بيان
لما قسم الناس على قسمين و انتهى الكلام إلى الإنذار عقب ذلك بالإشارة إلى قصتين قصة قوم عاد و هلاكهم و معها الإشارة إلى هلاك القرى التي حول مكة و قصة إيمان قوم من الجن صرفهم الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستمعوا القرآن فآمنوا و رجعوا إلى قومهم منذرين و إنما أورد القصتين ليعتبر بهما من شاء أن يعتبر منهم، و هذه الآيات المنقولة تتضمن أولى القصتين.
قوله تعالى: «و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف و قد خلت النذر من بين يديه و من خلفه» إلخ، أخو القوم هو المنسوب إليهم من جهة الأب، و المراد بأخي عاد هود النبي (عليه السلام)، و الأحقاف مسكن قوم عاد و المتيقن أنه في جنوب جزيرة العرب و لا أثر اليوم باقيا منهم، و اختلفوا أين هو؟ فقيل: واد بين عمان و مهرة، و قيل رمال بين عمان إلى حضرموت، و قيل: رمال مشرفة على البحر بالشحر من أرض اليمن و قيل غير ذلك.
و قوله: «و قد خلت النذر من بين يديه و من خلفه» النذر جمع نذير و المراد به الرسول على ما يفيده السياق، و أما تعميم بعضهم الندر للرسول و نوابهم من العلماء ففي غير محله.
و فسروا «من بين يديه» بالذين كانوا قبله و «من خلفه» بالذين جاءوا بعده و يمكن العكس بأن يكون المراد بالنذر بين يديه من كانوا في زمانه، و من خلفه من كان قبله، و الأولى على الأول أن يكون المراد بخلو النذر من بين يديه و من خلفه أن يكون كناية عن مجيئه إليهم و إنذاره لهم على فترة من الرسل.
و قوله: «ألا تعبدوا إلا الله» تفسير للإنذار و فيه إشارة إلى أن أساس دينه الذي يرجع إليه تفاصيله هو التوحيد.
و قوله: «إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم» تعليل لدعوتهم إلى التوحيد، و الظاهر أن المراد باليوم العظيم يوم عذاب الاستئصال لا يوم القيامة يدل على ذلك ما سيأتي من قولهم: «فائتنا بما تعدنا» و قوله: «بل هو ما استعجلتم به» و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «قالوا أ جئتنا لتأفكنا عن آلهتنا» إلخ، جواب القوم له قبال إنذاره، و قوله: «لتأفكنا عن آلهتنا» بتضمين الإفك و هو الكذب و الفرية معنى الصرف و المعنى: قالوا أ جئتنا لتصرفنا عن آلهتنا إفكا و افتراء.
و قوله: «فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» أمر تعجيزي منهم له زعما منهم أنه (عليه السلام) كاذب في دعواته آفك في إنذاره.
قوله تعالى: «قال إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به» إلخ، جواب هود عن قولهم ردا عليهم، فقوله: «إنما العلم عند الله» قصر العلم بنزول العذاب فيه تعالى لأنه من الغيب الذي لا يعلم حقيقته إلا الله جل شأنه، و هو كناية عن أنه (عليه السلام) لا علم له بأنه ما هو؟ و لا كيف هو؟ و لا متى هو؟ و لذلك عقبه بقوله: «و أبلغكم ما أرسلت به» أي إن الذي حملته و أرسلت به إليكم هو الذي أبلغكموه و لا علم لي بالعذاب الذي أمرت بإنذاركم به ما هو؟ و كيف هو؟ و متى هو؟ و لا قدرة لي عليه.
و قوله: «و لكني أراكم قوما تجهلون» إضراب عما يدل عليه الكلام من نفيه العلم عن نفسه، و المعنى: لا علم لي بما تستعجلون به من العذاب و لكني أراكم قوما تجهلون فلا تميزون ما ينفعكم مما يضركم و خيركم من شركم حين تردون دعوة الله و تكذبون بآياته و تستهزءون بما يوعدكم به من العذاب.
قوله تعالى: «فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا» إلخ، صفة نزول العذاب إليهم بادىء ظهوره عليهم.
و العارض هو السحاب يعرض في الأفق ثم يطبق السماء و هو صفة العذاب الذي يرجع إليه ضمير «رأوه» المعلوم من السياق، و قوله: «مستقبل أوديتهم» صفة أخرى له، و الأودية جمع الوادي، و قوله: «قالوا هذا عارض ممطرنا» أي استبشروا ظنا منهم أنه سحاب عارض ممطر لهم فقالوا: هذا الذي نشاهده سحاب عارض ممطر إيانا.
و قوله: «بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم» رد لقولهم: «هذا عارض ممطرنا» بالإضراب عنه إلى بيان الحقيقة فبين أولا على طريق التهكم أنه العذاب الذي استعجلتم به حين قلتم: «فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين» و زاد في البيان ثانيا بقوله: «ريح فيها عذاب أليم».
و الكلام من كلامه تعالى و قيل: هو كلام لهود النبي (عليه السلام).
قوله تعالى: «تدمر كل شيء بإذن ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين» التدمير الإهلاك، و تعلقه بكل شيء و إن كان يفيد عموم التدمير لكن السياق يخصصه بنحو الإنسان و الدواب و الأموال، فالمعنى: أن تلك الريح ريح تهلك كل ما مرت عليه من إنسان و دواب و أموال.
