بيان
الآيات جارية على السياق السابق، و فيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض و المنافقين و من ارتد بعد إيمانه.
قوله تعالى: «و منهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا» إلخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا فيه، و معناه الساعة التي قبيل ساعتك، و قيل: معناه هذه الساعة و هو على أي حال مأخوذ من الأنف بمعنى الجارحة.
و قوله: «و منهم من يستمع إليك» الضمير للذين كفروا، و المراد باستماعهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن و ما يبين لهم من أصول المعارف و شرائع الدين.
و قوله: «حتى إذا خرجوا من عندك» الضمير للموصول و جمع الضمير باعتبار المعنى كما أن إفراده في «يستمع» باعتبار اللفظ.
و قوله: «قالوا للذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا» المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة، و الضمير في «ما ذا قال» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و الاستفهام في قولهم: «ما ذا قال آنفا» قيل: للاستعلام حقيقة لأن استغراقهم في الكبر و الغرور و اتباع الأهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال تعالى: «فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا»: النساء: 78، و قيل: للاستهزاء، و قيل: للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالأباطيل لا يرجع إلى معنى محصل، و لكل من المعاني الثلاثة وجه.
و قوله: «أولئك الذين طبع الله على قلوبهم» تعريف لهم، و قوله: «و اتبعوا أهواءهم» تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، و يتحصل منه أن اتباع الأهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الأصلية لا يتوقف في فهم المعارف الدينية و الحقائق الإلهية.
قوله تعالى: «و الذين اهتدوا زادهم هدى و آتاهم تقواهم» المقابلة الظاهرة بين الآية و بين الآية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب و هو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة و اتباع الحق، و زيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، و قد تقدم أن الهدى و الإيمان ذو مراتب مختلفة، و المراد بالتقوى ما يقابل اتباع الأهواء و هو الورع عن محارم الله و التجنب عن ارتكاب المعاصي.
و بذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم و إيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، و يظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم و اتباع الأهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح و حرمانهم منه و هذا لا ينافي ما قدمنا أن اتباع الأهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب.
قوله تعالى: «فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها» إلخ، النظر هو الانتظار، و الأشراط جمع شرط بمعنى العلامة، و الأصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشيء لأن تحققه علامة تحقق الشيء فأشراط الساعة علاماتها الدالة عليها.
و سياق الآية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد بذلك عاقبتهم، و إما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها و أشرفوا عليها تذكروا و آمنوا و اتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو بموعظة أو عبرة، و أما انتظارهم مجيء الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا فإنها تجيء بغتة و لا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى و إذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لأن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: «يومئذ يتذكر الإنسان و أنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي»: الفجر: 24.
مضافا إلى أن أشراطها و علاماتها قد جاءت و تحققت، و لعل المراد بأشراطها خلق الإنسان و انقسام نوعه إلى صلحاء و مفسدين و متقين و فجار المستدعي للحكم الفصل بينهم و نزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة و إتيان الساعة، و قيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو خاتم الأنبياء و انشقاق القمر و نزول القرآن و هو آخر الكتب السماوية.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية من المعنى و هي - كما ترى - حجة برهانية في عين أنها مسوقة سوق التهكم.
و عليه فقوله: «بغتة» حال من الإتيان جيء به لبيان الواقع و ليتفرع عليه قوله الآتي: «فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم» و ليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم إنما ينتظرون إتيانها بغتة، و لدفع هذا التوهم قيل: «إلا الساعة أن تأتيهم بغتة» و لم يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة.
و قوله: «فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم» أنى خبر مقدم و «ذكراهم» مبتدأ مؤخر و «إذا جاءتهم» معترضة بينهما، و المعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا جاءتهم؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه و إنما هو يوم الجزاء.
و للقوم في معنى جمل الآية و معناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصلة.
قوله تعالى: «فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك و للمؤمنين و المؤمنات» إلخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين و شقاوة الكفار كأنه قيل: إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء و شقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الأمر بالعلم على هذا هو الأمر بالثبات على العلم.
و يمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الآيتين السابقتين أعني قوله: «و منهم من يستمع إليك - إلى قوله - و آتاهم تقواهم» من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين و يتركهم و ذنوبهم و يعكس الأمر في الذين اهتدوا إلى توحيده و الإيمان به فكأنه قيل: إذا كان الأمر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الإله و اطلب مغفرة ذنبك و مغفرة أمتك من المؤمنين بك و المؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه و يحرمه التقوى بتركه و ذنوبه، و يؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الآية: «و الله يعلم متقلبكم و مثواكم».
