بيان
لما أشار إلى جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على شريعة من الأمر و هو تشريع الشريعة الإسلامية أشار في هذه الآيات إلى أنها بصائر للناس يبصرون بها ما يجب عليهم أن يسلكوه من سبيل الحياة الطيبة في الدنيا و تتلوها سعادة الحياة الآخرة، و هدى و رحمة لقوم يوقنون بآيات الله.
و أشار إلى أن الذي يدعو مجترحي السيئات أن يستنكفوا عن التشرع بالشريعة إنكارهم المعاد فيحسبون أنهم و المتشرعون بالدين سواء في الحياة و الممات و أن لا أثر للتشرع بالشريعة فلا ثمرة للعمل الصالح الذي تهدي إليه الشريعة إلا إتعاب النفس بالتقيد من غير موجب.
فبرهن تعالى على بطلان حسبانهم بإثبات المعاد ثم أردفه بوصف المعاد و ما يثيب به الصالحين يومئذ و ما يعاقب به الطالحين أهل الجحود و الإجرام، و عند ذلك تختتم السورة بالتحميد و التسبيح.
قوله تعالى: «هذا بصائر للناس و هدى و رحمة لقوم يوقنون» الإشارة بهذا إلى الأمر المذكور الذي هو الشريعة أو إلى القرآن بما يشتمل على الشريعة، و البصائر جمع بصيرة و هي الإدراك المصيب للواقع، و المراد بها ما يبصر به، و إنما كانت الشريعة بصائر لأنها تتضمن أحكاما و قوانين كل منها يهدي إلى واجب العمل في سبيل السعادة.
و المعنى: هذه الشريعة المشرعة أو القرآن المشتمل عليها وظائف عملية يتبصر بكل منها الناس و يهتدون إلى السبيل الحق و هو سبيل الله و سبيل السعادة، فقوله بعد ذكر تشريع الشريعة: «هذا بصائر للناس» كقوله بعد ذكر آيات الوحدانية في أول السورة: «هذا هدى و الذين كفروا» إلخ.
و قوله: «و هدى و رحمة لقوم يوقنون» أي دلالة واضحة و إفاضة خير لهم، و المراد بقوم يوقنون: الذين يوقنون بآيات الله الدالة على أصول المعارف فإن المعهود في القرآن تعلق الإيقان بالأصول الاعتقادية.
و تخصيص الهدى و الرحمة بقوم يوقنون مع التصريح بكونه بصائر للناس لا يخلو من تأييد لكون المراد بالهدى الوصول إلى المطلوب دون مجرد التبصر، و بالرحمة الرحمة الخاصة بمن اتقى و آمن برسوله بعد الإيمان بالله، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به و يغفر لكم»: الحديد: 28، و قال: «ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب - إلى أن قال - و بالآخرة هم يوقنون»: البقرة: 4، و للرحمة درجات كثيرة تختلف سعة و ضيقا ثم للرحمة الخاصة بأهل الإيمان أيضا مراتب مختلفة باختلاف مراتب الإيمان فلكل مرتبة من مراتبه ما يناسبها منها.
و أما الرحمة بمعنى مطلق الخير الفائض منه تعالى فإن القرآن بما يشتمل على الشريعة رحمة للناس كافة كما أن الرسول المبعوث به رحمة لهم جميعا، قال تعالى: «و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»: الأنبياء: 107، و قد أوردنا بعض الكلام في هذا المعنى في بعض المباحث السابقة.
قوله تعالى: «أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا و عملوا الصالحات سواء محياهم و مماتهم» إلخ، قال في الجمع،: الاجتراح الاكتساب، يقال: جرح و اجترح و كسب و اكتسب و أصله من الجراح لأن لذلك تأثيرا كتأثير الجراح.
قال: و السيئة الفعلة القبيحة التي يسوء صاحبها باستحقاق الذم عليها.
انتهى.
و الجعل بمعنى التصيير، و قوله: «كالذين آمنوا و عملوا الصالحات» في محل المفعول الثاني للجعل، و التقدير كائنين كالذين آمنوا، إلخ.
و جزم الزمخشري في الكشاف على كون الكاف في «كالذين» اسما بمعنى المثل هو مفعول ثان لقوله: «نجعلهم»، و قوله: «سواء» بدلا منه.