و قوله: «فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم» بيان لنتيجة نزول العذاب، و قوله: «كذلك نجزي القوم المجرمين» إعطاء ضابط كلي في مجازاة المجرمين بتشبيه الكلي بالفرد الممثل به و التشبيه في الشدة أي إن سنتنا في جزاء المجرمين على هذا النحو الذي قصصناه من الشدة فهو كقوله تعالى: «و كذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى و هي ظالمة إن أخذه أليم شديد»: هود: 102.
قوله تعالى: «و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه» إلخ، موعظة لكفار مكة مستنتجة من القصة.
و التمكين إقرار الشيء و إثباته في المكان، و هو كناية عن إعطاء القدرة و الاستطاعة في التصرف و «ما» في «فيما» موصولة أو موصوفة و «إن» نافية، و المعنى: و لقد جعلنا قوم هود في الذي - أو في شيء - ما مكناكم معشر كفار مكة و من يتلوكم فيه من بسطة الأجسام و قوة الأبدان و البطش الشديد و القدرة القومية.
و قوله: «و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة» أي جهزناهم بما يدركون به ما ينفعهم و ما يضرهم و هو السمع و الأبصار و ما يميزون به ما ينفعهم مما يضرهم فيحتالون لجلب النفع و لدفع الضر بما قدروا كما أن لكم ذلك.
و قوله: «فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله» ما في «فما أغنى» نافية لا استفهامية، و «إذ» ظرف متعلق بالنفي الذي في قوله: «فما أغنى».
و محصل المعنى: أنهم كانوا من التمكن على ما ليس لكم ذلك و كان لهم من أدوات الإدراك و التمييز ما يحتال به الإنسان لدفع المكاره و الاتقاء من الحوادث المهلكة المبيدة لكن لم يغن عنهم و لم ينفعهم هذه المشاعر و الأفئدة شيئا عند ما جحدوا آيات الله فما الذي يؤمنكم من عذاب الله و أنتم جاحدون لآيات الله.
و قيل: معنى الآية: و لقد مكناهم في الذي أو في شيء ما مكناكم فيه من القوة و الاستطاعة و جعلنا لهم سمعا و أبصارا و أفئدة ليستعملوها فيما خلقت له و يسمعوا كلمة الحق و يشاهدوا آيات التوحيد و يعتبروا بالتفكر في العبر، و يستدلوا بالتعقل الصحيح على المبدإ و المعاد فما أغنى عنهم سمعهم و لا أبصارهم و لا أفئدتهم من شيء حيث لم يستعملوها فيما يوصل إلى معرفة الله سبحانه، هذا و لعل الذي قدمناه من المعنى أنسب للسياق.
و قد جوزوا في مفردات الآية وجوها لم نوردها لعدم جدوى فيها.
و قد تقدم في نظائر قوله: «سمعا و أبصارا و أفئدة» أن إفراد السمع - و المراد منه الجمع - لمكان مصدريته في الأصل نظير الضيف و القربان و الجنب، قال تعالى: «ضيف إبراهيم المكرمين»: الذاريات: 24 و قال: «إذ قربا قربانا»: المائدة: 27، و قال: «و إن كنتم جنبا»: المائدة: 6.
و قوله: «و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون» عطف على قوله: «ما أغنى عنهم» إلخ.
قوله تعالى: «و لقد أهلكنا ما حولكم من القرى» تذكرة إنذارية متفرعة على العظة التي في قوله: «و لقد مكناهم» إلخ، فهي معطوفة عليه على ما يفيده السياق لا على قوله: «و اذكر أخا عاد».
و قوله: «و صرفنا الآيات لعلهم يرجعون» أي و صيرنا الآيات المختلفة من معجزة أيدنا بها الأنبياء و وحي أنزلناه عليهم و نعم رزقناهموها ليتذكروا بها و نقم ابتليناهم بها ليتوبوا و ينصرفوا عن ظلمهم لعلهم يرجعون من عبادة غير الله سبحانه إلى عبادته.
و الضمير في «لعلهم يرجعون» راجع إلى القرى و المراد بها أهل القرى.
قوله تعالى: «فلو لا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة» إلخ، ظاهر السياق أن آلهة مفعول ثان لاتخذوا و مفعوله الأول هو الضمير الراجع إلى الموصول و «قربانا» بمعنى ما يتقرب به، و الكلام مسوق للتهكم، و المعنى: فلو لا نصرهم الذين اتخذوهم آلهة حال كونهم متقربا بهم إلى الله كما كانوا يقولون: «ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى».
و قوله: «بل ضلوا عنهم» أي ضل الآلهة عن أهل القرى و انقطعت رابطة الألوهية و العبودية التي كانوا يزعمونها و يرجون بذلك أن ينصروهم عند الشدائد و المكاره فالضلال عنهم كناية عن بطلان مزعمتهم.
و قوله: «و ذلك إفكهم و ما كانوا يفترون» مبتدأ و خبر و الإشارة إلى ضلال آلهتهم، و المراد بالإفك أثر الإفك أو بتقدير مضاف، و «ما» مصدرية، و المعنى: و ذلك الضلال أثر إفكهم و افترائهم.
و يمكن أن يكون الكلام على صورته من غير تقدير مضاف أو تجوز و الإشارة إلى إهلاكهم بعد تصريف الآيات و ضلال آلهتهم عند ذلك، و محصل المعنى: أن هذا الذي ذكرناه من عاقبة أمرهم هو حقيقة زعمهم أن الآلهة يشفعون لهم و يقربونهم من الله زعمهم الذي أفكوه و افتروه، و الكلام مسوق للتهكم.
|