بيان
قوله تعالى: قلنا يا آدم اسكن، على أن قصة سجود الملائكة لآدم تكررت في عدة مواضع من القرآن الكريم.
لم يقع قصة الجنة إلا في ثلاث مواضع: أحدها: هاهنا من سورة البقرة.
الثاني: في سورة الأعراف.
قال الله تعالى: «و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين. فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما و قال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين. فدليهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين. قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين. قال: اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين. قال: فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون»: الآيات 19، 25.
و الثالث: في سورة طه.
قال الله تعالى: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما. و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى. فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى. إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى. فوسوس إليه الشيطان فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى. فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة و عصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى. قال: اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى. قال: رب لم حشرتني أعمى و قد كنت بصيرا. قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها و كذلك اليوم تنسى».
الآيات.
و سياق الآيات و خاصة قوله تعالى في صدر القصة: إني جاعل في الأرض خليفة يعطي أن آدم (عليه السلام) إنما خلق ليحيا في الأرض و يموت فيها و إنما أسكنهما الله الجنة لاختبارهما و لتبدو لهما سوآتهما حتى يهبطا إلى الأرض، و كذا سياق قوله تعالى في سورة طه: فقلنا يا آدم، و في سورة الأعراف: و يا آدم اسكن حيث سبك قصة الجنة مع قصة إسجاد الملائكة كلتيهما كقصة واحدة متواصلة، و بالجملة فهو (عليه السلام) كان مخلوقا ليسكن الأرض، و كان الطريق إلى الاستقرار في الأرض هذا الطريق، و هو تفضيله على الملائكة لإثبات خلافته، ثم أمرهم بالسجدة، ثم إسكان الجنة.
و النهي عن قرب الشجرة المنهية حتى يأكلا منها فيبدو لهما سوآتهما فيهبطا إلى الأرض، فآخر العوامل للاستقرار في الأرض، و انتخاب الحياة الدنيوية ظهور السوأة، و هي العورة بقرينة قوله تعالى: و طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة فهو التمايل الحيواني و يستلزم التغذي و النمو أيضا فما كان لإبليس هم إلا إبداء سوآتهما، و آدم و زوجته و إن كانا قد سواهما الله تعالى تسوية أرضية بشرية ثم أدخلهما الجنة لم يمكثا بعد التسوية، و لم يمهلا كثيرا، ليتم في الدنيا إدراكهما لسوآتهما و لا لغيرها من لوازم الحياة الدنيا و احتياجاتها حتى أدخلهما الله الجنة، و أنه إنما أدخلهما الله الجنة حين أدخلهما و لما ينفصلا و لما ينقطع إدراكهما عن عالم الروح و الملائكة، و الدليل على ذلك قوله تعالى: ليبدي لهما ما ووري عنهما و لم يقل ما كان ووري عنهما، و هو مشعر بأن مواراة السوآة ما كانت ممكنة في الحياة الدنيا استدامة و إنما تمشت دفعة ما و استعقب ذلك إسكان الجنة فظهور السوآة كان مقضيا محتوما في الحياة الأرضية و مع أكل الشجرة، و لذلك قال تعالى: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، و قال تعالى: و أخرجهما مما كانا فيه و أيضا هو تعالى غفر خطيئتهما بعد ما تابا و لم يرجعهما إلى الجنة بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها و لو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة و ظهور السوآة حتما مقضيا، و الرجوع إلى الجنة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنة و هبوطهما هو الأكل من الشجرة و ظهور السوآة، و كان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين، و قد قال تعالى في سورة طه في صدر القصة: «و لقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي و لم نجد له عزما».
ثم ساق تعالى القصة.
فهل هذا العهد هو قوله تعالى: لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين؟ أو أنه قوله تعالى: إن هذا عدو لك و لزوجك أو أنه العهد بمعنى الميثاق العمومي المأخوذ من جميع الإنسان، و من الأنبياء خاصة بوجه آكد و أغلظ.
و الاحتمال الأول غير صحيح لقوله تعالى: «فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما و قال ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين» الآيتان فهما قد كانا حين اقتراف الخطيئة و اقتراب الشجرة على ذكر من النهي، و قد قال تعالى: «فنسي و لم نجد له عزما» فالعهد المذكور ليس هو النهي عن قرب الشجرة و أما الاحتمال الثاني و هو أن يكون العهد المذكور هو التحذير عن اتباع إبليس فهو و إن لم يكن بالبعيد، كل البعيد، لكن ظواهر الآيات لا تساعد عليه فإن العهد مخصوص بآدم (عليه السلام) كما هو ظاهر الآية.
مع أن التحذير عن إبليس كان لهما معا، و أيضا ذيل الآيات و هو على طبق صدرها في سورة طه يناسب العهد بمعنى الميثاق الكلي، لا العهد بمعنى التحذير عن إبليس، قال تعالى: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى الآيات» فبحسب التطبيق ينطبق قوله تعالى: و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا على نسيان العهد و هو كما ترى مع العهد بمعنى الميثاق على الربوبية و العبودية أنسب منه مع التحذير من إبليس، إذ لا كثير مناسبة بحسب المفهوم بين الإعراض عن الذكر و اتباع إبليس، و أما الميثاق على الربوبية فهو له أنسب، فإن الميثاق على الربوبية هو أن لا ينسى الإنسان كونه تعالى ربا له أي مالكا مدبرا أي لا ينسى الإنسان أبدا و لا في حال أنه مملوك طلق لا يملك لنفسه شيئا لا نفعا و لا ضرا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا، أي لا ذاتا و لا وصفا و لا فعلا.
و الخطيئة التي تقابله هو إعراض الإنسان عن ذكر مقام ربه و الغفلة عنه بالالتفات إلى نفسه أو ما يعود و يرجع إلى نفسه من زخارف الحياة الدنيا الفانية البالية هذا.
لكنك إذا أمعنت النظر في الحياة الدنيا على اختلاف جهاتها و تشتت أطرافها و أنحائها و وحدتها و اشتراكها بين المؤمن و الكافر وجدتها بحسب الحقيقة و الباطن مختلفة في الموردين بحسب ذوق العلم بالله تعالى و الجهل به فالعارف بمقام ربه إذا نظر إلى نفسه و كذلك إلى الحياة الدنيا الجامعة لأقسام الكدورات و أنواع الآلام و ضروب المكاره من موت و حياة، و صحة و سقم، و سعة و إقتار، و راحة و تعب، و وجدان و فقدان.