و قوله: «سواء» بالنصب على القراءة الدائرة و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل أي مستويا أو متساويا، و قوله: «محياهم» مصدر ميمي و فاعل «سواء» و ضميره راجع إلى مجموع المجترحين و المؤمنين، و «مماتهم» معطوف على «محياهم» و حاله كحاله.
و الآية مسوقة سوق الإنكار و «أم» منقطعة، و المعنى: بل أ حسب و ظن الذين يكتسبون السيئات أن نصيرهم مثل الذين آمنوا و عملوا الصالحات مستويا محياهم و مماتهم أي تكون حياة هؤلاء كحياة أولئك و موتهم كموتهم فيكون الإيمان و التشرع بالدين لغوا لا أثر له في حياة و لا موت و يستوي وجوده و عدمه.
و قوله: «ساء ما يحكمون» رد لحسبانهم المذكور و حكمهم بالمماثلة بين مجترحي السيئات و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و مساءة الحكم كناية عن بطلانه.
فالفريقان لا يتساويان في الحياة و لا في الممات.
أما أنهما لا يتساويان في الحياة فلأن الذين آمنوا و عملوا الصالحات في سلوكهم مسلك الحياة على بصيرة من أمرهم و هدى و رحمة من ربهم كما ذكره سبحانه في الآية السابقة و المسيء صفر الكف، من ذلك و قال تعالى في موضع آخر: «فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا»: طه: 124، و قال في موضع آخر: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122.
و أما أنهما لا يتساويان في الممات فلأن الموت كما ينطق به البراهين الساطعة ليس انعداما للشيء و بطلانا للنفس الإنسانية كما يحسبه المبطلون بل هو رجوع إلى الله سبحانه و انتقال من نشأة الدنيا إلى نشأة الآخرة التي هي دار البقاء و عالم الخلود يعيش فيها المؤمن الصالح في سعادة و نعمة و غيره في شقاء و عذاب.
و قد أشار سبحانه إليه فيما تقدم من كلامه بقوله: «كذلك يحيي الله الموتى» و قوله: «ثم إلى ربكم ترجعون» و غير ذلك، و سيتعرض له بقوله: «و خلق الله السماوات و الأرض بالحق» إلخ.
و الآية من حيث تركيب ألفاظها و المعنى المتحصل منها من معارك الآراء بين المفسرين و قد ذكروا لها محامل كثيرة و الذي يعطيه السياق و يساعد عليه هو ما قدمناه و لا كثير فائدة في التعرض لوجوه أخر ذكروها فمن أراد الاطلاع عليها فليراجع المطولات.
قوله تعالى: «و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و لتجزى كل نفس بما كسبت و هم لا يظلمون» الظاهر أن المراد بالسماوات و الأرض مجموع العالم المشهود و الباء في «بالحق» للملابسة فكون خلق العالم بالحق كونه حقا لا باطلا و لعبا و هو أن يكون لهذا العالم الكائن الفاسد غاية ثابتة باقية وراءه.
و قوله: «و لتجزى» إلخ، عطف على «بالحق» و الباء في قوله: «بما كسبت» للتعدية أو للمقابلة أي لتجزى مقابل ما كسبت إن كان طاعة فالثواب و إن كان معصية فالعقاب، و قوله: «و هم لا يظلمون» حال من كل نفس أي و لتجزى كل نفس بما كسبت بالعدل.
فيئول معنى الآية إلى مثل قولنا و خلق الله السماوات و الأرض بالحق و بالعدل فكون الخلق بالحق يقتضي أن يكون وراء هذا العالم عالم آخر يخلد فيه الموجودات و كون الخلق بالعدل يقتضي أن تجزى كل نفس ما تستحقه بكسبها فالمحسن يجزى جزاء حسنا و المسيء يجزى جزاء سيئا و إذ ليس ذلك في هذه النشأة ففي نشأة أخرى.
و بهذا البيان يظهر أن الآية تتضمن حجتين على المعاد إحداهما ما أشير إليه بقوله: «و خلق الله السماوات و الأرض بالحق» و يسلك من طريق الحق، و الثانية ما أشير إليه بقوله: «و لتجزى» إلخ، و يسلك من طريق العدل.
فتئول الحجتان إلى ما يشتمل عليه قوله: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28.
