بيان
غرض السورة دعوة عامة على الإنذار تفتتح بآيات الوحدانية ثم تذكر تشريع الشريعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تشير إلى لزوم اتباعها له و لغيره بما أن أمامهم يوما يحاسبون فيه على أعمالهم الصالحة من الإيمان و اتباع الشريعة و اجتراحهم السيئات بالإعراض عن الدين، ثم تذكر ما سيجري على الفريقين في ذلك اليوم و هو يوم القيامة.
و في خلال مقاصدها إنذار و وعيد شديد للمستكبرين المعرضين عن آيات الله و الذين اتخذوا إلههم هواهم و أضلهم الله على علم.
و من طرائف مطالبها بيان معنى كتابة الأعمال و استنساخها.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها و استثنى بعضهم قوله تعالى: «قل للذين آمنوا» الآية، و لا شاهد له.
قوله تعالى: «حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم» الظاهر أن «تنزيل الكتاب» من إضافة الصفة إلى الموصوف و المصدر بمعنى المفعول، و «من الله» متعلق بتنزيل، و المجموع خبر لمبتدإ محذوف.
و المعنى: هذا كتاب منزل من الله العزيز الحكيم، و قد تقدم الكلام في مفردات الآية فيما تقدم.
قوله تعالى: «إن في السماوات و الأرض لآيات للمؤمنين» آية الشيء علامته التي تدل عليه و تشير إليه، و المراد بكون السماوات و الأرض فيها آيات كونها بنفسها آيات له فليس وراء السماوات و الأرض و سائر ما خلق الله أمر مظروف لها هو آية دالة عليه تعالى.
و من الدليل على ما ذكرنا اختلاف التعبير فيها في كلامه تعالى فتارة يذكر أن في الشيء آية له و أخرى يعده بنفسه آية كقوله تعالى: «إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات»: آل عمران: 190، و قوله: «و من آياته خلق السماوات و الأرض»: الروم: 22، و نظائرهما كثيرة، و يستفاد من اختلاف التعبير الذي فيها أن معنى كون الشيء فيه آية هو كونه بنفسه آية كما يستفاد من اختلاف التعبير في مثل قوله: «إن في خلق السماوات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات»، و قوله: «إن في السماوات و الأرض لآيات» الآية، أن المراد من خلق السماوات و الأرض نفسها لا غير.
و العناية في أخذ الشيء ظرفا للآية مع كونه بنفسه آية اعتبار جهات وجوده و إن لوجوده جهة أو جهات كل واحدة منها آية من الآيات و لو أخذت نفس الشيء لم يستقم إلا أخذها آية واحدة كما في قوله تعالى: «و في الأرض آيات للموقنين»: الذاريات: 20، و لو أخذت الآية نفس الأرض لم يستقم إلا أن يقال: و الأرض آية للموقنين و ضاع المراد و هو أن في وجود الأرض جهات كل واحدة منها آية وحدها.
فمعنى قوله: «إن في السماوات و الأرض» إلخ، إن لوجود السماوات و الأرض جهات دالة على أن الله تعالى هو خالقها المدبر لها وحده لا شريك له فإنها بحاجتها الذاتية إلى من يوجدها و عظمة خلقتها و بداعة تركيبها و اتصال وجود بعضها ببعض و ارتباطه على كثرتها الهائلة و اندراج أنظمتها الجزئية الخاصة بكل واحد تحت نظام عام يجمعها و يحكم فيها تدل على أن لها خالقا هو وحده ربها المدبر أمرها فلو لا أن هناك من يوجدها لم توجد من رأس، و لو لا أن مدبرها واحد لتناقضت النظامات و تدافعت و اختلف التدبير.
و مما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: «في السماوات» بتقدير مضاف محذوف و التقدير في خلق السماوات، تكلف من غير ضرورة تدعو إليه.
قوله تعالى: «و في خلقكم و ما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون» البث التفريق و الإثارة و بثه تعالى للدواب خلقها و تفريقها و نشرها على الأرض كما قال في خلق الإنسان: «ثم إذا أنتم بشر تنتشرون»: الروم: 20.
