يؤمنون بما ذكر من رسالة الرسول و صفة الكتاب الذي أنزل عليه بل هم في شك و ارتياب فيه يلعبون بالاشتغال بدنياهم، و ذكر الزمخشري أن الإضراب عن قوله: «إن كنتم موقنين».
قوله تعالى: «فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس» الارتقاب الانتظار و هذا وعيد بالعذاب و هو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.
و اختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الآية.
فقيل: المراد به المجاعة التي ابتلي بها أهل مكة فإنهم لما أصروا على كفرهم و أذاهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين به دعا عليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: اللهم سنين كسني يوسف فأجدبت الأرض و أصابت قريشا مجاعة شديدة، و كان الرجل لما به من الجوع يرى بينه و بين السماء كالدخان و أكلوا الميتة و العظام ثم جاءوا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم و قومك قد هلكوا، و وعدوه إن كشف الله عنهم الجدب أن يؤمنوا، فدعا و سأل الله لهم بالخصب و السعة فكشف عنهم ثم عادوا إلى كفرهم و نقضوا عهدهم.
و قيل: إن الدخان المذكور في الآية من أشراط الساعة و هو لم يأت بعد و هو يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتى أن رءوسهم تكون كالرأس الحنيذ.
و يصيب المؤمن منه مثل الزكمة و تكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص و يمكث ذلك أربعين يوما.
و ربما قيل: إن المراد بيوم الدخان يوم فتح مكة حين دخل جيش المسلمين مكة فارتفع الغبار كالدخان المظلم، و ربما قيل: المراد به يوم القيامة، و القولان كما ترى.
و قوله: «يغشى الناس» أي يشملهم و يحيط بهم، و المراد بالناس أهل مكة على القول الأول، و عامة الناس على القول الثاني.
قوله تعالى: «هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون» حكاية قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين: هذا عذاب أليم و يسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيته و إظهار الإيمان بالدعوة الحقة فيقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
قوله تعالى: «أنى لهم الذكرى و قد جاءهم رسول مبين» أي من أين لهم أن يتذكروا و يذعنوا بالحق و الحال أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل الارتياب و هو محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في الآية رد صدقهم في وعدهم.
قوله تعالى: «ثم تولوا عنه و قالوا معلم مجنون» التولي الإعراض، و ضمير «عنه» للرسول و «معلم مجنون» خبران لمبتدإ محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول و المعنى: ثم أعرضوا عن الرسول و قالوا هو معلم مجنون فرموه أولا بأنه معلم يعلمه غيره فيسند ما تعلمه إلى الله سبحانه، قال تعالى: «و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر»: النحل: 103، و ثانيا بأنه مجنون مختل العقل.
قوله تعالى: «إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون» أي إنا كاشفون للعذاب زمانا أنكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر و التكذيب هذا بناء على القول الأول و الآية تأكيد لرد صدقهم فيما وعدوه من الإيمان.
و أما على القول الثاني فالأقرب أن المعنى: أنكم عائدون إلى العذاب يوم القيامة.
قوله تعالى: «يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون» البطش - على ما ذكره الراغب - تناول الشيء بصولة، و هذا اليوم بناء على القول الأول المذكور يوم بدر و بناء على القول الثاني يوم القيامة، و ربما أيد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني فإن بطش يوم القيامة و عذابه أكبر البطش و العذاب، قال تعالى: «فيعذبه الله العذاب الأكبر»: الغاشية: 24، كما أن أجره أكبر الأجر قال تعالى: «و لأجر الآخرة أكبر»: النحل: 41.
قوله تعالى: «و لقد فتنا قبلهم قوم فرعون و جاءهم رسول كريم» الفتنة الامتحان و الابتلاء للحصول على حقيقة الشيء، و قوله: «و جاءهم رسول كريم» إلخ، تفسير للامتحان، و الرسول الكريم موسى (عليه السلام)، و الكريم هو المتصف بالخصال الحميدة قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لإحسانه و إنعامه المتظاهر نحو قوله: «إن ربي غني كريم» و إذا وصف به الإنسان فهو اسم للأخلاق و الأفعال المحمودة التي تظهر منه، و لا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال: و كل شيء شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم قال تعالى: «أنبتنا فيها من كل زوج كريم» «و زروع و مقام كريم» «إنه لقرآن كريم» «و قل لهما قولا كريما» انتهى.