و الآية بما فيها من الحجة تبطل حسبانهم أن المسيء كالمحسن في الممات فإن حديث المجازاة بالثواب و العقاب على الطاعة و المعصية يوم القيامة ينفي تساوي المطيع و العاصي في الممات، و لازم ذلك إبطال حسبانهم أن المسيء كالمحسن في الحياة فإن ثبوت المجازاة يومئذ يقتضي وجوب الطاعة في الدنيا و المحسن على بصيرة من الأمر في حياته يأتي بواجب العمل و يتزود من يومه لغده بخلاف المسيء العائش في عمى و ضلال فليسا بمتساويين.
قوله تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم» إلى آخر الآية ظاهر السياق أن قوله: «أ فرأيت» مسوق للتعجيب أي أ لا تعجب ممن حاله هذا الحال؟ و المراد بقوله: «اتخذ إلهه هواه» حيث قدم «إلهه» على «هواه» إنه يعلم أن له إلها يجب أن يعبده - و هو الله سبحانه - لكنه يبدله من هواه و يجعل هواه مكانه فيعبده فهو كافر بالله سبحانه على علم منه، و لذلك عقبه بقوله: «و أضله الله على علم» أي أنه ضال عن السبيل و هو يعلم.
و معنى اتخاذ الإله العبادة و المراد بها الإطاعة فإن الله سبحانه عد الطاعة عبادة كما في قوله: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني»: يس: 61، و قوله: «اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون الله»: التوبة: 31، و قوله: «و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله»: آل عمران: 64.
و الاعتبار يوافقه إذ ليست العبادة إلا إظهار الخضوع و تمثيل أن العابد عبد لا يريد و لا يفعل إلا ما أراده و رضيه معبوده فمن أطاع شيئا فقد اتخذه إلها و عبده فمن أطاع هواه فقد اتخذ إلهه هواه و لا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.
فقوله: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه» أي أ لا تعجب ممن يعبد هواه بإطاعته و اتباعه و هو يعلم أن له إلها غيره يجب أن يعبده و يطيعه لكنه يجعل معبوده و مطاعه هو هواه.
و قوله: «و أضله الله على علم» أي هو ضال بإضلال منه تعالى يضله به مجازاة لاتباعه الهوى حال كون إضلاله مستقرا على علم هذا الضال، و لا ضير في اجتماع الضلال مع العلم بالسبيل و معرفته كما في قوله تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14 و ذلك أن العلم لا يلازم الهدى و لا الضلال يلازم الجهل بل الذي يلازم الهدى هو العلم مع التزام العالم بمقتضى علمه فيتعقبه الاهتداء و أما إذا لم يلتزم العالم بمقتضى علمه لاتباع منه للهوى فلا موجب لاهتدائه بل هو الضلال و إن كان معه علم.
و أما قول بعضهم: إن المراد بالعلم هو علمه تعالى و المعنى: و أضله الله على علم منه تعالى بحاله فبعيد عن السياق.
و قوله: «و ختم على سمعه و قلبه و جعل على بصره غشاوة» كالعطف التفسيري لقوله: «و أضله الله على علم» و الختم على السمع و القلب هو أن لا يسمع الحق و لا يعقله، و جعل الغشاوة على البصر هو أن لا يبصر الحق من آيات الله و محصل الجميع: أن لا يترتب على السمع و القلب و البصر أثرها و هو الالتزام بمقتضى ما ناله من الحق إذا أدركه لاستكبار من نفسه و اتباع للهوى، و قد عرفت أن الضلال عن السبيل لا ينافي العلم به إذا لم يكن هناك التزام بمقتضاه.
و قوله: «فمن يهديه من بعد الله» الضمير لمن اتخذ إلهه هواه و التفريع على ما تحصل من حاله أي إذا كان حاله هذا الحال و قد أضله الله على علم إلخ، فمن يهديه من بعد الله سبحانه فلا هادي دونه قال تعالى: «قل إن هدى الله هو الهدى»: البقرة: 120 و قال: «و من يضلل الله فما له من هاد»: المؤمن: 33.
و قوله: «أ فلا تذكرون» أي أ فلا تتفكرون في حاله فتتذكروا أن هؤلاء لا سبيل لهم إلى الهدى مع اتباع الهوى فتتعظوا.
قوله تعالى: «و قالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت و نحيا و ما يهلكنا إلا الدهر» إلى آخر الآية، قال الراغب: الدهر في الأصل اسم لمدة العالم من مبدإ وجوده إلى انقضائه، و على ذلك قوله تعالى: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر» ثم يعبر به عن كل مدة كثيرة، و هو خلاف الزمان فإن الزمان يقع على المدة القليلة و الكثيرة.