على أن الجميع أعم مما في نفس الإنسان أو في غيره مملوكة لربه، لا استقلال لشيء منها و فيها، بل الكل ممن ليس عنده إلا الحسن و البهاء و الجمال و الخير على ما يليق بعزته و جلاله، و لا يترشح من لدنه إلا الجميل و الخير، فإذا نظر إليها و هي هكذا لم ير مكروها يكرهه و لا مخوفا يخافه، و لا مهيبا يهابه، و لا محذورا يحذره، بل يرى كل ما يراه حسنا محبوبا إلا ما يأمره ربه أن يكرهه و يبغضه، و هو مع ذلك يكرهه لأمره، و يحب ما يحب و يلتذ و يبتهج بأمره، لا شغل له إلا بربه، كل ذلك لما يرى الجميع ملكا طلقا لربه لا نصيب و لا حظ لشيء غيره في شيء منها، فما له و لمالك الأمر و ما يتصرف به في ملكه؟ من إحياء و إماتة، و نفع و ضر و غيرها، فهذه هي الحياة الطيبة التي لا شقاء فيها البتة و هي نور لا ظلمة معه، و سرور لا غم معه، و وجدان لا فقد معه، و غنى لا فقر معه كل ذلك بالله سبحانه، و في مقابل هذه الحياة حياة الجاهل بمقام ربه، إذ هذا المسكين بانقطاعه عن ربه لا يقع بصره على موجود من نفسه و غيره إلا رآه مستقلا بنفسه ضارا أو نافعا خيرا أو شرا فهو يتقلب في حياته بين الخوف عما يخاف فوته، و الحذر عما يحذر وقوعه، و الحزن لما يفوته، و الحسرة لما يضيع عنه من جاه أو مال أو بنين أو أعوان و سائر ما يحبه و يتكل و يعتمد عليه و يؤثره.
كلما نضج جلده بالاعتياد بمكروه و السكون إلى مرارة بدل جلدا غيره، ليذوق العذاب بفؤاد مضطرب قلق، و حشى ذائب محترق، و صدر ضيق حرج، كأنما يصعد في السماء، كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون.
إذا عرفت هذا علمت: أن مرجع الأمرين أعني نسيان الميثاق و شقاء الحياة الدنيا واحد، و أن الشقاء الدنيوي من فروع نسيان الميثاق.
و هذا هو الذي يشعر به كلامه سبحانه حيث أتى بالتكليف الجامع لأهل الدنيا في سورة طه فقال تعالى: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى. و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى».
و بدل ذلك في هذه السورة من قوله: «فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون».
و من هنا تحدس إن كنت ذا فطانة أن الشجرة كانت شجرة في اقترابها تعب الحياة الدنيا و شقاؤها، و هو أن يعيش الإنسان في الدنيا ناسيا لربه، غافلا عن مقامه، و أن آدم (عليه السلام) كأنه أراد أن يجمع بينها و بين الميثاق المأخوذ عليه، فلم يتمكن فنسي الميثاق و وقع في تعب الحياة الدنيا، ثم تدورك له ذلك بالتوبة.
قوله تعالى: «و كلا منها رغدا» الرغد الهناء و طيب العيش و أرغد القوم مواشيهم تركوها ترعى كيف شاءت، و قوم رغد، و نساء رغد، أي ذوو عيش رغيد.
و قوله تعالى: «و لا تقربا هذه الشجرة» و كأن النهي إنما كان عن أكل الثمرة و إنما تعلق بالقرب من الشجرة إيذانا بشدة النهي و مبالغة في التأكيد و يشهد بذلك قوله تعالى «فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما»:، الأعراف - 22.
و قوله تعالى: «فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما»: طه - 121، فكانت المخالفة بالأكل فهو المنهي عنه بقوله: و لا تقربا.
قوله تعالى: فتكونا من الظالمين، من الظلم لا من الظلمة على ما احتمله بعضهم و قد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا».
إلا أنه تعالى بدل في سورة طه هذه الكلمة أعني قوله: فتكونا من الظالمين من قوله فتشقى و الشقاء هو التعب ثم فسر التعب و فصله، فقال: «إن لك ألا تجوع فيها و لا تعرى و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى الآيات».
و من هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الدنيا من جوع و عطش و عراء و عناء و على هذا فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة و الظلم على الله سبحانه.
و من هنا يظهر أيضا أن هذا النهي أعني قوله: و لا تقربا، إنما كان نهيا تنزيهيا إرشاديا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف و صلاحه في مقام النصح لا نهيا مولويا.
فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت و لم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا و قبلت توبتهما و لم يرجعا إلى ما كانا فيه من الجنة و لو لا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزام قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب و سيأتي لهذا الكلام بقية فيما سيأتي إن شاء الله.
قوله سبحانه: فأزلهما الشيطان، الظاهر من هذه الجملة كنظائرها و إن لم يكن أزيد من وسوسة الشيطان لهما مثل ما يوسوس لنا بني آدم على نحو إلقاء الوسوسة في القلب من غير رؤية الشخص.
لكن الظاهر من أمثال قوله تعالى في سورة طه: «فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك و لزوجك» يدل على أنه تعالى أراهما الشيطان و عرفهما إياه بالشخص و العين دون الوصف و كذا قوله تعالى حكاية عن الشيطان: «يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد» الآية حيث أتى بالكلام في صورة حكاية الخطاب، و يدل ذلك على متكلم مشعور به.
و كذا قوله تعالى في سورة الأعراف: «و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين» و القسم إنما يكون من مقاسم مشعور به.
و كذا قوله تعالى: «و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين» كل ذلك يدل على أنه كان يتراءى لهما و كانا يشاهدانه.
و لو كان حالهما (عليهما السلام) مثل حالنا من عدم المشاهدة حين الوسوسة لجاز لهما أن يقولا: ربنا إننا لم نشعر و خلنا أن هذه الوساوس هي من أفكارنا من غير استشعار بحضوره، و لا قصد لمخالفة ما وصيتنا به من التحذير من وسوسته.
و بالجملة فهما كانا يشاهدانه و يعرفانه، و الأنبياء و هم المعصومون بعصمة الله كذلك يعرفونه و يشاهدونه حين تعرضه بهم لو تعرض على ما وردت به الروايات في نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى و أيوب و إسماعيل و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا.
و كذا ظاهر هذه الآيات كظاهر قوله تعالى: «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة» حيث ينبىء عن كونهما معه لعنه الله بحيال الشجرة في الجنة، فقد كان دخل الجنة، و صاحبهما و غرهما بوسوسته، و لا محذور فيه إذ لم تكن الجنة جنة الخلد حتى لا يدخلها الشيطان، و الدليل على ذلك خروجهم جميعا من هذه الجنة.
و أما قوله تعالى خطابا لإبليس: «فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج منها»: الأعراف - 13، فيمكن أن يكون المراد به الخروج من الملائكة، أو الخروج من السماء من جهة كونها مقام قرب و تشريف.