و معنى الآية: و فيكم من حيث وجودكم المخلوق و فيما يفرقه الله من دابة من حيث خلقها آيات لقوم يسلكون سبيل اليقين.
و خلق الإنسان على كونه موجودا أرضيا له ارتباط بالمادة نوع آخر من الخلق يغاير خلق السماوات و الأرض لأنه مركب من بدن أرضي مؤلف من مواد كونية عنصرية تفسد بالموت بالتفرق و التلاشي و أمر آخر وراء ذلك علوي غير مادي لا يفسد بالموت بل يتوفى و يحفظ عند الله، و هو الذي يسميه القرآن بالروح قال تعالى: «و نفخت فيه من روحي»: الحجر: 29، و قال بعد ذكر خلق الإنسان من نطفة ثم من علقة ثم مضغة ثم تتميم خلق بدنه: «ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14 و قال: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11.
فالناظر في خلق الإنسان ناظر في آية ملكوتية وراء الآيات المادية و كذا الناظر في خلق الدواب و لها نفوس ذوات حياة و شعور و إن كانت دون الإنسان في حياتها و شعورها كما أنها دونه في تجهيزاتها البدنية ففي الجميع آيات لأهل اليقين يعرفون بها الله سبحانه بأنه واحد لا شريك له في ربوبيته و ألوهيته.
قوله تعالى: «و اختلاف الليل و النهار» إلى آخر الآية هذا القبيل من الآيات آيات ما بين السماء و الأرض.
و قوله: «و اختلاف الليل و النهار» يريد به اختلافهما في الطول و القصر اختلافا منظما باختلاف الفصول الأربعة بحسب بقاع الأرض المختلفة و يتكرر بتكرر السنين يدبر سبحانه بذلك أقوات أهل الأرض و يربيهم بذلك تربية صالحة قال تعالى: «و قدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين»: حم السجدة: 10.
و قوله: «و ما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها» المراد بالرزق الذي ينزله الله من السماء هو المطر تسمية للسبب باسم المسبب مجازا أو لأن المطر أيضا من الرزق فإن مياه الأرض من المطر، و المراد بالسماء جهة العلو أو السحاب مجازا، و إحياء الأرض به بعد موتها هو إحياء ما فيها من النبات بالأخذ في الرشد و النمو، و لا يخلو التعرض للإحياء بعد الموت من تلويح إلى المعاد.
و قوله: «و تصريف الرياح» أي تحويلها و إرسالها من جانب إلى جانب، لتصريفها فوائد عامة كثيرة من أعمها سوق السحب إلى أقطار الأرض و تلقيح النباتات و دفع العفونات و الروائح المنتنة.
و قوله: «آيات لقوم يعقلون» أي يميزون بين الحق و الباطل و الحسن و القبيح بالعقل الذي أودعه الله سبحانه فيهم.
و قد خص كل قبيل من الآيات بقوم خاص فخصت آية السماوات و الأرض بالمؤمنين و آية الإنسان و سائر الحيوان بقوم يوقنون، و آية اختلاف الليل و النهار و الأمطار و تصريف الرياح بقوم يعقلون.
و لعل الوجه في ذلك أن آية السماوات و الأرض تدل بدلالة بسيطة ساذجة على أنها لم توجد نفسها بنفسها و لا عن اتفاق و صدفة بل لها موجد أوجدها مع ما لها من الآثار و الأفعال التي يتحصل منها النظام المشهود فخالقها خالق الجميع و رب الكل، و الإنسان يدرك ذلك بفهمه البسيط الساذج و المؤمنون بجميع طبقاتهم يفهمون ذلك و ينتفعون به.
و أما أنه خلق الإنسان و سائر الدواب التي لها حياة و شعور فإنها من حيث أرواحها و نفوسها الحية الشاعرة من عالم وراء عالم المادة و هو المسمى بالملكوت و قد خص القرآن كمال إدراكه و مشاهدته بأهل اليقين كما قال: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75.