قوله تعالى: «أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين» تفسير لمجيء الرسول فإن معنى مجيء الرسول تبليغ الرسالة و كان من رسالة موسى (عليه السلام) إلى فرعون و قومه أن يرسلوا معهم بني إسرائيل و لا يعذبوهم، و المراد بعباد الله بنو إسرائيل و عبر عنهم بذلك استرحاما و تلويحا إلى أنهم في استكبارهم و تعديهم عليهم إنما يستكبرون على الله لأنهم عباد الله.
و في قوله: «إني لكم رسول أمين» حيث وصف نفسه بالأمانة دفع لاحتمال أن يخونهم في دعوى الرسالة و إنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملإ حوله: «إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره»: الشعراء: 25.
و قيل: «عباد الله» نداء لفرعون و قومه و التقدير أن أدوا إلى ما آمركم به يا عباد الله، و لا يخلو من التقدير المخالف للظاهر.
قوله تعالى: «و أن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين» أي لا تتجبروا على الله بتكذيب رسالتي و الإعراض عما أمركم الله فإن تكذيب الرسول في رسالته استعلاء و تجبر على من أرسله و الدليل على أن المراد ذلك تعليل النهي بقوله: «إني آتيكم بسلطان مبين» أي حجة بارزة من الآيات المعجزة أو حجة المعجزة و حجة البرهان.
قيل: و من حسن التعبير الجمع بين التأدية و الأمين و كذا بين العلو و السلطان.
قوله تعالى: «و إني عذت بربي و ربكم أن ترجمون» أي التجأت إليه تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، و الظاهر أنه إشارة إلى ما آمنه ربه قبل المجيء إلى القوم كما في قوله تعالى: «قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع و أرى»: طه: 46.
و بما مر يظهر فساد ما قيل: إن هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: «فلا يصلون إليكما».
قوله تعالى: «و إن لم تؤمنوا لي فاعتزلون» أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني لا لي و لا علي و لا تتعرضوا لي بخير أو شر، و قيل: المراد تنحوا عني و انقطعوا، و هو بعيد.
قوله تعالى: «فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون» أي دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون و قد ذكر من دعائه السبب الداعي له إلى الدعاء و هو إجرامهم إلى حد يستحقون معه الهلاك و يعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال: «فأسر بعبادي» إلخ، و هو الإهلاك.
قوله تعالى: «فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون» الإسراء: السير بالليل فيكون قوله: «ليلا» تأكيدا له و تصريحا به، و المراد بعبادي بنو إسرائيل، و قوله: «إنكم متبعون» أي يتبعكم فرعون و جنوده، و هو استئناف يخبر عما سيقع عقيب الإسراء.
و في الكلام إيجاز بالحذف و التقدير فقال له: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون يتبعكم فرعون و جنوده.
قوله تعالى: «و اترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون» قال في المفردات: و اترك البحر رهوا أي ساكنا، و قيل: سعة من الطريق و هو الصحيح.
انتهى.
و قوله: «إنهم جند مغرقون» تعليل لقوله: «و اترك البحر رهوا».
و في الكلام إيجاز بالحذف اختصارا و التقدير: أسر بعبادي ليلا يتبعكم فرعون و جنوده حتى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه و اتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون.
قوله تعالى: «كم تركوا من جنات و عيون و زروع و مقام كريم و نعمة كانوا فيها فاكهين كذلك» «كم» للتكثير أي كثيرا ما تركوا، و قوله: «من جنات» إلخ... بيان لما تركوا، و المقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، و النعمة فتح النون التنعم و بناؤها بناء المرة كالضربة و بكسر النون قسم من التنعم و بناؤها بناء النوع كالجلسة و فسروا النعمة هاهنا بما يتنعم به و هو أنسب للترك، و فاكهين من الفكاهة بمعنى حديث الأنس و لعل المراد به هاهنا التمتع كما يتمتع بالفواكه و هي أنواع الثمار.