قوله تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو» الآية ظاهر السياق أنه خطاب لآدم و زوجته و إبليس و قد خص إبليس وحده بالخطاب في سورة الأعراف حيث قال: «فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها» الآية فقوله تعالى: اهبطوا كالجمع بين الخطابين و حكاية عن قضاء قضى الله به العداوة بين إبليس لعنه الله و بين آدم و زوجته و ذريتهما، و كذلك قضى به حياتهم في الأرض و موتهم فيها و بعثهم منها.
و ذرية آدم مع آدم في الحكم كما ربما يستشعر من ظاهر قوله: «فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون» الآية و كما سيأتي في قوله تعالى: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم» الآية من سورة الأعراف.
إن إسجاد الملائكة لآدم (عليه السلام) إنما كان من جهة أنه خليفة أرضي، فكان المسجود له آدم و حكم السجدة لجميع البشر، فكان أقامه آدم (عليه السلام) مقام المسجود له معنونا بعنوان الأنموذج و النائب.
و بالجملة يشبه أن تكون هذه القصة التي قصها الله تعالى من إسكان آدم و زوجته الجنة، ثم إهباطهما لأكل الشجرة كالمثل يمثل به ما كان الإنسان فيه قبل نزوله إلى الدنيا من السعادة و الكرامة بسكونه حظيرة القدس، و منزل الرفعة و القرب، و دار نعمة و سرور، و أنس و نور، و رفقاء طاهرين، و أخلاء روحانيين، و جوار رب العالمين.
ثم إنه يختار مكانه كل تعب و عناء و مكروه و ألم بالميل إلى حياة فانية، و جيفة منتنة دانية، ثم إنه لو رجع بعد ذلك إلى ربه لأعاده إلى دار كرامته و سعادته و لو لم يرجع إليه و أخلد إلى الأرض و اتبع هواه فقد بدل نعمة الله كفرا و أحل بنفسه دار البوار، جهنم يصلاها و بئس القرار.
قوله تعالى: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه»، التلقي هو التلقن، و هو أخذ الكلام مع فهم و فقه و هذا التلقي كان هو الطريق المسهل لآدم (عليه السلام) توبته.
و من ذلك يظهر أن التوبة توبتان: توبة من الله تعالى و هي الرجوع إلى العبد بالرحمة، و توبة من العبد و هي الرجوع إلى الله بالاستغفار و الانقلاع من المعصية.
و توبة العبد، محفوفة بتوبتين من الله تعالى، فإن العبد لا يستغني عن ربه في حال من الأحوال، فرجوعه عن المعصية إليه يحتاج إلى توفيقه تعالى و إعانته و رحمته حتى يتحقق منه التوبة، ثم تمس الحاجة إلى قبوله تعالى و عنايته و رحمته، فتوبة العبد إذا قبلت كانت بين توبتين من الله كما يدل عليه قوله تعالى: «ثم تاب عليهم ليتوبوا: التوبة - 119.
و قراءة نصب آدم و رفع كلمات تناسب هذه النكتة، و إن كانت القراءة الأخرى و هي قراءة رفع آدم و نصب كلمات لا تنافيه أيضا.
و أما أن هذه الكلمات ما هي؟ فربما يحتمل أنها هي ما يحكيه الله تعالى عنهما في سورة الأعراف بقوله: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين»: الأعراف - 23، إلا أن وقوع هذه الكلمات أعني قوله: «قالا ربنا ظلمنا» الآية قبل قوله: «قلنا اهبطوا» في سورة الأعراف و وقوع قوله «فتلقى آدم» الآية بعد قوله: قلنا اهبطوا، في هذه السورة لا يساعد عليه.
لكن هاهنا شيء: و هو أنك عرفت في صدر القصة أن الله تعالى حيث قال: «إني جاعل في الأرض خليفة»، قالت الملائكة: «أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك» الآية و هو تعالى لم يرد عليهم دعواهم على الخليفة الأرضي بما رموه به و لم يجب عنه بشيء إلا أنه علم آدم الأسماء كلها.
و لو لا أنه كان فيما صنعه تعالى من تعليم الأسماء ما يسد باب اعتراضهم ذلك لم ينقطع كلامهم و لا تمت الحجة عليهم قطعا.
ففي جملة ما علمه الله تعالى آدم من الأسماء أمر ينفع العاصي إذا عصى و المذنب إذا أذنب، فلعل تلقيه من ربه كان متعلقا بشيء من تلك الأسماء فافهم ذلك.
و اعلم أن آدم (عليه السلام) و إن ظلم نفسه في إلقائها إلى شفا جرف الهلكة و منشعب طريقي السعادة و الشقاوة أعني الدنيا، فلو وقف في مهبطه فقد هلك، و لو رجع إلى سعادته الأولى فقد أتعب نفسه و ظلمها، فهو (عليه السلام) ظالم لنفسه على كل تقدير، إلا أنه (عليه السلام) هيأ لنفسه بنزوله درجة من السعادة و منزلة من الكمال ما كان ينالها لو لم ينزل و كذلك ما كان ينالها لو نزل من غير خطيئة.
فمتى كان يمكنه أن يشاهد ما لنفسه من الفقر و المذلة و المسكنة و الحاجة و القصور و له في كل ما يصيبه من التعب و العناء و الكد روح و راحة في حظيرة القدس و جوار رب العالمين، فلله تعالى صفات من عفو و مغفرة و توبة و ستر و فضل و رأفة و رحمة لا ينالها إلا المذنبون، و له في أيام الدهر نفحات لا يرتاح بها إلا المتعرضون.
فهذه التوبة هي التي استدعت تشريع الطريق الذي يتوقع سلوكه و تنظيف المنزل الذي يرجى سكونه، فوراءها تشريع الدين و تقويم الملة.
و يدل على ذلك ما تراه أن الله تعالى يكرر في كلامه تقدم التوبة على الإيمان.
قال تعالى: «فاستقم كما أمرت و من تاب معك»: هود - 112، و قال: «و إني لغفار لمن تاب و آمن»: طه - 82، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى: قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى.
و هذا أول ما شرع من الدين لآدم (عليه السلام) و ذريته، أوجز الدين كله في جملتين لا يزاد عليه شيء إلى يوم القيامة.
و أنت إذا تدبرت هذه القصة قصة الجنة و خاصة ما وقع في سورة طه وجدت أن المستفاد منها أن جريان القصة أوجب قضاءين منه تعالى في آدم و ذريته، فأكل الشجرة أوجب حكمه تعالى و قضاءه بالهبوط و الاستقرار في الأرض و الحياة فيها تلك الحياة الشقية التي حذرا منها حين نهيا عن اقتراب الشجرة هذا.
و أن التوبة ثانيا: تعقب قضاء و حكما ثانيا منه تعالى بإكرام آدم و ذريته بالهداية إلى العبودية فالمقضي أولا كان نفس الحياة الأرضية، ثم بالتوبة طيب الله تلك الحياة بأن ركب عليها الهداية إلى العبودية، فتألفت الحياة من حياة أرضية، و حياة سماوية.