فقوله: «فاعلم أنه لا إله إلا الله» معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك أنه لا إله إلا الله، و قوله: «و استغفر لذنبك» تقدم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و سيأتي أيضا في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى.
و قوله: «و للمؤمنين و المؤمنات» أمر بطلب المغفرة للأمة من المؤمنين و المؤمنات و حاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار و لا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء و لا يقابله بالاستجابة.
و قوله: «و الله يعلم متقلبكم و مثواكم» تعليل لما في صدر الآية: «فاعلم أنه» إلخ، و الظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال إلى حال، و كذلك المثوى بمعنى الاستقرار و السكون، و المراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير و ثابت و حركة و سكون فاثبتوا على توحيده و اطلبوا مغفرته، و احذروا أن يطبع على قلوبكم و يترككم و أهواءكم.
و قيل: المراد بالمتقلب و المثوى التصرف في الحياة الدنيا و الاستقرار في الآخرة و قيل: المتقلب هو التقلب من الأصلاب إلى الأرحام و المثوى السكون في الأرض.
و قيل: المتقلب التصرف في اليقظة و المثوى المنام، و قيل: المتقلب التصرف في المعايش و المكاسب و المثوى الاستقرار في المنازل، و ما قدمناه أظهر و أعم.
قوله تعالى: «و يقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة» إلى آخر الآية، لو لا تحضيضية أي هلا أنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم بتكاليف جديدة يمتثلونها، و المراد بالسورة المحكمة المبينة التي لا تشابه فيها، و المراد بذكر القتال الأمر به.
و المراد بالذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الإيمان من المؤمنين دون المنافقين فإن الآية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا، و لا يعم الذين آمنوا للمنافقين إلا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالآية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين: «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية»: النساء: 77.
و المغشي عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره و غطاه و غشي على فلان - بالبناء - للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، و نظر المغشي عليه من الموت إشخاصه ببصره إليك من غير أن يطرف.
و قوله: «فأولى لهم» لعله خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: أولى لهم ذلك أي حري بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، و عن الأصمعي أن قولهم: «أولى لك» كلمة تهديد معناه وليك و قارنك ما تكره، و الآية نظيرة قوله تعالى: «أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى»: القيامة: 35.
و معنى الآية: و يقول الذين آمنوا هلا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها و أمروا فيها بالقتال و الجهاد رأيت الضعفاء الإيمان منهم ينظرون إليك من شدة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك.
قوله تعالى: «طاعة و قول معروف فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم» عزم الأمر أي جد و تنجز.
و قوله: «طاعة و قول معروف» كأنه خبر لمبتدإ محذوف و التقدير أمرنا - أو أمرهم و شأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها و قول معروف غير منكر قالوا لنا و هو إظهار السمع و الطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون - إلى أن قال - و قالوا سمعنا و أطعنا»: البقرة: 285.
و على هذا يتصل قوله بعده: «فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم» بما قبله اتصالا بينا، و المعنى: أن الأمر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم: سمعنا و أطعنا فلو أنهم حين عزم الأمر صدقوا الله فيما قالوا و أطاعوه فيما يأمر به و منه أمر القتال لكان خيرا لهم.
و يحتمل أن يكون قوله: «طاعة» إلخ، خبرا لضمير عائد إلى القتال المذكور و التقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم و قول معروف فلو أنهم حين عزم الأمر صدقوا الله في إيمانهم و أطاعوه به لكان خيرا لهم.
أما كونه طاعة منهم فظاهر، و أما كونه قولا معروفا فلأن إيجاب القتال و الأمر بالدفاع عن المجتمع الصالح لإبطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل و العقلاء.
و قيل: إن قوله: «طاعة» إلخ، مبتدأ الخبر و التقدير طاعة و قول معروف خير لهم و أمثل، و قيل: مبتدأ خبره «فأولى لهم» في الآية السابقة فالآية من تمام الآية السابقة، و هو قول ردي، و أردأ منه ما قيل: إن «طاعة» إلخ، صفة لسورة في قوله: «فإذا أنزلت سورة» و قيل غير ذلك.