انتهى.
و الآية على ما يعطيه السياق - سياق الاحتجاج على الوثنيين المثبتين للصانع المنكرين للمعاد - حكاية قول المشركين في إنكار المعاد لا كلام الدهريين الناسبين للحوادث وجودا و عدما إلى الدهر المنكرين للمبدإ و المعاد جميعا إذا لم يسبق لهم ذكر في الآيات السابقة.
فقولهم: «ما هي إلا حياتنا الدنيا» الضمير للحياة أي لا حياة لنا إلا حياتنا الدنيا لا حياة وراءها فلا وجود لما يدعيه الدين الإلهي من البعث و الحياة الآخرة، و هذا هو القرينة المؤيدة لأن يكون المراد بقوله: «نموت و نحيا» يموت بعضنا و يحيا بعضنا الآخر فيستمر بذلك بقاء النسل الإنساني بموت الأسلاف و حياة الأخلاف و يؤيد ذلك بعض التأييد قوله بعده: «و ما يهلكنا إلا الدهر» المشعر بالاستمرار.
فالمعنى: و قال المشركون: ليست الحياة إلا حياتنا الدنيا التي نعيش بها في الدنيا فلا يزال يموت بعضنا و هم الأسلاف و يحيى آخرون و هم الأخلاف و ما يهلكنا إلا الزمان - الذي بمروره يبلى كل جديد و يفسد كل كائن و يميت كل حي - فليس الموت انتقالا من دار إلى دار منتهيا إلى البعث و الرجوع إلى الله.
و لعل هذا كلام بعض الجهلة من وثنية العرب و إلا فالعقيدة الدائرة بين الوثنية هي التناسخ و هو أن نفوس غير أهل الكمال إذا فارقت الأبدان تعلقت بأبدان أخرى جديدة فإن كانت النفس المفارقة اكتسبت السعادة في بدنها السابق تعلقت ببدن جديد تتنعم فيه و تسعد، و إن كانت اكتسبت الشقاء في البدن السابق تعلقت ببدن لاحق تشقى فيه و تعذب جزاء لعملها السيىء و هكذا، و هؤلاء لا ينكرون استناد أمر الموت كالحياة إلى وساطة الملائكة.
و لهذا أعني كون القول بالتناسخ دائرا بين الوثنية ذكر بعض المفسرين أن المراد بالآية قولهم بالتناسخ، و المعنى: «إن هي إلا حياتنا الدنيا» فلسنا نخرج من الدنيا أبدا «نموت» عن حياة دنيا «و نحيا» بعد الموت بالتعلق ببدن جديد و هكذا «و ما يهلكنا إلا الدهر».
و هذا لا يخلو من وجه لكن لا يلائمه قولهم المنقول ذيلا: «و ما يهلكنا إلا الدهر» إلا أن يوجه بأن مرادهم من نسبة الإهلاك إلى الدهر كون الدهر وسيلة يتوسل بها الملك الموكل على الموت إلى الإماتة، و كذا لا تلائمه حجتهم المنقولة ذيلا: «ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين» الظاهرة في أنهم يرون آباءهم معدومين باطلي الذوات.
و ذكر في معنى الآية وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: المعنى نكون أمواتا لا حياة فيها و هو قبل ولوج الروح ثم نحيا بولوجها على حد قوله تعالى: «و كنتم أمواتا فأحياكم»: البقرة: 28.
و قول بعضهم: المراد بالحياة بقاء النسل مجازا، و المعنى: نموت نحن و نحيا ببقاء نسلنا.
إلى غير ذلك مما قيل.
و قوله: «و ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون» أي إن قولهم ذلك المشعر بإنكار المعاد قول بغير علم و إنما هو ظن يظنونه و ذلك أنهم لا دليل لهم يدل على نفي المعاد مع ما هناك من الأدلة على ثبوته.
قوله تعالى: «و إذا تتلى عليهم آياتنا بينات ما كان حجتهم إلا أن قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين» تأكيد لكون قولهم بنفي المعاد و حصر الحياة في الحياة الدنيا قولا بغير علم.
و المراد بالآيات البينات الآيات المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و كونها بينات وضوح دلالتها على ثبوته بلا شك، و تسمية قولهم: «ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين» مع كونه اقتراحا جزافيا بعد قيام الحجة إنما هو من باب التهكم فإنه من قبيل طلب الدليل على المطلوب بعد قيام الدليل عليه فكأنه قيل: ما كانت حجتهم إلا اللاحجة.