و قوله: «كذلك» قيل: معناه الأمر كذلك، و قيل: المعنى نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، و قيل: الإشارة إلى الإخراج المفهوم من الكلام السابق، و المعنى: مثل ذلك الإخراج أخرجناهم منها.
و يمكن أن يكون حالا من مفعول «تركوا» المحذوف و المعنى: كثيرا ما تركوا أشياء كذلك أي على حالها و الله أعلم.
قوله تعالى: «و أورثناها قوما آخرين» الضمير لمفعول «تركوا» المحذوف المبين بقوله: «من جنات» إلخ، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظرين» بكاء السماء و الأرض على شيء فائت كناية تخييلية عن تأثرهما عن فوته و فقده فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله و عدم تأثير هلاكهم في شيء من أجزاء الكون.
و قوله: «و ما كانوا منظرين» كناية عن سرعة جريان القضاء الإلهي و القهر الربوبي في حقهم و عدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتى يتأخر به.
قوله تعالى: «و لقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين» و هو ما يصيبهم و هم في أسارة فرعون من ذبح الأبناء و استحياء النساء و غير ذلك.
قوله تعالى: «من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين» «من فرعون» بدل من قوله: «من العذاب» إما بحذف مضاف و التقدير من عذاب فرعون، أو من غير حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، و قوله: «إنه كان عاليا من المسرفين» أي متكبرا من أهل الإسراف و التعدي عن الحد.
قوله تعالى: «و لقد اخترناهم على علم على العالمين» أي اخترناهم على علم منا باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق.
و المراد بالعالمين جميع العالمين من الأمم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض الوجوه ككثرة الأنبياء فإنهم يمتازون من سائر الأمم بكثرة الأنبياء المبعوثين منهم و يمتازون بأن مر عليهم دهر طويل في التيه و هم يتظلون بالغمام و يأكلون المن و السلوى إلى غير ذلك.
و عالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنهم لم يختاروا على الأمة الإسلامية التي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله: «كنتم خير أمة أخرجت للناس»: آل عمران: 110، و قوله: «هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج»: الحج: 78.
قوله تعالى: «و آتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين» البلاء الاختبار و الامتحان أي و أعطينا بني إسرائيل من الآيات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر و لقد أوتوا من الآيات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الأمم و ابتلوا بذلك ابتلاء مبينا.
قيل: و في قوله: «فيه» إشارة إلى أن هناك أمورا أخرى ككونه معجزة.
و في تذييل القصة بهذه الآيات الأربع أعني قوله: «و لقد نجينا بني إسرائيل» - إلى قوله - بلاء مبين» نوع تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إيماء إلى أن الله تعالى سينجيه و المؤمنين به من فراعنة مكة و يختارهم و يمكنهم في الأرض فينظر كيف يعملون.
بحث روائي
عن جوامع الجامع،: في قوله تعالى: «فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين» و اختلف في الدخان فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ و يعتري المؤمن منه كهيئة الزكام و يكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص يمد ذلك أربعين يوما، و روي ذلك عن علي و ابن عباس و الحسن: أقول: و رواه في الدر المنثور، عنهم و أيضا عن حذيفة بن اليمان و أبي سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و رواه أيضا عن ابن عمر موقوفا.
و في تفسير القمي،: في الآية قال: ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر يغشى الناس كلهم الظلمة فيقولون: هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون.
و في المجمع، و روى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريا و الحسين بن علي (عليهما السلام) أربعين صباحا. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين. قيل لعبيد: أ ليس السماء و الأرض تبكي على المؤمن؟ قال: ذاك مقامه و حيث يصعد عمله. قال: و تدري ما بكاء السماء؟ قال: لا. قال: تحمر و تصير وردة كالدهان. إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء و قطرت دما، و إن الحسين بن علي يوم قتل احمرت السماء.
و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يعبد الله عز و جل فيها و الباب الذي كان يصعد منه عمله و موضع سجوده.
أقول: و في هذا المعنى و معنى الروايتين السابقتين روايات أخر من طرق الشيعة و أهل السنة.
و لو بني في معنى بكاء السماء و الأرض على ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج إلى حمل بكائهما على الكناية التخييلية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و قالوا معلم مجنون» قال: قالوا ذلك لما نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخذه الغشي فقالوا: هو مجنون.
|