و هذا هو المستفاد من تكرار الأمر بالهبوط في هذه السورة حيث قال تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين» الآية و قال تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى الآية.
و توسيط التوبة بين الأمرين بالهبوط مشعر بأن التوبة وقعت و لما ينفصلا من الجنة و إن لم يكونا أيضا فيها كاستقرارهما فيها قبل ذلك.
يشعر بذلك أيضا قوله تعالى: «و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة» الآية بعد ما قال لهما: لا تقربا هذه الشجرة فأتى بلفظة تلكما و هي إشارة إلى البعيد بعد ما أتى بلفظة هذه و هي إشارة إلى القريب و عبر بلفظة نادى و هي للبعيد بعد ما أتى بلفظة قال و هي للقريب فافهم.
و اعلم أن ظاهر قوله تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين» الآية و قوله تعالى: «قال فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون» الآية أن نحوة هذه الحياة بعد الهبوط تغاير نحوها في الجنة قبل الهبوط، و أن هذه حياة ممتزجة حقيقتها بحقيقة الأرض ذات عناء و شقاء يلزمها أن يتكون الإنسان في الأرض ثم يعاد بالموت إليها ثم يخرج بالبعث منها.
فالحياة الأرضية تغاير حياة الجنة فحياتها حياة سماوية غير أرضية.
و من هنا يمكن أن يجزم أن جنة آدم كانت في السماء، و إن لم تكن جنة الآخرة جنة الخلد التي لا يخرج منها من دخل فيها.
نعم: يبقى الكلام في معنى السماء و لعلنا سنوفق لاستيفاء البحث منه، إن شاء الله تعالى.
بقي هنا شيء و هو القول في خطيئة آدم فنقول ظاهر الآيات في بادي النظر و إن كان تحقق المعصية و الخطيئة منه (عليه السلام) كما قال تعالى: فتكونا من الظالمين، و قال تعالى: و عصى آدم ربه فغوى الآية، و كما اعترف به فيما حكاه الله عنهما: «ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين الآية.
لكن التدبر في آيات القصة و الدقة في النهي الوارد عن أكل الشجرة يوجب القطع بأن النهي المذكور لم يكن نهيا مولويا و إنما هو نهي إرشادي يراد به الإرشاد و الهداية إلى ما في مورد التكليف من الصلاح و الخير لا البعث و الإرادة المولوية.
و يدل على ذلك أولا: أنه تعالى فرع على النهي في هذه السورة و في سورة الأعراف أنه ظلم حيث قال: «لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين» ثم بدله في سورة طه من قوله: فتشقى مفرعا إياه على ترك الجنة.
و معنى الشقاء التعب ثم ذكر بعده كالتفسير له: «إن لك أن لا تجوع فيها و لا تعرى، و أنك لا تظمؤا فيها و لا تضحى» الآيات.
فأوضح أن المراد بالشقاء هو التعب الدنيوي، الذي تستتبعه هذه الحياة الأرضية من جوع و عطش و عراء و غير ذلك.
فالتوقي من هذه الأمور هو الموجب للنهي الكذائي لا جهة أخرى مولوية فالنهي إرشادي، و مخالفة النهي الإرشادي لا توجب معصية مولوية، و تعديا عن طور العبودية و على هذا فالمراد بالظلم أيضا في ما ورد من الآيات ظلمهما على أنفسهما في إلقائها في التعب و التهلكة دون الظلم المذموم في باب الربوبية و العبودية و هو ظاهر.
و ثانيا: أن التوبة، و هي الرجوع من العبد إذا استتبع القبول من جانب المولى أوجب كون الذنب كلا ذنب، و المعصية كأنها لم تصدر، فيعامل مع العاصي التائب معاملة المطيع المنقاد، و في مورد فعله معاملة الامتثال و الانقياد.
و لو كان النهي عن أكل الشجرة مولويا و كانت التوبة توبة عن ذنب عبودي و رجوعا عن مخالفة نهي مولوي كان اللازم رجوعهما إلى الجنة مع أنهما لم يرجعا.
و من هنا يعلم أن استتباع الأكل المنهي للخروج من الجنة كان استتباعا ضروريا تكوينيا، نظير استتباع السم للقتل و النار للإحراق، كما في موارد التكاليف الإرشادية لا استتباعا من قبيل المجازاة المولوية في التكاليف المولوية، كدخول النار لتارك الصلاة، و استحقاق الذم و استيجاب البعد في المخالفات العمومية الاجتماعية المولوية.
و ثالثا: أن قوله تعالى: «قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون، و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، الآيات».
و هو كلمة جامعة لجميع التشريعات التفصيلية التي أنزلها الله تعالى في هذه الدنيا من طرق ملائكته و كتبه و رسله، يحكي عن أول تشريع شرع للإنسان في هذه الدنيا التي هي دنيا آدم و ذريته، و قد وقع على ما يحكي الله تعالى بعد الأمر الثاني بالهبوط و من الواضح أن الأمر بالهبوط أمر تكويني متأخر عن الكون في الجنة و اقتراف الخطيئة، فلم يكن حين مخالفة النهي و اقتراب الشجرة لا دين مشروع و لا تكليف مولوي فلم يتحقق عند ذلك ذنب عبودي، و لا معصية مولوية.
و لا ينافي ذلك كون خطاب اسجدوا للملائكة و لإبليس و هو قبل خطاب لا تقربا، خطابا مولويا لأن المكلف غير المكلف.
فإن قلت: إذا كان النهي نهيا إرشاديا لا نهيا مولويا فما معنى عده تعالى فعلهما ظلما و عصيانا و غواية؟.
قلت: أما الظلم فقد مر أن المراد به ظلمهما لأنفسهما في جنب الله تعالى، و أما العصيان فهو لغة عدم الانفعال أو الانفعال بصعوبة كما يقال: كسرته فانكسر و كسرته فعصى، و العصيان و هو عدم الانفعال عن الأمر أو النهي كما يتحقق في مورد التكاليف المولوية كذلك يتحقق في مورد الخطابات الإرشادية.
و أما تعين معنى المعصية في هذه الأزمنة عندنا جماعة المسلمين في مخالفة مثل صل، أم صم، أو حج، أو لا تشرب الخمر، أو لا تزن و نحو ذلك فهو تعين بنحو الحقيقة الشرعية أو المتشرعة لا يضر بعموم المعنى بحسب اللغة و العرف العام هذا.
و أما الغواية فهو عدم اقتدار الإنسان مثلا على حفظ المقصد و تدبير نفسه في معيشته بحيث يناسب المقصد و يلائمه.
و واضح أنه يختلف باختلاف الموارد من إرشاد و مولوية.