و المعنى: و إذا تتلى على هؤلاء المنكرين للمعاد آياتنا المشتملة على الحجج المثبتة للمعاد و الحال أنها واضحات الدلالة على ثبوته ما قابلوها إلا بجزاف من القول و هو طلب الدليل على إمكانه بإحياء آبائهم الماضين.
قوله تعالى: «قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه و لكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى قوله - و الأرض» ما ذكر من اقتراحهم الحجة على مطلوب قامت عليه الحجة و إن كان اقتراحا جزافيا لا يستدعي شيئا من الجواب لكنه سبحانه أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بإثبات إمكانه الذي كانوا يستبعدونه.
و محصله: أن الذي يحييكم لأول مرة ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه هو الله سبحانه و لله ملك السماوات و الأرض يحكم فيها ما يشاء و يتصرف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه و يتصرف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة و القضاء بينكم ثم الجزاء، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون» قال الراغب: الخسر و الخسران انتقاص رأس المال و ينسب ذلك إلى الإنسان فيقال: خسر فلان، و إلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: «تلك إذا كرة خاسرة» و يستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال و الجاه في الدنيا و هو الأكثر، و في المقنيات النفسية كالصحة و السلامة و العقل و الإيمان و الثواب و هو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين.
قال: و كل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الأخير دون الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية و التجارات البشرية.
و قال: و الإبطال يقال في إفساد الشيء و إزالته سواء كان ذلك الشيء حقا أو باطلا قال تعالى: «ليحق الحق و يبطل الباطل» و قد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة له نحو «و لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون»، و قوله تعالى: «خسر هنالك المبطلون» أي الذين يبطلون الحق.
انتهى.
و الأشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث و الجمع و الحساب و الجزاء و ظهوره، و بذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم و هما واحد، و الأشبه أن يكون قوله: «يومئذ» تأكيدا لقوله: «يوم تقوم الساعة».
و المعنى: و يوم تقوم الساعة و هي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الذين أبطلوا الحق و عدلوا عنه.
قوله تعالى: «و ترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها» إلخ، الجثو البروك على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الأصابع.
و الخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية و إن كان متوجها إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الأعمال بشهادة قوله بعده: «اليوم تجزون ما كنتم تعملون».
و المعنى: و ترى أنت و غيرك من الرائين كل أمة من الأمم جالسة على الجثو جلسة الخاضع الخائف كل أمة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها و هي صحيفة الأعمال و قيل لهم: «اليوم تجزون ما كنتم تعملون».
و يستفاد من ظاهر الآية أن لكل أمة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا خاصا به قال تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا»: إسراء: 13.
قوله تعالى: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» قال في الصحاح: و نسخت الكتاب و انتسخته و استنسخته كله بمعنى، و النسخة اسم المنتسخ منه.
انتهى، و قال الراغب: النسخ إزالة الشيء بشيء يتعقبه كنسخ الشمس الظل و نسخ الظل الشمس و الشيب الشباب - إلى أن قال - و نسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر و ذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، و الاستنساخ التقدم بنسخ الشيء و الترشح للنسخ.
انتهى.
و مقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الأصل المنقول منه، و لازم ذلك أن تكون الأعمال في قوله: «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» كتابا و أصلا و إن شئت فقل: في أصل و كتاب يستنسخ و ينقل منه و لو أريد به ضبط الأعمال الخارجية القائمة بالإنسان بالكتابة لقيل: إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الأعمال كتابا و أصلا يستنسخ، و لا دليل على كون «يستنسخ» بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم.
و لازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الأعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ و تكون صحيفة الأعمال صحيفة الأعمال و جزء من اللوح المحفوظ، و يكون معنى كتابة الملائكة للأعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الأعمال.
و هذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق (عليه السلام) و من طرق أهل السنة عن ابن عباس، و سيوافيك في البحث الروائي التالي.
و على هذا فقوله: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق» من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، و هو من خطابه تعالى لأهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى: «و يقال لهم هذا كتابنا» إلخ.
و الإشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الأعمال و هي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم و إضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة الأعمال من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى و نظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة التشريف و قوله: «ينطق عليكم بالحق» أي يشهد على ما عملتم و يدل عليه دلالة واضحة ملابسا للحق.
