بيان
لما ذكر آيات الوحدانية و أشار فيها بعض الإشارة إلى المعاد و كذا إلى النبوة في ضمن ذكر تنزيل الكتاب و إيعاد المستكبرين المستهزءين به ذكر في هذه الآيات تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و توسل إلى ذلك بمقدمتين تربطانه بما تقدم من الكلام إحداهما دعوة المؤمنين إلى أن يكفوا عن التعرض لحال الكفار الذين لا يرجون أيام الله فإن الله مجازيهم لأن الأعمال مسئول عنها صالحة أو طالحة، و هذا هو السبب لتشريع الشريعة، و الثانية: أن إنزال الكتاب و الحكم و النبوة ليس ببدع فقد آتى الله بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و آتاهم البينات التي لا يبقى معها في دين الله ريب لمرتاب إلا أن علماءهم اختلفوا فيه بغيا منهم و سيقضي الله بينهم.
ثم ذكر سبحانه تشريع الشريعة له و أمره باتباعها و نهاه عن اتباع أهواء الجاهلين.
قوله تعالى: «قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله» إلخ، أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر المؤمنين أن يغفروا للكفار فيصير تقدير الآية: قل لهم: اغفروا يغفروا فهي كقوله تعالى: «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة»: إبراهيم: 31.
و الآية مكية واقعة في سياق الآيات السابقة الواصفة لحال المستكبرين المستهزءين بآيات الله المهددة لهم بأشد العذاب و كان المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا إذا رأوا هؤلاء المستهزءين يبالغون في طعنهم و إهانتهم للنبي و استهزائهم بآيات الله لم يتمالكوا أنفسهم دون أن يدافعوا عن كتاب الله و من أرسله به و يدعوهم إلى رفض ما هم فيه و الإيمان مع كونهم ممن حقت عليهم كلمة العذاب كما هو ظاهر الآيات السابقة، فأمر الله سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم بالعفو و الصفح عنهم و عدم التعرض لحالهم فإن وبال أعمالهم سيلحق بهم و جزاء ما كسبوه سينالهم.
و على هذا فالمراد بالمغفرة في قوله: «قل للذين آمنوا يغفروا» الصفح و الإعراض عنهم بترك مخاصمتهم و مجادلتهم، و المراد بالذين لا يرجون أيام الله هم الذين ذكروا في الآيات السابقة فإنهم لا يتوقعون لله أياما لا حكم فيها و لا ملك إلا له تعالى كيوم الموت و البرزخ و يوم القيامة و يوم عذاب الاستئصال.
و قوله: «ليجزي قوما بما كانوا يكسبون» تعليل للأمر بالمغفرة أو للأمر بالأمر بالمغفرة و محصله ليصفحوا عنهم و لا يتعرضوا لهم، فلا حاجة إلى ذلك لأن الله سيجزيهم بما كانوا يكسبون فتكون الآية نظيرة قوله: «و ذرني و المكذبين أولي النعمة و مهلهم قليلا إن لدينا أنكالا و جحيما»: المزمل: 12، و قوله: «ثم ذرهم في خوضهم يلعبون»: الأنعام: 91 و قوله: «فذرهم يخوضوا و يلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون»: المعارج: 42، و قوله: «فاصفح عنهم و قل سلام فسوف يعلمون»: الزخرف: 89.
و معنى الآية: مر الذين آمنوا أن يعفوا و يصفحوا عن أولئك المستكبرين المستهزءين بآيات الله الذين لا يتوقعون أيام الله ليجزيهم الله بما كانوا يكسبون و يوم الجزاء يوم من أيامه أي ليصفحوا عن هؤلاء المنكرين لأيام الله حتى يجزيهم بأعمالهم في يوم من أيامه.
و في قوله: «ليجزي قوما» وضع الظاهر موضع الضمير، و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ليجزيهم، و النكتة فيه مع كون «قوما» نكرة غير موصوفة تحقير أمرهم و عدم العناية بشأنهم كأنهم قوم منكرون لا يعرف شخصهم و لا يهتم بشيء من أمرهم.
و بما تقدم من تقرير معنى الآية تتصل الآية و ما بعدها بما قبلها و تندفع الإشكالات التي أوردوها عليها و اهتموا بالجواب عنها، و يظهر فساد المعاني المختلفة التي ذكروها لها و من أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: «من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون» في موضع التعليل لقوله: «ليجزي قوما» إلخ، و لذا لم يعطف و ليس من الاستئناف في شيء.
و محصل المعنى: ليجزيهم الله بما كسبوا فإن الأعمال لا تذهب سدى و بلا أثر بل من عمل صالحا انتفع به و من أساء العمل تضرر به ثم إلى ربكم ترجعون فيجزيكم حسب أعمالكم إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
قوله تعالى: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة» إلخ، لما بين أن للأعمال آثارا حسنة أو سيئة تلحق صاحبيها أراد التنبيه على تشريع شريعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ كان على الله سبحانه أن يهدي عباده إلى ما فيه خيرهم و سعادتهم كما قال تعالى: «و على الله قصد السبيل و منها جائر»: النحل: 9.