فإن قلت: فما معنى التوبة حينئذ و قولهما: «و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين؟».
قلت: التوبة كما مر هي الرجوع و الرجوع، يختلف بحسب اختلاف موارده.
فكما يجوز للعبد المتمرد عن أمر سيده و إرادته أن يتوب إليه، فيرد إليه مقامه الزائل من القرب عنده كذلك يجوز للمريض الذي نهاه الطبيب نهيا إرشاديا عن أكل شيء معين من الفواكه و المأكولات، و إنما كان ذلك منه مراعاة لجانب سلامته و عافيته فلم ينته المريض عن نهيه فاقترفه فتضرر فأشرف على الهلاك.
يجوز أن يتوب إلى الطبيب ليشير إليه بدواء يعيده إلى سابق حاله و عافيته، فيذكر له أن ذلك محتاج إلى تحمل التعب و المشقة و العناء و الرياضة خلال مدة حتى يعود إلى سلامة المزاج الأولية بل إلى أشرف منها و أحسن، هذا.
و أما المغفرة و الرحمة و الخسران فالكلام فيها نظير الكلام في نظائرها في اختلافها بحسب اختلاف مواردها، هذا.
بحث روائي
في تفسير القمي، عن أبيه رفعه قال: سئل الصادق (عليه السلام) عن جنة آدم أ من جنان الدنيا كانت أم من جنان الآخرة؟ فقال (عليه السلام): كانت من جنان الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنان الآخرة ما خرج منها أبدا، قال (عليه السلام): فلما أسكنه الله الجنة و أباحها له إلا الشجرة، لأنه خلق خلقة لا يبقى إلا بالأمر و النهي و الغذاء و اللباس و الاكتنان و النكاح، و لا يدرك ما ينفعه مما يضره إلا بالتوفيق، فجاءه إبليس فقال له إنكما إن أكلتما من هذه الشجرة التي نهاكما الله عنها صرتما ملكين، و بقيتما في الجنة أبدا، و إن لم تأكلا منها أخرجكما الله من الجنة، و حلف لهما أنه لهما ناصح كما قال الله عز و جل حكاية عنه: «ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة - إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين - و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين فقبل آدم قوله فأكلا من الشجرة» فكانا كما حكى الله، فبدت لهما سوآتهما، و سقط عنهما ما ألبسهما الله من الجنة» و أقبلا يستتران من ورق الجنة، و ناديهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة - و أقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فقالا كما حكى الله عنهما ربنا ظلمنا أنفسنا - و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين فقال الله لهما: اهبطوا بعضكم لبعض عدو - و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين، قال: أي يوم القيامة، قال: فهبط آدم على الصفا، و إنما سميت الصفا لأن صفي الله أنزل عليها، و نزلت حواء على المروة و إنما سميت المروة لأن المرأة أنزلت عليها، فبقي آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على الجنة، فنزل عليه جبرئيل، فقال أ ليس خلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك ملائكته؟ قال: بلى، و أمرك أن لا تأكل من الشجرة فعصيته؟ قال آدم: إن إبليس حلف لي بالله كاذبا.
أقول: و في كون جنة آدم من جنان الدنيا روايات أخر من طريق أهل البيت و إن اتحد بعضها مع هذه الرواية في إبراهيم بن هاشم.
و المراد بكونها من جنان الدنيا كونها برزخية في مقابل جنان الخلد، كما يشير إليه بعض فقرات الرواية كقوله: فهبط آدم على الصفا، و كقوله: و نزلت حواء على المروة، و كقوله: إن المراد بحين يوم القيامة فيكون المكث في البرزخ بعد الموت مكثا في الأرض طبقا لما في آيات البعث من القرآن من عد المكث البرزخي مكثا في الأرض كما يشير إليه قوله تعالى: «قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين، قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسأل العادين، قال إن لبثتم إلا قليلا لو أنكم كنتم تعلمون»: المؤمنون - 114، و قوله تعالى: «و يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون، قال الذين أوتوا العلم و الإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث و لكنكم كنتم لا تعلمون»: الروم - 56، على أن عدة من الروايات المنقولة عن أهل البيت تدل على أن الجنة كانت في السماء، و أنهما نزلا من السماء، على أن المستأنس بلسان الروايات لا يستوحش من كون الجنة المذكورة في السماء و الهبوط منها إلى الأرض مع كونهما خلقا في الأرض و عاشا فيها كما ورد في كون الجنة في السماء و وقوع سؤال القبر فيه و كونه روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار و غير ذلك و أرجو أن يرتفع هذا الإشكال و ما يشاكله من الإشكالات فيما سيأتي من البحث في السماء إن شاء الله العزيز.
و أما كيفية مجيء إبليس إليهما، و ما اتخذه فيه من الوسيلة فالصحاح و المعتبرة من الروايات خالية عن بيانها.
