بيان
الآيات من تتمة الآيات النازلة في خصوص غزوة أحد، و فيه تعرض لحال عدة من المنافقين خذلوا جماعة المؤمنين عند خروجهم من المدينة إلى أحد، و فيها جواب ما قالوه في المقتولين، و وصف حال المستشهدين بعد القتل و أنهم منعمون في حضرة القرب يستبشرون بإخوانهم من خلفهم.
قوله تعالى: «أ و لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها» لما نهاهم أن يكونوا كالذين كفروا في التحزن لقتلاهم و التحسر عليهم ببيان أن أمر الحياة و الموت إلى الله وحده لا إليهم حتى يدورا مدار قربهم و بعدهم و خروجهم إلى القتال أو قعودهم عنه رجع ثانيا إلى بيان سببه القريب على ما جرت عليه سنة الأسباب، فبين أن سببه إنما هو المعصية الواقعة يوم أحد منهم و هو معصية الرماة بتخلية مراكزهم، و معصية من تولى منهم عن القتال بعد ذلك، و بالجملة سببه معصيتهم الرسول - و هو قائدهم - و فشلهم و تنازعهم في الأمر و ذلك سبب للانهزام بحسب سنة الطبيعة و العادة.
فالآية في معنى قوله: أ تدرون من أين أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها؟ إنما أصابتكم من عند أنفسكم و هو إفسادكم سبب الفتح و الظفر بأيديكم و مخالفتكم قائدكم و فشلكم و اختلاف كلمتكم.
و قد وصفت المصيبة بقوله: قد أصبتم مثليها و هو إشارة إلى مقايسة ما أصابهم الكفار يوم أحد، و هو قتل سبعين رجلا منهم بما أصابوا الكفار يوم بدر و هو مثلا السبعين فإنهم قتلوا منهم يوم بدر سبعين رجلا و أسروا سبعين رجلا.
و في هذا التوصيف تسكين لطيش قلوبهم و تحقير للمصيبة فإنهم أصيبوا من أعدائهم بنصف ما أصابوهم فلا ينبغي لهم أن يحزنوا أو يجزعوا.
و قيل: إن معنى الآية: أنكم أنفسكم اخترتم هذه المصيبة، و ذلك أنهم اختاروا الفداء من الأسرى يوم بدر، و كان الحكم فيهم القتل، و شرط عليهم أنكم إن قبلتم الفداء قتل منكم في القابل بعدتهم فقالوا: رضينا فإنا نأخذ الفداء و ننتفع به، و إذا قتل منا فيما بعد كنا شهداء.
و يؤيد هذا الوجه بل يدل عليه ما ذيل به الآية أعني قوله: إن الله على كل شيء قدير إذ لا تلائم هذه الفقرة الوجه السابق البتة إلا بتعسف، و سيجيء روايته عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في البحث الروائي الآتي.
قوله تعالى: «و ما أصابكم يوم التقى الجمعان» إلى آخر الآيتين، الآية الأولى تؤيد ما تقدم أن المراد بقوله: قل هو من عند أنفسكم، اختيارهم الفداء من أسرى يوم بدر، و شرطهم على أنفسهم لله ما شرطوا فإصابة هذه المصيبة بإذن الله، و أما الوجه الأول المذكور و هو أن المعنى أن سبب إصابة المصيبة القريب هو مخالفتكم فلا تلاؤم ظاهرا بينه و بين نسبة المصيبة إلى إذن الله و هو ظاهر.
فعلى ما ذكرنا يكون ذكر استناد إصابة المصيبة إلى إذن الله بمنزلة البيان لقوله: هو من عند أنفسكم، و ليكون توطئة لانضمام قوله: و ليعلم المؤمنين، و بانضمامه يتمهد الطريق للتعرض لحال المنافقين و ما تكلموا به و جوابه و بيان حقيقة هذا الموت الذي هو القتل في سبيل الله.
و قوله: أو ادفعوا أي لو لم تقاتلوا في سبيل الله فادفعوا عن حريمكم و أنفسكم و قوله: هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان، اللام بمعنى إلى فهذا حالهم بالنسبة إلى الكفر الصريح، و أما النفاق فقد واقعوه بفعلهم ذلك.
و قوله: «يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم»، ذكر الأفواه للتأكيد و للتقابل بينها و بين القلوب.
قوله تعالى: «الذين قالوا لإخوانهم و قعدوا لو أطاعونا ما قتلوا»، المراد بإخوانهم إخوانهم في النسب و هم القتلى، و إنما ذكر إخوتهم لهم ليكون مع انضمام قوله: و قعدوا أوقع تعيير و تأنيب عليهم فإنهم قعدوا عن إمداد إخوانهم حتى أصابهم ما أصابهم من القتل الذريع، و قوله: قل فادرءوا جواب عن قولهم ذاك، و الدرء: الدفع.
قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا» الآية، و في الآية التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الوجه فيه ما تكرر ذكره في تضاعيف هذه الآيات، و يحتمل أن يكون الخطاب تتمة الخطاب في قوله: قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين.
و المراد بالموت بطلان الشعور و الفعل، و لذا ذكرهما في قوله: بل أحياء «إلخ» حيث ذكر الارتزاق و هو فعل، و الفرح الاستبشار و معهما شعور.
قوله تعالى: فرحين بما ءاتاهم الله الآية، الفرح ضد الحزن و، البشارة و البشرى ما يسرك من الخبر و الاستبشار طلب السرور بالبشرى، و المعنى: أنهم فرحون بما وجدوه من الفضل الإلهي الحاضر المشهود عندهم، و يطلبون السرور بما يأتيهم من البشرى بحسن حال من لم يلحقوا بهم من خلفهم أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون.
و من ذلك يظهر أولا أن هؤلاء المقتولين في سبيل الله يأتيهم و يتصل بهم أخبار خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا.
و ثانيا أن هذه البشرى هي ثواب أعمال المؤمنين و هو أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و ليس ذلك إلا بمشاهدتهم هذا الثواب في دارهم التي هم فيها مقيمون فإنما شأنهم المشاهدة دون الاستدلال ففي الآية دلالة على بقاء الإنسان بعد الموت ما بينه و بين يوم القيامة، و قد فصلنا القول فيه في الكلام على نشأة البرزخ في ذيل قوله تعالى: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات الآية: «البقرة: 154».
قوله تعالى: «يستبشرون بنعمة من الله و فضل» الآية، هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال غيرهم و بحال أنفسهم و الدليل عليه قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فإنه بإطلاقه شامل للجميع، و لعل هذه هي النكتة في تكرار الاستبشار و كذا تكرار الفضل فتدبر في الآية.
و قد نكر الفضل و النعمة و أبهم الرزق في الآيات ليذهب ذهن السامع فيها كل مذهب ممكن، و لذا أبهم الخوف و الحزن ليدل في سياق النفي على العموم.
و التدبر في الآيات يعطي أنها في صدد بيان أجر المؤمنين أولا، و أن هذا الأجر رزقهم عند الله سبحانه ثانيا، و أن هذا الرزق نعمة من الله و فضل ثالثا، و أن الذي يشخص هذه النعمة و الفضل هو أنهم لا خوف عليهم و لا هم يحزنون رابعا.
و هذه الجملة أعني قوله: أن لا خوف عليهم و لا هم يحزنون كلمة عجيبة كلما أمعنت في تدبرها زاد في اتساع معناها على لطف و رقة و سهولة بيان، و أول ما يلوح من معناها أن الخوف و الحزن مرفوعان عنهم، و الخوف إنما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيء من سعادة الإنسان التي يقدر نفسه واجدة لها، و كذا الحزن إنما يكون من جهة أمر واقع يوجب ذلك، فالبلية أو كل محذور إنما يخاف منها إذا لم يقع بعد فإذا وقعت زال الخوف و عرض الحزن فلا خوف بعد الوقوع و لا حزن قبله.
فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنما يكون إذا لم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال، و ارتفاع مطلق الحزن إنما يتيسر له إذا لم يفقد شيئا من أنواع سعادته لا ابتداء و لا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف و الحزن عن الإنسان معناه أن يفيض عليه كل ما يمكنه أن يتنعم به و يستلذه، و أن لا يكون ذلك في معرض الزوال، و هذا هو خلود السعادة للإنسان و خلوده فيها.
و من هنا يتضح أن نفي الخوف و الحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند الله فهو سبحانه يقول: و ما عند الله خير: «آل عمران: 198»، و يقول: و ما عند الله باق: «النحل: 96» فالآيتان تدلان على أن ما عند الله نعمة باقية لا يشوبها نقمة و لا يعرضها فناء.
و يتضح أيضا أن نفيهما هو بعينه إثبات النعمة و الفضل و هو العطية لكن تقدم في أوائل الكتاب و سيجيء في قوله تعالى: مع الذين أنعم الله عليهم: «النساء: 69»، أن النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، و على ذلك فالمعنى: أن الله يتولى أمرهم و يخصهم بعطية منه.
و أما احتمال أن يكون المراد بالفضل الموهبة الزائدة على استحقاقهم بالعمل، و النعمة ما بحذائه فلا يلائمه قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين فإن الأجر يؤذن بالاستحقاق، و قد عرفت أن هذه الفقرات أعني قوله: عند ربهم يرزقون و قوله: فرحين بما إلخ و قوله: يستبشرون بنعمة إلخ، و قوله: و أن الله لا يضيع أجر المؤمنين مآلها إلى حقيقة واحدة.
و في الآيات أبحاث أخر تقدم بعضها في تفسير قوله: و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات: «البقرة: 154»، و لعل الله يوفقنا لاستيفاء ما يسعنا من البحث فيها في ما سيجيء من الموارد المناسبة إن شاء الله تعالى.
|