بيان
لما وصف حال الكفار و أضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض و تثاقلهم في أمر القتال و حال من ارتد منهم بعد، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم فيفاوضوا المشركين و يميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله و يكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، و في الآيات موعظة لهم بالترغيب و الترهيب و التطميع و التخويف، و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم» الآية و إن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل الفقهاء بقوله فيها: «و لا تبطلوا أعمالكم» على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الآيات السابقة المتعرضة لأمر القتال، و كذا الآيات اللاحقة الجارية على السياق و خاصة ما في ظاهر قوله: «إن الذين كفروا» إلخ، من التعليل و ما في قوله: «فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم» إلخ، من التفريع، و بالجملة الآية بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب و شرع من الحكم و إيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه، و فيما يصدر من الأمر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، و على تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به أولئك الضعفاء الإيمان المائلون إلى النفاق الذين انجر أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى.
فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع و أنزل من حكم القتال، و من طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه و فيما أمر به منه و من مقدماته بما له من الولاية فيه و بإبطال الأعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون و أهل الردة.
و قيل: المراد بإبطال الأعمال إحباطها بمنهم على الله و رسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى: «يمنون عليك أن أسلموا»، و قيل:.
إبطالها بالرياء و السمعة، و قيل: بالعجب، و قيل: بالكفر و النفاق، و قيل: المراد إبطال الصدقات بالمن و الأذى كما قال: «لا تبطلوا صدقاتكم بالمن و الأذى»: البقرة: 264، و قيل: إبطالها بالمعاصي، و قيل: بخصوص الكبائر.
و يرد على هذه الأقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته و تسليمه مصداق من مصاديق الآية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الإشارة إليه، و أما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر.
قوله تعالى: «إن الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا و هم كفار فلن يغفر الله لهم» ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الآية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله و رسوله و أبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله و كراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر و الصد و لا مغفرة لهم بعد موتهم كذلك أبدا.
و المراد بالصد عن سبيل الله الإعراض عن الإيمان أو منع الناس أن يؤمنوا.
قوله تعالى: «فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم و أنتم الأعلون و الله معكم و لن يتركم أعمالكم» تفريع على ما تقدم، و قوله: «فلا تهنوا» من الوهن بمعنى الضعف و الفتور، و قوله: «و تدعوا إلى السلم» معطوف على «تهنوا» واقع في حيز النهي أي و لا تدعوا إلى السلم، و السلم - بفتح السين - الصلح، و قوله: «و أنتم الأعلون» جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح، و قوله: «و أنتم الأعلون» جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك و الحال أنكم الغالبون، و المراد بالعلو الغلبة و هي استعارة مشهورة.
و قوله: «و الله معكم» معطوف على «و أنتم الأعلون» يبين سبب علوهم و يعلله فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى: «و هو معكم أينما كنتم»: الحديد: 4.
و قوله: «و لن يتركم أعمالكم» قال في المجمع: يقال: وتره يتره وترا إذا نقصه و منه الحديث فكأنه وتر أهله و ماله، و أصله القطع و منه الترة القطع بالقتل و منه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره.
انتهى.
فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا، و قيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، و قيل: لن يظلمكم، و المعاني متقاربة.
و معنى الآية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله و رسوله و إبطال أعمالكم هذه السبيل و كان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا و لا تفتروا في أمر القتال و لا تدعوا المشركين إلى الصلح و ترك القتال و الحال أنكم أنتم الغالبون و الله ناصركم عليهم و لن ينقصكم شيئا من أجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.
و في الآية وعد المؤمنين بالغلبة و الظفر إن أطاعوا الله و رسوله فهي كقوله: «و لا تهنوا و لا تحزنوا و أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين»: آل عمران: 139.
قوله تعالى: «إنما الحياة الدنيا لعب و لهو و إن تؤمنوا و تتقوا يؤتكم أجوركم و لا يسألكم أموالكم» ترغيب لهم في الآخرة و تزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها و هي أنها لعب و لهو - و قد مر معنى كونها لعبا و لهوا -.
و قوله: «و إن تؤمنوا» إلخ، أي أن تؤمنوا و تتقوا بطاعته و طاعة رسوله يؤتكم أجوركم و لا يسألكم أموالكم بإزاء ما أعطاكم و ظاهر السياق أن المراد بالأموال جميع أموالهم و يؤيده أيضا الآية التالية.
قوله تعالى: «إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا و يخرج أضغانكم» الإحفاء الإجهاد و تحميل المشقة، و المراد بالبخل - كما قيل - الكف عن الإعطاء، و الأضغان الأحقاد.
و المعنى: أن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الإعطاء لحبكم لها و يخرج أحقاد قلوبكم فضللتم.
قوله تعالى: «ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل» إلى آخر الآية بمنزلة الاستشهاد في بيان الآية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا و يشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - و هو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم.
و قوله: «و من يبخل فإنما يبخل عن نفسه» أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم و آخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، و إليه يشير قوله بعده: «و الله الغني و أنتم الفقراء» و القصران للقلب أي الله هو الغني دونكم و أنتم الفقراء دون الله.
و قوله: «و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» قيل: عطف على قوله: «و إن تؤمنوا و تتقوا» و المعنى: إن تؤمنوا و تتقوا يؤتكم أجوركم و إن تتلوا و تعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للإيمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون و يتقون و ينفقون في سبيل الله.
بحث روائي
في ثواب الأعمال، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الحمد لله غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، و من قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال: نعم و لكن إياكم أن ترسلوا عليها نارا فتحرقوها، و ذلك أن الله عز و جل يقول: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله - و أطيعوا الرسول و لا تبطلوا أعمالكم».
و في تفسير القمي،: «و إن جنحوا للسلم كافة فاجنح لها» قال: هي منسوخة بقوله: «فلا تهنوا و تدعوا إلى السلم - و أنتم الأعلون و الله معكم».
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الآية: «و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم - ثم لا يكونوا أمثالكم» فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا؟ فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على منكب سلمان ثم قال: هذا و قومه، و الذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس.
أقول: و روي بطرق أخر عن أبي هريرة: مثله. و كذا عن ابن مردويه عن جابر: مثله.
و في المجمع، و روى أبو بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن تتولوا» يا معشر العرب «يستبدل قوما غيركم» يعني الموالي.
و فيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قد و الله أبدل خيرا منهم الموالي.
|