و في بعض الأخبار ذكر الحية و الطاووس عونين لإبليس في إغوائه إياهما لكنها غير معتبرة، أضربنا عن ذكرها و كأنها من الأخبار الدخيلة، و القصة مأخوذة من التوراة و هاك لفظ التوراة في القصة بعينه: قال في الفصل الثاني من السفر الأول و هو سفر الخليقة: و إن الله خلق آدم ترابا من الأرض، و نفخ في أنفه الحياة، فصار آدم نفسا ناطقا، و غرس الله جنانا في عدن شرقيا، و صير هناك آدم الذي خلقه، و أنبت الله من الأرض كل شجرة، حسن منظرها و طيب مأكلها، و شجرة الحياة في وسط الجنان، و شجرة معرفة الخير و الشر، و جعل نهرا يخرج من عدن ليسقي الجنان، و من ثم يفترق فيصير أربعة أرؤس، اسم أحدها النيل، و هو المحيط بجميع بلد ذويلة الذي فيه الذهب، و ذهب ذلك البلد جيد، ثم اللؤلؤ و حجارة البلور، و اسم النهر الثاني جيحون، و هو المحيط بجميع بلد الحبشة، و اسم النهر الثالث دجلة، و هو يسير في شرقي الموصل، و اسم النهر الرابع هو الفرات، فأخذ الله آدم و أنزله في جنان عدن ليفلحه و ليحفظه و أمر الله آدم قائلا: من جميع شجر الجنان جائز لك أن تأكل، و من شجرة معرفة الخير و الشر لا تأكل، فإنك في يوم أكلك منها تستحق أن تموت، و قال الله لا خير في بقاء آدم وحده، اصنع له عونا حذاه، فحشر الله من الأرض جميع وحش الصحراء و طير السماء و أتى بها إلى آدم ليريه ما يسميها، فكل ما سمى آدم من نفس حية باسم هو اسمه إلى الآن. فأسمى آدم أسماء لجميع البهائم و طير السماء و جميع وحش الصحراء و لم يجد آدم عونا حذاه، فأوقع سباتا على آدم لئلا يحس فنام، فاستل إحدى أضلاعه و سد مكانها اللحم، و بنى الله الضلع التي أخذ امرأة، فأتى بها إلى آدم، و قال آدم هذه المرة شاهدت عظما من عظامي، و لحما من لحمي، و ينبغي أن تسمى امرأة لأنها من أمري أخذت، و لذلك يترك الرجل أباه و أمه و يلزم زوجته، فيصيران كجسد واحد. و كانا جميعا عريانين آدم و زوجته و لا يحتشمان من ذلك. الفصل الثالث: و الثعبان صار حكيما من جميع حيوان الصحراء الذي خلقه الله فقال للمرأة أ يقينا قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنان؟ قالت المرأة للثعبان من ثمر شجر الجنان نأكل، لكن من ثمر الشجرة التي في وسطه قال الله لا تأكلا منه، و لا تدنوا به كيلا تموتا، قال لهما لستما تموتان، إن الله عالم أنكما في يوم أكلكما منه تنفتح عيونكما و تصيران كالملائكة عارفي الخير و الشر بزيادة، فلما رأت المرأة أن الشجرة طيبة المأكل شهية المنظر، مني للعقل، أخذت من ثمرها فأكلت، و أعطت بعلها فأكل معها، فانفتحت عيونهما فعلما أنهما عريانان فخيطا من ورق التين ما صنعا منه مآزر، فسمعا صوت الله مارا في الجنان برفق في حركة النهار، فاستخبأ آدم و زوجته من قبل صوت الله خباء فيما بين شجر الجنان، فنادى الله آدم، و قال له مقررا: أين أنت؟ قال: إني سمعت صوتك في الجنان فاتقيت إذ أنا عريان فاستخبأت، قال: من أخبرك أنك عريان؟ أ من الشجرة التي نهيتك عن الأكل منها أكلت؟ قال آدم المرأة التي جعلتها معي أعطتني من الشجرة فأكلت، قال الله للمرأة: ما ذا صنعت؟ قالت: الثعبان أغراني فأكلت قال الله للثعبان: إذ صنعت هذا بعلم فأنت ملعون من جميع البهائم و جميع وحش الصحراء و على صدرك تسلك و ترابا تأكل طول أيام حياتك، و أجعل عداوة بينك و بين المرأة، و بين نسلك و نسلها، و هو يشدخ منك الرأس و أنت تلذعه في العقب، و قال للمرأة: لأكثرن مشقتك و حملك، و بمشقة تلدين الأولاد، و إلى بعلك يكون قيادك، و هو يتسلط عليك. و قال لآدم: إذ قبلت قول زوجتك فأكلت من الشجرة التي نهيتك قائلا لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك بمشقة تأكل منها طول حياتك، و شوكا و دردرا تنبت لك، و تأكل عشب الصحراء، بعرق وجهك تأكل الطعام إلى حين رجوعك إلى الأرض التي أخذت منها لأنك تراب و إلى التراب ترجع، و سمى آدم زوجته حواء لأنها كانت أم كل حي ناطق، و صنع الله لآدم و زوجته ثياب بدن و ألبسهما، ثم قال الله، هو ذا آدم قد صار كواحد منا يعرف معرفة الخير و الشر، و الآن فيجب أن يخرج من الجنان لئلا يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضا و يأكل فيحيا إلى الدهر، فطرده الله من جنان عدن ليفلح الأرض التي أخذ منها، و لما طرد آدم أسكن من شرقي جنان عدن الملائكة، و لمع سيف متقلب ليحفظوا طريق شجرة الحياة. انتهى الفصل من التوراة العربية المطبوعة سنة 1811 ميلادية، و أنت بتطبيق القصة من الطريقين أعني طريقي القرآن و التوراة ثم التأمل في الروايات الواردة من طريقي العامة و الخاصة تعثر بحقائق من الحال غير أنا أضربنا عن الغور في بيانها و البحث عنها لأن الكتاب غير موضوع لذلك.
و أما دخول إبليس الجنة و إغواؤه فيها و هي أولا مقام القرب و النزاهة و الطهارة و قد قال تعالى: «لا لغو فيها و لا تأثيم»: الطور - 23، و هي ثانيا في السماء و قد قال تعالى خطابا لإبليس حين إبائه عن السجدة لآدم: «فاخرج منها فإنك رجيم»: الحجر - 34، و قال تعالى: «فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها»: الأعراف - 12.
فالجواب عن الأول كما ربما يقال إن القرآن إنما نفى ما نفى من وقوع اللغو و التأثيم في الجنة عن جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون في الآخرة و جنة البرزخ التي يدخلونها بعد الموت و الارتحال عن دار التكليف، و أما الجنة التي أدخل فيها آدم و زوجته و ذلك قبل استقرار الإنسان في دار التكليف و توجه الأمر و النهي فالقرآن لم ينطق فيه بشيء من ذلك، بل الأمر بالعكس و ناهيك في ذلك ما ذكر من وقوع عصيان آدم فيه على أن اللغو و التأثيم من الأمور النسبية التي لا تتحقق إلا بعد حلول الإنسان الدنيا و توجه الأمر و النهي إليه و تلبسه بالتكليف.
و الجواب عن الثاني أولا: أن رجوع الضمير في قوله: فاخرج منها، و قوله: فاهبط منها إلى السماء غير ظاهر من الآية لعدم ذكر السماء في الكلام سابقا و عدم العهد بها، فمن الجائز أن يكون المراد الخروج من الملائكة و الهبوط منها ببعض العنايات، أو الخروج و الهبوط من المنزلة و الكرامة.
و ثانيا: أنه يجوز أن يكون الأمر بالهبوط و الخروج كناية عن النهي عن المقام هناك بين الملائكة، لا عن أصل الكون فيها بالعروج و المرور من غير مقام و استقرار كالملائكة، و يلوح إليه بل يشهد به ما ربما يظهر من الآيات من استراق السمع، و قد روي: أن الشياطين كانوا يعرجون قبل عيسى إلى السماء السابعة فلما ولد عيسى منعوا من السماء الرابعة فما فوقها، ثم لما ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منعوا من جميع السماوات و خطفوا بالخطفة.
و ثالثا: أن كلامه تعالى خال عن دخول إبليس الجنة فلا مورد للاستشكال، و إنما ورد ما ورد من حديث الدخول في الروايات و هي آحاد غير متواترة مع احتمال النقل بالمعنى من الراوي.
و أقصى ما يدل من كلامه تعالى على دخوله الجنة قوله تعالى حكاية عن إبليس «و قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين»: «الأعراف - 19» حيث أتي بلفظة هذه و هي للإشارة من قريب، لكنها لو دلت هاهنا على القرب المكاني لدل في قوله تعالى: «و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين»: الأعراف - 18، على مثله فيه تعالى.