فنبه على ذلك بقوله الآتي: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر» إلخ، و قدم على ذلك الإشارة إلى ما آتى بني إسرائيل من الكتاب و الحكم و النبوة و رزقهم من الطيبات و تفضيلهم و إيتائهم البينات ليؤذن به أن الإفاضة الإلهية بالشريعة و النبوة و الكتاب ليست ببدع لم يسبق إليه بل لها نظير في بني إسرائيل و هم بمرآهم و مسمعهم.
فقوله: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة» المراد بالكتاب التوراة المشتملة على شريعة موسى (عليه السلام) و أما الإنجيل فلا يتضمن الشريعة و شريعته شريعة التوراة، و أما زبور داود فهي أدعية و أذكار، و يمكن أن يراد بالكتاب جنسه الشامل للتوراة و الإنجيل و الزبور كما قيل لكن يبعده أن الكتاب لم يطلق في القرآن إلا على ما يشتمل على الشريعة.
و المراد بالحكم بقرينة ذكره مع الكتاب ما يحكم و يقضي به الكتاب من وظائف الناس كما يذكره قوله تعالى: «و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه»: البقرة: 213، و قال في التوراة: «يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا و الربانيون و الأحبار بما استحفظوا من كتاب الله»: المائدة: 44، فالحكم من لوازم الكتاب كما أن النبوة من لوازمه.
و المراد بالنبوة معلوم و قد بعث الله من بني إسرائيل جما غفيرا من الأنبياء كما في الأخبار و قص في كتابه جماعة من رسلهم.
و قوله: «و رزقناهم من الطيبات» أي طيبات الرزق و من ذلك المن و السلوى.
و قوله: «و فضلناهم على العالمين» إن كان المراد جميع العالمين فقد فضلوا من بعض الجهات ككثرة الأنبياء المبعوثين و المعجزات الكثيرة الظاهرة من أنبيائهم، و إن كان المراد عالمي زمانهم فقد فضلوا من جميع الجهات.
قوله تعالى: «و آتيناهم بينات من الأمر» إلى آخر الآية المراد بالبينات الآيات البينات التي تزيل كل شك و ريب و تمحوه عن الحق و يشهد بذلك تفريع قوله: «فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم».
و المراد بالأمر قيل: هو أمر الدين، و «من» بمعنى في و المعنى: و أعطيناهم دلائل بينة في أمر الدين و يندرج فيه معجزات موسى (عليه السلام).
و قيل: المراد به أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المعنى: آتيناهم آيات من أمر النبي و علامات مبينة لصدقه كظهوره في مكة و مهاجرته منها إلى يثرب و نصرة أهله و غير ذلك مما كان مذكورا في كتبهم.
و قوله: «فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم» يشير إلى أن ما ظهر بينهم من الاختلاف في الدين و اختلاط الباطل بالحق لم يكن عن شبهة أو جهل و إنما أوجدها علماؤهم بغيا و كان البغي دائرا بينهم.
و قوله: «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» إشارة إلى أن اختلافهم الذي لا يخلو من اختلاط الباطل بالحق لا يذهب سدى و سيؤثر أثره و يقضي الله بينهم يوم القيامة فيجزون على حسب ما يستدعيه أعمالهم.
قوله تعالى: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها و لا تتبع أهواء الذين لا يعلمون» الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يشاركه فيه أمته، و الشريعة طريق ورود الماء و الأمر أمر الدين، و المعنى: بعد ما آتينا بني إسرائيل ما آتينا جعلناك على طريقة خاصة من أمر الدين الإلهي و هي الشريعة الإسلامية التي خص الله بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمته.
و قوله: «فاتبعها» إلخ، أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باتباع ما يوحى إليه من الدين و أن لا يتبع أهواء الجاهلين المخالفة للدين الإلهي.
و يظهر من الآية أولا: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مكلف بالدين كسائر الأمة.
و ثانيا: أن كل حكم عملي لم يستند إلى الوحي الإلهي و لم ينته إليه فهو هوى من أهواء الجاهلين غير منتسب إلى العلم.
قوله تعالى: «إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا» إلخ، تعليل للنهي عن اتباع أهواء الذين لا يعلمون، و الإغناء من شيء رفع الحاجة إليه، و المحصل: أن لك إلى الله سبحانه حوائج ضرورية لا يرفعها إلا هو و الذريعة إلى ذلك اتباع دينه لا غير فلا يغني عنك هؤلاء الذين اتبعت أهواءهم شيئا من الأشياء إليها الحاجة أو لا يغني شيئا من الإغناء.
و قوله: «و إن الظالمين بعضهم أولياء بعض و الله ولي المتقين» الذي يعطيه السياق أنه تعليل آخر للنهي عن اتباع أهواء الجاهلين، و أن المراد بالظالمين المتبعون لأهوائهم المبتدعة و بالمتقين المتبعون لدين الله.
و المعنى: أن الله ولي الذين يتعبون دينه لأنهم متقون و الله وليهم، و الذين يتبعون أهواء الجهلة ليس هو تعالى وليا لهم بل بعضهم أولياء بعض لأنهم ظالمون و الظالمون بعضهم أولياء بعض فاتبع دين الله يكن لك وليا و لا تتبع أهواءهم حتى يكونوا أولياء لك لا يغنون عنك من الله شيئا.
و تسمية المتبعين لغير دين الله بالظالمين هو الموافق لما يستفاد من قوله: «أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و بالآخرة هم كافرون»: الأعراف: 45.
|