بيان
هذه هي القصة الثانية عقبت بها قصة عاد ليعتبر بها قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن اعتبروا، و فيه تقريع للقوم حيث كفروا به (صلى الله عليه وآله وسلم) و بكتابه النازل على لغتهم و هم يعلمون أنها آية معجزة و هم مع ذلك يماثلونه في النوعية البشرية و قد آمن الجن بالقرآن إذ استمعوا إليه و رجعوا إلى قومهم منذرين.
قوله تعالى: «و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن» إلى آخر الآية الصرف رد الشيء من حالة إلى حالة أو من مكان إلى مكان، و النفر - على ما ذكره الراغب - عدة من الرجال يمكنهم النفر و هو اسم جمع يطلق على ما فوق الثلاثة من الرجال و النساء و الإنسان و على الجن كما في الآية و «يستمعون القرآن» صفة نفر، و المعنى: و اذكر إذ وجهنا إليك عدة من الجن يستمعون القرآن.
و قوله: «فلما حضروه قالوا أنصتوا» ضمير «حضروه» للقرآن بما يلمح إليه من المعنى الحدثي و الإنصات السكوت للاستماع أي فلما حضروا قراءة القرآن و تلاوته قالوا أي بعضهم لبعض: اسكتوا حتى نستمع حق الاستماع.
و قوله: «فلما قضى ولوا إلى قومهم منذرين» ضمير «قضى» للقرآن باعتبار قراءته و تلاوته، و التولية الانصراف و «منذرين» حال من ضمير الجمع في «ولوا» أي فلما أتمت القراءة و فرغ منها انصرفوا إلى قومهم حال كونهم منذرين مخوفين لهم من عذاب الله.
قوله تعالى: «قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه» إلخ، حكاية دعوتهم قومهم و إنذارهم لهم، و المراد بالكتاب النازل بعد موسى القرآن، و في الكلام إشعار بل دلالة على كونهم مؤمنين بموسى (عليه السلام) و كتابه، و المراد بتصديق القرآن لما بين يديه تصديقه التوراة أو جميع الكتب السماوية السابقة.
و قوله: «يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم» أي يهدي من اتبعه إلى صراط الحق و إلى طريق مستقيم لا يضل سالكوه عن الحق في الاعتقاد و العمل.
قوله تعالى: «يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم و يجركم من عذاب أليم» المراد بداعي الله هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة»: يوسف: 108، و قيل: المراد به ما سمعوه من القرآن و هو بعيد.
و الظاهر أن «من» في «يغفر لكم من ذنوبكم» للتبعيض، و المراد مغفرة بعض الذنوب و هي التي اكتسبوها قبل الإيمان، قال تعالى: «إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف»: الأنفال: 38.
و قيل: المراد بهذا البعض حقوق الله سبحانه فإنها مغفورة بالتوبة و الإيمان توبة و أما حقوق الناس فإنها غير مغفورة بالتوبة، و رد بأن الإسلام يجب ما قبله.
قوله تعالى: «و من لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض و ليس له من دونه أولياء» إلخ، أي و من لم يؤمن بداعي الله فليس بمعجز لله في الأرض برد دعوته و ليس له من دون الله أولياء ينصرونه و يمدونه في ذلك، و المحصل: أن من لم يجب داعي الله في دعوته فإنما ظلم نفسه و ليس له أن يعجز الله بذلك لا مستقلا و لا بنصرة من ينصره من الأولياء فليس له أولياء من دون الله، و لذلك أتم الكلام بقوله: «أولئك في ضلال مبين».
قوله تعالى: «أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض و لم يعي بخلقهن بقادر» إلخ، الآية و ما بعدها إلى آخر السورة متصلة بما تقدم من قوله تعالى: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم» إلخ، و فيها تتميم القول فيما به الإنذار في هذه السورة و هو المعاد و الرجوع إلى الله تعالى كما أشرنا إليه في البيان المتقدم.
و المراد بالرؤية العلم عن بصيرة، و العي العجز و التعب، و الأول أفصح على ما قيل، و الباء في «بقادر» زائدة لوقوعها موقعا فيه شائبة حيز النفي كأنه قيل: أ ليس الله بقادر.
و المعنى: أ و لم يعلموا أن الله الذي خلق السماوات و الأرض و لم يعجز عن خلقهن أو لم يتعب بخلقهن قادر على إحياء الموتى - و هو تعالى مبدىء وجود كل شيء و حياته - بلى هو قادر لأنه على كل شيء قدير، و قد أوضحنا هذه الحجة فيما تقدم غير مرة.
قوله تعالى: «و يوم يعرض الذين كفروا على النار أ ليس هذا بالحق» إلى آخر الآية، تأييد للحجة المذكورة في الآية السابقة بالإخبار عما سيجري على منكري المعاد يوم القيامة، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل و لا تستعجل لهم» إلى آخر الآية، تفريع على حقية المعاد على ما دلت عليه الحجة العقلية و أخبر به الله سبحانه و نفي الريب عنه.
و المعنى: فاصبر على جحود هؤلاء الكفار و عدم إيمانهم بذاك اليوم كما صبر أولوا العزم من الرسل و لا تستعجل لهم بالعذاب فإنهم سيلاقون اليوم بما فيه من العذاب و ليس اليوم عنهم ببعيد و إن استبعدوه.
و قوله: «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار» تبيين لقرب اليوم منهم و من حياتهم الدنيا بالإخبار عن حالهم حينما يشاهدون ذلك اليوم فإنهم إذا رأوا ما يوعدون من اليوم و ما هيىء لهم فيه من العذاب كان حالهم حال من لم يلبث في الأرض إلا ساعة من نهار.