و في العيون، عن عبد السلام الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام): يا بن رسول الله أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة، و منهم من يروي أنها شجرة الحسد، فقال كل ذلك حق، قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال: يا بن الصلت إن شجرة الجنة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا، و إن آدم لما أكرمه الله تعالى بإسجاد ملائكته له، و بإدخاله الجنة، قال: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟ فعلم الله عز و جل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم و انظر إلى ساق العرش، فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا لا إله إلا الله محمد رسول الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين و زوجته فاطمة سيدة نساء العالمين و الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة، فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟ فقال عز و جل يا آدم هؤلاء ذريتك. و هم خير منك و من جميع خلقي، و لو لا هم ما خلقتك و لا الجنة و لا النار و لا السماء و لا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، و تسلط على حواء فنظرت إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى من جنته و أهبطهما من جواره إلى الأرض.
أقول: و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات بعضها أبسط من هذه الرواية و أطنب و بعضها أجمل و أوجز.
و هذه الرواية كما ترى سلم ع فيها أن الشجرة كانت شجرة الحنطة و شجرة الحسد و أنهما أكلا من شجرة الحنطة ثمرتها و حسدا و تمنيا منزلة محمد و آله، (صلى الله عليه وآله وسلم)، و مقتضى المعنى الأول أن الشجرة كانت أخفض شأنا من أن يميل إليها و يشتهيها أهل الجنة، و مقتضى الثاني أنها كانت أرفع شأنا من أن ينالها آدم و زوجته كما في رواية أخرى أنها كانت شجرة علم محمد و آله.
و بالجملة لهما معنيان مختلفان، لكنك بالرجوع إلى ما مر من أمر الميثاق تعرف أن المعنى واحد و أن آدم (عليه السلام) أراد أن يجمع بين التمتع بالجنة و هو مقام القرب من الله و فيها الميثاق أن لا يتوجه إلى غيره تعالى و بين الشجرة المنهية التي فيها تعب التعلق بالدنيا فلم يتيسر له الجمع بينهما فهبط إلى الأرض و نسي الميثاق فلم يجتمع له الأمران و هو منزلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم هداه الله بالاجتباء و نزعه بالتوبة من الدنيا، و ألحقه بما كان نسيه من الميثاق فافهم.
و قوله (عليه السلام): فنظر إليهم بعين الحسد و تمنى منزلتهم فيه بيان أن المراد بالحسد تمني منزلتهم دون الحسد الذي هو أحد الأخلاق الرذيلة.
و بالبيان السابق يرتفع التنافي الذي يتراءى بين ما رواه في كمال الدين، عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: إن الله عز و جل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها و ذلك قول الله عز و جل: و لقد عهدنا إلى آدم فنسي و لم نجد له عزما، الحديث.
و بين ما رواه العياشي، في تفسيره عن أحدهما: و قد سئل كيف أخذ الله آدم بالنسيان؟ فقال: إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكر و يقول له إبليس: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين الحديث.
و الوجه فيه واضح.
و في أمالي الصدوق، عن أبي الصلت الهروي، قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام): أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد حتى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا بن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى، قال: فما تعمل بقول الله عز و جل: «و عصى آدم ربه فغوى؟» إلى أن قال: فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق الله و لا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش و لا تتأول كتاب الله عز و جل برأيك فإن الله عز و جل يقول: «و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم». أما قوله عز و جل في آدم: «و عصى آدم ربه فغوى» فإن الله عز و جل خلق آدم حجة في أرضه و خليفة في بلاده لم يخلقه للجنة، و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز و جل فلما أهبط إلى الأرض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله عز و جل: «إن الله اصطفى آدم و نوحا - و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين» الحديث.
أقول: قوله: و كانت المعصية في الجنة إلخ إشارة إلى ما قدمناه أن التكليف الديني المولوي لم يكن مجعولا في الجنة بعد، و إنما موطنه الحياة الأرضية المقدرة لآدم (عليه السلام) بعد الهبوط إلى الأرض، فالمعصية إنما كانت معصية لأمر إرشادي غير مولوي فلا وجه لتعسف التأويل في الحديث على ما ارتكبه بعض.
و في العيون، عن علي بن محمد بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟ فقال بلى، قال فما معنى قول الله تعالى: فعصى آدم ربه فغوى؟ قال: إن الله تعالى قال لآدم: اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما - و لا تقربا هذه الشجرة و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة و لا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة و لم يأكلا منها و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما و قال: ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة و إنما نهاكما أن تقربا غيرها و لم ينهكما أن تأكلا منها إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين و لم يكن آدم و حواء شاهدا قبل ذلك من يحلف بالله كاذبا فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه بالله، و كان ذلك من آدم قبل النبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، و إنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه الله و جعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال الله عز و جل: «و عصى آدم ربه فغوى - ثم اجتباه ربه فتاب عليه و هدى، و قال عز و جل: «إن الله اصطفى آدم و نوحا - و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين» الحديث.
أقول: قال الصدوق رحمه الله بعد نقل الحديث على طوله: و الحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه و بغضه و عداوته لأهل البيت (عليهم السلام) انتهى.
و ما أعجبه منه إلا ما شاهده من اشتماله على تنزيه الأنبياء من غير أن يمعن النظر في الأصول المأخوذة فيه، فما نقله من جوابه (عليه السلام) في آدم لا يوافق مذهب أئمة أهل البيت المستفيض عنهم من عصمة الأنبياء من الصغائر و الكبائر قبل النبوة و بعدها.
على أن الجواب مشتمل على تقدير في قوله تعالى: «ما نهيكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا»، إلى مثل قولنا: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة و إنما نهاكما عن غيرها و ما نهاكما عن غيرها إلا أن تكونا إلخ.
على أن قوله تعالى «ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين»، و قوله تعالى «قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد و ملك لا يبلى» الآية، يدل على أن إبليس إنما كان يحرضهما على الأكل من شخص الشجرة المنهية تطميعا في الخلود و الملك الذي حجب عنه بالنهي، على أن الرجل أعني علي بن محمد بن الجهم قد أخذ الجواب الصحيح التام بنفسه في مجلس المأمون كما رويناه في الحديث السابق، فالرواية لا تخلو عن شيء و إن كان بعض هذه الوجوه ممكن الاندفاع هذا.
و روى الصدوق، عن الباقر (عليه السلام) عن آبائه عن علي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: إنما كان لبث آدم و حواء في الجنة حتى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتى أهبطهما الله في يومهما.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان، قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر: كم لبث آدم و زوجته في الجنة حتى أخرجهما منها خطيئة؟ فقال: إن الله تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته و أسكنه جنته من يومه ذلك، فوالله ما استقر فيها إلا ست ساعات من يومه ذلك، حتى عصى الله تعالى، فأخرجهما الله منها بعد غروب الشمس و صيرا بفناء الجنة حتى أصبحا فبدت لهما سوآتهما و ناداهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحيا آدم فخضع و قال: ربنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال الله لهما اهبطا من سماواتي إلى الأرض، فإنه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي.