و أما آية اختلاف الليل و النهار و الأمطار المحيية للأرض و تصريف الرياح فإنها لتنوع أقسامها و تعدد جهاتها و ارتباطها بالأرض و الأرضيات و كثرة فوائدها و سعة منافعها تحتاج إلى تعقل فكري تفصيلي عميق و لا تنال بالفهم البسيط الساذج و لذلك خصت بقوم يعقلون و الآيات آيات لجميع الناس لكن لما كان المنتفع بها بعضهم خصت بهم.
و قد عبر عن أهل اليقين و العقل بقوم يوقنون و بقوم يعقلون و عن أهل الإيمان بالمؤمنين لأن بساطة آية أهل الإيمان تفيد أن المراد بالإيمان أصله و هو ثابت فيهم فناسب التعبير عنهم بالوصف بخلاف آيتي أهل اليقين و العقل فإنهما لدقتهما و علو منالهما تدركان شيئا فشيئا فناسبتا التعبير بالفعل المضارع الدال على الاستمرار التجددي.
و قيل في وجه ما في الآيات الثلاث من الترتيب بين أهلها حيث ذكر أولا أهل الإيمان ثم الإيقان ثم العقل أنه على ترتيب الترقي فإن الإيقان مرتبة خاصة في الإيمان فهو بعد الإيمان و العقل مدار الإيمان و الإيقان و نعني العقل المؤيد بنور البصيرة فبسببه يخلص اليقين من اعتراء الشكوك من كل وجه و في استحكامه كل خير.
و روعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث.
و فيه أن مقتضى ما وصفه من أمر العقل وقوعه قبل الثاني بل قبل أول المراتب على أن ما ذكره من إمكان اعتراء الشكوك على اليقين مما لا سبيل إلى تصوره.
و قيل في وجه الترتيب: أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السماوات و الأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه فيجب أن تذكر قبله، و كذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين أما الأول فظاهر، و أما الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد أن يكون جامعا أي إن الثالث و هو المعلول يتوقف في معرفته على ذكر علته الغائية قبله.
و فيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الآيات دون مراتب الصفات الثلاث أعني الإيمان و الإيقان و العقل.
على أن الثالث أيضا كالأول من أسباب تكون الحيوان فيجب أن يتقدم على الثاني، و بوجه آخر الثاني علة غائية للأول فيجب أن يتقدم على الأول كما تقدم على الثالث.
و قيل: إن السبب في ترتيب هذه الفواصل أنه قيل: إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل، و إن كنتم لستم بمؤمنين و كنتم من طلاب الجزم و اليقين فافهموا هذه الدلائل، و إن كنتم لستم بمؤمنين و لا موقنين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل.
و فيه أنه على تقدير صحته وجه لترتب الصفات الثلاث دون أقسام الآيات الثلاثة على أن لازمه أن لا يختص شيء من الآيات الثلاث بواحدة من الصفات الثلاث بل يكون الجميع للجميع و السياق لا يساعد عليه على أن ظاهر كلامه أنه فسر اليقين بالجزم و هو العلم فلا يبقى للعقل إلا الحكم الظني و لا يعبأ به في المعارف الاعتقادية.
قوله تعالى: «تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون» الإيمان بأمر هو العلم به مع الالتزام به عملا فلو لم يلتزم لم يكن إيمانا و إن كان هناك علم، قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14، و قال: «و أضله الله على علم»: الجاثية: 23.
و الآيات هي العلامات الدالة فآيات الله الكونية هي الأمور الكونية الدالة بوجودها الخارجي على كونه تعالى واحدا في الخلق متصفا بصفات الكمال منزها عن كل نقص و حاجة، و الإيمان بهذه الآيات هو الإيمان بدلالتها عليه تعالى و لازمه الإيمان به تعالى كما تدل هي عليه.
و الآيات القرآنية آيات له تعالى بما تدل على الآيات الكونية الدالة عليه سبحانه أو على معارف اعتقادية أو أحكام عملية أو أخلاق يرتضيها الله سبحانه و يأمر بها فإن مضامينها دالة عليه و من عنده، و الإيمان بهذه الآيات أيضا إيمان بدلالتها و يلزمه الإيمان بمدلولها.