قوله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم» الخطاب للذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، و قد التفت إليهم بالخطاب لزيادة التوبيخ و التقريع، و الاستفهام للتقرير، و التولي الإعراض و المراد به الإعراض عن كتاب الله و العمل بما فيه و العود إلى الشرك و رفض الدين.
و المعنى: فهل يتوقع منكم أن أعرضتم عن كتاب الله و العمل بما فيه و منه الجهاد في سبيل الله أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم بسفك الدماء و نهب الأموال و هتك الأعراض تكالبا على جيفة الدنيا أي إن توليتم كان المتوقع منكم ذلك.
و قد ظهر بذلك أن الآية في مقام التعليل لقوله في الآية السابقة: «لكان خيرا لهم» و لذا صدر بالفاء.
و قيل: المراد بالتولي التصدي للحكم و الولاية، و المعنى: هل يتوقع منكم إن جعلتم ولاة أن تفسدوا في الأرض و تقطعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام و أخذ الرشاء و الجور في الحكم هذا، و هو معنى بعيد عن السياق.
قوله تعالى: «أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم و أعمى أبصارهم» الإشارة إلى المفسدين في الأرض المقطعين للأرحام و قد وصفهم الله بأنه لعنهم فأصمهم و أذهب بسمعهم فلا يسمعون القول الحق و أعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا تعمي الأبصار و لكن تعمي القلوب التي في الصدور.
قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها» الاستفهام للتوبيخ و ضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الآية السابقة، و تنكير «قلوب» كما قيل للدلالة على أن المراد قلوب هؤلاء و أمثالهم.
قال في مجمع البيان،: و في هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شيء من ظاهر القرآن إلا بخبر و سمع.
انتهى.
قوله تعالى: «إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم و أملى لهم» الارتداد على الأدبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال و هو استعارة أريد بها الترك بعد الأخذ، و التسويل تزيين ما تحرض النفس عليه و تصوير القبيح لها في صورة الحسن، و المراد بالإملاء الأمداد أو تطويل الآمال.
قوله تعالى: «ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر و الله يعلم أسرارهم» الإشارة بذلك إلى تسويل الشيطان و إملائه و بالجملة تسلطه عليهم، و المراد «بالذين كرهوا ما نزل الله» هم الذين كفروا كما تقدم في قوله: «و الذين كفروا فتعسا لهم و أضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله»: الآية: 9 من السورة.
و قوله: «سنطيعكم في بعض الأمر» مقول قولهم و وعد منهم للكفار بالطاعة و هو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الأمر على نحو الإجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعته في جميع الأمور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الأمر و فيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك و يقعد متربصا للدوائر.
و يستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه تعالى عنهم و وعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك، و يؤيد ذلك قوله تعالى بعد: «و الله يعلم أسرارهم».
و اختلفوا في هؤلاء من هم؟ فقيل: هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر نصرناكم، و قيل: هم اليهود أو اليهود و المنافقون قالوا ذلك للمشركين.
و يرد على الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الآية المرتدون بعد إيمانهم و اليهود لم يؤمنوا حتى يرتدوا.
و قيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى: «أ لم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا و إن قوتلتم لننصرنكم»: الحشر: 11.
و فيه أن الآية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد تبين رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الآية على ذلك فلعلهم قوم من المنافقين غيرهم.
قوله تعالى: «فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم و أدبارهم» متفرع على ما قبله، و المعنى: هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاءون فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة و هم يضربون وجوههم و أدبارهم.
قوله تعالى: «ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله و كرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم» الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس و تسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي و الذنوب الموبقة كما قال تعالى: «و اتبعوا أهواءهم»، و قال: «الشيطان سول لهم و أملى لهم».
و السخط و الرضا من صفاته تعالى الفعلية و المراد بهما العقاب و الثواب.
و الإشارة في قوله: «ذلك» إلى ما ذكر في الآية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله و كراهتهم رضوانه، و إذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب.
قوله تعالى: «أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم» قال الراغب: الضغن - بكسر الضاد - و الضغن - بضمها - الحقد الشديد و جمعه أضغان انتهى.
و المراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الإيمان و لعلهم الذين آمنوا أولا على ضعف في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق و ارتدوا بعد الإيمان، فالتدبر الدقيق في تاريخ صدر الإسلام يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا منافقين من أول يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، و على هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم بملاحظة بادىء أمرهم.
و المعنى: بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله و لن يظهر أحقادهم للدين و أهله.