أقول: و يمكن أن يستفاد ما يشتمل عليه الرواية من كيفية خروجهما و أنه كان أولا من الجنة إلى فنائها و من فنائها إلى الأرض من تكرر الأمر بالهبوط في الآية مع كونه أمرا تكوينيا غير قابل التخلف، و كذا من تغيير السياق في قوله تعالى: «و قلنا: يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة، إلى أن قال: و لا تقربا هذه الشجرة» الآية، و قوله تعالى: و ناديهما ربهما: أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة الآية، حيث عبر في الأول بالقول و بالإشارة القريبة و في الثاني بالنداء و الإشارة البعيدة، غير أن الرواية مشتملة على خلق حواء من أسفل أضلاع آدم كما اشتملت عليه التوراة، و الروايات عن أئمة أهل البيت تكذبه كما سيجيء في البحث عن خلقة آدم، و إن أمكن أن يحمل خلقها من فاضل طينة آدم مما يلي أضلاعه هذا، و أما ساعات مكثه في الجنة، و أنها ستة أو سبعة فالأمر فيها هين فإنما هو تقريب.
و في الكافي،: عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات، قال: لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم و بحمدك، عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت، سبحانك اللهم و بحمدك، عملت سوءا و ظلمت نفسي فارحمني و أنت خير الغافرين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فارحمني و أنت خير الراحمين، لا إله إلا أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوءا و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب علي إنك أنت التواب الرحيم.
أقول: و روى هذا المعنى الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم، و عن طرق أهل السنة و الجماعة أيضا ما يقرب من ذلك، و ربما استفيد ذلك من ظاهر آيات القصة.
و قال الكليني في الكافي،: و في رواية أخرى: في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات قال: سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين.
أقول: و روى هذا المعنى أيضا الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم، و روي ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة و الجماعة أيضا كما رواه في الدر المنثور، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلا غفرت لي فأوحى الله إليه، و من محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك فأوحى الله إليه يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك و لولاه ما خلقتك.
أقول: و هذا المعنى و إن كان بعيدا عن ظاهر الآيات في بادي النظر لكن إشباع النظر و التدبر فيها ربما قرب ذلك تقريبا، إذ قوله: فتلقى آدم، يشتمل على معنى الأخذ مع الاستقبال، ففيه دلالة على أخذ آدم هذه الكلمات من ربه، ففيه علم سابق على التوبة، و قد كان (عليه السلام) تعلم من ربه الأسماء كلها إذ قال تعالى للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء و نحن نسبح بحمدك و نقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون و علم آدم الأسماء كلها، فهذا العلم كان من شأنه إزاحة كل ظلم و معصية لا محالة و دواء كل داء و إلا لم يتم الجواب عما أورده الملائكة و لا قامت الحجة عليهم لأنه سبحانه لم يذكر قبال قولهم: يفسد فيها و يسفك الدماء شيئا و لم يقابلهم بشيء دون أن علم آدم الأسماء كلها ففيه إصلاح كل فاسد، و قد عرفت ما حقيقة هذه الأسماء، و أنها موجودات عالية مغيبة في غيب السماوات و الأرض، و وسائط فيوضاته تعالى لما دونها، لا يتم كمال لمستكمل إلا ببركاتها و قد ورد في بعض الأخبار أنه رأى أشباح أهل البيت و أنوارهم حين علم الأسماء، و ورد أنه رآها حين أخرج الله ذريته من ظهره، و ورد أيضا أنه رآها و هو في الجنة فراجع و الله الهادي.
و قد أبهم الله أمر هذه الكلمات في قوله: فتلقى آدم من ربه كلمات الآية حيث نكرها، و ورد في القرآن: إطلاق الكلمة على الموجود العيني صريحا في قوله: «بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم»: آل عمران - 40.
و أما ما ذكره بعض المفسرين: أن الكلمات التي حكاها الله عنهما في سورة الأعراف بقوله: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكونن من الخاسرين» الآية، ففيه: «أن التوبة كما يدل عليه الآيات في هذه السورة أعني سورة البقرة وقعت بعد الهبوط إلى الأرض، قال تعالى: «و قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو» إلى أن قال: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه» الآيات و هذه الكلمات تكلم بها آدم و زوجته قبل الهبوط و هما في الجنة كما في سورة الأعراف، قال تعالى: «و ناديهما ربهما أ لم أنهكما عن تلكما الشجرة» إلى أن قال: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا» إلى أن قال: «قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو» الآيات، بل الظاهر أن قولهما: ربنا ظلمنا أنفسنا، تذلل منهما و خضوع قبال ندائه تعالى و إيذان بأن الأمر إلى الله سبحانه كيف يشاء بعد الاعتراف بأن له الربوبية و أنهما ظالمان مشرفان على خطر الخسران.
و في تفسير القمي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن موسى سأل ربه أن يجمع بينه و بين آدم، فجمع فقال له موسى: يا أبت أ لم يخلقك الله بيده و نفخ فيك من روحه و أسجد لك الملائكة و أمرك أن لا تأكل من الشجرة؟ فلم عصيته؟ قال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التورية؟ قال: بثلاثين ألف سنة قال: فقال: هو ذاك، قال الصادق (عليه السلام) فحجج آدم موسى.
أقول: و روى ما يقرب من هذا المعنى العلامة السيوطي في الدر المنثور بعدة طرق عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في العلل، عن الباقر (عليه السلام): و الله لقد خلق الله آدم للدنيا، و أسكنه الجنة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه له.
أقول: و قد مر رواية العياشي عن الصادق (عليه السلام): في خليل كان لآدم من الملائكة الحديث في هذا المعنى.
و في الاحتجاج،: في احتجاج علي مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الأرض، فقال (عليه السلام): واد يقال له سرانديب سقط فيه آدم من السماء.
أقول: و تقابلها روايات مستفيضة تدل على سقوطه في أرض مكة و قد مر بعضها و يمكن التوفيق بينها بإمكان نزوله أولا بسرانديب ثم هبوطه إلى أرض مكة و ليس بنزولين عرضيين هذا.
و في الدر المنثور، عن الطبراني و أبي الشيخ في العظمة و ابن مردويه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أ رأيت آدم أ نبيا كان؟ قال: نعم كان نبيا رسولا، كلمه الله قبلا، قال له: يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة.
أقول: و روى أهل السنة و الجماعة قريبا من هذا المعنى بعدة طرق.
|