و الآيات المعجزة أيضا إما آيات كونية و دلالتها دلالة الآيات الكونية و إما غير كونية كالقرآن في إعجازه و مرجع دلالتها إلى دلالة الآيات الكونية.
و قوله: «تلك آيات الله نتلوها عليك» الإشارة إلى الآيات القرآنية المتلوة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يمكن أن تكون إشارة إلى الآيات الكونية المذكورة في الآيات الثلاث السابقة بعناية الاتحاد بين الدال و المدلول.
و قوله: «فبأي حديث بعد الله و آياته يؤمنون» قيل: هو من قبيل قولك: أعجبني زيد و كرمه، و إنما أعجبك كرمه و المعنى بحسب النظر الدقيق أعجبني كرم زيد و زيد من حيث كرمه، فمعنى الآية فبأي حديث بعد آيات الله يعني الآيات القرآنية يؤمنون؟ يعني إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث فبأي حديث بعده يؤمنون؟.
و قيل: الكلام بتقدير حديث أي إذا لم يؤمنوا فبأي حديث بعد حديث الله و آياته يؤمنون، و الأنسب على هذا المعنى أن يكون المراد بالآيات الآيات الكونية و لذا قال الطبرسي بعد ذكر هذا المعنى: و الفرق بين الحديث الذي هو القرآن و بين الآيات أن الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيين الحق من الباطل، و الآيات هي الأدلة الفاصلة بين الصحيح و الفاسد.
انتهى و أول الوجهين ألطف.
قوله تعالى: «ويل لكل أفاك أثيم» الويل و الهلاك، و الأفاك مبالغة من الإفك و هو الكذب، و الأثيم من الإثم بمعنى المعصية و المعنى: ليكن الهلاك على كل كذاب ذي معصية.
قوله تعالى: «يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها» إلخ صفة لكل أفاك أثيم، و «ثم» للتراخي الرتبي و تفيد معنى الاستبعاد، و الإصرار على الفعل ملازمته و عدم الانفكاك عنه.
و المعنى: يسمع آيات الله - و هي آيات القرآن - تقرأ عليه ثم يلازم الكفر و الحال أنه مستكبر لا يتواضع للحق كأن لم يسمع تلك الآيات فبشره بعذاب أليم.
قوله تعالى: «و إذا علم من آياتنا شيئا اتخذها هزوا» إلخ، ظاهر السياق أن ضمير «اتخذها» للآيات، و جعل الهزء متعلقا بالآيات دون ما علم منها يفيد كمال جهله، و المعنى: و إذا علم ذلك الأفاك الأثيم المصر المستكبر بعض آياتنا استهزأ بآياتنا جميعا.
و قوله: «أولئك لهم عذاب مهين» أي مذل مخز، و توصيف العذاب بالإهانة مقابلة لاستكبارهم و استهزائهم، و الإشارة بأولئك إلى كل أفاك، و قيل في الآية بوجوه أخر أعرضنا عنها لعدم الجدوى فيها.
قوله تعالى: «من ورائهم جهنم و لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا و لا ما اتخذوا من دون الله أولياء» إلخ، لما كانوا مشتغلين بالدنيا معرضين عن الحق غير ملتفتين إلى تبعات أعمالهم جعلت جهنم وراءهم مع أنها قدامهم و هم سائرون نحوها متوجهون إليها.
و قيل: وراءهم بمعنى قدامهم قال في المجمع،: وراء اسم يقع على القدام و الخلف فما توارى عنك فهو وراءك خلفك كان أو أمامك.
انتهى و في قوله: «من ورائهم جهنم» قضاء حتم.
و قوله: «و لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا» المراد بما كسبوا ما حصلوه في الدنيا من مال و نحوه، و تنكير «شيئا» للتحقير أي و لا يغني عنهم يوم الحساب ما كسبوه من مال و جاه و أنصار في الدنيا شيئا يسيرا حقيرا.
و قوله: «و لا ما اتخذوا من دون الله أولياء» «ما» مصدرية و المراد بالأولياء أرباب الأصنام الذين اتخذوهم أربابا آلهة و زعموا أنهم لهم شفعاء أو الأصنام.