و قوله: «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم بالحق أي إن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لأنه اللوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية.
و لو لا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك و لا يحتمل منهم التكذيب لكذبوه، قال تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تود لو أن بينها و بينه أمدا بعيدا»: آل عمران: 30.
و للقوم في الآية أقوال أخر: منها ما قيل: إن الآية من كلام الملائكة لا من كلام الله و معنى الاستنساخ الكتابة و المعنى: هذا أي صحيفة الأعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للأعمال يشهد عليكم بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون.
و فيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة.
و منها: أن الآية من كلام الله، و الإشارة بهذا إلى صحيفة الأعمال، و قيل: إلى اللوح المحفوظ، و الاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.
قوله تعالى: «أما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين» تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة و الشقاء و الثواب و العقاب، و السعداء المثابون هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات، و الأشقياء المعاقبون هم الذين كفروا من المستكبرين المجرمين.
و المراد بالرحمة الإفاضة الإلهية تسعد من استقر فيها و منها الجنة، و الفوز المبين الفلاح الظاهر، و الباقي واضح.
قوله تعالى: «و أما الذين كفروا أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم و كنتم قوما مجرمين» المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب و جحود بشهادة قوله: «أ فلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم» إلخ.
و الفاء في «أ فلم تكن» للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما، و التقدير: فيقال لهم أ لم تكن آياتي تتلى عليكم، و المراد بالآيات الحجج الإلهية الملقاة إليهم عن وحي و دعوة، و المجرم هو المتلبس بالأجرام و هو الذنب.
و المعنى: و أما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا و تقريعا: أ لم تكن حججي تقرأ و تبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها و كنتم قوما مذنبين.
قوله تعالى: «و إذا قيل إن وعد الله حق و الساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة» إلخ، المراد بالوعد الموعود و هو ما وعده الله بلسان رسله من البعث و الجزاء فيكون قوله: «و الساعة لا ريب فيها» من عطف التفسير، و يمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدري.
و قولهم: «ما ندري ما الساعة» معناه أنه غير مفهوم لهم و الحال أنهم أهل فهم و دراية فهو كناية عن كونه أمرا غير معقول و لو كان معقولا لدروه.
و قوله: «إن نظن إلا ظنا و ما نحن بمستيقنين» أي ليست مما نقطع به و نجزم بل نظن ظنا لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم: «ما ندري ما الساعة» إلخ، غب ما تليت عليهم من الآيات البينة أفحش المكابرة مع الحق.
قوله تعالى: «و بدا لهم سيئات ما عملوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون» إضافة السيئات إلى ما عملوا بيانية أو بمعنى من، و المراد بما عملوا جنس ما عملوا أي ظهر لهم أعمالهم السيئة أو السيئات من أعمالهم فالآية في معنى قوله: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء»: آل عمران: 30.
فالآية من الآيات الدالة على تمثل الأعمال، و قيل: إن في الكلام حذفا و التقدير: و بدا لهم جزاء سيئات ما عملوا.
و قوله: «و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون» أي و حل بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا أنذروا به بلسان الأنبياء و الرسل.
قوله تعالى: «و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا و مأواكم النار و ما لكم من ناصرين» النسيان كناية عن الإعراض و الترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم و تركه لهم في شدائده و أهواله، و نسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكره و تركهم التأهب للقائه، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا و غرتكم الحياة الدنيا» إلخ، الإشارة بقوله: «ذلكم» إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيئات و حلول العذاب و الهزء السخرية التي يستهزأ بها و الباء للسببية.
و المعنى: ذلكم العذاب الذي يحل بكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله سخرية تستهزءون بها و بسبب أنكم غرتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها و تعلقتم بها.
و قوله: «فاليوم لا يخرجون منها و لا هم يستعتبون» صرف الخطاب عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يتضمن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ و هو الخلود في النار و عدم قبول العذر منهم.
و الاستعتاب طلب العتبى و الاعتذار، و نفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر.
قوله تعالى: «فلله الحمد رب السماوات و رب الأرض رب العالمين» تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدم في السورة من كونه خالق السماوات و الأرض و ما بينهما و المدبر لأمر الجميع و من بديع تدبيره خلق الجميع بالحق المستتبع ليوم الرجوع إليه و الجزاء بالأعمال و هو المستدعي لجعل الشرائع التي تسوق إلى السعادة و الثواب و يتعقبه الجمع ليوم الجمع ثم الجزاء و استقرار الجميع على الرحمة و العدل بإعطاء كل شيء ما يستحقه فلم يدبر إلا تدبيرا جميلا و لم يفعل إلا فعلا محمودا فله الحمد كله.