قوله تعالى: «و لو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم و لتعرفنهم في لحن القول و الله يعلم أعمالكم» السيماء العلامة، و المعنى: و لو نشاء لأريناك أولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها.
و قوله: «و لتعرفنهم في لحن القول» قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه: إما بإزالة الإعراب أو التصحيف و هو المذموم، و ذلك أكثر استعمالا، و أما بإزالته عن التصريح و صرفه إلى تعريض و فحوى، و هو محمود عند أكثر الأدباء من حيث البلاغة.
انتهى.
فالمعنى: و لتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية و التعريض، و في جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية.
و قوله: «و الله يعلم أعمالكم» أي يعلم حقائقها و أنها من أي القصود و النيات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم و غيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين و وعيد لغيرهم.
قوله تعالى: «و لنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم و الصابرين و نبلوا أخباركم» البلاء و الابتلاء الامتحان و الاختبار، و الآية بيان علة كتابة القتال على المؤمنين، و هو الاختبار الإلهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاق التكاليف الإلهية.
و قوله: «و نبلوا أخباركم» كان المراد بالأخبار الأعمال من حيث إنها تصدر عن العاملين فيكون إخبارا لهم يخبر بها عنهم، و اختبار الأعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة و قد تقدم فيما تقدم أن المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، و بنظر أدق هو علم فعلي له تعالى خارج عن الذات.
قوله تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا و سيحبط أعمالهم» المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفار مكة و من يلحق بهم لأنهم الذين صدوا عن سبيل الله و شاقوا الرسول و عادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى.
و قوله: «لن يضروا الله شيئا» لأن كيد الإنسان و مكره لا يرجع إلا إلى نفسه و لا يضر إلا إياه و قوله: «و سيحبط أعمالهم» أي مساعيهم لهدم أساس الدين و ما عملوه لإطفاء نور الله، و قيل: المراد إحباط أعمالهم و إبطالها فلا يثابون في الآخرة على شيء من أعمالهم، و المعنى الأول أنسب للسياق لأن فيه تحريض المؤمنين و تشجيعهم على قتال المشركين و تطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الآيات التالية.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «و منهم من يستمع إليك» إلخ:، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام) قال: إنا كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا و من يعيه فإذا خرجنا قالوا: ما ذا قال آنفا.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت أنا و الساعة كهاتين، و أشار بالسبابة و الوسطى:. أقول: و روي هذا اللفظ عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق أخرى عن أبي هريرة و سهل بن مسعود.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و مسلم و ابن ماجة و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل و لكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الأمة ربتها فذاك من أشراطها، و إذا كانت الحفاة العراة رعاء الشاء رءوس الناس فذاك من أشراطها، و إذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها.
و في العلل، بإسناده إلى أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام و قد سأله عن مسائل: أما أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
أقول: و لعل المراد به غير ظاهرة، و الأخبار في أشراط الساعة من طرق الشيعة و أهل السنة فوق حد الإحصاء، و قد مرت في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواية حمران عن الصادق (عليه السلام) و هما روايتان جامعتان في الباب.
و في المجمع، قد صح الحديث بالإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إني لأخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و ابن أبي شيبة و مسلم و أبو داود و النسائي و ابن حبان و ابن مردويه عن الأغر المزني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنه ليغان على قلبي، و إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة.
و فيه،: في قوله تعالى: «فهل عسيتم إن توليتم» الآية: أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول: اللهم صل من وصلني، و اقطع من قطعني.
أقول: و الروايات فيها و في صلتها و قطعها كثيرة، و قد مر شطر منها في تفسير أول سورة النساء.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «أ فلا يتدبرون القرآن» الآية أ فلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق: عن أبي عبد الله و أبي الحسن (عليه السلام).
و في التوحيد، بإسناده إلى محمد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله أخبرني عن الله عز و جل هل له رضى و سخط؟ قال: نعم و ليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين و لكن غضب الله عقابه و رضاه ثوابه.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و لتعرفنهم في لحن القول» الآية:، عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب. قال: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ببغضهم علي بن أبي طالب.: قال في المجمع،: و روي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الأنصاري.
و قال: و عن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ببغض علي بن أبي طالب.
و في أمالي الطوسي، بإسناده إلى علي (عليه السلام) أنه قال: قلت أربعا أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبوء تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله: «و لتعرفنهم في لحن القول».
|