و قوله: «و لهم عذاب عظيم» تأكيد لوعيدهم و قد أوعدهم الله سبحانه أولا بقوله: «ويل لكل أفاك» إلخ، و ثانيا بقوله: «فبشره بعذاب أليم» و ثالثا بقوله: «أولئك لهم عذاب مهين» و رابعا بقوله: «من ورائهم جهنم» إلخ، و خامسا بقوله: «و لهم عذاب عظيم»، و وصف عذابهم في خلالها بأنه أليم مهين عظيم.
قوله تعالى: «هذا هدى و الذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم» الإشارة بقوله: «هذا هدى» إلى القرآن و وصفه بالهدى للمبالغة نحو زيد عدل و الرجز - كما قيل - أشد العذاب و أصله الاضطراب.
و الآية في مقام الرد لما رموا به القرآن و عدوه مهانا بالهزء و السخرية و خلاصة وعيد من كفر بآياته.
قوله تعالى: «الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره» إلخ، لما ذكر سبحانه حال الأفاكين من الاستكبار عن الإيمان بالآيات إذا تليت عليهم و الاستهزاء بما علموا منها و أوعدهم أبلغ الإيعاد بأشد العذاب رجع إليهم بخطاب الجميع ممن يؤمن و يكفر، و ذكر بعض آيات ربوبيته التي فيها من عظيم عليهم و ليس في وسعهم إنكارها فذكر أولا تسخير البحر لهم ثم ما في السماوات و الأرض جميعا ففيها آيات لا يكفر بها إلا من انسلخ عن الفطرة الإنسانية و نسي التفكر الذي هو من أجلى خواص الإنسان.
فقوله: «الله الذي سخر لكم البحر» اللام في «لكم» للغاية أي سخر لأجلكم البحر بأن خلقه على نحو يحمل الفلك و يقبل أن تجري فيه فينتفع به الإنسان، و يمكن أن تكون للتعدية فيكون الإنسان يسخر البحر بإذن الله.
و قوله: «لتجري الفلك فيه بأمره» غاية لتسخير البحر، و جريان الفلك فيه بأمره، هو إيجاد الجريان بكلمة كن فآثار الأشياء كنفس الأشياء منسوبة إليه تعالى و قوله: «و لتبتغوا من فضله» أي و لتطلبوا بركوبه عطيته تعالى و هو رزقه.
و قوله: «و لعلكم تشكرون» أي رجاء أن تشكروه تعالى قبال هذه النعمة التي هي تسخير البحر.
قوله تعالى: «و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه» إلخ، هذا من الترقي بعطف العام على الخاص، و الكلام في «لكم» كالكلام في مثله في الآية السابقة، و قوله: «جميعا» تأكيد لما في السماوات و الأرض أو حال منه.
و قوله: «سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا» معنى تسخيرها للإنسان أن أجزاء العالم المشهود تجري على نظام واحد يحكم فيها و يربط بعضها ببعض و يربط الجميع بالإنسان فينتفع في حياته من علويها و سفليها و لا يزال المجتمع البشري يتوسع في الانتفاع بها و الاستفادة من توسيطها و التوسل بشتاتها في الحصول على مزايا الحياة فالكل مسخر له.
و قوله: «منه» من للابتداء، و الضمير لله تعالى و هو حال مما في السماوات و الأرض، و المعنى: سخر لكم ما في السماوات و الأرض جميعا حال كونه مبتدأ منه حاصلا من عنده فذوات الأشياء تبتدىء منه بإيجاده لها من غير مثال سابق و كذلك خواصها و آثارها بخلقه و من خواصها و آثارها ارتباط بعضها ببعض و هو النظام الجاري فيها المرتبط بالإنسان قال تعالى: «الله يبدأ الخلق ثم يعيده»: الروم: 11، و قال: «إنه هو يبديء و يعيد»: البروج: 13.
و قد ذكروا لقوله: «منه» معاني أخر لا يخلو شيء منها عن التكلف تركنا التعرض لها.
و قوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» وجه تعلقها بالتفكر ظاهر.
|