و قد كرر «الرب» فقال: رب السماوات و رب الأرض ثم أبدل منهما قوله: «رب العالمين» ليأتي بالتصريح بشمول الربوبية للجميع فلو جيء برب العالمين و اكتفي به أمكن أن يتوهم أنه رب المجموع لكن للسماوات خاصة رب آخر و للأرض وحدها رب آخر كما ربما قال بمثله الوثنية، و كذا لو اكتفي بالسماوات و الأرض لم يكن صريحا في ربوبيته لغيرهما، و كذا لو اكتفي بإحداهما.
قوله تعالى: «و له الكبرياء في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم» الكبرياء على ما عن الراغب: الترفع عن الانقياد، و عن ابن الأثير: العظمة و الملك و في المجمع، السلطان القاهر و العظمة القاهرة و العظمة و الرفعة.
و هي على أي حال أبلغ معنى من الكبر و تستعمل في العظمة غير الحسية و مرجعه إلى كمال وجوده و لا تناهي كماله.
و قوله: «و له الكبرياء في السماوات و الأرض» أي له الكبرياء في كل مكان فلا يتعالى عليه شيء فيهما و لا يستصغره شيء و تقديم الخبر في «له الكبرياء» يفيد الحصر كما في قوله: «فلله الحمد».
و قوله: «و هو العزيز الحكيم أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق و تدبير في الدنيا و الآخرة و الباني خلقه و تدبيره على الحكمة و الإتقان.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه» قال: نزلت في قريش كلما هووا شيئا عبدوه.
و في الدر المنثور، أخرج النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه و ألقى الآخر فأنزل الله «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه».
و في المجمع، في قوله تعالى: «و ما يهلكنا إلا الدهر» و قد روي في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر.
أقول: قال الطبرسي بعد إيراد الحديث: و تأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون الحوادث المجحفة و البلايا النازلة إلى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، و كانوا يسبون الدهر فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إن فاعل هذه الأمور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى.
و يؤيد هذا الوجه الرواية التالية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله تبارك و تعالى: لا يقل ابن آدم يسب الدهر يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل و النهار فإذا شئت قبضتهما.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق» الآية:، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن «ن و القلم» قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر و كان أشد بياضا من الثلج و أحلى من الشهد. ثم قال للقلم: اكتب. قال: يا رب ما أكتب؟ قال: اكتب ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة و أصفى من الياقوت. ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا. فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أ و لستم عربا؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام؟ و أحدكم يقول لصاحبه: انسخ ذلك الكتاب أ و ليس إنما ينسخ من كتاب آخر من الأصل؟ و هو قوله: «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون».
أقول: قوله (عليه السلام): فكتب القلم في رق إلخ، تمثيل للوح المكتوب فيه الحوادث بالرق و الرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - و قد تقدم الحديث عنه (عليه السلام) أن القلم ملك و اللوح ملك، و قوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الأركان و القوائم و قوله: ثم ختم على فم القلم «إلخ» كناية عن كون ما كتب في الرق قضاء محتوما لا يتغير و لا يتبدل، و قوله: أ و لستم عربا «إلخ»، إشارة إلى ما تقدم توضيحه في تفسير الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون و هو الدواة و خلق القلم فقال: اكتب؟ قال: ما أكتب قال اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم ألزم كل شيء من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا و مقامه فيها كم، و خروجه منها كيف؟. ثم جعل على العباد حفظة و على الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فني ذلك الرزق انقطع الأمر و انقضى الأجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال ابن عباس: أ لستم قوما عربا؟ تسمعون الحفظة يقولون: «إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون» و هل يكون الاستنساخ إلا من أصل؟.
أقول: و الخبر كما ترى يجعل الآية من كلام الملائكة الحفظة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في الآية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب.
و عن كتاب سعد السعود لابن طاووس، قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: و في رواية: أنهما إذا أرادا النزول صباحا و مساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا و مساء بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و له الكبرياء في السماوات و الأرض» و في الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي و العظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنم. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن مسلم و أبي داود و ابن ماجة و غيرهم عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
|