و قوله: «بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون» أي هذا القرآن بما فيه من البيان تبليغ من الله من طريق النبوة فهل يهلك بهذا الذي بلغه الله من الإهلاك إلا القوم الفاسقون الخارجون عن زي العبودية.
و قد أمر الله سبحانه في هذه الآية نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل و فيه تلويح إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم فليصبر كصبرهم، و معنى العزم هاهنا أما الصبر كما قال بعضهم لقوله تعالى: «و لمن صبر و غفر إن ذلك لمن عزم الأمور»: الشورى: 43، و إما العزم على الوفاء بالميثاق المأخوذ من الأنبياء كما يلوح إليه قوله: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما»: طه: 115، و إما العزم بمعنى العزيمة و هي الحكم و الشريعة.
و على المعنى الثالث و هو الحق الذي تذكره روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هم خمسة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عليهم و لقوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى»: الشورى: 13، و قد مر تقريب معنى الآية.
و عن بعض المفسرين أن جميع الرسل أولوا العزم، و قد أخذ «من الرسل» بيانا لأولي العزم في قوله: «أولوا العزم من الرسل» و عن بعضهم أنهم الرسل الثمانية عشر المذكورون في سورة الأنعام الآية 83 - 90 لأنه تعالى قال بعد ذكرهم: «فبهداهم اقتده».
و فيه أنه تعالى قال بعد عدهم: «و من آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم» ثم قال: «فبهداهم اقتده» و لم يقل ذلك بعد عدهم بلا فصل.
و عن بعضهم أنهم تسعة: نوح و إبراهيم و الذبيح و يعقوب و يوسف و أيوب و موسى و داود و عيسى، و عن بعضهم أنهم سبعة: آدم و نوح و إبراهيم و موسى و داود و سليمان و عيسى، و عن بعضهم أنهم ستة و هم الذين أمروا بالقتال: نوح و هود و صالح و موسى و داود و سليمان، و ذكر بعضهم أن الستة هم نوح و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف و أيوب، و عن بعضهم أنهم خمسة و هم: نوح و هود و إبراهيم و شعيب و موسى، و عن بعضهم أنهم أربعة: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى، و ذكر بعضهم أن الأربعة هم نوح و إبراهيم و هود و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عليهم أجمعين.
و هذه الأقوال بين ما لم يستدل عليه بشيء أصلا و بين ما استدل عليه بما لا دلالة فيه، و لذا أغمضنا عن نقلها، و قد تقدم في أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب بعض الكلام في أولي العزم من الرسل فراجعه إن شئت.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن» الآيات، كان سبب نزول هذه الآيات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج من مكة إلى سوق عكاظ، و معه زيد بن حارثة يدعو الناس إلى الإسلام فلم يجبه أحد و لم يجد أحدا يقبله ثم رجع إلى مكة. فلما بلغ موضعا يقال له: وادي مجنة تهجد بالقرآن في جوف الليل فمر به نفر من الجن فلما سمعوا قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استمعوا له فلما سمعوا قرآنه قال بعضهم لبعض: «أنصتوا» يعني اسكتوا «فلما قضى» أي فرغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من القرآن «ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا» إلى آخر الآيات. فجاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أسلموا و آمنوا و علمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شرائع الإسلام فأنزل الله عز و جل على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن» السورة كلها، فحكى الله قولهم و ولى عليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم، و كانوا يعودون إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كل وقت فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يعلمهم و يفقههم فمنهم مؤمنون و كافرون و ناصبون و يهود و نصارى و مجوس، و هم ولد الجان.
أقول: و الروايات في قصة هؤلاء النفر من الجن الذين استمعوا إلى القرآن كثيرة مختلفة اختلافا شديدا، و لا سبيل إلى تصحيح متونها بالكتاب أو بقرائن موثوق بها و لذا اكتفينا منها على ما تقدم من خبر القمي و سيأتي نبذ منها في تفسير سورة الجن إن شاء الله تعالى.
و فيه،: سئل العالم (عليه السلام) عن مؤمني الجن أ يدخلون الجنة؟ فقال: لا، و لكن لله حظائر بين الجنة و النار يكون فيها مؤمنوا الجن و فساق الشيعة.
أقول: و روي مثله في بعض الروايات الموقوفة من طرق أهل السنة، و رواية القمي مرسلة كالمضمرة فإن قبلت فلتحمل على أدنى مراتب الجنة و عمومات الكتاب تدل على عموم الثواب للمطيعين من الإنس و الجن.
و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: سادة النبيين و المرسلين خمسة: و هم أولوا العزم من الرسل و عليهم دارت الرحى: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و على جميع الأنبياء.
و فيه، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أول وصي كان على وجه الأرض هبة الله بن آدم، و ما من نبي مضى إلا و له وصي. و كان جميع الأنبياء مائة ألف و عشرين ألف نبي: منهم خمسة أولوا العزم: نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و سلم و عليهم. الحديث.
أقول: كون أولي العزم خمسة مما استفاضت عليه الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فهو مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عن الباقر و الصادق و الرضا (عليهما السلام) بطرق كثيرة.
و عن روضة الواعظين للمفيد،: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كم بين الدنيا و الآخرة؟ قال: غمضة عين قال الله عز و جل: «كأنهم يوم يرون ما يوعدون - لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ» الآية.
|